سكك الخطر

التقرير الذي كتبه شيكيري عن إبراهيم خضر إبراهيم، هو الذي عَجَّلَ بأن يتم اختيار الاثنين لمصاحبة القوة الخاصة المنوط بها إيصال الوقود إلى كتيبة مرابطة على مشارف مدينة زالنجي، ولا يمكن الوصول إليها إلا من نيالا، بالرغم من أنها لا تبعد عن زالنجي أكثر من عشرين ميلًا، وعشرة أميال عن مدينة كاس، ومن أجل التشويش للجواسيس والخائنين، على القُوة أن يخرج أفرادها فرادى، ويتم تجميعهم على بعد ثمانية أميال جنوب نيالا، ثم تلحق بهم السيارات اللاندكروزر حاملات الدوشكا الخمس، تليها شاحنة الوقود، ثم المدرعتان الخفيفتان اللتان نستخدمهما للهجوم السريع المباغت ونقل الجنود أيضًا.

لا يتوقع الناس عادة أن تصل مثل هذه القوة إلى هدفها بسهولة ودون مناوشة، وربما معركة صغيرة، ولكن التغطية التي سوف تقوم بها المروحيات على مدار الساعات الثماني التي يجب أن تأخذها القوة في الطريق، سوف تسهل مهمتها كثيرًا، قد تقوم بواجب الإنذار المبكر وتمشيط الطريق. لكن للأسف بدأت المعركة الصغيرة مُبكرًا جدًّا، وهي في ذات المكان الذي بدأت تتجمَّع فيه القوات، وقبل أن تنتظم صفوفها وتأخذ التمام الأخير، في اللحظة التي وصلت فيها شاحنة الوقود، كان الطورابورا قد سيطروا على الموقف تمامًا، واستطاعوا أن يستولوا على حاملات الدوشكا، وأن يعطبوا المدرعتين الخفيفتين، ويأسروا تقريبًا كل الجنود الأصحاء، وينسحبوا كما لو أنَّ الأرض قد انشقَّت وبلعتهم، تاركين خلفهم خمسة من الجنود الجرحى، كثيرًا من القتلى، مدرعتين معطوبتين، شاحنة الوقود كما هي، حيث إن السائق الذي استطاع أن ينسحب في الوقت المناسب قام بتأمينها بصورة لا يمكن قيادتها مُطلقًا ما لم يُبطل التأمين، ولسبب أو لآخر فَضَّل الطورابورا تركها دون أن تُحْرَق.

كان الأسرى يرقدون في باطن صناديق العربات كالخراف فوق بعضهم البعض، والعربات تسابق الريح، تقفز في الحفر والخيران دون أية مراعاة للسلامة، وكأنما بها جوالات من التبن، وسط غابة من الأغبرة، حيث لا يمكن رؤية ما أمامها وما خلفها، غير سحابات من الرمل. بعد أربع ساعات من توقع الموت المُحقق، دخلت العربات السلسلة الجبلية الوعرة، حيث مُعسكراتنا الآمنة التي لا يقترب منها الطيران الصيني مُطلقًا، إلا في مغامرات مُهلكة؛ لأن مضادات الطيران الأمريكية الدقيقة سوف تسقطه في الحال.

وضع الأسرى في صف واحد، راقدين على الأرض، كانوا عشرين أسيرًا، سُجلت بياناتهم الأساسية وجُمِعَتْ ما في حوزتهم من وثائق ثبوتية، تمَّ كل ذلك عبر ركلات، شتائم وبُصاق في الوجوه. أخيرًا تمَّ قسمتهم إلى ثلاث مجموعات: اثنان من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، عشرة من الجنود النظاميين، ثمانية من المجاهدين وحرس الحدود وهو الاسم الرسمي للجنجويد. في الحال، تمَّ إعدام الجنجويد والمجاهدين بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحًا، طالبين منهم في سُخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة، وهذه سُخرية مبالغ فيها؛ لأن الجنجويد لا يعرف شيئًا عن الجنة أو النار، يحارب من أجل هدف غامض لا يعرفون كيف يعبرون عنه؛ لأن السياسيين الذين يدفعون بهم للتهلكة لا يُفصِحون عنه في الغالب، إما لقناعتهم الشخصية بأن الجنجويد لا يفهمون، أو لخوفهم منهم إذا فهموا، وهدف آخر، وهو الغنائم، وتشمل الغنائم فيما تشمل كل شيء يمكن حمله، بالإضافة إلى النساء والطفلات، أو مجرد أن يفرغ حيواناته المنوية في رحم سيدة أو طفلة ما عنوة. وقد يفكر الجنجويد كبير السن في مرعى آمن ودائم لإبله وإبل أحفاده من بعده وأحفاد أحفاده، فيما تبقى من زمان قبل نهاية الكون. الجنود قُيِّدوا ووُضِعوا في سجن عبارة عن غُرفة كبيرة من الحجر، مع جنود أسرى سبقوهم. أما مجنَّدَا الخدمة الوطنية، وهما إبراهيم خضر إبراهيم وشيكيري توتو كوه؛ فَخُيِّرَا، إما أن يبقيا بالسجن مع الجنود النظاميين أو يعملا في صفوف الطورابورا، ولأنهما ظنا — لسوء أو لحسن تقدير منهما — أنَّ هذين الخيارين ليسا سوى خيار واحد والآخر هو الموت، اختارا العمل في صفوف الطورابورا.

كان إبراهيم مُرهقًا، بل مريضًا، ارتفعت درجة حرارته بصورة مرعبة، فأحضروا له طبيبًا أسيرًا، يعمل في صفوف الطورابورا، رجلًا مرحًا وذكيًّا، أعطاه بعض الأدوية وأخذ يدير معه حوارًا مُضحكًا، حيث إن إبراهيم كان في حالة أشبه بالغيبوبة، لكن حديثه اللاواعي هذا رفع من مكانته بين الطورابورا، وأخذوا يثقون فيه بصورة مطلقة؛ لأنه في غيبوبته تلك، قال بصورة واضحة إنه يكره الصينيين الذين جلبوا الدمار لدارفور ويؤيِّد الطورابورا.

في بادئ الأمر كانوا يستخدمونهما في طهو العدس وصنع اللقمة للأسرى من الجنود النظاميين، الذين ما كانوا يبقون على حياتهم إلا لأنهم يمثِّلون دروعًا بشرية، ويقوُّون جانبهم في المفاوضات، ثم بعد ذلك للاعتبارات الإنسانية، وقد تحدث أحد المقاتلين عن اتفاقيات جنيف والقانون الإنساني الدولي. كان إبراهيم قد وضح لقادة المقاتلين أنه لا يحمل السلاح، ويستطيع أن يموت في سبيل هذا المبدأ، ولو أنهم احترموا ذلك إلا أنهم كانوا يستخدمونه في حمل الأسلحة والذخائر؛ أي كحمار. أما شيكيري كعادته كان سكوتًا، يسمع جيدًا ويفعل ما برأسه، وكان لا يتردد في الذهاب إلى المعارك، والمشاركة في نصب الكمائن، بل أصبح ماهرًا جدًّا في ذلك. قال لإبراهيم مرة إنه ما عاد يخشى سكك الموت، بعد أن خسر عبد الرحمن لا شيء يهم، وكان يفكر بجدية في عبد الرحمن وهو قلق جدًّا عليها؛ لأنه لا يعلم أين اختفت، وكيف ستنتهي مغامراتها في قتل الجنجويد، يعلم أنها قد قتلت اثنين، صاحب البُندقية، أو ما أسمته بالجنجويد السكران، وصاحب التمائم.

لا يدري أحد كيف تستدرج الجنجويد إلى حيث يلاقي حتفه، وكيف كانت تفعل ذلك وحدها. السؤال الأغرب: هل كانت تأكل أكبادهم حقًّا؟ أين هي الآن؟ وماذا لو قُبِضَ عليها؟ بلا شك سوف يقتلونها بالطريقة التي تُعرف بِرقصة الطورابوراي، وهي أن يضعوا القرنيت منزوع التيلة داخل فستانها، بعد تقييد رجليها، ويهربون من قُربها، فحتمًا ستؤدي الرقصة المُرعبة لبعض الثواني قبل أن ينطلق جسدها في الفراغات مزقًا. وتخيل ذلك يحدث أمام عينيه، فهو ما زال يحبها، وقرر بصورة قاطعة ونهائية أنه — إذا حدث في يوم والتقى بها — سوف لا تكون بينهما أية صلة، إذا اكتشف أنها كانت تأكل أكباد الجنجويد، نيئة كانت أم مشوية، لا يحب أن تكون زوجته آكلة للحوم البشر، ببساطة الفكرة كانت تُخيفه.

تتكوَّن مجموعة المحاربين الطورابورا من قبائل كثيرة، تجمع بينهم أنهم مستهدفون من قبل الحكومة المركزية بصورة خاصة، يطلقون عليهم الزرقة، وهو لفظ خجول بديل للفظة السُّود. يقود المعسكر رجل شرس من قبيلة المساليت، يلقبونه بشارون، شاب له جسد صلد ورياضي، بشوارب ووجه حاد التقاطيع، أهم هواياته الضحك بصوت عالٍ وابتكار الخدع العسكرية، لم يدخل معركة مع أعدائه وهم مستعدون لها مطلقًا، بل كان دائمًا ما يفاجئهم في الزمان والمكان الذي لا يتوقعونه فيه، ويقول إن تلك هي عبقرية الحرب، ورسول الله محمد يقول: «الحرب خدعة».

ويقول شارون إنه تعلَّم من هزائم الخليفة عبد الله التعايشي كيف ينتصر؛ فالخليفة كان يعتبر الحرب رجولة وشجاعة، وهي عكس ذلك، فلكي تنتصر عليك أن تخاف من قوة عدوك، مهما كان واهنًا، مرتبكًا وعلى باطل، مهما كنت أنت قويًّا، مرتبًا وعلى حق. كان شخصًا مثقفًا، تَخَرَّجَ في كُلية الاقتصاد جامعة المنصورة بجمهورية مصر العربية في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم. تزوج نساءً كثيرات، أنجب أطفالًا أكثر، وهو يدعو دائمًا أن يتزوج الرجل من دارفور كل النِّساء اللائي يَقبلن به زوجًا، وذلك لتعويض المفقودين في الحروب. كان رقيقًا شرسًا في ذات الوقت، لا يصبر على الجنجويد دقيقة واحدة. لقد حرق الجنجويد قريته وقتلوا أباه، والآن يسكنون فيها، وهم يعتقلون عددًا من السُّكان الأصليين، يستخدمونهم كرق في العمل بذات مزارعهم، جنائنهم وأراضيهم، يغتصبون نساءهم.

بعد معركة قصيرة غير متكافئة وقعت بين أهل ضُلاية، والجنجويد وجيش الحكومة مدعومين بالطيران الصيني العنيف، قَبِل ما تبقى من سكان ضُلاية بالهزيمة، على أن تبقي الحكومة على أرواحهم. جُرِّدُوا أولًا من كل الأسلحة، حتى تلك البيضاء، وكانوا يطلبون منا أن نشترك في الدوريات الليلية لحماية القرية حاملين عصًا من الحطب والسياط، بينما يحمل الجنجويد الأسلحة النارية. وكانوا يضعون كل عشرة من الرجال الدرافوريين، يسمونهم جهرًا وفي أوجههم أمبايات، وهي بعربي دولة النيجر موطنهم تعني العبيد؛ يوضعون وسط خمسين من الجنجويد، حتى لا يتمكَّنوا من الهرب أو المقاومة، وكل الرجال الدارفوريين أو الأمبايات على حد قول الجنجويد المتبقين بالقرية لا يتجاوز عددهم السبعين، هم ينقصون بصورة مستمرة. لقد كانوا مائة وخمسين رجلًا، جلهم مات في مقاومة فاشلة، أو قُتل أثناء هروب لم يُكتب له النجاح، أو مات واحد لواحد؛ أي خنق أحد الجنجويد إلى الموت، ولم يطلقه إلا وهو مقتول عليه.

يظل الدارفوري الليل كله في الدوريات مع فِرقة من الجنجويد تتغيَّر باستمرار، لتحلَّ محل دورية أخرى من الجنجويد كانت في بيوت الدارفوريين حيث النساء والطفلات، تقوم باغتصابهن، يحدث هذا كل ليلةٍ. وكل من يحتج منا يتم قتله. الآن بالقرية جيلٌ كامل من الأطفال، آباؤهم من الجنجويد وأمهاتهم من الدارفوريين.

الغريب في الأمر أنَّ مسئولًا كبيرًا في صُحبة بعثةٍ من الأمم المتحدة زاروا تلك القرية، واعتبرت أنموذجًا للتعايش الإرادي السِّلمي ما بين الجنجويد والدارفوريين، وهي برهان لتكذيب كل الأقاويل والافتراءات الغربية التي تتحدَّث عن الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي، وما يُسمى بجرائم الحرب واستحالة التعايش بين الشعبين. يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أنَّ أول أهداف ثورته هي تحرير مواطني قريته ضُلاية، ثم يضيف لك في يأس: لا يمكن أن تُحرر ضُلاية ما لم تُحرر دارفور كُلها؛ لأنه يُحيط بها أكبر ثلاثة معسكرات للجنجويد والمجاهدين في العالم.

للرجل علاقة جيدة مع كل جنوده ومع الأسرى أيضًا، يظل مرحًا، وتسمع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هنالك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم، ومن هنا أطلق عليه لقب شارون، ذلك البحار الذي يأخذ الأرواح إلى جزيرة الموتى؛ لأن شارون حينها سيأخذ أرواحًا كثيرة في قاربه إلى جزيرة الموتى.

كان الوقت أواخر ديسمبر، لا تزال الأعشاب تحتفظ بشيء من الخضرة، وأشجار السيال والنبق وبعض اللالوبات العملاقة ما زالت مخضرَّة وبهية. التقط مِنظار الحرس هيئة شخص على ظهر فرس يَهِيم بين الأشجار التي تقع جنوب الوادي الكبير، ويحدد المنظار المسافة بثلاثة كيلومترات لا أكثر، ولا يختلف جنديان في تفسير هذه الظاهرة؛ فهو جندي استخبارات في طليعة قوة سوف تظهر عاجلًا أم آجلًا من مكان ما قريب، ووصف في الوقت ذاته بالبليد؛ لأنه لا يمكن أن يستخدم فرسًا إلى هذه المسافة القريبة، ويعرف الجميع موقع المُعسكر، والغريب في الأمر كان الهدف يقترب أكثر وأكثر من دفاعات المعسكر المتقدمة، ويقترب أكثر من حقل الألغام البشرية ويتخطاه، بعد أن عبر ألغام المدرعات والآلات الثقيلة عبرها كالشبح، هنا انتبه المقاتلون بأن الهدف ليس عسكريًّا، وأنه يرفع الآن بيرقًا أبيض؛ فأسرعوا بإرشاده إلى المدخل الآمن.

كانت فتاة هزيلة، ولكنها لا تبدو منهارة، بل بالعكس، كانت متماسكة، وتتحدث بثبات، عرفت عن نفسها، وطلبت أن تقابل هارون، وهو الاسم الحقيقي لشارون. أكلت قدرًا كبيرًا من العصيدة بالويكة التي قُدمت لها، تَعرَّف عليها شارون بمجرد أن رآها، كانت تعرفه من زمان مبكر، منذ أن كانت تعمل مساعدة لصانعات الشاي بموقف الجنينة بنيالا، تعرف إحدى زوجاته وأطفاله، كانوا يسكنون حي الجير، قبل أن يختفوا تمامًا عن المدينة، قالت له إنها جاءت من أجل زوجها شيكيري توتو كُوه الأسير لديه؛ مما جعل كل من يستمع إليها يكاد أن يموت من الدهشة، وكانت فرصة لشارون أن يطلق ضحكته المجلجلة تلك، كان شيكيري في تلك الأثناء يعمل مع صديقه إبراهيم ومِفْرَزَةٍ من المقاتلين على حفر خندق كبير خلف الجبل لغرض لم يفصح عنه شارون، عندما أتاه المنادي، خفق قلبه بشدة، وبدون أية مقدمات سأل المرسال ما إذا كانت زوجته عبد الرحمن أو عمته خريفية بانتظاره.

أحسَّ أنها كانت جميلة بأكثر مما يجب أن تكون عليه امرأة في مثل هذا المكان، وشعرت بأنه كان منهكًا وبائسًا، وقد فقد الكثير من وزنه، وهو ما يجب أن يكون عليه رجل في هذا المكان. احتضنا بعضهما البعض بشدة، فرحت المقاتلات عندما عرفن أنها جاءت لتبقى وتحارب في صفوفهن. كانت هنالك تسعون امرأة أخريات، كلهن متزوجات من الجنود ما عدا مريم، التي يُطلق عليها شارون اسم مريم المجدلية؛ فهي تؤجل زواجها دائمًا لحين تحرير دارفور أو ظهور السيد المسيح، أيهما أقرب، ويُشاع عنها بين المقاتلين ما يُشاع.

ما يُسمى بالمدينة، التي سمع عنها شيكيري وصديقه كثيرًا في المعسكر، ليست سوى بضعة مساكن من الحجر مسقوفة بالطين والأعشاب البرية تُحاط بصورة تامة بمرتفعات صخرية، تحيط بنبع ساخن صغير، تبدو من الجو مثل خاتم من الحجر والعشب البري. هذا النبع هو المصدر الوحيد لماء الشرب غير الصالح للاستهلاك الآدمي إلا بمعالجات تجعله صالحًا بنسبة خمسين بالمائة. وهنالك أيضًا زريبة للمواشي والأبقار والجمال التي في الغالب تمت مصادرتها من الجنجويد، ترعى خريفًا وصيفًا على العُشب النابت على حوافِّ مجرى العين، في واد ضيق يتلوَّى بين المرتفعات مثل ثعبان من الماء. توجد أيضًا كثير من أشجار العرديب والتبلدي العملاقة، التي تغرق كل شيء في ظلها. هذا المكان الصغير الجميل الاستراتيجي فشلت الحكومة في السيطرة عليه تمامًا، نسبة للدفاعات الصاروخية ومضادات الطيران التي به، حقول الألغام واللواء الذي لا يُقهر، وهو المرتفع الصخري الذي يحيط به كحصن أسطوري.

تُستخدم المدينة لسكن الأسر فقط، ولا يُوجد بها أطفالٌ في عمر المدرسة؛ لأنه يتم تسريبهم لإحدى المُدن الكبرى في هذا العمر للدراسة، بها نِساء جميلات محاربات وزوجات في نفس الوقت، يقمن بواجب الزوجية بمتعةٍ ويحاربن بشرفٍ وبسالة، وهن دائمًا ما يبقين للدفاع عن المدينة حينما يكون الرجال بعيدين ينصبون الكمائن والفخاخ للجنجويد. جُهزت غُرفةٌ لعبد الرحمن وزوجها شيكيري توتو كوه، لم تكن لدى الزوجين رغبة في فعل شيء، تحدَّثَا قليلًا، احتضنا بعضهما وناما.

حلم شيكيري بينما كانت أنفاس عبد الرحمن تعلو وتهبط في هدوء قرب وجهه، حلم بعبد الرحمن تذبح جنجويدًا سمينًا شحمًا، وتخرج كبده وتطعمها لحيوان صغير فمه فم إنسان وبقية جسده وأعضائه تشبه القطط، كان الحيوان يأكل الكبد بشراهة، ويريد المزيد، فتذبح عبد الرحمن آخر، وهكذا إلى أن أتت على صف طويل من الجنجويد، ثم أشار الحيوان بلسانه إلى شيكيري، وكشَّر عن أنيابه، ثمَّ بال، ويبدو أنه عندما يفعل ذلك لا بد أن يُكرم بما أشار إليه بلسانه، ولا خيار آخر. فجاء مقاتلون بشيكيري، وضعوا السكين في عنقه، وطُلب منه أن يقول كلمةً أخيرةً، عندها استيقظ فزعًا، نهض من قُرب عبد الرحمن التي استيقظت هي الأخرى، فسألها ما إذا أكلت كبد الجنجويد. تثاءبت، مسحت وجهها بكفها، أخبرته بأنها ندمانة لعدم فعله. عندما حاولت وجدت أنَّ كبد الجنجويد تفوح منهُ رائحةٌ كالبراز الآدمي، فكرهته واستفرغت. أكدت له أيضًا أنه لا يُوجد داعٍ لكل ذلك، يكفي قتل هذا الشيء.

حدث ذلك في الصباح الباكر، كعادة عبد الرحمن تستيقظ متأخرة قليلًا عن العمة خريفية ومتأخرة كثيرًا جدًّا عن زوجها شيكيري توتو كوه الذي يذهب للطابور والتمام العسكري عند الخامسة والنصف صباحًا. أول شيء تفعله هو أن تذهب للمرحاض، تقضي حاجتها، ثم تملأ جردل الماء وتدخل الحمام، تستحمُّ وهي تغني بصوتها الجميل، تحبُّ أغنيات عمر إحساس، تقضي في الحمام عادة نصف الساعة، فهي تهتمُّ بنظافة جسدها الشخصية يوميًّا وبصورة دقيقة، بدءًا بحكِّ أخمص قدميها، تنتف إبطيها، انتهاءً بقصِّ أظافرها، بالنسبة لها الحمام الجيد مفتاح ليوم جميل؛ بالتالي عندما تُحرم منه لأي سبب من الأسباب، يكون ذلك مدعاة لتوترها وتشتتها فيما يتبقى من اليوم، والأهم في الحمام في هذا المكان بالذات صهيل الخيل الذي يأتيها من الحديقة، يذكرها بأيامها الغابرات في خربتي، ويثير فيها شجنًا جميلًا.

بينما كانت تدلك ظهرها بالليف والحبل، إذا بها تسمع خشخشة في العشب الذي يمثل الجدار الخلفي للحمام المقابل لجنينة المانجو، ظنته في بادئ الأمر الورل، وهو من الزواحف الكبيرة التي تتواجد بكثرة في وادي برلي، وخاصة قرب البركة الدائمة التي توجد في جنينة المانجو، ولكنها عندما فكرت في أنه ثعبان ارتعدت قليلًا وانكمشت على جسدها، وأخذت تبحلق في الناحية التي أتى منها الصوت بتركيز أكثر، وهي في تمام الاستعداد للهرب في الوقت المناسب، كانت الخيل تصهل، لا شيء آخر، تصهل في رعب كما لو أنها شاهدت جنيًّا رجيمًا، ويأتي إلى مسمعها أيضًا صوت العم جبريل يهدئها ويتساءل عن سبب ثورتها، لكن فجأة انفتحت كُوه كبيرة في الجدار العُشبي للحمام، وأطل من الجهة الأخرى وجه رجلٍ، كان أصفر البشرة، مشعرًا، له شعر كث وكأنه الشيطان، له ذقن صغيرة غير حليقة وشاربان كبيران، لأول وهلة عرفت أنه جنجويد، وبسرعة البرق فج الجدار بصورة تامة، وكان أمامها وجهًا لوجه، كان قد تملَّكها الرعب بالصورة التي منعتها من التصرف السريع، كل ما فعلته هو أنها انكمشت على نفسها محاولة ستر عورتها ونهديها، بالانطواء التام على فخذيها، كانت تفوح منه رائحة العرق، مختلطة بصنان زنخ من إبطيه، رائحته أشبه بالجيفة منها لرائحة الإنسان، كان يرتدي بنطلونًا عسكريًّا عليه جلباب مدني مشرب بالأوساخ، على كتفه بندقية جيم ثلاثة.

كان يحاول أن يتحدث معها برفق، لكنها تجنبت تمامًا النظر أو الاستماع إليه، حينها هددها بالقتل، واستلَّ سكينته من ضراعه، مررها أمام وجهها المنكفئ، حتى كاد أن يلامس نصلها أنفها، شمت رائحة الدم، عندها فكرت بجدية وبطريقة مختلفة تمامًا، طلبت منه أن يدخلا حجرتها، وأنه لا أحد بالمنزل، أكَّد لها إذا تفاجأ أن بالمنزل أي إنسان فإنه لا يتردد في قتله وقتلها، ووضع بندقيته في موضع إطلاق النار، أنا أفهم تمامًا أنه يستطيع أن يفعل ذلك بدم بارد؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يعاقبه على شيء، ولو قتل سكان المدينة جميعًا؛ لذا تمالكتُ نفسي، حملت بقية ملابسي بيدي بعد أن سمح لي بارتداء الجلباب فقط، عندما دخلنا قطيتي، أغلق الباب، وطلب مني أن أرقد في السرير بعيدًا عنه حتى يدبر حاله وألا ألتفت إليه مطلقًا، عندما سمعتْ صوت حك حنجرته، كان يقف أمامها، يرتدي لباسًا داخليًّا طويلًا به بقع كبيرة من الأوساخ، كان عاري الصدر وبيده اليمنى سكينة كبيرة.

قال لها فيما يعني إذا أرادت أن يتم الأمر بخير، فعليها أن تستسلم ولا تحاول المقاومة، وإذا لم ترده كذلك فإنه سوف يستخدم سكينته، وعرفت أنه يظنها عذراء؛ لذا نبهته بأنها متزوجة، هنا وضع سكينه جانبًا، أرخى لباسه المتسخ الكبير، وأخفى عنها شيئه، لكنها استطاعت أن تراه، كان شيئًا قصيرًا هزيلًا، في لون الطوب محاطًا بشعر كث، إنه أقرب لعضو طفل كبير منه لعضو رجل بالغ، ضحكت بينها وبين نفسها، وقامت بفتح رجليها على مصراعيهما، أغمضت عينيها، وغابت في خيالاتها.

أول مرة تُغتصب فيها كان الأمر مؤلمًا ومختلفًا تمامًا؛ لأنها كانت في ذلك الحين عذراء ومختونة بصورة قاسية، ما يسميه الناس في تلك الأنحاء ختانًا فرعونيًّا، ولأن الرجل لا يمكنه أن يخترق تلك المعضلة بعضوه في يوم واحد أو لحظات كما يرجو المغتصب، فإنه استخدم سكينته، ثم لم ينتبه هو أو الذين توالوا عليها من بعده في نفس اليوم، نفس اللحظات، إلى أنها كانت مغمًى عليها بصورة تامة، أقرب لجثة. كانت تفكر بجدية وبعمق، وهو يصدر أصواتًا تنمُّ عن استمتاعه بالفعل، ورائحة تنم على قذارة في الجسد؛ النفس والروح، كان هزيلًا وغير فاعل بالمرة، يحاول جهده أن يبث فيه الحياة عبثًا، وقد ضايقتها أكثر أنفاسه النتنة، ورائحة جسده، بدا لها ضعيفًا قذرًا وأكثر بؤسًا؛ لأنها تريد أن ينتهي كل شيء بأسرع ما يمكن، أظهرت له ما يعني أنها استجابت، لمسته برفق متوحش، وبحركتين تافهتين من فخذيها جعلته يصل ذروته، دفعته في الوقت المناسب بعيدًا عنها، حتى لا يلوثها بقاذوراته، رقد قربها كالطفل لدقائق، عبث بنهديها، ثم علا شخيره، كان شخيره مثل عواء الذئب الجائع.

حررت جسدها من مخالب كفتيه، وانسحبت للخارج، مسحت فخذيها بالملاءة، البقية كانت في سرواله المتسخ، لم يستغرق منها الأمر طويلًا؛ لأنه منذ الضربة الأولى توقَّفَ عن التنفُّس تمامًا، واسترخى جسده، ظلت أصابع قدميه ترتجف لثوانٍ أو ربما لبعض دقائق، ثم لم يعد هنالك ما يخيف أو يتطلب إجراءً ما، كأنه ما جاء إلا ليموت، لم تخف.

«كنت باردة الأعصاب كأنما لو كنت أقتل كل يوم جنجويدًا، أحسست بلذة عظيمة، إنني الآن أنتقم لكل أسرتي وأقاربي، أحسست بأني الآن إنسانة، رأيت أمي، أبي، إخواني، وأخواتي يبتسمون لي، يقولون لي بلغتنا: أحسنت Say Say

سألها شيكيري توتو كوه، أين خبأت الجثة؟ قالت له: كنا كل يوم أنا وأنت وأمي وصديقك إبراهيم خضر أيضًا نغوط عليها، صببت خلفها جوالًا من الجير المتبقي من العيد الماضي؛ من ثم توقف المرحاض عن إصدار الروائح الأكثر نتانة من الغائط. ذكرها بأنها في حكاية سابقة تحدثت عن نتانة كبده، قالت له: إن ذلك جنجويد آخر بقصة مختلفة.

منذ أن أسر زوجها شيكيري توتو كوه، قررت عبد الرحمن أن تغادر مدينة نيالا وتنضمَّ للمتمردين، لا يهم من هم ولا يهمُّ من قائدهم ولا ما هي أهدافهم الأساسية، يكفي أنهم يحاربون الحكومة والمليشيات التابعة لها، وأنهم متَّفِقون على تحرير دارفور من قائمة القتلة الطويلة، وحماية من تبقى من أهلها من صلف مَنْ تحب أن تسميهم الملاعين، ولكن دائمًا ما تخونها الخبرة في طرائق الخروج والانضمام، هي لا تعرف أيًّا من الخيوط التي تربطها بالمقاتلين، الذين يُقال إن لهم أعينًا كثيرة في المدينة، وإنهم يجندون الشباب سرًّا ويأخذونهم إلى ميادين القتال، تريد أن تتعرف عليهم وتطلب منهم أن يأخذوها معهم، «أستطيع أن أحارب مثل الرجال، بل إنني أكثر شجاعة منهم.» إنها تقاتلت مع الجنجويد شخصًا لشخص، بالتحام جسدي مباشر على رمال وادي برلي العظيم، تعرف كيف تقاتل كامرأة بأدوات المرأة، وتعرف كيف تحارب بأدوات الرجال أيضًا، حيث إنها أمسكت بقبضة يدها اليمنى بمذاكيره بكل ما تمتلك من قوة وجذبتها نحوها، ولم تطلقه إلا عندما أغمي عليه تمامًا، ثم خنقته إلى أن أطلق روحه، هل هنالك رجل فعل ما فعلته؟ وهي الآن تمتلك بندقيتين جيم ثري فاعلتين، تمتلك أربعة قنابل يدوية، لا تعرف كيف تستخدمها، ولكنها تحتفظ بها بحرص شديد، وعتاد جنديين كاملين من الذخيرة الحية، ونقودًا كثيرة استولت عليها من جيوب الجنجويدين، فقط تبحث الآن عن ميدان المعركة، تريد أن تنضمَّ لرفاق مقاتلين.

كان الخال جمعة ساكن كعادته، يقضي المساء على كرسي أمام باب الحديقة الجنوبي الذي يطل على الوادي مباشرة، بعد أن تتم مراجعة أحوال الخيل مع مساعده الوفي العم جبريل سائس خيله وراعي الحديقة الكبيرة، العم جبريل يظل بالداخل يحتسي مريسته ويستمع للراديو، وأحيانًا تتسلل إليه علوية، وهي أرملة يحبها جدًّا ويقضيان وقتًا طيبًا في الأُنس والإيناس. جلست عبد الرحمن قربه على الرمال، على الرغم من إلحاحه عليها بأن يحضر لها جبريل كرسيًّا من الداخل، أو تذهب هي وتتناول واحدًا، قالت له إنها تريده في أمر مهم. كان الخال جمعة ساكن في الخامسة والخمسين من عمره، رجلًا قويَّ البنية، أشيب، كل شعرة في رأسه ووجهه بيضاء، على الرغم من عزلته إلا أنه مرح جدًّا عندما يجد من يؤانسه ويطمئنُّ إليه. صبَّ لها كوبًا من الشاي من إبريق قربه، طلبت منه أن يعطيها الأمان، وهذا يعني في ثقافة دارفور أن ما يدور بينهما الآن يبقى سرًّا، وأنهما إذا لم يتَّفِقا على مسألة ما، فإن ذلك لا يضر بعلاقتهما في المستقبل، فأعطاها الأمان. قالت له باللغة المحلية، هي لغة قبيلتها: أحتاج لفرس.

فجأة انتبه بكل حواسه، وضع كوب الشاي جانبًا، صمت.

ماذا تفعلين بفرس؟

قالت له وقد التقت عيناهما في لحظة كخطف البرق: أريد أن أذهب إلى ميدان الحرب.

صمت، لزمن لا يدريانه، سألها: أين ميدان الحرب؟

قالت: لا أدري، أريد أن أقاتل الجنجويد والحكومة، أريد أن أنضمَّ للثوار بالجبال.

سألها بلطف: هل تدرين أين هم؟

قالت: لا، لا أعرف عنهم شيئًا، سمعت باسم شارون، وكنت أعرف أسرته في الجير، لكني لا أعرف أين هو الآن.

طلب منها أن تتريَّث، وأن الحرب ليست بالشيء السهل؛ فقد تتعرض للموت أو على أقل تقدير الاغتصاب، ولكنها عندما قصت له حكاية الجنجويدين، والأسلحة التي تمتلكها، برقت عيناه إثارة، وقادها نحو مظلة الحصين، وطلب من جبريل أن يهيئ فرسين سماهما بالاسم بكامل عتادهما، عندما استفسرت لماذا فرسين؟ قال لها: لقد قلت لي إنك لا تعرفين موقع الثوار، أليس كذلك؟ أنا أعرف دارفور كما أعرف أصابع يدي، قضيت عمري كله متجولًا في بواديها، سآخذك إليهم وأعود.

قالت له إنها سوف تدفع ثمن الفرس، إلا أنه أكَّد لها أنه لا يمانع أن يعطيها ثروته كلها، إنها تفعل ما لا يستطيع هو فعله، فقط طلب منها شيئًا واحدًا؛ أن تتذكر أبناءه الذين ذبحهم الجنجويد، أن تنتقم لهم أيضًا.

أتت عبد الرحمن إليه وبذهنها فكرة واحدة فقط، أن تأخذ فرسًا منه، مهما كلَّف ذلك، وكانت بينها وبين نفسها تعلم أنه لا علاقة له بالنساء منذ أن توفيت زوجه قبل أكثر من عشرة أعوام، لم تُثر حوله أية قوالات أو نميمة أو شُبْهَةِ ظنون بأنه يتعاطى النساء، ولكنها أيضًا تضع احتمال أن تغويه بجسدها إذا دعا الداعي، ذلك الجسد المنتهك الذي ناله الجنجويد مجانًا وعنوة، وناله أبناء جلدتها في معسكر كلمة وأب شوك بغير حب أو رحمة، وناله آخرون كثر بكامل إرادتها ومن أجل بعض النقود القليلة، ما العيب في أن تهبه من أجل قضية ملحة؟ قضية تؤمن بها وتعمل لأجلها، ولا ترى في ذلك خيانة لزوجها شيكيري توتو كوه، ولا لأي مخلوقٍ آخر؛ فهي تعطي لشيكيري قلبها كله وجسدها كله بالحب، له وحده، أما نصيب وطنها وشعبها من جسدها فهي لا تهمله إطلاقًا، تذكيه عند الضرورة بدون تردد. الخطة الأخرى التي كانت سوف تطبقها في حال عدم اقتناع الخال ساكن بالمنطق، وعدم استجابته لغواية جسدها الجميل الشهي، بالإضافة لما لديها من مال قليل أخذته من الجنجويد، هي سرقة الفرس، حتى إذا أدى الأمر لقتل العم جبريل والخال جمعة ساكن الطيب، الذي يسمح لهما دائمًا بأخذ المانجو التي تتدلى أفرعها في بيت الخالة خريفية، الذي يتحدث لغتها القبلية، الذي يحبها جدًّا ويسمح لها بالتجوال بأفراسه الغالية الثمن، التي يكسب من ورائها الملايين في سباق الخيل في المواسم، التي تكسبه مكانة اجتماعية سامية.

كان الليل دامسًا، يقول الخال ساكن: إنه الوقت الأنسب للترحال، فالطريق واضح لديه، ويستطيع أيضًا استخدام النجوم، والكواكب، والريح، وملمس التربة ورائحة الأمكنة والأصوات في الاستدلال على الطريق ومعرفة المواقع، كان الفرسان أسودين وهما يرتديان أيضًا ملابس داكنة الألوان، حتى تصعب رؤيتهما من قبل الآخرين. كانا لا يتحدثان إلا لمامًا، بالهمس، يعرفان أن الليل يحمل الأصوات بعيدًا جدًّا، مع طلوع الفجر كانا على مشارف قرية خاوية من السكان، وبيوتها محروقة بكاملها، تتناثر العظام والجثث البشرية المتيبِّسة في أنحاء المكان بين عشيبات الخريف التي بدأت في الذبول، القرية معروفة لكليهما، ولأن القش البوص الذي نما في الفصل المطير ما زال منتصبًا على الأرض — هما في سبتمبر — قطعا بعضه وصنعا منه مظلة صغيرة، أعدا في ظلها بعض الطعام، وقرَّرَا أن يبقيا في ذات المكان إلى قُبيل نزول الظلام؛ لأن الترحال نهارًا قد يقودهما إلى صدام مع جهة ما، وقد تكشفهما مناظير الحكومة أو غيرها من المليشيات الموالية وطائرات التجسس.

صنعا فرشين من العُشب، كانت عبد الرحمن مرهقة، لم تركب الخيل لمسافة طويلة منذ سنوات كثيرة ماضية، كانت تحسُّ بآلام مبرحة في باطن فخذيها وسمانة رجليها، شربت قليلًا من العصير المصنوع من الدخن، ونامت.

حياة المدينة لم تفقده مهاراته في الصيد والعيش على الطبيعة مباشرة، فبمجرد أن نامت عبد الرحمن، وتأكد تمامًا من خلو المكان من الثعابين والعقارب السامة، عبث في أشيائه، وأخرج شراك الفئران وطعمها من البصل الأحمر ذي الرائحة القوية، كان يعرف مسارات مرور الفئران الكبيرة عبر أقصاب البوص، حيث إنها تترك أثرًا على الأرض واضحًا، يبدو وكأنه أنبوب طويل شفَّاف يخترق العُشب، هو سوف لا يضع الشراك في طريقها مباشرة، وإلا أثار شكوكها وأسرعت بالفرار، ولكنه نصبها بعيدًا عكس اتجاه الريح، بحيث تصلها الرائحة الشهية للبصل، ويتركها هي التي تبحث عن مصيدتها، طائعة مختارة.

يحبها مشوية على لهب خفيف، استيقظت على رائحة الشواء اللذيذة، وكان منظر الفئران الكبيرة وهي متدلية من عمود مصنوع من أخشاب العرد، مطلة على لهب فاتر يلعق بألسنته الصيد السمين، كانت كما لو أنها في حلم، امتلأت رئتاها بعبق الشواء ودخان الحريق يجعلها تكحُّ بشدة، وهي تحملق في الخال جمعة ساكن وهو يجلس القرفصاء يعد فأرًا ناضجًا للأكل، جلست قربه، كانت تبدو عليها السعادة البالغة، تحدثت معه قليلًا عن وجبة فئران شهية أُطْعمتها في قريتها وهي طفلة، كانا يأكلان بمتعة خاصة، قال لها بلغتها المحلية: الحرب عدو.

أضاف وهو يرقب اللهيب المتصاعد: الحرب عدو.

كانت تنظر إليه كما لو أنها تنتظره أن يقول شيئًا آخر، شيئًا مهمًّا، حمل عصًا صغيرةً من خشب العَرَد، حرَّك بها بعض الجمرات الصغيرات، فتطايَرَ كثيرٌ من الشرر، صمت لزمن طويل، الحرب تعني عنده الكثير، إنها أخذت كل أسرته، كل الذين يحبهم، التهمتهم بدون أية رحمة.

العم ساكن من قبيلة الفور، وهي القبيلة التي تسكن جبل مرة والأودية التي حوله منذ آلاف السنين، قبيلة مسلمة مسالمة لا تَمِيل للحرب والاقتتال، إلا أن الأراضي الخصيبة التي تشغلها جعلت منها هدفًا لأطماع الطامعين منذ أقدم العصور.

عبد الرحمن كانت تفكِّر بجدية في الطريق التي تشكر بها هذا الرجل. نعم إنه يرى فيها المنفذ العملي للانتقام من أجل أبنائه الذين لم تُترك لهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم، قتلوا ببرود، سيحكي لها قصة موتهم للمرة العشرين؛ كانوا يستقلون عربة نقل تجاري من كاس إلى زالنجي، وجدوا نقطة تفتيش في الطريق، بها جنجويد وجنود نظاميون، سألوا الناس عن قبائلهم، ومن كذب في اسم قبيلته اكتفوا بأن يحرزوا اسمها، كان يهمهم أن يعرفوا هل الشخص زرقة أم عرب؛ لأن اللون وحده لا يكفي؛ فكثير من منسوبي القبائل العربية أكثر سوادًا من منسوبي القبائل الدارفورية الأخرى. كانوا أيضًا يعتمدون اللسان، طريقة النطق والتعبير، وفوق ذلك كله يعتمد الأمر على مزاج الجنجويد المسئول عن نقطة التفتيش، وهو دائمًا في رتبة وسلطة أعلى من القائد العسكري النظامي، بل يستطيع تصفيته دون أن تعاقبه أية جهة كانت؛ ففي ذلك اليوم كان مزاج الجنجويد عكرًا؛ فقد جُرح أحد أفراد قوته جرحًا بليغًا قد يُودِي بحياته، في عراك مع أحد الرجال الدرافوريين، ومما أثار غضبه أكثر أن الرجل استطاع أن يهرب ولم يصبه الطلق الناري الكثيف الذي أمطر به؛ لذا قام بإعدام كل الرجال والأطفال الذكور الذين باللوري السفري، جميعهم، عربًا كانوا أم زرقة، ومن بينهم أبناؤه الأبرياء؛ رجلان بالغان وطفل في العاشرة من العمر.

تحسُّ في أعماقها أنها أخذت تنتمي للرجل، قد بدا لها حقيقيًّا وحزينًا جدًّا، وترغب في مواساته، وعبد الرحمن لا تدري كيف تفعل ذلك. إنها تخشى ألا يقبل الطريقة التي تفكر في أن تعبِّر بها عن تعاطفها معه، إنه ذات الجسد الذي تصيد به الأشرار والقتلة، وهو يُفيد جدًّا في تقديمه هدية للطيبين والصالحين والذين تحبُّهم، وفي سبيل قضيتها؛ فلم يخلقه الله لها عبثًا، إنه سلاحها وثروتها. لا يستطيع أن يقرأ ما يدور بخاطرها في تلك اللحظة، وإلا لأراحها من الحيرة بإجابة ما سلبية كانت أم إيجابية.

حسنًا، يمكنها أن تعطيه النقود التي أخذتها من الجنجويدين، إنه مبلغ كبير من المال، لا تدري ماذا تفعل به في ميدان المعركة، قال لها إنه لا يحتاج لنقود، لديه من المال ما لا يدري ماذا يفعل به ولا كيف يصرفه، المال لا يمثل لديه أية قيمة، قالت له إنها لا تدري ماذا تفعل به أيضًا. وأخيرًا اتفقا على أن يقوم بإعطائه للعمة خريفية، بأسلوب لا يجعلها تشك في أن مصدره هو ابنتها المختفية عبد الرحمن.

حسنًا، إنها لم تكافئه أيضًا. الطريق إلى المعسكر قد اتَّضَح تمامًا، وعليها عندما تتخطَّى الخور الصغير أن تتخذ يسارها، وتتجه نحو المرتفعات التي سوف لا تبعد حينها كثيرًا. إنهم في وسط تلك المرتفعات فيما يسمونه المدينة، وعليها أيضًا أن تتخذ تمام الحيطة والحذر؛ لأنهم سوف يرونها بمناظيرهم من على بعد كافٍ، وإذا التزمت السير كما شرحته لها، فإنها ستتجنَّب حقل الألغام البشرية. أما ألغام الآلات الثقيلة فبإمكانها أن تعبره دون مخافات تذكر؛ لأنها لا تنفجر إلا تحت ضغط حمل ثقيل مثل دبابة أو شاحنة جنود، عربة لاندكروزر، أو غيرها من المقاتلات ذات الوزن الذي يفوق ثلاثة أطنان، وطالما كانت تحمل طرحتها البيضاء في بيرق ترفعه عاليًا، فإنهم سوف لا يطلقون عليها النار. حدثها بسر كتمه طويلًا، وهو أنه أحد الذين يعملون على إرسال المقاتلين الدارفوريين من مدينة نيالا إلى ميدان المعركة، وفي كل الجبهات، وهو المسئول الأول في هذا الشأن، وحدثها أن بنيالا الآن أكثر من عشرين خلية مقاومة ثورية، تحت إدارته، وبها عشرات النساء والرجال، مدنيين وعسكريين، طلابًا وموظفين. وذكر لها اسم أحد الثوار وهو يعمل بمكتب الوالي شخصيًّا، بل من أقرب المقربين إلى الوالي.

قال لها: أعمل أنا من عشر سنوات في هذا التكليف، وكنت مقاتلًا في أكثر من جبهة، أكَّد لها بلغتها المحلية وهو يشيعها بابتسامة عريضة بينما يتوغل بها الفرس في عمق المكان. كانت مندهشة، ممتنة، وترغبه بل تتشهَّاه بشدة، فلو عادت بها الأيام لأصبحت من أقرب أصدقائه أو عشيقته، لا فرق، كم هي حزينة: أن أتعرف عليك في الزمن الضائع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤