الحريةُ وقرينُها

جدود إبراهيم خضر إبراهيم منحدرون من العبد الذي سُمي بخيت، هو والد الخادم التي سُميت بخيتة وعُرِفَتْ فيما بعد في مجتمع العبيد والأسياد معًا ببخيتة «سجم الرماد». لم يهتم أحد بمعرفة اسميهما الحقيقيين، يكفي أن يكون لكل منهما سعرٌ محدد، بِيع الجدُّ بسعر أعلى من أقرانه ٥٥ ريالًا مجيديًّا، نسبة لوجود علامات الجدري في وجهه؛ لأن ذلك يعني أنه سوف لا يُصاب به مرة أخرى. طالما كلَّف الجدري التجار خسائر فادحة في العام الماضي، ووُهِبَتْ هي مجانًا لذات التاجر؛ لأنها كانت صغيرة في السن وتحتاج لرعاية قريب حتى لا تموت، كما أنه لا يمكن أن يشتريها أي من التجار؛ فهي خسارة مؤكدة، ولولا رأفة طارئة في قلب النخاس، لتخلص منها برميها للذئاب التي كثيرًا ما تتبع قافلة صيد الرقيق، طمعًا في وجبات طازجة من موتى أو جرحى من الرقيق فُقِدَ الأملُ في أن يشفوا.

كان الأب بخيت، وسندعوه بخيت؛ لأن اسمه الحقيقي ظل مجهولًا إلى تاريخ وفاته؛ كان يَحْمِلُ ابنته حديثة الولادة البكر، إلى الرب الخاص بقبيلته في جبل مجاور لمباركتها، وفي الطريق صاده الصائدون، بهذه البساطة، ولكن بخيت كان يلوم نفسه على ذلك؛ لأنه وقع في ثلاثة أخطاء كبيرة؛ أولًا أنه لم يذهب في جماعة مدججة بالحراب والنِّبال، كما هو الحال دائمًا في مثل تلك الأيام التي يكثر فيها صائدو البشر النخاسون، وهي نهاية هطول الأمطار إلى بداية هطولها مرة أخرى. الشيء الآخر هو أن بخيت نسي أن يحمل معه تميمته الخاصة بحمايته من الطلق الناري والسلاح الأبيض، إلا لَمَا أخافه النخاسون ببنادقهم وحرابهم. الخطأ الثالث وهو الأفدح، أنَّ بخيت ما كان يرغب في الذهاب إلى الرب الخاص بقبيلته؛ لأنه في الآونة الأخيرة انتمى لجماعة تعبد إلهًا آخر غير الذي تعارف الناس عليه في القرية، يحرم هذا الدين الرب الخاص والخمر والتمائم ويلزم الناس بالصلاة والصيام.

ولكن تحت إصرار وإلحاح أمه وأبيه وزوجته، أخذ ابنته ومضى للربِّ مُكرهًا؛ لذا فعل الربُّ به ما فعل. لقد جعله فريسة لأفراد يتخذون نفس دينه الجديد ويعبدون ذات الإله ويصلون تمامًا كما تعلَّم أن يصلي، ويكفرون بالرب الخاص بقبيلته.

أُخِذَ الأبُ والبنتُ إلى سوق الديم، ولأنه كان قويًّا وبصحة جيدة وتجاوز مرض الجدري، تمَّ عرضه في السُّوق مباشرة، ولو أنه كان حانقًا ومتورم الوجه؛ لأنه دافع عن حريته بشراسة، ولكن كما يقولون: الكثرة غلبت الشجاعة. في السوق، قال للنخاس باللغة الوسيطة الشائعة في تلك الأنحاء: أنا مُسلم مثلك.

أجابه النخاس ضاحكًا: لكنك عَب، والعَب مكانُه السُّوق.

ولم يزد، كانت لديه معرفة كاملة بما سيصير إليه أمره، سيُباع من سوق إلى سوق، وإذا كان محظوظًا، ينتهي به المطاف في أم درمان، هنالك العبيد أحسن حالًا، أما إذا لاحقته لعنة ربه الجبلي، فإنه سوف يقع في يد فلاح أو تاجر جوال، أو سلطان يستخدمه جنديًّا يخوض به الحروب وقد يَخْصِيه، وهي فِعلة مؤلمة كثيرًا تحدَّث عنها الناسُ، وكلما قُبِض رجلٌ بواسطة النخاسة، تقوم أمه أو زوجته وأطفاله بأداء صلاة خاصة للرب طالبين منه، في حال أنه لا يستطيع أن يعيده إليهم، فليحمه من أن يُخصى؛ لأن ذلك مؤلم جدًّا ويقطع النسل.

وفي اليوم الثالث بينما كان يطعم بنته التي تصرخ بشدة عندما تجوع فيضطر الحراس إلى توفير اللبن لها، إذ بثمانية من الشبان يُلقى بهم في الزريبة، إنهم جماعته أنفسهم، الذين كان يتعبَّد معهم؛ أي خليته الإيمانية، فلقد تَطَيَّرَ بهم سكان القرية بعد أن اختفى بخيت، وحاولوا قتلهم، فهربوا بدينهم إلى مغارة قصِيَّة عند جبل بعيد، فصادفهم النخاسة في صحبة البازنجر، ولأنهم غير مسلحين، وكانوا يكفرون بالتمائم الواقية من الطلق الناري، وهاربين، تمت السيطرة عليهم بكل سُهولة، رُبطوا في صَفٍّ طويل. أتى بهم النخَّاس المحظوظ إلى الديم، فلقد كانوا فتية في صحة جيدة، أعمارهم جميعًا تجارية، ويعرفون اللغة العربية الوسيطة، كل ذلك يجعل سعرهم مرتفعًا وبيعهم سهلًا. كانوا وهم يُدفعون للأمام ويُضْرَبون بالسياط للمضي قُدمًا، يصيحون بصوت واحد منغم وبحُرقة: الله أكبر، الله أكبر …

تم عرضهم أولًا لممثل الحكومة؛ فهو المسئول الرئيسي عن الرق، الذي من حقه أن يشتري منه ما يشاء بالسعر الذي يضعه؛ لأن كل الرقيق يعتبرون في الأصل ملكًا للحكومة؛ فهي تعطي تصاريح للصيد فقط وليس للملكية، فالملكية تحتاج إجراءات أخرى، وهذا المسئول بالذات يعرف عنه أنه يشتري الرقيق من أجل متعته الشخصية، وذلك عندما لا تكون الدولة في حاجة إلى جهايدية محاربين. يختار الرجل فتيات جميلات صغيرات، صبيان مردة. أما النساء فخلقن لذلك.

أما الرجال فإن أمام الرقيق الذي صادف شهوة رجل الحكومة أن يختار بين اثنين؛ إما أن يتم خصيه ومن ثمَّ يصبح في حكم النساء، وبعد ذلك يرضخ للفعلة مكرهًا، أو يرضى طائعًا أن يُفعل به كما يفعل بالنساء. ويُعرف عن الحكومي أيضًا، أنه يفضل الحالة الأخيرة، حيث إنَّ غاية متعته هي أن يقبض على ذكر المفعول به ويعضه في ظهره عندما يصل ذروة نشوته، فالخصيُّ يحرم الحكومي المسكين تمام متعته المرجوة، كما أن المهدي قد أحلَّ الرق ولكنه — رضوان الله عليه — حرم الخصي، فلا يمارسه الرجل إلا مضطرًّا ومخاطرًا. اختار الحكومي لمتعته الشخصية المتجددة أحد المؤمنين، أحدثهم سنًّا، وبيع البقية بالجملة لوكيل مهرب مغربي شهير اسمه محمد البخيت، الذي برع في تهريب الرقيق إلى مصر، بعد أن حرَّم تصديره إليها الخليفة عبد الله التعايشي، خوفًا من أن يجنِّدهم الأتراك جيوشًا لإعادة فتح السودان مرة أخرى، ينوي الوسيط توريدهم إلى أسواق استانبول مباشرة، ولربما أصبحوا فيما بعد بعض الجُند العثمانيين الذين قُتلوا في إحدى المعارك التي دُحِرتْ فيها السلطنة العثمانية المتهالكة في ذلك الوقت.

عبر مجرى النيل الأزرق الفتي، انتهى بهما المطاف إلى أم درمان، ثم عبر النيل العظيم إلى سُوق النخاسة بشندي، اشتراهما إقطاعي، ودارت بهما دوائر الأيام والعبودية، إلى أن بلغت بخيتة الرابعة عشرة من عمرها، وأصبحت في طور ما يمكن أن يؤتى من النساء. اشتراها نخاس متجول، فودعت والدها وداعًا مؤلمًا؛ لأنهما كانا يعلمان أنه نهائي وأبدي، أعادها النخاس إلى أم درمان حيث أخذ يستثمرها في سُوق الدعارة مع أخريات، يستأجرها للناكحين الأغنياء بالساعة والليلة والأسبوع. أنجبت من آباء كثر بنتًا سُميت السُّرة، ثمَّ من آباء آخرين ولدًا سُمي مستور، ثمَّ من رجل واحد ثري اشتراها لمتعته الخاصة توأمًا سُميا التُّوم والتُّومة، والتومة هي الجدة المباشرة لإبراهيم، اشتراها بدوي بكسلا ﺑ ١٦٠ ريالًا مجيديًّا، وهو أعلى سعر لرقيق بسوق أم درمان؛ لأن الخادم الشابة أو كما يسمونها «الفرخة الفاتية»، تعتبر استثمارًا مُربحًا لسيدها، خاصة الجيل الثاني من الرقيق الذي كان نتاج علاقات بين الرقيق الأنثى والذكور العرب، حيث إنهم أخذوا من الآباء ألوانهم البُنِّيَّة والصفراء، والأجساد الأفريقية ذات البنية الجسمانية المتينة والقوام السامق، بل أحيانًا يصعب أن يحدد ما إذا كان الشخص من الرقيق أو السادة وفقًا للونه.

كان البدوي قاسي القلب، يجعلها تعمل اليوم كُله في طحن الغلال بحجر الصوان، ويبيع الطحين للتجار، تطعم ضيوفه الكثر الذين لا يشبعون، ونساءه وأطفاله الآخرين، وبالليل يستأجرها لطلاب المتعة والهوى من الأثرياء.

في صباح باكر، سمعت سيدها المجروح — نتيجة لطلق ناري أصيب به لاشتراكه في معركة كرري — يتحدث مع بعض أصحابه الذين فقدوا أموالهم وثرواتهم بعد عودة الإنجليز لحكم السودان، وسقوط دولة المهدية، يتجمعون كل ليلة يتحسَّرون ويتباكون على أيام زمان، يتحدثون بحرقة عن طلب الإنجليز غير المعقول وغير الشرعي، بل والمستفز والغريب، الذي يطلب منهم إطلاق الرقيق الذين بين أيديهم أحرارًا فورًا. ومنذ إعلان هذا القرار، ويجرم ويحاكم بالسجن والغرامة كل من يمتلك أو يتاجر أو يحتفظ بأي شخص ذكرًا كان أم أنثى، طفلًا أو بالغًا، كعبد، أو سرية، أو أي شكل آخر من أشكال الاسترقاق.

كادت أن تطير من الفرح، وتأكدت لها تمامًا صحة الإشاعات التي انطلقت قبل الحرب قائلة إنَّ الإنجليز سوف يطلقون الناس أحرارًا، وسوف يرجعون الناس إلى قبائلهم وأهليهم أينما كانوا.

انتظرت يومًا، ويومًا آخر، ولم يخبرها سيدها بأنها حرة، إلى أن طلب منها فجأة ذات عصر، أن تترك ما بين يديها، وتختفي بأسرع ما يمكن في أعشاب القاش، وألا تعود، إلا في المساء، عندما سألته لِمَ، قال لها: الإنجليز يريدون أخذها وبيعها إلى الأتراك، والذين سوف يقومون بقتلها وإطعامها لكلابهم. كانت تعلم أنه كاذب، وكانت تعرف أنَّ المفتش الإنجليزي يقوم بمداهمة البيوت التي تحتفظ بالرق ولم تنفِّذ القرارات الحكومية، وجدت بين أشجار نهر القاش الكثيفة يختبئ المئات من الرقيق، وكثير منهم كان يظن أن الإنجليز ينوون بهم شرًّا، بل بعضهم كان يُطلق مقولة قالها لهم السيد: عبدٌ بسيدهِ خيرٌ مِنْ حُرٍّ مُجَهْجَه.

وكانوا يخافون من أن يجهجههم الإنجليز، فماذا سوف يفعلون بحريتهم، من أين يأكلون، ويشربون، بل أين ينامون بالليل وهم لا يمتلكون أرضًا ولا بيتًا ولا وظيفة، ولا عملًا؟ سيكونون صيدًا سهلًا للذئاب والثعابين والجوع والمرض. ولقد حلف كثيرٌ من الأسياد لمملوكيهم أنهم سوف لا يقبلون بهم إذا تحرروا الآن، ثم خرج الإنجليز كما خرج من قبلهم الأتراك الذين هم أقوى من الإنجليز، وذكروهم بكيف أعاد المهدي — رضي الله عنه وأرضاه — العبيد الذين حررتهم التركية إلى أسيادهم مرة أخرى، بعد أن هَزَم بسيفه التُّرك الكُفار، وكيف أن بعض الأسياد من الغضب قام بقتل كل عبيده العائدين بحرقهم أحياء بالنار. وأكدوا لهم أن سيدنا المهدي عائد عائد، وهو لم يمت إنما يذهب ليقضي وطرًا في مكة ويعود مرة أخرى بجيش من الملائكة.

قلة قليلة من الرقيق كانت تعي معنى الحُرية، والتومة واحدة منهم، كانت تقول لهم إنها تفضل الجحيم من هؤلاء السادة الأشرار، بالنسبة لها الإنجليز أفضل من المهدية، والخواجة كتشنز خيرٌ من المهدي وخليفته. التومة هي أول من اتخذت قرارًا بتسليم نفسها للإنجليز، وخرجت من عُشيبات العدار الغزير. أحست بنسمة رقيقة من الهواء تمسح وجهها، شهقت هواء تحس به لأول مرة في حياتها نقيًّا، كانت تسير نحو عمق المدينة خفيفة كالريشة، ثم فجأة أحست بنفسها تجري، تجري بكل ما أوتيت من قوة وسرعة، كان الناس يشاهدونها في الشارع تمر مثل الطلقة، مرت بسادة كثر، لم تترك لهم الطريق، بل شقتهم شقًّا. مرت بعبيد يعملون، لم تهتمَّ بشأنهم، مرت بإنجليز يتمشون وأسرهم لم تُعِرْهم اهتمامًا، مرت بهنود يجرون عربة عليها إنجليزي عجوز، مرت بأناس شتى، بدو، تجار، بقايا جهادية منكسرين، عبرتهم إلى المديرية، وقفت أمام أول رجل أبيض تقابله، قالت له من بين أنفاسها المتلاحقة: أنا حُرة.

في ذلك اليوم أخرج الإنجليز من بين قصب العدار الذي ينمو في مجرى نهر القاش الموسمي والأحراش التي تحيط به، ما لا يقل عن ألف رجلٍ وامرأةٍ ومئات الأطفال، وقالوا لهم: أنتم أحرار، بكى كثير منهم من الفرح، وبكى الآخرون من الخوف على مستقبل حريتهم المجهجهة. وأصبح الخوف جديًّا وماثلًا، خاصة بعد مُذكرة السادة على الميرغني، الشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي في ٦ مارس ١٩٢٥ إلى مدير المخابرات الإنجليزي التي طلبوا فيها من الحكومة الإنجليزية، إعادة النظر في الحُرية الموهوبة للرق في السودان، بل استثناء الرقيق السوداني بالذات من الحرية التي كفلتها لهم المواثيق الدولية، وتركهم عبيدًا إلى أبد الآبدين؛ لأن ذلك أجدى لهم وأنفع. وقد رَوج النخاسون والمالكون للرق دعاية مفادها أن الحكومة البريطانية قد استجابت لهؤلاء القادة الدينيين، وقريبًا جدًّا سوف يُعاد إليهم عبيدهم؛ مما جعل أسرًا كثيرة وأفرادًا من المعتوقين يهربون إلى إثيوبيا.

رجل اسمه فرج الله ود ملينَة، كان مملوكًا للحكومة كجندي جهادية، ويبدو أنه كان يفكر في مستقبله كثيرًا؛ لذا، منذ خمسة عشر عامًا، كان يستقطع أو بالأحرى يسرق من المال الذي يُجْبيه من التجار والمزارعين كزكاة أو عشور، ورشاوى للأمراء، ويدفنه في مغارة بجبل توتيل؛ فهو الآن يمتلك ثروة من الذهب والريالات الفضية، بالقدر الذي يضعه في مصاف أثرياء المدينة، اشترى بعد التحرير الأبقار والماعز، وبيتًا كبيرًا، به غرف متسعة مبنية بالطين اللبن ومعروشة بسوق الدوم والنخيل، تمامًا كما يفعل أسياده في الماضي. وإذا كان الرق مباحًا، لسعى فرخان أو ثلاثة لخدمته، ولاتخذ لنفسه من السرايا كثيرات. فلقد كان رقيقًا مميزًا جدًّا؛ فهو مملوك للدولة، ولديه رتبة عسكرية، وسُلطة مُطلقة في البطش، فبسقوط الدولة المهدية التي كان مملوكًا لها فقد تحرر، فلولا أن حرَّمَت السلطة الجديدة الرق، لما فكَّر أن يكون شيئًا آخر غير تاجر رقيق.

أعجب هذا الجهايدي المعاشي بالتومة وجمالها، وكان يرغب فيها بالماضي ولم يكن باستطاعته منافسة السادة. تقدم الآن إليها، بسنة الله ورسوله؛ أي يتزوجها كما يتزوج الذين كانوا أسيادهم، وراقت لها الفكرة، زميلاتها في العبودية قمن بتجهيزها، فلقد كانت توكل إليهن هذه المهام في الماضي، فصارت مثل الأميرة حسنًا ورقة وإشراقًا، وتطيَّبت بأحسن العطر، وهو الشيء الذي كان محرمًا عليهن في زمن الرقِّ والعبودية، ألبست الذهب والفضة والثوب الزراق والفوطة الهندية، ولأول مرة ترتدي حذاءً جديدًا وقرقابًا من الحرير، وكانت حديث المدينة، حيث يعلق الناس في حسد قائلين: لقوها الخدم والعبيد.

لم يكن الناس معترفين بالحرية التي أعطاها الإنجليز لهؤلاء العبيد، وكانوا يعتبرونها عارضة، وغير شرعية؛ لأن في رأيهم أن الإسلام نفسه لم يحرم الرق والاتجار به واتخاذ السرايا، سارت على نهجه المهدية المباركة، وقبلها السلطنة الزرقاء، التي امتلك فيها حتى أولياء الله الصالحين مئات العبيد، فكيف يحرم الإنجليز الكفار ما أحله الله على عباده؟ بل ماذا سوف يفعل الرقيق الأحرار بحريتهم، لِنَرَى إذن.

بمرور الزمن تطور مفهوم العبودية بأن يظل العبدُ عبدًا ما عاش، حرره الإنجليز أم أعتقه سيده. بل يرث الأبناء تلك الصفة، وذهب لأبعد من ذلك، فبعض السادة القدامى ضربوا ما كان رقًّا لهم بالعصي، محاولين إعادتهم إلى بيت الطاعة، وهنالك من السراري من فضَّلن البقاء في رفقة أزواجهن بشرعية ما ملكت الأيمان، وذلك طوعًا، ولكن الأسوأ هو أن السادة قد أصابتهم حالة سُعر نتيجة لجنون الفقد والحرمان، فأصبحوا يطلقون على كل شخص شابه في لونه أو هيئته ما كانوا يمتلكونه من رق، العبد؛ وهذا ما جعل رجلًا من الجنوب، كان يعمل في المديرية كاتبًا، أن يقتل رجلين بسلاح شخصي؛ لأن أحدهما ناداه بالفرخ، واستطاع أن يهرب ويختفي في الغابة المجاورة، وظلَّ يطلق النار على كل من يقترب من غابته. ولأن الإنجليز كان يعجبهم هذا التصرف، فإنهم لم يرسلوا جنودًا للقبض عليه لمحاكمته بجريمة القتل التي ارتكبها، كانوا يريدون أن يلقنوا الناس درسًا، ويجعلوهم يفهمون أن ذلك العصر الذي يقسم الناس لعبيد وأسياد، قد ولَّى، وعلى الناس أن تفهم متطلبات العصر الجديد وأن تتعايش معه.

أنجبت التومة، في أكتوبر ١٩٣٣ بنتًا جميلة في بشرة جدها البدوي السيد وقوام أبيها، وبها ملامح ملكة نوبية عظيمة، سمَّاها أبوها فرج الله على أمه التاية، في مارس ١٩٥٦ تزوجت التاية من رجل اسمه خضر إبراهيم خضر، يطعن الناس في نسبه، يظنون أنه من السودانيين على الرغم من بشرته الصفراء. في أكتوبر ١٩٦٣، أنجبت له ولدًا أسماه إبراهيم على أبيه، وبعد عشر سنوات أخرى أنجبت له بنتًا سماها أمل، وأمل هي البنت التي عندما تمَّ صيد إبراهيم خضر عند مدخل مدينة الخرطوم في نقطة التفتيش بسوبا لأداء الخدمة الإلزامية، كانت في صحبته بالباص، وكان على إبراهيم توصيلها للجامعة وتيسير أمر إقامتها.

أخذ إبراهيم خضر يعي حقيقة وضعه الاجتماعي متأخرًا جدًّا؛ لأن والديه كانا يصرَّان على قطع أية صلة بينه وبين أقاربه وجدوده وجداته، الذين ما زالوا محتفظين بكثير من سمات قبائلهم التي أتوا منها من شتى أنحاء السودان، مجلوبين من قوافل الرقيق، وهي أسر شهيرة ومعروفة في كل أنحاء مدينة كسلا، بل إن والده كان يصرُّ على أن يُطلق كلمة عبد على كل شخص له بَشَرةٌ سوداء داكنة، أو ملامح موغلة في أفريقيتها، ويحكي قصصًا أسطورية عن أصوله البدوية وما كانوا يمتلكونه من رقيق، عن قوافل جده التي تجوب الأحراش في صيد الرجال والأطفال والنساء. لم يبق كثيرًا إبراهيم خضر بهذا الوعي الزائف، لقد نضج وبصورة جيدة، لم يخجل من أصوله التي عيَّره بها الكثيرون، وقصتها له الجدة التومة ذاتها، وقالت له: إنَّ أباه موهوم؛ فقد أخذ يبحث بصورة جادة عن أصول جداته المسبيات والمباعات في أسواق الرق مسترشدًا بخارطة طريق جدته التومة، وظل لفترة طويلة خاصة أيام دراسته الجامعية بكلية الآداب جامعة الخرطوم، ينقِّب في دار الوثائق القومية والمجلات الدورية الرصينة مثل مجلة Sudan Notes and Records، وهو لا يحمل نفسه أو أبويه أو جدوده أية مسئولية في ذلك، كان النظام المتخلِّف في ذلك الوقت البعيد يقوم على سيطرة القوي، وكانت أسر جدوده من الضعفاء، وهذا أوقعهم في يد من لا يرحم وبطش دولة دخلها الأساسي من أثمان مواطنيها في أسواق النخاسة العالمية والمحلية، عصرٌ فيه الدولة هي تاجر الرقيق الأعظم؛ لذا كان إبراهيم خضر يكره السلطنة الزرقاء ويعتبرها أساس إشكالات الهُوية في السودان، ويقول صراحة بأنه ليست هنالك أية سمات حضارية تخصها، وهي ليست سوى تحالف تجار رقيق، وعندما انفضَّت تجارتهم وعفا عليها الزمن، وحاصرتها الحضارة الأوروبية، أُزِيلوا من وجه التاريخ إلى مزابل النسيان.

يعرف أنه يقسو كثيرًا في حكمه عليها، ولكنه لا يمتلك خيارًا آخر، أن يحبها مثلًا أو أن يكون محايدًا، فما التاريخ عنده سوى ملحوظات دوَّنَها البشر، ومن حقنا كبشر أن ندوِّن التاريخ الذي يخصنا، ومن حقنا ألا نصدِّق المدونين، فليست هنالك حقيقة مطلقة فيما يُسجَّل، ولكن ليست هنالك حقيقة أكثر مما نراه بأعيننا ونحسه ونتعذب من أجله يوميًّا: هذا الإرث البائس من علاقات الرق؟

لم تكن أخته أمل بذات الوعي، بل ظلت في غيبوبة اختيارية عميقة، وتشرَّبت الدرس الذي لقنته لها الأسرة، بل إنها تظن ظنونًا مدهشة، أقصد تصدق بصورة قاطعة، أن أسرة جدودها كانت تمتلك رقيقًا، وما تلك الجدات السوداوات شديدات السواد المشئومات إلا بقايا إرث ومجد تليد، ونتيجة للتسامح الذي عُرف به المجتمع السوداني منذ عصور سحيقة، أصبحن جزءًا أصيلًا من الأسرة. أمل تنتمي الآن للجد البدوي، وبها من ملامحه الكثير، إذا أغضضنا الطرف عن أنفها الأفريقي الجميل، وقوام ملكات كوش. جدها البدوي من قبائل هاجرت حديثًا من الجزيرة العربية لشرق السودان، بذلك أراحت نفسها من جدل الهوية المؤذي.

لم تمر أمل بظروف شديدة التعقيد بعد أن تم فصلها عنوة من أخيها، اتصلت بوالدها وجاء بنفسه وقام بتسجيلها في الجامعة، وهيَّأ لها سكنًا داخليًّا مع أخريات، وقد تجنَّبت بقدر الإمكان الإقامة مع طالبات من مدينة كسلا، أو معارفها، كانت تريد أن تفتح صفحة جديدة في حياتها، وفتحت هذه الصفحة، أو في الحقيقة الصفحة انفتحت لها، عندما شاهدها مخرج تليفزيوني عن طريق الصدفة يوم حفل تخرجها، حيث كان قد دعي لتصميم حفل التخرج، وطلب منها أن تقوم بدور بطولة قصير في اسكتش رمضاني، ثم رآها مدير قناة فضائية شهير، حداثي متدين ومحبٌّ للجمال، عرف من أول نظرة أنها «تنفع مذيعة»، مع قليل من تقويم الأنف وصنفرة البشرة، وتثقيف اللسان، والبقية مقدور عليها. قال لنفسه بِتَشَهٍّ وخبرة: مُدْهشة، وبصق سفَّة صعوط كبيرة على الأرض.

لم تكن فرحة والدها بذلك كبيرة، عندما تصبح ابنته مذيعة معروفة سيحرك ذلك ألسنة الناس، والدنيا مملوءة بالحاسدين والحاقدين، الذين لا همَّ لهم سوى التقليل من شأن الآخرين بشتى السُّبل، شهرة ابنته قد تفتح في وجه أسرته بوابة من الجحيم يعمل دائمًا على أن تظل مقفلة جيدًا. في الحقيقة هو حزين منذ أن أُخذ ابنه إلى مجاهل الحروب، ولم يسمع عنه شيئًا سوى خطاب واحد طويل أتت به إليه منظمة الصليب الأحمر الدولية في مرة من المرات، وهو لم يعرف أن ابنه كان أسيرًا إلا يوم أن استلم الخطاب، وبعد ذلك لا يعرف شيئًا، هل تستطيع ابنته الشهيرة أن تعيد ابنه المخطوف المجهول؟

سأل نفسه هذا السؤال بعد عشرة أعوام وشهرين من اختفاء إبراهيم خضر إبراهيم، وعامين كاملين منذ أن اعتلت ابنته الجميلة أمل فضاءات الشهرة الرهيبة، وأصبحت مقدمة البرامج الأولى في القناة، وخاصة بعد عودتها من فرنسا، حيث هيأت لها القناة الفضائية عملية تجميل باهظة الثمن، والحق يُقال كان لوالدها أن ينظر إليها مرات عديدة ليعرف أنها ابنته أمل، لا يدري كيف صنعوا لها أنفًا غريبًا مخروطيًّا أشبه بأنف امرأة فرنسية وعينين شديدتي الزُّرقة مثل ماء البحر، كل ما تبقى من وجهها القديم شفتاها المكتنزتان لا غير.

لم ينسَ الأبوان ولم تنس الأخت أخاها إبراهيم، كان يرنُّ في وعيهم كدقات الساعة، منذ اللحظة التي فُقد فيها، وقد قامت الأسرة بمحاولات كثيرة ومريرة في استعادته، ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا، فهم أسرة بسيطة ليس من بين أقاربهم سياسيون وذوو مال نافذون، أو عسكريون يُشار إليهم بالبنان، طرقوا أبواب مكاتب الخدمة الوطنية مستفسرين، وكانوا دائمًا ما يقولون لهم إنه حيٌّ وسيعود عندما يكمل فترة خدمته، وبعد عامين؛ أي عندما اكتملت الفترة القانونية، قالوا لهم ينتظر بديله، وظلوا يكررون لهم جملة ينتظر بديله بإيقاعات متعددة إلى اليوم وغدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤