ملك الموت

إبراهيم خضر إبراهيم، لم يكفر بالرجل، ولكنه لم يستطع أن يؤمن به، ولو أنه أصبح من تابعيه، من أجل المعرفة، لقد كان الرجل فصلًا دراسيًّا نادرًا ومهمًّا، عليه أن يسجل فيه حضورًا دائمًا أصيلًا. النجارون وأشباه النجارين حالما انضووا تحت إمرة الرجل، وانشغلوا في مباركة كلامه والإيمان ببركاته الكثيرة، التي يتكرم بها إليهم كل لحظ آخر لا بد من فهمه لكي نفهم ردود فعل الحكومة المركزية، أو له هو ماذا تعني لها الحرب الآن في دارفور، وهذا مهم جدًّا؛ لأن السلطة المركزية تعتبر أن الحرب قد آتت أكلها ونضجت ثمارها وتم قطف هذه الثمار طازجة، باعتبار أن أهم هذه الأهداف استراتيجية، وهي ترحيل مجموعة من القبائل من أوطانها، وأن تحل محلها مجموعات أخرى تم استيرادها من الدول المجاورة، وذلك حدث بنسبة ٩٠٪، والشيء الأهم هو أن لا يعرف أحد — لِمَ يحدث ذلك — ومن الأهداف الثانوية التي تحققت للسلطة المركزية هي أن تبدو الحرب في دارفور كما لو أنها حرب بين مجموعتين وهميَّتين، وهما ما يُسمى بالعرب والزرقة، وهاتان المجموعتان لا وجود لهما في الواقع، ولا توجد أية حرب بينهما، وكانت ستتبنى فكرة مسيح دارفور إذا كان قد أعلن أنه سيحارب العرب في دارفور أو الزرقة، أو لو أنه ضدهما الاثنين معًا، أو أصبح له رأي واضح في مسألة الهوية مثل مُدعي النُّبوة العيسوية الكثيرين الذين ظهروا في نيالا منذ عام ١٩٢١، بغرض مقاومة الاستعمار الإنجليزي.

ولكن أن يدعي النبوة شخص أبوه ممن تسميهم الدولة الزرقة، وأمه ممن تدعوهم بالعرب، ويتبعه الاثنان، ويكره الجنجويد، ويجعل العسكر والنجارين وأشباه النجارين يؤمنون به، وبكلمة واحدة يجعل واديًا بأكمله يخلو من الإبل والأبالة، يعني أن هذا الرجل سيقوم بإتلاف صومعة ثمارها الطازجة، سيبذر في أحشائها ديدانًا تأتي عليها في ثوانٍ. أرسلت الحكومة جيشًا عرمرمًا، اختارته كله من الجنجويد، ووكلت قيادته لشخص غريب عنيف وفيٍّ اسمه «أبو دجانة»: إذا هُزِمتُم قُتِلْتُم وعادت الأرض لأصحابها، وسوف يعود من ينجو إلى بلده؟

هؤلاء الجنجويد الذين قال فيهم كلمته الشهيرة بأنهم لا يدخلون ملكوت الله، وأهون لإبلهم أن تدخل من ثقب إبرة خياطة من أن يلجوا هم الملكوت، يعرف الرجل خطورة الموقف، ويعرف أكثر كيف تكون ردود أفعال السُّلطة الزمانية؛ لذا كان يقول لأتباعه، وهم كل من استمع إليه يتحدث، بمن فيهم إبراهيم خضر: أنا أضمن لكم الحياة إلى الأبد، ولكني لا أجنبكم الموت الآن.

وقال في موقع آخر: أهبكم جميعًا فرصة الاستمتاع بالألم، وسأهب نفسي أيضًا.

لذا، إذا كانوا قد فهموا ما يرمي إليه، فإنهم يتوقعون أحداثًا جِسامًا، ينتظرونها بشجاعة ولذة. كانت كلماته تُسْمع بكل مسام الجسم وليس بالأذن وحدها، ويسمعها البشر والحيوان، وتسمعها الجمادات، وكل من وما يسمعها ليس لديه خيار إلا أن يطيعها ويؤمن بما تحويه من معانٍ؛ لأن كل ما يقوله هو ذات الحقيقة، وهي لم توجد حرة ومطلقة على الطبيعة كما وجدت الآن؛ لذا كان دائمًا ما يكرر قائلًا: وا شوقاه لمن يكفر بي.

الرجل، أو السيد المسيح، أو النبي عيسى، أو مسيح دارفور، أو النبي الكاذب كما يسميه السياسيون ورجال الدين، كان رجلًا بسيطًا، من أسرة صغيرة، وهو أكبر الأبناء فيها، أمه مريم بنت عمر، وأبوه يوسف أحد النجارين المشاهير بزالنجي، وهو لا يستطيع أن يؤكد متى أحسَّ بنبوته، أو أنه مختلف، ما لم ينبهه أخوه ابن خالته يحيى، الذي لاحظ أن أخاه عيسى يستطيع القيام بأفعال وأمور لا يستطيعونها، بل يقول أشياء لا يفهمونها وهم الذين في عمره، وهنا سنعرج على ما يسميه يحيى حادثة وادي برلي: وادي برلي بنيالا عبارة عن نهر موسمي صغير، ينبع من المرتفعات التي تقع جنوب نيالا وشرقها، وهو الرافد الحقيقي والأساسي للمياه الجوفية بالمدينة، ويمثل الوادي أيضًا المتعة الإنسانية والسياحية لسكان نيالا جميعًا، حيث تُقَام فيه احتفالية السباحة العفوية السنوية، رجالًا ونساءً، يسبحون وهم في كامل ملابسهم وزينتهم، حيث إن العُري عَيبٌ شنيعٌ، بل يُعدُّ من الفضائح الكبيرة، التي لا يمكنها أن تُمحى من ذاكرة المكان، ما عدا للأطفال الذكور؛ فإن الأمر عادي ومُتَسَامَح.

كنت وأخي عيسى كما الجميع نحاول أن نستمتع بماء النهر، حيث إن الماء بهذه الكثرة نادرٌ واستثنائي وموسميٌّ، ولا يدوم طويلًا مجرد ساعات قلائل من اليوم، قبل أن تشربه الرمال، تقريبًا كنا في الثانية والرابعة عشرة من عمرينا. أنا أكبر منه بعامين، ولو أن أمي أصغر من أمه بعامين، إلا أنها تزوَّجت قبل أمه؛ فأمي مريم كُويا وأمه مريم، وكُويا تعني الصغيرة بلغة الفور الذين نشأت أسرتنا وسطهم، على الرغم من أن أمينا ليستا من قبيلة الفور، بل من قبيلة ذات أصول عربية تُسمى كُوكا بني حسن، وأبي من الفور وأبوه يوسف النجار من قبيلة المساليت.

بينما كنا نسبح باستمتاع ونلتقط بعض الأشياء التي يأتي بها الوادي من قرى اجتاحتها السيول، أو غابات قضت عليها وانتزعت شُجيراتها من جذورها، إذا بالماء العكر المحمل بالطمي ومخلوقات الغابات وأشجارها، يصفَّى ويصبح نقيًّا جدًّا وهادئًا جدًّا، ولامعًا مثل الفِضَّة كلما اقترب من عيسى أو حوله، وقد لاحظتُ أنه شكَّل هالةً غريبةً تفوق دائرتها المترين، كان هو مُنْدهشًا مثلي، بل خائفًا جدًّا، وكلما انتقل إلى مكان آخر انتقلت الهالةُ الغريبة معه، وصفا الماء وهدأ وأصبح نقيًّا مثل الفضة، وفجأة وجدنا نفسينا نجري نحو المنزل، ولم يكن بعيدًا عن الوادي، فهو خلف حديقة المانجو وليس بعيدًا عن بيت الخالة خريفية، وهي امرأة مشهورة في تلك الأنحاء، وجدنا أمه مريم، ونحن بأنفاس تهبط وتعلو وأيدٍ مرتجفة وشفاه ولسانين جافين خائفين مرتجفين، حكينا لها القصة، قالت بجدية بالغة وقد برقت عيناها: لا تقولا ذلك لأي إنسان كان، انْسَيَا الأمر.

ثم همست لي بأذني وقد انفردت بي: لا تترك أخاك وحده، كن دائمًا معه.

عاش عيسى بعد ذلك طفولة مستقرة، وذلك ظاهريًّا، لكنه كان يسمع أصواتًا ويرى أشياء، ويلمس ويحس بما لو قصه لأي إنسان غير أمه لاتُّهِم بالجنون. عيسى كان يجد كل ما يحتاج إليه، يفكر في النقود فيجدها في كفه، يحلم بالطعام الجميل فتوفره له أمه الفقيرة، يلعب مع الأطفال فيفوز عليهم في كل المنافسات، يسقط الفصل الدراسي المنهار على الطلاب، فيكون عيسى هو الناجي الوحيد، ولم يمسسه حتى الغبار، وإذا غاب عن الدرس، نظر إلى وسائل التعليم المُعلقة على الحائط، فعرف كل ما قِيل ومَا لَمْ يُقَلْ. الحق يُقال، لقد كانت هنالك رعاية تخصه هو بالذات، رعاية من قوة كبرى؛ أي إن عينًا سرية حنينة وطازجة تسهر عليه.

قالت ذات مرة عنه خالته مريم كويا أم يحيى: عيسى ولِدَ عارِفًا، ما كان في حاجة إلى مدرسة.

أمه مريم كانت تخاف عليه خوفًا شديدًا، من كل الناس والأشياء، حتى من والده، وكانت تطلب منه ألا يخبره بكل شيء يحدث له، ما عدا هي ويحيى، كانت تخاف من خوف أبيه عليه إذا عرف بما يحدث لطفله من أشياء غريبة ومدهشة، ويغمرها إحساس غريب بأن هذا الطفل يخصها وحدها، ولا حق لأحد أن يتدخل فيما يخصه، حتى والده يوسف نفسه، الذي يحبه حبًّا جمًّا. وكانت تصرُّ على اصطحابه معها أينما تذهب، لأماكن الأفراح والأتراح، وتذهب معه للاحتطاب والعمل في المزارع القريبة بالأجر، لدرجة أن الأطفال أصدقاءه كانوا ينادونه: عيسى ود مريم.

لم يكن يحيى ابن خالته مندهشًا للتحولات التي حدثت لعيسى بعد حادثة الوادي، بل كان يرقبها بروية ويسجِّلها في ذاكرته بدقة، فقد ينسى عيسى كثيرًا مما يجري له من أحداث غريبة وذلك لكثرتها، كان يحيى ينقلها لخالته مريم أم عيسى، ثم أخذا يشركان مريم كُويا أمه هو ثم مريومة بنت إسحاق جارة مريم أم عيسى وصديقتها المقربة جدًّا. لكن أهل المدينة لم يكونوا بعيدين عما يقوم به عيسى ويجري له؛ لقد لاحظوا أشياء كثيرة غريبة، إلا أنهم كانوا يلتزمون الصمت، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يظنونه طفلًا مجنونًا أو في طريقه للجنون. لقد خبروا كثيرًا من المجانين في حياتهم، وبعضهم أقرباؤهم والبعض جاء من أنحاء دارفور الكثيرة، وأفرزت الحرب المئات منهم يعيثون جنونًا في شوارع نيالا، يتحدثون عن أشياء غريبة، ويظن البعض نفسه نبيًّا أو ربًّا، وهذا ليس بالغريب ولا الجديد، وقصة المجنون الذي دخل للوالي، بطريقة غريبة، حيث إنه تخطى الحراس الكثيرين بسهولة ويسر ووقف أمام الوالي وقال له:

بسم الله الرحمن الرحيم

أنا نبي الله الخضر
وأنت المسيخ الدجال
ويا ملك الموت جاك الموت.

وهمَّ بخنق الوالي، الذي قِيل فيما بعد إن سيادته قد أسال بعض المواد غير الطيبة من سبيليه الاثنين معًا، قبل أن يضغط على زر الإنذار ويجيء الحراس مهرولين، قبضوا على المجنون المُدعي النبوة الخضرية، الذي هدَّد الوالي بالقتل، وأوسعوه ضربًا إلى أن انتقل إلى رحمة ربه غير مأسوف عليه. الكثيرون من الأهالي لا يتوقعون مصيرًا أقل من ذلك لعيسى ود مريم، ذلك الطفل الغريب.

وكانت الأمور ستمضي بصورة هادئة، لولا أن الوالي بعد تلك الحادثة الغريبة، ابتكر سياسة جديدة في التعامل مع المجانين الذين امتلأت بهم المدينة، حيث أمر بجمعهم وترحيلهم إلى قسم خاص بسجن شالا، ولكن المخيف في الأمر أن بعض ذوي المجانين عندما ذهبوا إلى سجن شالا لزيارتهم لم يجدوهم، ولم يجدوهم في أي سجن آخر، وعرفوا أن أقاربهم المجانين قد تم ترحيلهم من الحياة الدنيا إلى الآخرة؛ مما خلق ما يُشبه الرعب في المدينة، وجعل السيدة مريم تهرب بابنها الصغير عيسى لجبل أم كردوس شرقي نيالا وتختفي هنالك؛ خوفًا من أن تغتاله عصابة الوالي ويرسلوه للدار الآخرة مبكرًا، كما أرسلوا الذين من قبله، ثمَّ لحق بهما في ذات الظهيرة أبوه يوسف النجار، ثم لحق بهم يحيى بمؤن من الطعام والشراب، وظل الصلة الدائمة بعد ذلك طوال إقامتهم بالجبل التي قدرت بالثمانين يومًا؛ لأنهم لم يعودوا إلا بعد أن أخبرهم ذات صباح يحيى أن مجنونًا استطاع أن يدخل مكتب الوالي على الرغم من الحراسة المشددة، وأنه قال للوالي:

بسم الله الرحمن الرحيم

أنا نبي الله الخضر
وأنت المسيخ الدجال
ويا ملك الموت جاك الموت.

وقبل أن يتمكَّن الوالي من إسالة بعض المواد ذات الرائحة الكريهة من سبيليه، أو الضغط على زر الإنذار، تمكَّن المجنون أن يطبق كفيه الكبيرتين الخشنتين على عنق السيد الوالي، واستطاع سيادته بعد مقاومة عنيفة ونضال شرس من أجل حياته القيمة الثرية، أن يستسلم للموت، وأن يترك روحه تنطلق لبارئها في سلام مجنون. كما أن القاتل قد استطاع الفرار، ولا يدري أحدٌ شيئًا عن مكانه، أو الذين يدرون عنه شيئًا لاذوا بالصمت، والصمت كما يقولون هنا في دارفور: رضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤