المؤمنون بي والكافرون

النجارون وأشباه النجارين، لم يسمعوا بالسيد يوسف النجار الذي هو خطيب الأم مريم بنت عمران، أو كما يعرفونها بمريم العذراء، أم السيد عيسى ابن مريم، ولكنهم جميعًا يعرفون الرجل الذي يدعي النبوة الآن معرفة حقة، ويتعجَّبون كثيرًا للتشابه الذي يقع بينه وبين السيد عيسى ابن مريم على الأقل في التكوين الأسرى، وربما — في رأي بعضهم — هذا ما أغراه أن يقول إنه عيسى ابن مريم نفسه؛ فوالده هو زميلهم يوسف هارون النجار، وهو من أمهر النجارين بزالنجي، وأبرعهم في صناعة السحارات ودواليب النساء الحديثة هي ما تسمى بالحافلات، هرب يوسف منذ عام تقريبًا لجهة غير معلومة، بما يتوافق تاريخيًّا بادعاء ابنه للنبوة، ويهمس البعض: إنه هرب معه بإيعاز من أمه التي أعلنت انحيازها لولدها منذ اللحظة الأولى، والصدفة الغريبة أن أم عيسى بن يوسف تُدعى مريم، وهي من أسرة معروفة في المدينة، أبوها الشيخ عمران الرجل الثري صاحب المواشي، تنتهي أصوله إلى قبيلة عربية هاجرت منذ القرن الأول الهجري من المدينة المنورة بالجزيرة العربية، يقولون لأسباب سياسية. بقليل من التصرف وإعمال الفكر يمكن اقتراح اسم عربي قديم لهذه القبيلة مثل بني النضير مثلًا، وهو يعمل أيضًا بالتجارة الحدودية بين تشاد والسودان، يقيم معظم أيامه في قرية الطينة الحدودية. أما أخواها هارون وموسى فقد هاجرا لدار صباح، وهو ما يعني وسط السودان، وأحيانًا مدينة الخرطوم، تاجران شهيران بسوق ليبيا في أم درمان.

النجارون وأشباه النجارين حضروا المناظرة الاستثنائية التي جرت بين إبراهيم خضر إبراهيم وما سمى نفسه المسيح ابن الإنسان. حسنًا قبل أن ندلف للحوار علينا أن نمرَّ على بعض الحقائق حول إبراهيم خضر نفسه: أولا إبراهيم خضر ليس له قناعات مسبقة بأن هذا الرجل كاذبٌ أو صادقٌ، نبيٌّ أم غير نبي، ويظن أن ذلك لا يهمه كثيرًا، بل ليس من شأنه الخوض في حريات الآخرين؛ فمن حق أي إنسان أن يعتقد في نفسه ما يعتقد، طالما لا يضر اعتقاده الآخرين في شيء، فهو لم يقاتل أحدًا، لم يعتدِ على ممتلكات أحد، لم يجبرْ أحدًا على الإيمان به، بل العكس إنه يبحث عمن يكفر به، ويقول:

طوبى للكافرين بي، إنهم سينجون من الحقيقة، وأنا أنجو من حبهم لي.

نستطيع أن نقول إن إبراهيم خضر إبراهيم، عندما يجادل الرجل فإنه ينطلق من نقطتين أساسيتين؛ الأولى هي تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه، كجندي مدني، والشيء الآخر يريد أن يتعرف على أفكار الرجل، والأخير هدف إنساني شخصي يخصه هو وحده؛ إذ إن إبراهيم خضر إبراهيم لا يجرم أحدًا ولا يبارك دعوة أحد، ونريد أن يكون ذلك واضحًا للناس: فالحرية لنا ولسوانا.

يوم الجمعة التي انتظرها الجميع طويلًا، العسكريون والنجارون وأشباه النجارين، السياسيون المنتظرون خلف سماعات التليفون، الأخبار الجميلة من القائد الميداني الذي سيبشرهم بقتل وصلب النبي الكاذب أو مدعي النبوة، أو ما يظن أنه عيسى ابن مريم، ينتظرون أن يضحكوا في استمتاع خاص وهم يتناولون كأسات مترعة من الويسكي الأيرلندي اللذيذ، الذي يُستورد من أجلهم بكامل السرية، حيث إنهم مسلمون رساليون سلفيون على منهج الإمام ابن تيمية في العلن، وداعرون فاسقون فاسدون كاذبون وسحرة، على منهج راسبوتين الروسي في السرِّ.

خرجوا في جماعة واحدة، وكما هو متوقع اتجهوا نحو الراكوبة الكبيرة وسط القرية، جميعهم معروفون لدى أهل دارفور، وليسوا جميعًا من قبيلة واحدة، كان من بينهم الدارفوري من الزغاوة والمساليت والفور وغيرهم، والعربي الذي ينتمي لقبائل مثل الفلاتة والتعايشة والهبانية وكوكا بني حسن وغيرهم. في الحقيقة لا أحد يستطيع أن يفرِّق بينهم نتيجة للقبيلة أو اللون أو الشكل، لقد كانوا يتشابهون أو صاروا يشبهون بعضهم البعض فيما بعد، لدرجة أن الكثيرين لا يستطيعون أن يميزوا أيهم الرجل وأيهم أصحابه. فقط يستطيع الناس أن يشيروا إلى السيدة مريم الحبيبة، وهي في ثوبها السوداني التقليدي وضفائرها الجميلة المرسلة التي ينحسر عنها الثوب من جهة الرأس، كانت جميلة ورقيقة ونظيفة.

النجارون وشبه النجارين، فرغوا من صناعة الصلبان المتينة القاسية التي تقبع عند الوادي الصغير متشهِّية الدماء، يحرسها بعض الجنود اﻟ ٦٦، البعض الآخر يقوم بتمارين نهائية وبروفات لأداء مهمة القتل في حالة أن قاوم الرجل وأتباعه الصلب، أو أن قوة مجهولة تريد أن تتدخل في الآونة الأخيرة للحيلولة دون تنفيذ الأمر، فالمنطقة لا تخلو من متمردين ومنفلتين وقاطعي طرق، وإن الأمم المتحدة بجيوشها الكسولة ليست ببعيدة عن الموقع، عليهم ألا يترددوا في إطلاق النار، وألا تأخذهم في الحق لومة لائم. كانت الراكوبة متسعة، بحيث إنها آوتهم وعشرات الآخرين، وتبقَّت منها مساحة كبيرة أخرى تسعُ مائة شخص آخر، فلنقل إنها تُؤْوِي كلَّ من يدخل تحتها، لا ندري ما إذا كانت تمتطُّ في المكان والزمان مثل الكون، أو أنها تسعهم وكفى، يجلسون على الأرض وسط الراكوبة، والبقية يجلسون أو يقفون حولهم، يُحَمْلِقون في وجوههم لا يدرون هل يصدقونهم أو يكفرون بهم، وكان الكفر بهم أسهل بكثير من تصديق أن هنالك نبيًّا وحوارييه، يقبعون في قعر جبل ما في مجاهل دارفور، كما أن الناس يتساءلون عن الضرورة لنبي جديد، ألا يكفي الأنبياء الكثر الذين أرسلهم الله في القرون الماضية؟! ما هو الجديد الذي سيأتي به نبي في القرن الحادي والعشرين؟

سأله إبراهيم خضر إبراهيم: لقد قلت فيما قبل إنك السيد عيسى المسيح نفسه، بلحمه ودمه، ولست مجرد داعٍ بدعوته، ولا أحد مريديه أو متقمص له، إذن هل تدعي أيضًا أنك ابن الله؟

ابتسم الرجل ابتسامة مريحة، شرب قليلًا من النشأة المسماة في دارفور بأم جنقر، تُصنع عادة من الدخان، قال له: أنت الآن تراني أشرب أم جنقر، هل يحتاج ابن الله لطعام وشراب؟ هل يجوع ويذهب للمرحاض؟ هل يشرب الماء من النبع مثله مثل الخراف؟ أنا ابن الإنسان، وأنت تقول إن أباك هو رب البيت، فأبوية الله هل مثل ربوبية أبيك؟ مسألة جمال لا غير، وأضاف وهو يمسح قليلًا من العرق من جبينه: عمومًا فكلنا أبناء الله، هذه الشجرة ابنته، وتلك الريح، هذه البنت بنته، ذرة الرمل، هذه العُشبة، ذلك الطائر، أنتم، هذه الجيوش، النجارون وشبه النجارين، المؤمنون بي والكافرون، جيمعنا أبناء الله وهو ربنا.

سأله إبراهيم خضر إبراهيم: هل أحييت الموتى، وأقمت من ريشةٍ طائرًا؟

كان الحوار يدور بعربي دارفورية، يعرفه الناس هنا، ويجيدونه. أجاب الرجل بهدوء بالغ: كل ما أفعله هو أنني أحاول ألا أخلق شيئًا، إنني أشكل الأشياء، من ذرة الرمل صخرة، ومن الصوفة خروفًا، وكل ما أفعله أنني أقول له صر فيصير، أيُّ واحد منكم بإمكانه فعل ذلك … لا أعرف كيف يحدث، ولو أنني أستطيع أن أعلمكم؛ أي أنْ أتبصَّر وإياكم الطريق، جميعكم تستطيعون، بإمكانكم أن تجعلوه يحدث إذا كنتم ترغبون في ذلك، فالرب هو الذي خلق ويخلق، أنا لم آتِ بمخلوق من العدم، لم أخلق الريشة، لم أصنع جثة الموتى، لقد كانوا هناك في القبر الجماعي منذ أن قتلهم الجنجويد ودفنهم جنود من الجيش السوداني، ببساطة، إنني أعرف الكلمة المناسبة، وأستطيع أن أقولها وأسمعها للناس والأشياء حية كانت أم ميتة، والكلمة تفعل كل شيء. ويبدو أن الرجل قال كلمة: وقف نجار عجوز، كان جالسًا ليس ببعيد عن الرجل، هتف قائلًا: أنا آمنت بك.

ابتسم الرجل، وقف نجاران آخران، قالا إنهما آمنا به، ابتسم الرجل، قال جندي شاب إنه آمن به، ابتسم الرجل، قال جنجويد قد أتى مع الجيش إنه آمن به. قال الرجل، ولم تفارقه الابتسامة الودودة بعد: أقول لك كما قلت لتجار الهيكل من قبل: أهون لجمل أن يدخل من ثُقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله.

هتف القائد الميداني مخاطبًا بقية النجارين بأن يصنعوا صُلبانًا أخرى بعدد الذين آمنوا الآن والتحقوا بالرجل، وكلما آمن شخص آخر، طلب القائد من النجارين أن يصنعوا صليبًا خشبيًّا ثقيلًا آخر، وهكذا إلى أن آمن به تقريبًا جميع من استمع إليه. أما من تبقَّى من نجارين فقد صنعوا صلبانًا أنيقة لأنفسهم، وجاءوا يحملونها في ظهورهم وهم يعلنون إيمانهم بالرجل. وعندما اتصل القائد العام من الخرطوم بالقائد الميداني، رد له القائد الميداني قائلًا: أحتاج صليبًا من أجلي، صليبًا كبيرًا ثقيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤