الفصل الثاني

الأسطورة والفلسفة

تتداخل العلاقة بين الأسطورة والعلم مع العلاقة بين الأسطورة والفلسفة؛ لذا ربما كان بوسعنا هنا استعراض آراء الكثير من المنظرين الذين أشرنا إليهم في الفصل السابق، غير أن هناك نطاقًا أوسع من الرؤى والمواقف حول العلاقة بين الأسطورة والفلسفة: من قبيل أن الأسطورة جزء من الفلسفة، وأن الأسطورة «هي» الفلسفة، وأن الفلسفة هي الأسطورة، وأن الأسطورة تنبثق من الفلسفة، وأن الفلسفة تنبثق من الأسطورة، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، لكنهما تؤديان الوظيفة نفسها، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، وتؤديان وظائف مختلفة.

بول رادين

تذكر أنه بينما أدرج تايلور وفريزر الأسطورة والعلم تحت الفلسفة، وضع ليفي-بريل الأسطورة، كرد فعل لهما، في مقابل العلم والفلسفة معًا. ويرى ليفي-بريل أن التوحد البدائي مع العالم، مثلما تدلل الأسطورة على ذلك، هو النقيض للانفصال عن العالم الذي ينادي به كل من العلم والفلسفة.

من ثم، جاء رد فعل أكثر حدة على رؤية ليفي-بريل من عالم الأنثروبولوجيا بولندي المولد، بول رادين (١٨٨٣–١٩٥٩)، الذي جاء إلى أمريكا رضيعًا. ويفسِّر عنوان كتابه الرئيس «الرجل البدائي فيلسوفًا» نفسه. فعلى الرغم من عدم ذكر رادين لتايلور في كتابه قط، يحيي رادين رؤية تايلور فيما يحجمها ويوسع نطاقها في ذات الوقت. ويفترض رادين جدلًا أن «معظم» البدائيين لا يمتون إلى الفلسفة بصلة، ويشير إلى أن معظم الأشخاص في أي ثقافة على هذه الحال أيضًا. ويفرِّق رادين بين الشخص العادي، «رجل الأفعال»، والشخص الاستثنائي، «المفكر» بقوله:

يشعر الشخص العادي [رجل الأفعال] بالرضا لوجود العالم، ولتتابع الأحداث فيه. لكن لتفسيرات هذه الأحداث أهمية ثانوية. فهو مستعد لتقبل التفسير الأول الذي يأتيه عَرَضًا، ولا يكترث البتة بأية تفسيرات عميقة، بل ينزع لتفسير في مقابل تفسير آخر. ويفضل هذا الشخص التفسير الذي يؤكد فيه تأكيدًا خاصًّا على العلاقة المباشرة بين تسلسل الأحداث. ويتميز الإيقاع العقلي له — إذا جاز لي استخدام هذا التعبير — بالحاجة إلى التكرار اللانهائي لنفس الحدث أو — في أفضل الأحوال — بتكرار الأحداث التي تقع جميعها على المستوى العام نفسه … في المقابل، يعتبر الإيقاع العقلي للمفكر مختلفًا تمامًا؛ فهو يرى أن افتراض وجود علاقة مباشرة بين الأحداث لا يكفي؛ ولذا يُصر على تقديم وصف للتقدم التدريجي والتطور من وضع إلى أوضاع متعددة، ومن البسيط إلى المعقد، أو يصر على افتراض وجود علاقة بين السبب والتأثير.

(رادين، «الرجل البدائي فيلسوفًا»، ص٢٣٢-٢٣٣)
يوجد «النمطان المزاجيان» في جميع الثقافات وبنفس النسبة. وإذا كان ليفي-بريل مخطئًا إذن في إنكار أن أي بدائي يُعد مفكرًا، فسيُعد تايلور بالمثل مخطئًا في افتراض أن جميع البدائيين مفكرون. غير أن رادين يعتقد أن هؤلاء البدائيين المفكرين يمتلكون مهارات فلسفية فائقة أروع من المهارات التي يسلم تايلور بوجودها عند صانعي الأساطير أنفسهم، ويطلق عليهم «فلاسفة بدائيين». ويرى رادين أن التخمينات البدائية — الموجودة في صورتها الكاملة في الأساطير — تتجاوز مجرد تقديم تفسير للأحداث في العالم المادي، مثلما، للأسف، يُقال عن أسطورة أدونيس. وتتعامل الأساطير مع جميع أنواع موضوعات ما وراء الطبيعة، مثل المكونات النهائية للحقيقة. وعلى النقيض من تايلور، يستطيع البدائيون ممارسة النقد بدقة:

من غير الإنصاف على الإطلاق القول بأن الأشخاص البدائيين يفتقرون إلى القدرة على التفكير المجرد أو إلى القدرة على ترتيب هذه الأفكار بصورة منهجية، أو، أخيرًا، القدرة على جعلهم وبيئتهم بالكامل عرضة للنقد الموضوعي.

(رادين، «الرجل البدائي فيلسوفًا»، ص٣٨٤)

إن القدرة على النقد هي الصفة الأساسية لعملية التفكير، وذلك على الأرجح في رأي رادين، وكذلك كارل بوبر وروبين هورتون بكل تأكيد.

إرنست كاسيرر

من ردود الأفعال الأقل استهانةً بليفي-بريل ما بدر عن الفيلسوف ألماني المولد، إرنست كاسيرر (١٨٧٤–١٩٤٥)، الذي ينتهج نهج ليفي-بريل بالكامل في رؤية أن التفكير الخرافي، أو «الصانع للأسطورة»، هو تفكير بدائي، ومحمل بالمشاعر، وهو أيضًا جزء من الدين، وإسقاط للتوحد الروحي على العالم. في المقابل، يزعم كاسيرر اختلافه الجذري مع ليفي-بريل في التأكيد على أن التفكير الخرافي يحظى بمنطق فريد من نوعه. وفي حقيقة الأمر، يطرح ليفي-بريل القول نفسه بل ويبتكر مصطلح «قبل منطقي» لتجنب وسم التفكير الخرافي بصفات مثل «غير منطقي» أو «لا منطقي». ويزعم كاسيرر أيضًا اختلافه الجذري مع ليفي-بريل في التأكيد على استقلالية الأسطورة كأحد أشكال المعرفة، حيث تشكل اللغة، والفن، والعلم الأشكال الرئيسة الأخرى لها:

على الرغم من أن تبعية الأسطورة لنظام عام من الأشكال الرمزية يبدو أمرًا حتميًّا، فإن ذلك يشكل خطرًا محققًا … فقد يؤدي [هذا الأمر] إلى القضاء على الصورة الجوهرية [أي المتميزة] للأسطورة. ولم تكفَّ المحاولات في حقيقة الأمر عن تفسير الأسطورة من خلال اختزالها إلى شكل آخر من الحياة الثقافية، سواءٌ أكان ذلك معرفة [أي علمًا] أم فنًّا أم لغة.

(كاسيرر، «فلسفة الأشكال الرمزية»، المجلد الثاني، ص٢١)
يرى كاسيرر في الوقت نفسه، على نحو لا يختلف عن ليفي-بريل، أن الأسطورة لا تتوافق مع العلم، وأن العلم يأتي خَلفًا لها: «يصل العلم إلى صورته الخاصة به، فقط من خلال رفض جميع المكونات الخرافية ومكونات ما وراء الطبيعة» (كاسيرر، «فلسفة الأشكال الرمزية»، المجلد الثاني، صxvii). ويعتقد كل من كاسيرر وليفي-بريل أن الأسطورة بدائية بصورة استثنائية، وأن العلم حديث بصورة استثنائية أيضًا. في المقابل، لا يزال توصيف كاسيرر للأسطورة كأحد أشكال «المعرفة» — كأحد أنشطة الإنسانية في صناعة الرموز ورسم معالم العالم — يضع الأسطورة في نفس مرتبة العلم، التي لم يكن ليفي-بريل ليضعها فيها.
بناءً عليه، صار كاسيرر ينظر إلى الأسطورة على أنها بدائية وكذلك حديثة. وعندما فر إلى أمريكا هربًا من هتلر في ألمانيا، صب جام اهتمامه على الأساطير السياسية الحديثة، خاصةً أساطير النازية. وتكافئ الأسطورة في هذا السياق الأيديولوجية. فبعد أن كان مهتمًا بالموضوعات الأثيرية والمعرفية، تحول إلى الموضوعات الاجتماعية العلمية البسيطة، مثل: كيف تترسخ الأساطير السياسية وتستمر؟ وبعد أن كان يزدري اهتمام ليفي-بريل المزعوم بالجانب اللاعقلاني في الأسطورة، صار يؤيد وجوده:

في جميع اللحظات المهمة في حياة الإنسان الاجتماعية، لم تعد القوى العقلانية التي تقاوم صعود المفاهيم الخرافية القديمة واثقة من نفسها. وفي هذه اللحظات، حل زمن الأسطورة مرة أخرى.

(كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص٢٨٠)
ربط كاسيرر بين الأسطورة والسحر، والسحر والجهد المضني للتحكم في العالم، ليطبِّق تفسير الأساطير «البدائية» التي طرحها برونيسلاف مالينوفسكي على الأساطير «الحديثة»:

إن هذا التفسير [الذي طرحه مالينوفسكي] لدور السحر والميثولوجيا في المجتمع البدائي ينطبق بالتساوي على المراحل المتطورة في الحياة السياسية للإنسان. ففي المواقف الصعبة، يلجأ الإنسان دائمًا إلى الوسائل الصعبة.

(كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص٢٧٩)

يختلف كاسيرر عن مالينوفسكي في جعل العالم الذي لا يمكن السيطرة عليه هو العالم الاجتماعي وليس العالم المادي، وفي إضفاء قوة سحرية على الأسطورة نفسها، والأدهى من ذلك، في النظر إلى الأسطورة كمجال حديث. ولكن هناك مشكلة تخفى على البعض: وهي أن الأساطير الحديثة تمثل إحياء رجعيًّا للبدائية.

وبينما حلل كاسيرر الأسطورة سابقًا باعتبارها شبيهة بالفلسفة، فإنه الآن يفصل بين الأسطورة والفلسفة. فهو يرى أن الأسطورة ليست سوى صورة من صور المعرفة، لها منطقها المتميز الذي يمكن استخلاصه. ولم يبقَ سوى الدور المهمَّش للفلسفة المتمثل في دحض الأساطير السياسية:

لا تستطيع الفلسفة في حدود قدرتها تقويض الأساطير السياسية؛ إذ إن الأسطورة حصينة إلى حد ما؛ فهي لا تتأثر بالحجج العقلانية، ولا يمكن دحضها من خلال القياس المنطقي. على النقيض من ذلك، تستطيع الفلسفة أن تولينا معروفًا؛ فتستطيع أن تجعلنا نفهم الخصم … فعندما سمعنا للمرة الأولى عن الأساطير السياسية، وجدناها منافية للعقل ومتناقضة، مدهشة ومثيرة للضحك، حتى أصبح من الصعوبة بمكان إقناعنا بتقبلها بصورة جدية. وحاليًّا، صار من الواضح للكافة أن ذلك كان خطأ كبيرًا … فيجب أن ندرس الأصل والبنية والوسائل والأساليب الخاصة بالأساطير السياسية دراسة جادة، ويجب أن نرى الخصم وجهًا لوجه حتى نعرف كيف نحاربه.

(كاسيرر، «أسطورة الدولة»، ص٢٩٦)

من الصعوبة بمكان إدراك كيف تصبح دراسة الأساطير السياسية على هذا النحو المقترح مهمة الفلسفة، وليس مهمة علم الاجتماع. فالآن، لا تُعد الأسطورة قبل منطقية فحسب، بل وغير منطقية على الإطلاق، وهو موقف أكثر تطرفًا من ذلك الذي ينتقد كاسيرر ليفي-بريل عليه!

آل فرانكفورت

ورد تطبيق نظريات ليفي-بريل وكاسيرر بالكامل على الفلسفة في كتاب نُشر عام ١٩٤٦ عنوانه «المغامرة الفكرية للقدماء: مقال حول الفكر التأملي في الشرق الأدنى القديم»، وقد ألفه مجموعة من المتخصصين في الشرق الأدنى. عند إعادة نشر الكتاب في نسخة ورقية الغلاف في عام ١٩٤٩، جُعل العنوان والعنوان الفرعي في صورة عنوان فرعي من شقين، فيما اتخذ الكتاب عنوانًا جديدًا رئيسًا دالًّا على محتواه، هو «قبل الفلسفة». ووفقًا للزوجين هنري وإتش إيه فرانكفورت، اللذين يطرحان النظرية، عاشت شعوب الشرق الأدنى القديم في مرحلة بدائية من الثقافة عُرفت عن حق بأنها «قبل فلسفية». وتعود عملية تصنيف القديم تحت البدائي إلى تايلور وفريزر. ويرى آل فرانكفورت أن الحداثيين يفكرون «فلسفيًّا»، وهو ما يعني التفكير بصورة مجردة ونقدية وغير عاطفية. فمجال الفلسفة هو مجال واحد فحسب يوظف التفكير الفلسفي، أما نموذج التفكير «الفلسفي» الحقيقي فيمثله العلم. ويستخدم تايلور وليفي-بريل وآخرون مصطلح «فلسفة» استخدامًا واسع النطاق، فيما يترادف مع مصطلح «فكر»، وبالمثل يعتبرون العلم أنقى تجلياتها. وعلى الطرف النقيض من الحداثيين، حسبما يؤكد آل فرانكفورت، يفكر البدائيون تفكيرًا «صانعًا للأسطورة»، وهو ما يعني التفكير بصورة مادية، وبطريقة غير نقدية، وعاطفية. ولا تعد الميثولوجيا سوى تعبير واحد عن التفكير الصانع للأسطورة، إن لم يكن التعبير الأكثر ثراءً على الإطلاق بين صور التعبير الأخرى.

في حقيقة الأمر، تعتبر طرق التفكير الفلسفية والصانعة للأساطير أكثر من مجرد أساليب مختلفة لتصور العالم؛ إذ تعتبر أساليب مختلفة لإدراك العالم، مثلما يراها ليفي-بريل. ويتمثل «الفرق الرئيس» في أن العالم الخارجي من منظور الحداثيين يُعبر عنه بالضمير «هو» — للإشارة إلى غير العاقل — بينما هو «أنت» من منظور البدائيين؛ وقد أُخذ هذان المصطلحان عن الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر. وتعتبر العلاقة بين «أنا وهو» علاقة انفصالية وفكرية، أما العلاقة بين «أنا وأنت» فعلاقة تشاركية وعاطفية، إذا نحينا العنوان الرئيس الأصلي المحيِّر لكتاب آل فرانكفورت جانبًا؛ إذن فالعلاقة المثالية بين «أنا وأنت» هي علاقة حب.

إذا قلنا إن البدائيين يتعاملون مع العالم باعتباره «أنت» وليس «هو»، فسيعني ذلك أنهم يتعاملون معه كشخص وليس كشيء. وبذلك، لا يُعزى هطول الأمطار بعد فترة من الجفاف إلى التغيرات الجوية، بل فلنقل إلى إلحاق إله المطر الهزيمة بإله غريم، كما يرد في الأسطورة. وإذا جرى فهم العالم باعتباره «أنت»، سيعني ذلك طمس حقائق يومية تمييزية في ثنائية «أنا وهو». فلا يستطيع البدائيون التفرقة بين الذاتي والموضوعي؛ فهم يرون الشمس تشرق وتغرب، ولا يرون الأرض تدور حولها. يرى البدائيون الألوان، ولا يرون الأطوال الموجية. لا يستطيعون التفرقة بين المظهر والمخبر؛ فالعصا «تبدو» منثنية في الماء وليست هكذا تكون. والأحلام حقيقية؛ نظرًا لأنهم رأوها كأنها حقيقية. ولا يستطيعون التمييز بين الرمز والشيء المرموز له؛ فالاسم يتطابق مع صاحبه. وإعادة تمثيل الأسطورة تعني تكرارها، كما سنرى في مناقشةٍ لنظرية فريزر في الفصل الرابع.

يرى آل فرانكفورت أن المصريين وسكان ما بين النهرين القدماء عاشوا في عالم استثنائي صانع للأساطير. وبدأ الانتقال من التفكير الصانع للأساطير إلى التفكير الفلسفي على يد بني إسرائيل، الذين دمجوا العديد من الآلهة في إله واحد، ووضعوا هذا الإله خارج نطاق الطبيعة. وبذلك مهَّد بنو إسرائيل الطريق لليونانيين، الذين حوَّلوا هذا الإله الشخص إلى قوة واحدة أو أكثر غير شخصية، تشكل أساس الطبيعة، أو مظهر الأشياء. ولم تنتقل الطبيعة في النهاية إلى مرحلة «خلع الثوب الخرافي»، حتى تحوَّل الخيال السائد في حقبة ما قبل سقراط إلى العلم التجريبي.

هناك مشكلات عديدة مع طرح آل فرانكفورت: أولًا: يعبر صنع الأسطورة أحيانًا فيما يبدو عن المذهب الروحاني الذي أتى به تايلور، والذي يقول بأن البدائيين يمتلكون العقلية نفسها التي يمتلكها الحداثيون. ثانيًا: لا تتضمن ثنائية «أنا وأنت» لبوبر التعامل مع «الشيء» كشخص، بل تشمل فقط التعامل مع «الشخص» كشخص. ثالثًا: يمكن التعامل مع أية ظاهرة بكل تأكيد باعتبارها «هو» و«أنت»: تدبر مثال التعامل مع حيوان أليف والتعامل مع مريض. رابعًا: لا تستطيع أية ثقافة إشراك الطبيعة فحسب في الأحداث باعتبارها «أنت»، بل تفصلها بصورة كافية تسمح لها بإنبات المحاصيل على سبيل المثال. خامسًا: إن توصيف ثقافات الشرق الأدنى القديمة بأنها صانعة للأساطير من جميع الجوانب، ووصف إسرائيل بأنها غير صانعة للأساطير إلى حد كبير، ووسم اليونان بأنها علمية بالكامل؛ كل ذلك يُعد اختزالًا مخزيًا، كما تبين بوضوح آراء إف إم كورنفورد حول علم اليونانيين.

على كل حال، يجب الثناء على آل فرانكفورت لمحاولتهما تطبيق نظرية ليفي-بريل المجردة على حالات محددة. واتباعًا لنهج ليفي-بريل وكاسيرر، يرى آل فرانكفورت بإيمان عميق أن الأساطير، بينما هي قصص في حد ذاتها، تفترض افتراضًا مسبقًا وجود عقلية متميزة. وللمفارقة، يتطابق أشد نقد يوجهه آل فرانكفورت إلى ليفي-بريل مع النقد الذي يوجهه كاسيرر إليه، وإن كان مثله في غير مكانه؛ فليفي-بريل نفسه يصر على أن التفكير البدائي متميز، مع كونه منطقيًّا. أما عن تطبيق نظرية آل فرانكفورت على أسطورة أدونيس، فإنها ستكون كمثل تطبيق نظرية ليفي–بريل عليها، من حيث التركيز على توحد أدونيس عاطفيًّا مع العالم، وما ترتب على ذلك من عدم قدرة على النظر إلى العالم بصورة سليمة.

رودولف بولتمان وهانز يوناس

قدر ما يتميز كاسيرر خاصةً في المراحل المبكرة من أعماله بأنه فلسفي — شأنه شأن منهج تناوله للأسطورة — فإنه لا يرى أبدًا أن الأسطورة «تعني» الفلسفة. ولا يطرح ذلك من المنظرين سوى عالم اللاهوت الألماني رودولف بولتمان (١٨٨٤–١٩٧٦)، والفيلسوف ألماني المولد هانز يوناس (١٩٠٣–١٩٩٣)، الذي استقر بصورة نهائية في الولايات المتحدة. وكلاهما لا يستقي فحسب معنى الأسطورة من الفلسفة — من الفيلسوف الوجودي مارتن هيدجر في مراحله المبكرة — بل يضيق أيضًا دائرة الدراسة حول مسألة المعنى. ولا يهتم أي منهما بأصل أو وظيفة الأسطورة؛ ولا تعتبر الأسطورة في منظورهما جزءًا من أي نشاط. وشأنهما شأن بعض علماء الأنثروبولوجيا النظريين، يتعامل كلاهما مع الأسطورة كنص مستقل، لكنهما على عكس تايلور، لا يتأملان حتى ولو نظريًّا طريقة نشوء الأسطورة أو طريقة عملها.

لا مراء أن بولتمان ويوناس يترجمان الأسطورة إلى مصطلحات وجودية بغرض جعل معناها مستساغًا للحداثيين، لكنهما لا يبحثان في سبب الحاجة إلى الأسطورة، خاصةً عندما تتطابق رسالة الأسطورة مع رسالة الفلسفة. على سبيل المثال، لا يقترح أي منهما أن الأسطورة، مثل الأدب بالنسبة إلى أرسطو، تمثل طريقة أسهل لتوصيل الحقائق المجردة إلى الآخرين. ونظرًا لأن نماذج الأساطير التي يبحثانها — العهد الجديد عند بولتمان، والغنوصية عند يوناس — نماذج دينية وليست نماذج فلسفية صرفة، فإننا سننظر بمزيد من التفصيل في نظريتيهم في الفصل التالي حول الأسطورة والدين.

ألبير كامو

أحد أوضح أمثلة اختزال الأسطورة إلى فلسفة يوجد في التفسير الشهير للأسطورة اليونانية سيسيفوس (وتُعرف أيضًا بسيزيف) لألبير كامو (١٩١٣–١٩٦٠)، وهو كاتب وجودي فرنسي. فمن بين الشخصيات التي يصادفها البطل أوديسيوس في تارتاروس — جزء من حادس (العالم السفلي) مخصص لأولئك الذين تطاولوا على الإله زيوس — كان سيسيفوس الذي عوقب أبديًّا برفع صخرة ضخمة إلى قمة هضبة شديدة الانحدار، لا لشيء سوى أن ترتد متدحرجة في كل مرة يوشك فيها على بلوغ القمة. ويصف أوديسيوس هذا المشهد كالتالي:
رأيت سيسيفوس أيضًا؛ وكان يعاني من آلام مبرحة،
وكان يستخدم كلتا ذراعيه في الإمساك بالصخرة الضخمة، مجاهدًا
بيديه وقدميه في محاولة دفع الصخرة إلى أعلى
قمة الهضبة، لكن عند اقترابه من بلوغ
قمة الهضبة، كانت قوة الجاذبية تدفع الصخرة إلى الخلف،
فتتدحرج بلا رحمة إلى أسفل السفح. فيحاول مجددًا
دفع الصخرة لأعلى، باذلًا أقصى ما في وسعه من جهد، والعرق يتصبب
على جميع أجزاء جسده، وتعلو رأسه سحابة من الغبار.
(هوميروس، «الأوديسة»، السطور ٥٩٣–٦٠٠)
fig3
شكل ٢-١: سيسيفوس في تارتاروس، نقش يرجع إلى القرن الثامن عشر، للفنان بي بيكارت.1

لم يكشف هوميروس عن الإثم الذي اقترفه سيسيفوس، ويختلف في ذلك عما ورد في المراجع القديمة. وكان سيسيفوس محل شفقة في روايات جميع القدماء، غير أن كامو يراه مثيرًا للإعجاب. وبدلًا من تجسيد المصير الذي ينتظر تلك الحفنة من البشر الذين يجرُءون على تحدي الآلهة، يرمز سيسيفوس إلى مصير جميع البشر الذين يجدون أنفسهم محكومًا عليهم بالعيش في عالم لا وجود للآلهة فيه. ويثير سيسيفوس الإعجاب لأنه تقبل الهراء الذي ينطوي عليه الوجود الإنساني، الذي هو أقل في جوره من عبثيته. وبدلًا من الاستسلام والانتحار، يواصل سيسيفوس كده وكدحه، على الرغم من إدراكه الكامل أن محاولاته لا طائل منها. وتعتبر بطولة سيسيفوس هي البطولة الوحيدة التي يتيحها عالم لا معنى له لخلوه من الآلهة. ويستخدم كامو أسطورة سيسيفوس للتعبير دراميًّا عن الحالة الإنسانية.

كانت أسطورة سيسيفوس جزءًا من الدين، شأنها شأن الأساطير التي حللها بولتمان ويوناس، بل ولا تزال جزءًا منه في رأي بولتمان. ويتعامل كامو مع الأسطورة، تمامًا مثل بولتمان ويوناس، كنص مستقل، مقطوع الصلة بأي دين راسخ ويُمارس. ومن منظور ثلاثتهم، تعد الأسطورة حكاية فلسفية؛ لأنهم يرونها «تعبيرًا» عن الفلسفة.

هوامش

(1) © Historical Picture Archive/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤