الفصل الثاني

المرأة

إن في بعض الناس قوة لا تكيِّفها النعوت، ليست هي الذكاء؛ وإن كان الذكاء بدونها بلادة، ولا الجمال وإن عدِم الجمال ميزة التأثير بفقدانها، ولا هي توازن تراكيب الجسم وتناسب الأعضاء ونضارة الصحة، وكل هذه تافهة إذا حُرمت منها؛ لأنها العنصر الخفي المحيي الذي ينفعل به الأقوام ويخضعون لسطوته مريدين كانوا أم غير مريدين. لقد دُعي ذلك العنصر مغنطيسيًّا وكهرباء، وجاذبية، ولطفًا، وخفة دم، وخفة روح، و«نغاشة». ولكن جميع هذه المعاني ليست إلا أجزاء منه وتشترك معها في تأليفه معانٍ أخرى شتَّى.

إنها لقوة عجيبة قد تحوِّل ما هو في عرف البشر قباحة إلى جمال فتَّان؛ فهي بروق الذكاء المتألقة في العيون وسيال اللطف المتدفق في الابتسام، وأغنية الروح المتماوجة في نغمة الصوت. هي سحر الحركة وهي وسم الامتياز، وهي جلال الهيبة، وهي قداسة السكوت. هي المقياس السرِّيُّ الذي يكيِّف الإشارة ويوقِّع الخطى، والشرارة التي تُضرم نار الفكر، والنور الذي يجعل كثافة المادة شفافة. هي اليد العلوية التي إذا حلَّت لسان المتكلم كان بليغًا، وإذا أشارت إلى الناظر بدت نظرته عميقة، وإذا قادت قلم الكاتب كانت كلماته شائقة فعَّالة يبقى صداها داويًا في أعماق النفوس.

وكلُّ من عرف باحثة البادية شخصيًّا؛ أي معرفة الجسد، أو معنويًّا؛ أي معرفة القلم، علِم أنها كانت حائزة لهذه القوة التي حارت في تعريفها الأسماء. قد كان يكفي أن يعرفها المرء ليشعر بانجذاب إليها وليحبها. وقد كان يكفي أن يقرأ إحدى مقالاتها ليرغب في مطالعة كل ما كتبت منفعلًا على رغمٍ منه بالنفَس الحارِّ المالئ فصولها، حتى لقد يتبين توهُّج اللهيب المعنوي بين سواد الحروف. عبثًا تبحث هنالك عن الكاتب الذي يعلو بك إلى قمم الإدراك والعرفان ويبتدع لك من روحه جناحين تطير بهما إلى الآفاق البعيدة. إن مؤلفة «النسائيات» قانعة بالغرفة التي تسكنها، والحي الذي تسير بين منازله، والبيئة التي هي جزء منها. وحينما تعثر على ما لا يرضيها — وما أقلَّ ما يرضيها! — تضرب بمؤلفات الباحثين وشروح العلماء عرض الحائط، غير معتمدة إلا على ما تختبره بالمشاهدة. وسرعان ما تقابل بين ما تراه عند الغير وما يشبهه مما طرأ عليها أو قد يكون مهددًا حياتها.

هي عينٌ ترى ما هو كائن فتذكر ما يجب أن يكون. على أن هذه العين لا تنسى لحظة أنها عين امرأة؛ فما تكاد تلمح خيال اللوعة حتى يخترق القلب منها لهفًا وتذوب ذرَّاته وجعًا. وإذا طرقت موضوعًا تهتز له طبيعتها النسائية من أقصاها إلى أقصاها، سمعت منها هذه اللهجة الخلابة:

إنه لاسمٌ فظيعٌ (تعدد الزوجات أو الضرائر) تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته؛ فهو عدو النساء الألدُّ وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبًا وشوَّش لبًّا وهدم أُسرًا وجلب شرًّا! وكم من بريء ذهب ضحيته، وسجين كان أصل بليَّته، وإخوة لولاه لما تنافروا ولا تناثروا، ففرقهم أيدي سبا وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل، وكانوا لولاه متفقين!

إنه لاسمٌ فظيعٌ ممتلئٌ وحشيةً وأنانيةً. كم أحرج رجلًا وعلَّمه الكذب فأفسد عليه خلقه! وكم بذَّر مالًا كان يعدُّه البعض رزقه! وكم أحفظ قلب والد على ولد! وكم علَّم الوشاية والحسد. فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد فتذكر وراءك بائسة تُصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عروسك، ولكنه صهرته نار الحزن فظهر سائلًا، واخشَ الله في صغار يبكون لبكائها، علَّمتهم الحزن فاستعاروا يواقيت عروسك أعينًا. أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذانهم وكانوا من قبل ذلك جذلين.١

قد ينظم الشاعر هذه الزفرات أبياتًا عامرة، وقد يطلعك العالِم الاجتماعي على سلسلة علله ومعلولاته، مثبتًا لك شر تعدد الزوجات. ولكن قلَّما تجد في قصيدة ذاك وأبحاث هذا تأثيرًا يهز نفسك كما تفعل هذه السطور القلائل. ليس ما قرأته هنا بمنحدر من الفكر أو بناتج عن الملاحظة والتنقيب، بل هو اضطراب قلب جالت فيه المرارة مكوِّنة أنَّاتٍ ما لبث القلم أن وقعهن على وفق ضربات القلب الخافق. إن هذه الفقرة لا يكتبها إلا قلم امرأة.

•••

نحن الذين اعتدنا أن نرى في والدتنا سيدة البيت الدائمة وربة المنزل المطلقة لا نستطيع إدراك ما هي عليه طائفة كبيرة من أخواتنا من الشقاء تحت التهديد المتتابع. ولا يمكننا تفهُّم الانفعال الذليل المنحدر بهن إلى مهبط الخوف والقلق واضعًا بين المرأة وبين تقديرها لكرامتها واعتبارها لنفسها هوة عميقة. وقد فطن أحد مقرظي «النسائيات» إلى عجز الأمم غير الإسلامية عن إدراك ذلك فلامَ الباحثة لومًا لطيفًا إذ قال:
لقد صورت في ذلك الباب (باب الازدراء بالمرأة) المرأة في نظر الرجل اليوم على نحو ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وهذا أمر قلَّما طابق الواقع، وهل كان من حرج على السيدة أن توسع المسألة بحثًا وأن ترقب اليوم الذي تترجم فيه مقالاتها إلى اللغات الأجنبية فتنشر أحكامها على هذه الأمة في العالم الأوروبي الذي يجهل معنى الغلو البديعي وأنه من المحسنات في اللغة العربية؛ حيث يعتقد الأوروبيون لا سيما نساؤهم أننا اليوم على ما كانت عليه جاهليتنا منذ أربعة عشر قرنًا، وناهيك بما يُحدث هذا القول في العالم المتحضر من الآراء وما يجلبه علينا بعد ذلك من البلاء.٢
غار حضرة المنتقد على سمعة قومه فأراد ألَّا تقال الحقيقة كما هي حتى ولا في فم من لا يبغي إلا الإصلاح. ولكن إذا تعمَّد كتم ما هو جارٍ وسدل الحجاب على شقاء فئة كبرى فلا يكفي تنبيه الباحثة إلى ذلك، بل عليه أن يكسر جميع الأقلام الشاكية وأن يُسكت زفرات القلوب المكلومة. عليه أن يُثلج دماء الشبيبة الطامعة في توطيد دعائم الأسرة وحفظ كرامة المرأة. عليه أن ينتزع الأفئدة من الصدور لتكفَّ عن الشعور بلوعة التقهقر العائلي. نعم ليكسر الأقلام، وليمزِّق الطروس، وليسلَّ الألسنة ليجهل الغرب علَّةً دامية في الشرق. أما باحثة البادية فلم تفكر قطُّ في ذلك، بل أثبتت الواقع بصراحةٍ ناشدةً الإصلاح فقالت:
أيُّ ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشدُّ من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرِّق بينهما وتشتِّت ملتئمهما؟! وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟ إن الدين لا يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا على غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطًا وقيودًا لو اتُّبعت لما أنَّ منها النساء البائسات.٣

أين «الغلو البديعي» الذي يشكو منه هنا الأستاذ المنتقد؟! أين «الغلو البديعي» فيما تقرره الباحثة من ازدراء الشرقيين — مسلمين كانوا أم مسيحيين — بالبنت في جميع أدوار حياتها، وتفضيل الصبي عليها قبل ولادته وبعدها؟! وأين ذلك «الغلو» من مسألة الطلاق كما هو شائع الآن؟!

نعم إن سهولة الطلاق كادت تُلغى من الطبقة العليا، ويندر وجودها بين من يغارون على سمعتهم ويفهمون معنى احترام الأسرة من الطبقة الوسطى. ولكن هؤلاء هم الأقلية. والطلاق شائع عند الأكثرية شيوعًا كبيرًا. وهاك ما كتبته باحثة البادية بعد الاختبار الشخصي:
وهذه البادية التي أقطن لا أبالغ إن قلت إن جميع نسائها جرَّبن الضرائر. طالما سألتُ مرأة الحي هذا السؤال: «ترين هل تحبين زوجك الآن كما كنت تحبينه قبل زواجه من غيرك؟» فكان جواب كلِّ من سألت سلبًا. وسمعت عن أخريات أنهن يفضلن أن يرين نعش أزواجهن محمولًا على الأعناق من أن يرينهم متزوجين بأخريات. فيا لله! أإلى هذا الحد يبلغ بغض المرأة للضرة!٤
إن هذا الموضوع يفتح باب الفصاحة عندها. وإذا قالت حينًا بوجوب الطلاق فما ذلك إلا لأنها ترى فيه ما يخفف شقاء المرأة. قالت:
والطلاق على مذهبي أسهل وقعًا وأخفُّ ألمًا من الضرِّ. فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد. فإذا كان الشقاء واقعًا على كل حال فلماذا تلتزم المرأة الصبر على الشدة؟! ترى بعينها ما يلهب قلبها ويدمي محجريها! ألا إن حزينًا حرًّا خير من حزين أسير! وبعضهم يخادع المرأة الأولى بأن يجعلها حاكمة على البيت معها مفاتيح خزائنه. ولكن ماذا تفيد مفاتيح الخزائن والحكم على السمن والعسل؟! وأين هذه من مفاتيح القلوب وحب الزوج!٥

ألا يخيَّل إليك أن هذا الرجل الذي يدور على زوجاته وفي يده حزمة مفاتيح يفرِّقها لهو من رجال القمر أو سكان المريخ، أو على الأقل من أشباح الأقاصيص والأساطير؟ ولكن لا! إن ذلك مع الأسف واقع على مقربة منا. ومن أخواتنا مَن هنَّ ذكيَّات الفؤاد جميلات الوجه والنفس لطيفات الشعور شريفات الميول، وعليهن أن يحتملنه وأن يصبرن على مضضه؛ لأنه أمر داخل في عادات قومهن!

إن باحثة البادية لا ينضب ينبوع إجادتها في هذا الموضوع، وما أكثر ما تصيب في نقده مستخرجة منه دروسًا أخلاقية كقولها:
تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء. والعاقل من تمكَّن من اكتساب قلوب الغير، فكيف بقلوب الأهل والعشراء!٦

ثم تشرح كلًّا من هذه شرحًا وافيًا في مقال هو من أجمل ما كتبت، بل هو في تقديري أتم فصولها وأبدعها.

•••

على أن مطالبها لا تتوقف عند قلة الضرائر والتفرد في المنزل، بل هي تنكر زواج هذا العصر القائم على الطمع وحب المال، وتتطلع إلى تلاؤم الأذواق والتفاهم المعنوي. اقرأ هذا التهكم الممزوج بالغيظ:
إذا اجتمعوا (المصريون) بسائحة إفرنجية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرًا؛ فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش (؟) إجلالًا لها، في حين أن أحدهم يستنكف الركوب مع امرأته في عربة واحدة. وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها كأنه لم يكن صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة. وإذا ازدحمت الطرقات في موكب أو مولد مثلًا رأيت الرجال يدوسون النساء ويضربونهن بالمناكب كأنه زحام الحشر. فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟٧

كتبت هذه السطور منذ سنوات عشر. وإذا بقي هذا الوصف منطبقًا في يومنا على جمهور من الرجال، فإن هناك عددًا كبيرًا من الطبقتين العليا والوسطى قد تغيرت منهم العادات تحت تأثير المدنية، وفعل السفر إلى أوروبا ومشهد الوحدة العائلية (ولو في الظاهر فقط) عند الغربيين. فصاروا يركبون مع زوجاتهم وبناتهم ويرافقونهن في السفر والنزهة. فكثيرًا ما يُرى الآن الرجل المصري في مركبة أو سيارة وبقربه زوجته ونقابها الأبيض الشفاف يضاعف جمالها الشرقي. ولا يندر ذلك على طريق الجيزة والأهرام وفي الجزيرة حيث يكثر الازدحام أيام الجمع والآحاد خصوصًا، وفي الأعياد والمواسم الكبرى.

ولئن حملت كاتبتنا على الرجل بلا مجاملة فهي لا توفر المرأة، على أنها تعطف عليها غالبًا حتى في خطئها وعثرتها. وتلوم الرجل لأنه القوي، ومنه تنتظر المساعدة والقدوة الحسنى. وبدلًا من أن يستبد بسطوته فيصير سيدًا رهيبًا هي تريد أن يستسلم لعوامل الحنان فيصبح صديقًا مؤدِّبًا. قالت:
وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلًا من كبريائه وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصيِّ لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبًّا به لا خوفًا منه. فبنات العصر الحالي — حتى الجاهلات منهن — يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات؛ فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كإحدى خدم المنزل، ولكنهن يقدِّرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما.٨

الحمد لله! لقد آن لهن أن يفهمن ذلك ولو تجرعن في سبيله من العلقم كئوسًا! أليس أفضل للمرء أن يسير نحو إدراك المعاني واستكناه الحياة ولو مخطئًا ضالًّا من أن يظل مستكنًّا في ليل الذل، راضيًا بقيوده، قانعًا بجهله وهو يحسبه عقلًا وطول أناة؟ إنما المرأة في موقف الاستعباد دون الجوامد حسًّا؛ لأن هذه تستعمل أقصى ما عندها من قابلية الحس، أما المرأة فإن لم تجاهد في تهذيب ما عندها من الملكات كانت قاتلة قواها بيدها. والقوة التي تتبعثر مؤديةً إلى الفوضى إن لم تعرف لنفسها قانونًا هي ذاتها إذا دُرِّبت كانت عنصر الارتقاء الرفيع. ولئن عز السير بانتظام بعد ليل العبودية الدامس لأن العين التي اعتادت الظلام يبهرها الضياء في بادئ الأمر، لكنها لا تلبث أن تألفه فتتمتع به لاجمةً فوضاها مُصلحة أحوالها. ليس هذا رأي الباحثة.

وسننظر فيما تشير به يوم ندرسها مُصلحة. غير أنها لا تنفك عن العودة إلى شعور المرأة؛ ليعتدَّ به الرجل ويجعله مقياسًا لأعماله وأقواله. فقد تختلف عندها ألفاظ الشكوى غير أن معنى الأنين ثابت لا يتغير. كل شيء في نظرها أفضل من «إيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها. يا لله! أليس لها من قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور!»

•••

هي امرأة بكل معنى الكلمة؛ ومن دلائل ذلك أنها تبدي يومًا خلاصة ما يجول في نفسها وتضطرب له جوانحها، ثم يثِب فكرها في يوم آخر فتُثبت عكس ما جاءت به قبلًا على خطٍّ مستقيمٍ. فهل هي مناقضةٌ ذاتها؟ كلا! بل هي مفصحة عن نفس كثيرة النزعات جمَّة الميول، كأنما هي جوهرة ذات سطوح شتَّى، تلمع في كلٍّ منهن ألوان جذَّابة وأشعة فتَّانة، بينما عنصر الجوهرة يظل واحدًا. رأيت أنها كثيرًا ما تستعطف الرجل بلهجة المتوسل المتعمد تنبيه الإشفاق في نفسه. والآن اقرأ واضحك:

ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلًّا لإشفاقهم، إنما نحن أهل لاحترامهم. فليستبدلوا هذا بذاك. والإشفاق لا يتأتَّى إلا من سليمٍ لعليلٍ أو من جليلٍ لحقيرٍ، فأيَّ الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنَّا لنأنف أن نكون أحد هذين.

بل قد يتأتَّى الإشفاق من صديق لصديق ومن محب لمحبوب، وحذف الرحمة من القلب يعني حذف الوداد معها في آنٍ واحدٍ؛ لأن الإشفاق من العناصر الجوهرية المؤلفة عاطفة الحب. والقلب الذي لا يشعر مع من يحب ولا يشفق عليه إلا قليلًا إنما هو محب حبًّا ملؤه الجفاف والأنانية والبرد الزئبقي.

لماذا يشفق الرجل على المرأة؟ لأنها تقضي حياتها تائهة في لجج هوَّة لا يعرف هو منها إلا الشاطئ، وهي هوة العواطف. للرجل كبرياء الجولات الفكرية والأطماع المتزايدة والقوة البدنية. أما المرأة فمهما ارتقت وتناهت نشاطًا ورغبةً في تنسُّم ذرى الفكر ليست بقادرة على أن تستخرج من نفسها آثار ذلك الإرث الذي أودعتها إياه يد العصفور. وهو قوة الشعور، قوة الحب التي تخلق من الكائن الترابي العادي آلهةً سامية جليلة.

والمرأة القوية القادرة بإرثها النسائي ضعيفة جدًّا إزاء نفسها. وفي ذلك ما يستدعي الإشفاق والإجلال معًا. وليس الإشفاق بقاتل الاحترام وملاشيه، بل قد يجتمعان متساندَين متعاضدَين. فكم تشفق المرأة الضعيفة على الرجل القوي! وكم تكون قوته ذاتها موضوع عطفها! وذلك لا يقلل من إعجابها به، بل كثيرًا ما ينتبه حبها وينمو ساعة الشعور باحتياجه إلى مساعدتها. فلماذا لا ينمو كذلك حب الرجل تحت فعل الإشفاق، وكم كان الإشفاق مقدمة الحب، وهل في القلب المغلق في وجه الرحمة العذبة مكان للحب الأكيد؟!

ولكن لا يجفلن القارئ لهذه الوثبة الكلامية من الباحثة! إنه سيسمعها بعد حينٍ عائدةً إلى الابتهال.

•••

لن أحاول وضع رسم معنوي لها؛ لأن كل رسم يظل واهي الخطوط إزاء الصورة التي جمعت فيها نفسها بيدها في السطور الآتية:
لماذا يا مي تدعين عليَّ بالعذاب المعنوي؟ ألا إنما العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرًا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين معًا. تقولين: «لأنه النار المقدسة.» نعم لقد أعطاني من القداسة مقدارًا أكثر مما يجب لمثلي، حتى جعل البون بعيدًا جدًّا بيني وبين هذا العالم غير القديس. تقولين: إنه «النار التي تطهر.» حقيقة. إنه تلقَّى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيَّره شفافًا يُظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء، وهذا فيه من الضنى ما فيه. تقررين أنه «النار التي تُحيي.» نعم إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كمصباح سيَّال كهربائه شديد، ولكن فتيلته لا تحتمل، «هو النار التي تلين.» هذا ما أبديت، ولكن ألا تعتقدين أن اللين يؤذي، خصوصًا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفلُّ الحديد إلا الحديد. إنه ألانَني حتى صيَّرني ماءً، وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة! وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك إنه «النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية.» نعم إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني.٩

يومئذٍ حسبت هذه الجملة الأخيرة زهرةً من زهرات البيان، ولم أكن أدري أنها نبوءة، فما تلقيتها إلا اليوم بالتصديق، فجاء تصديقي متأخرًا! لقد وصلت الآن إلى «السماء» فماذا وجدت هنالك حيث احتجبت عن أبصار البشر متفرغة لاستقبال وجه البقاء؟ إنها أردفت الفقرة السابقة بهذه الجملة: «فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك.»

أما أنا، فأعلم أنها هي التي كانت ذات قابلية للتكيُّف بقالب الأحوال المارَّة لم تكن راضية عن «الأرض»، وسخطها على هذه الكرة هو الذي جعلها تشك في هل «ستعجبها السماء»، لقد كانت كجميع ذوي المزاج العصبي، والعصبي الصفراوي، المستسلمين للكآبة، شديدة الشعور مع ميل إلى الحزن. وقد قوَّى ذلك فيها تأثير المطالعة، واعترفت به حيث قالت: «أول ما حفظت من الشعر المراثي وأولها رثاء الأندلس، وكنت في حداثتي أقرأ كثيرًا ديوان المتنبي وأعجب بنفسه الكبيرة وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمَّم آرائي. رحمه الله، إني ألذُّ كثيرًا بهذه العدوى.»١٠
وقد تكون مدينة له كذلك ببعض الحكم المنشورة في فصولها، كهذه مثلًا: «فالتجربة أرشد معلِّم، والليل والنهار كفيلان بتأديب من لا مؤدِّب له.»١١

•••

من الأدوار الثلاثة المهمة التي تستغرق حياة المرأة؛ أي أدوار البنوة والزوجية والأمومة، كانت تحت تأثير الدور الثاني يوم كتبت «النسائيات»؛ لخروجها من دور البنوة الصرف. ولما لم تُرزق ولدًا ينال نصيبه من عنايتها فقد ظل اهتمامها محصورًا في موقف الزوجة ومركزها في العائلة والأمة. نعم إنها بحثت في جميع أدوار المرأة المصرية من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنها كانت بالزوجية أكثر اهتمامًا منها بأي دور نسائي غيره. أما في أحاديثها فكانت تُكثر من ذكر أبيها وقرينها؛ مما يدل على مقدار احترامها لهما وتعلُّقها بهما.

زرتُها مرة وسيدة إنجليزية فوجدنا صالونها مملوءًا بالزائرات المسلمات من والدات وفتيات، ودارت بينهن مناقشة فيما إذا وقع خلاف بين أبِ المرأة وزوجها فأيهما تتبع. فكثرت الأقوال واحتدم الجدال إلى أن قالت شابة عروسُ عامٍ: «مات أبي منذ سنوات خمس فحزنت عليه حزنًا شديدًا، وما زلت أبكيه إلى يومي هذا. ولكن إذا مات زوجي أموت معه ولن أعيش بعده لحظة لأبكيه.» فاعترضت والدة هذه السيدة بلهجة جعلتني أظن أن بينها وبين صهرها سوء تفاهم في أمر من الأمور، وإنها تود استمالة ابنتها إليها. لكن باحثة البادية دخلت بينهما قائلة بلهجة جمعت بين الجد والمزاح: «مكثت في دار أبي عشرين سنة ولمَّا تتم لي هذه المدة عند زوجي …» فقاطعها هنا بعض الزائرات قائلات: «ما هذا؟ أتجعلين طول الإقامة ميزانًا للحب!»

قلت إن باحثة البادية امرأة بكل معنى الكلمة؛ فهي لا تريد أن يعرف الجميع خفايا ضميرها، ولا تريد أن تجرح زائراتها. وقد كان لديها مع قلمها (الذي كان صريره يشبه أحيانًا وخز حربة صغيرة غُمست في مداد إنما هو مزيج من مرارة ولهيب) سلاح آخر نسائي محض، وهو الضحك، وما يتقدمه من نظرات لطيفات المعاني، وما ينتج عنه من إرضاء الجميع دون إغضاب أحد، والتخلص من المواقف الحرجة بمهارة وبساطة.

لو قالت: «تتبع المرأة زوجها» لغضبت الأمهات. ولو قالت: «تتبع والدها» لسخط الأخريات. فلم تقل هذا ولا ذاك، بل ضحكت في وسط الضوضاء والاحتجاج والاعتراض ضحكة فضِّية كرنين البلور على البلور، أعقبتها بنكتة صغيرة أقفلت باب الموضوع وأرغمت جميع الحاضرات على الاشتراك في الضحك. وما كان أجمل ضحكة ثغرها! بينا شفتاها القرمزيتان تتلامسان بألفاظ مصرية التركيب واللهجة والمعنى!

١  النسائيات.
٢  انظر باب التقاريظ في آخر «النسائيات».
٣  النسائيات.
٤  النسائيات.
٥  النسائيات.
٦  النسائيات.
٧  النسائيات.
٨  النسائيات.
٩  «بين كاتبتين»، نُشرت في المحروسة.
١٠  «بين كاتبتين»، نُشرت في المحروسة.
١١  المصريات، ومزية التوفير، نُشرت في الجريدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤