الفصل الرابع

الأسطورة والطقوس

يشيع أن الأسطورة مؤلفة من كلمات، وعادةً ما تكون في صورة قصة، فتُقرأ الأسطورة أو تُسمع، وبذلك تعبر عن شيء ما. غير أن هناك منهجًا لتناول الأسطورة يعتبر هذه النظرة للأسطورة مصطنعة. فبحسب نظرية الأسطورة والطقوس، أو النظرية الطقوسية للأسطورة، لا تقوم الأسطورة بذاتها بل ترتبط بالطقوس. ولا تعتبر الأسطورة مجرد تعبير لكنها فعل. ويذهب أكثر أشكال هذه النظرية تشددًا إلى أن جميع الأساطير تصاحبها طقوس، وأن جميع الطقوس تصاحبها أساطير. وفي نسخ أخرى من النظرية أقل جموحًا، قد تزدهر بعض الأساطير في ظل عدم وجود طقوس، أو تزدهر بعض الطقوس في ظل عدم وجود أساطير. وربما يتزامن عمل الأساطير والطقوس معًا في الأصل، ثم يتفرقا لاحقًا كل في طريقه، وربما تنشأ الأساطير والطقوس منفصلة ثم تتلاحم لاحقًا. وأيًّا ما كانت الصلة بين الأسطورة والطقوس، تختلف النظرية الطقوسية للأساطير عن النظريات الأخرى للأساطير، وعن النظريات الأخرى للطقوس، في التركيز على الصلة بين الأسطورة والطقوس.

ويليام روبرتسون سميث

كان ويليام روبرتسون سميث (١٨٤٦–١٨٩٤) — دارس الكتاب المقدس والمستعرب الاسكتلندي — هو رائد النظرية الطقوسية للأسطورة. وفي كتابه «محاضرات حول دين الساميين»، يرى سميث أن الإيمان بينما يُعد مسألة مركزية في الدين «الحديث»، فإنه لا يعتبر كذلك في الدين «القديم»، الذي كانت الطقوس فيه هي التي تحتل المكانة المركزية. ويسلم سميث جدلًا بأن القدماء مارسوا الطقوس بلا شك لسبب ما. ولكن هذا السبب كان ثانويًّا، بل كان يمكن أن يتغير. وبدلًا من الإعلان الرسمي عن اعتقاد أو عقيدة لذلك، كان السبب هو قصة أو «أسطورة» تصف ببساطة «الظروف التي تأصل في ظلها الطقس للمرة الأولى من خلال الأمر الإلهي أو المثل المباشر الذي يضربه الإله.»

كانت الأسطورة في حد ذاتها «ثانوية»؛ وبينما كانت الطقوس إجبارية، كانت الأسطورة اختيارية. وفيما كانت الطقوس محددة، كان يمكن أن تفي أية أسطورة بالغرض. حتى إن الأسطورة لم تنشأ إلا عندما كان السبب الأصلي غير الخرافي الممنوح للطقوس قد ذهب نوعًا ما في طي النسيان:

إنَّ الأسطورة لهي مجرد تفسير لأحد الاستخدامات الدينية، ولا يبرز هذا التفسير عادةً إلا عندما يكون المدلول الأصلي للاستخدام قد طواه النسيان بصورة أو بأخرى.

(سميث، «محاضرات حول دين الساميين»، ص١٩)

وبينما كان سميث أول من قال بأن الأساطير يجب فهمها في مقابل الطقوس، فإن العلاقة بينهما لا تتطلب بأية حال من الأحوال أن تتساوى الأساطير والطقوس في الأهمية. ويرى سميث أنه لا توجد أسطورة إطلاقًا دون طقوس، وسواءٌ أكانت هناك أسطورة أم لا، لذهبت الطقوس طي النسيان.

ولأن أدونيس كان إلهًا ساميًّا، يذكره سميث في كتابه «محاضرات حول دين الساميين». وفي إطار طرحه الإجمالي بأن الدين القديم لم يوجد فيه أي إحساس بالخطيئة، بحيث لم تكن التضحية — وهي الطقس الرئيس — تكفِّر الخطيئة؛ يضع سميث على طرفي نقيض كلًّا من التفسير الخرافي اللاأخلاقي «للعويل والتأسي» الطقوسي على أدونيس المتوفى من ناحية، و«الفكرة المسيحية اللاحقة القائلة بأن موت الإله–الإنسان يمثِّل موتًا لخطايا الناس» من ناحية أخرى:

إذا جرت محاولة لتفسير الطقوس السنوية، مثلما حدث في أسطورة أدونيس، بدلًا من التفسير الذي تقدمه القصة، والذي يتمثل في أن الإله قُتل ثم بُعث مجددًا، فإن التفسير المقدَّم في القصة ينبثق عن التحلل المادي وتجدد الطبيعة. وقد كان المتعبدون ينظرون إلى أدونيس الكنعاني أو تموز … باعتباره مصدر جميع صور النماء والخصوبة الطبيعية؛ بناءً عليه، كان موت أدونيس يعني التعليق المؤقت لحياة الطبيعة … وكان المتعبدون يرثون موت حياة الطبيعة لشعورهم بالتعاطف الفطري، دون أي وازع أخلاقي، تمامًا مثلما يشعر الرجل الحداثي بحزن دفين عند سقوط أوراق الخريف.

(سميث، «محاضرات حول دين الساميين»، ص٣٩٢)

بعبارة أخرى، كان هناك في الأصل التضحية الطقوسية التي قام بها الإله أدونيس، إضافةً إلى أي سبب غير خرافي قدَّم تبريرًا لها. ولم تقتصر تلك الطقوس على القتل فقط بل على الحداد وأيضًا الأمل في بعث أدونيس. وما إن ذهب سبب الطقوس طي النسيان، حتى اختُلقت أسطورة أدونيس باعتباره إله النبات الذي مات وبُعث بعد الموت لتفسير الطقوس. والأسطورة كتعبير وثني وليس مسيحيًّا لا ترى في القتل خطيئة.

تتمثل أحد أوجه القصور الرئيسة في نظرية سميث في أنها تفسر الأسطورة فقط وليس الطقس، الذي يُفترض وجوده المسبق. ويتمثل أحد أوجه القصور الأخرى في أن النظرية تُقصر الأسطورة بوضوح على الطقس، وإن كان سميث يتتبع التطور اللاحق للأسطورة بصورة مستقلة عن الطقس. ولكن بقدر ما تشمل الأسطورة — باعتبارها تفسيرًا للطقوس — أفعال الإله بطريقة نموذجية، تدور من البداية حول ما هو أكثر من الطقس الصرف، مثلما يرى سميث نفسه.

إي بي تايلور

في زعمه أن الأسطورة تفسيرٌ للطقس، كان سميث ينكر المفهوم الشائع للأسطورة، الذي تبناه إي بي تايلور. ولنتذكر معًا أن تايلور اعتبر الأسطورة تفسيرًا للعالم المادي، ليس للطقس، وأنها تمتلك تأثيرًا مستقلًّا عن الطقس، وأنها تعبير وليس فعلًا، وترتقي إلى مرتبة العقيدة، وتُقدم في صورة قصة. وفي رأي تايلور، يمثل الطقس بالنسبة إلى الأسطورة ما تمثله الأسطورة بالنسبة إلى الطقس من منظور سميث؛ أي شيئًا ثانويًّا. وبينما تفترض الأسطورة، كما يرى سميث، الوجود المسبق للطقس، يفترض الطقس في رأي تايلور الوجود المسبق للأسطورة. ويعتقد تايلور أن الأسطورة تعمل على تفسير العالم كغاية في حد ذاتها، وأن الطقس يطبِّق هذا التفسير للتحكم في العالم. ويعتبر الطقس هو «تطبيقًا» للأسطورة، وليس «موضوعًا» لها، بينما يظل موضوعها هو العالم. ولكن لأن الطقس يعتمد على الأسطورة والأدهى من ذلك أن التفسير من منظور تايلور يعتبر أكثر أهمية من التحكم في العالم، فإن الأسطورة تُعد سمة مهمة للدين أكثر منها سمة مهمة للطقس. إذن، ربما كان سميث يتحول تدريجيًّا إلى معارضة تايلور من خلال قوله إن «الدين في العصور البدائية لم يمثل نظامًا لمعتقدات لها تطبيقات عملية»، وإنما كان «مجموعة من الممارسات التقليدية الثابتة».

ويشبه سميث تايلور في ملمح واحد مهم؛ فكلاهما يعتبر الأسطورة قديمة بالكامل. فلا يشتمل الدين الحديث على الأسطورة ولا على الطقس أيضًا. ولا تعتبر الأسطورة والطقس قديمين فقط، بل «بدائيين» أيضًا. وفي حقيقة الأمر، يرى تايلور وسميث أن الدين القديم ليس سوى إحدى حالات الدين البدائي، الذي يختلف اختلافًا أساسيًّا عن الدين الحديث. وبينما لا يوجد في الدين الحديث أسطورة وطقوس في نظر تايلور — لأن الدين لم يعد يدور حول العالم المادي، بل يمثل مزيجًا من الأخلاقيات وما وراء الطبيعة — فإن الدين الحديث في رأي سميث لا يشمل أسطورة وطقوسًا؛ لأن الدين الحديث مزيج من الأخلاقيات والمعتقدات. ويذهب تايلور إلى أن الدين الحديث، نظرًا لافتقاره إلى الأساطير، يُعد تدهورًا عن عليائه القديمة والبدائية، بينما يعتبره سميث قفزة إلى الأمام بعيدًا عن بداياته القديمة والبدائية؛ بسبب انفصاله عن الأسطورة، بل عن الطقس. ويتمثل النموذج الأمثل للدين الحديث في نظر سميث في مذهبه البريسبيتاري الكاره للطقوس؛ نظرًا لمعاداته الكاثوليكية. ويدور النقد الرئيس الموجه لكل من تايلور وسميث حول حصرهما للأسطورة والطقس على حد سواء في الدين القديم والبدائي.

جيه جي فريزر

في الطبعات العديدة لكتاب «الغصن الذهبي»، أخذ جيه جي فريزر النظرية الطقوسية للأسطورة لمنحى أبعد مما وصل إليه صديقه سميث، الذي أهدى إليه الكتاب. وبينما يشتهر كتاب «الغصن الذهبي» بالتقسيم الثلاثي لجميع الثقافات؛ إلى مراحل ثلاثة: السحر والدين والعلم، يتحدث الجانب الأعظم من الكتاب في الحقيقة عن مرحلة وسيطة بين الدين والعلم؛ مرحلة تشتمل على السحر والدين مجتمعين. ولا يمكن العثور على طقوسية الأسطورة إلا في هذه المرحلة البينية، التي تتصف بالقدم والبدائية؛ لأن في هذه المرحلة فحسب تعمل الأساطير والطقوس معًا.

وفي حقيقة الأمر، يعرض فريزر — الذي نادرًا ما يكون طرحه متسقًا — نسختين متمايزتين من النظرية الطقوسية للأسطورة. في النسخة الأولى، وهي النسخة التي ناقشناها بالفعل في الفصل الأول، تصف الأسطورة حياة إله النبات، الإله الرئيس في معبد الآلهة، ويمثِّل الطقس الأسطورة التي تصف موته وبعثه من جديد. ويعتمد الطقس في تمثيله للأسطورة على قانون التشابه السحري، الذي من خلاله يؤدي تقليد فعل ما إلى وقوعه. ويتمثَّل أوضح الأمثلة على هذا النوع من السحر في سحر الفودو؛ يتلاعب الطقس بصورة مباشرة بإله النبات، وليس بالنبات نفسه، ولكن ما يحدث للإله ينعكس تلقائيًّا على النبات. ويعتبر خضوع النبات مباشرةً إلى أحد الآلهة ميراثًا متخلفًا عن الدين، بينما تعتبر إمكانية التحكم في النبات، حتى لو كان ذلك فقط بصورة غير مباشرة عن طريق الإله، ميراثًا متخلفًا عن السحر. ويعني مزج الأسطورة والطقس المزج بين الدين والسحر:

بناءً عليه، استُبدلت النظرية السحرية القديمة للفصول وحلت محلها نظرية دينية، أو بالأحرى استكملتها. ويرجع ذلك إلى أن البشر، على الرغم من أنهم صاروا الآن يعزون الدورة السنوية للتغيير إلى تغييرات مقابلة في آلهتهم، كانوا لا يزالون يعتقدون أنهم بإجراء طقوس سحرية محددة سيستطيعون مساعدة الإله الذي كان يمثل مبدأ الحياة، في صراعه مع مبدأ الموت المعارض له. فتصور هؤلاء إمكانية استجماع قواه الخائرة، بل وبعثه من الموت.

(فريزر، «الغصن الذهبي»، ص٣٧٧)

تُمارَس الطقوس عندما يريد المرء أن ينتهي فصل الشتاء؛ على الأرجح عندما تشرف المؤن المخزنة على النفاد. فيلعب إنسان، عادةً الملك، دور الإله ويمثِّل ما يحث الإله على القيام به بصورة سحرية.

في نسخة فريزر الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة، التي لم يرد ذكرها حتى الآن، يُعتبر الملك شخصية مركزية. ولا يكتفي الملك هنا بلعب دور الإله بل يكون هو نفسه الإله، وهو ما يعنيه فريزر بقوله إن الإله يسكنه. وكما تعتمد صحة النبات على صحة إلهه، فإن صحة الإله تعتمد على صحة الملك. فكيفما يكون الملك، يكون إله النبات، ومن ثم يكون النبات نفسه. ولضمان توفير حصة ثابتة من الغذاء، يقتل المجتمع الملك وهو لا يزال في أوج قوته؛ ومن ثم تنتقل روح الإله في أمان إلى خليفته:

يعتقد [البدائيون] … أن حياة أو روح الملك ترتبط ارتباطًا وثيقًا وتناغميًّا بازدهار المجتمع ككل، وإذا مرض الملك أو طعن في السن سيمرض القطيع ويتوقف عن التكاثر، وستتعفن المحاصيل في الحقول، وسيموت البشر جراء مرض متفشٍّ؛ بناءً عليه، وفق وجهة نظرهم، لا يمكن التخلص من هذه الفواجع إلا عن طريق قتل الملك بينما لا يزال في أوج صحته؛ حتى يمكن أن تنتقل الروح الإلهية، بدورها، التي ورثها من سابقيه إلى خليفته، بينما لا تزال في كامل قوتها ولم يمسها بعد ضعف المرض والشيخوخة.

(فريزر، «الغصن الذهبي»، ص٣١٢-٣١٣)

يُقتل الملك في نهاية فترة حكم قصيرة أو عند ظهور أول علامة من علامات الضعف. وكما هي الحال في النسخة الأولى، الهدف هو إنهاء الشتاء، الذي يشير إلى ضعف الملك في هذه الحالة. ولا يبين فريزر على الإطلاق كيف يمكن أن يأتي الشتاء — ناهيك عن ضرورته سنويًّا — إذا جرى التخلص من الملك عند أو حتى قبل بداية ضعفه.

على أية حال من الأحوال، أثبتت هذه النسخة الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة أنها الأكثر تأثيرًا إلى حد بعيد، على الرغم من أنها لا توفر في الواقع سوى رابطة واهية بين الأسطورة الدينية والطقس السحري. وبدلًا من تمثيل أسطورة إله النبات، يغيِّر الطقس من مكان إقامة الإله. فلا يموت الملك تقليدًا لموت الإله بل كتضحية للحفاظ على صحة الإله. وليس من السهولة بمكان تحديد الدور الذي تلعبه الأسطورة هنا. وبدلًا من إحياء الإله عن طريق التقليد السحري، يحيي الطقس الإله عن طريق الاستبدال.

في سيناريو فريزر الأول للنظرية الطقوسية للأسطورة الحقة، تنشأ الأسطورة قبل الطقس وليس بعده، كما يذهب سميث. فالأسطورة التي يجري تمثيلها في المرحلة الوسيطة المشتملة على السحر والدين، تنشأ في مرحلة الدين؛ ومن ثم تسبق الطقس الذي تُطبَّق عليه. وفي هذه المرحلة الوسيطة، تفسِّر الأسطورة الهدف من الطقس — عند فريزر وكذلك سميث — ولكن من البداية. فتمنح الأسطورة الطقس معناه الأصلي والوحيد. ودون أسطورة الموت والبعث لذلك الإله، لم يكن موت وبعث إله النبات سيُمثلان طقوسيًّا. في المقابل، تعتبر الأسطورة في منظور فريزر، وكذلك تايلور، تفسيرًا للعالم — لمراحل الإنبات — وليست فقط تفسيرًا للطقس، كما يذهب سميث. وفي رأي فريزر، على عكس تايلور، لا يعتبر التفسير سوى وسيلة للتحكم في العالم؛ لذا تعتبر الأسطورة النظير القديم والبدائي للعلم التطبيقي أكثر منها نظيرًا للنظرية العلمية، كما هي الحال مع تايلور. وبينما قد لا يزال الطقس تطبيقًا للأسطورة، تعتبر الأسطورة تابعة للطقس.

لا تتمثل أفدح أوجه القصور في النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر في إعاقة الأساطير والطقوس الحديثة — كما هي الحال مع سميث — بل في قصر النظرية الطقوسية للأسطورة القديمة والبدائية على الأساطير التي تدور حول إله النبات، وخاصةً على الأساطير التي تدور حول موت وبعث ذلك الإله.

وفيما يناقش سميث حالة أدونيس مناقشة عابرة، يجعل فريزر أدونيس مثالًا رئيسًا للنمط الخرافي والطقوسي لإله النبات الذي يموت ثم يُبعث. وسواءٌ أكان فريزر متسقًا أم لا، فإنه يضع أدونيس فعليًّا في جميع مراحل الثقافة الثلاثة التي تسبق ظهور العلم: وهي مراحل السحر، والدين، ومرحلة السحر والدين مجتمعين.

يضع فريزر حدائق أدونيس النباتية الشهيرة في مرحلته السحرية الأولى. وفي هذه المرحلة، يؤمن البشر بأن القوى غير الشخصية، وليس الآلهة، هي التي تتسبب في الأحداث في العالم المادي. كان اليونانيون القدماء ينثرون بذورهم على الأرجح في أواني زرع مملوءة بالطين؛ ليس لإقناع أحد الآلهة بإنمائها، ولكن لإجبار الأرض نفسها غير الشخصية على النمو، عن طريق قانون التشابه السحري: «إذ يفترض الجهلاء أنهم، بتقليد الفعل الذي يرغبون في تحقيقه، يسهمون بالفعل في تحقيقه.» ونظرًا لعدم وجود آلهة في هذه المرحلة، من الصعب أن يكون أدونيس إله النبات. ولكن يعتبر أدونيس هو النبات نفسه؛ فلا يرمز النبات إلى أدونيس، بل أدونيس نفسه هو الذي يرمز إلى النبات.

في مرحلة فريزر الدينية الثانية، تحل الآلهة محل القوانين السحرية كمصدر للأحداث في العالم المادي، ومن ثم يصبح أدونيس، على الأقل على المستوى الحرفي، إله النبات. وباعتباره إلهًا للنبات، تُطلب منه المحاصيل، أو يمكن أن يُدعم هذا الطلب من خلال طاعة الأوامر الطقوسية والأخلاقية للإله. ويكتب فريزر نفسه أن طقوس الحداد كانت تُمارس حزنًا على أدونيس؛ ليس للرجوع عن موته، كما هي الحال في المرحلة التالية، بل لطلب الغفران منه له. فلم يمت أدونيس، كما هي الحال في المرحلة التالية، لأنه هبط إلى العالم السفلي، وإنما لأن البشر قتلوه بقطع ودهس وطحن الذرة؛ النبات الذي يرمز إليه. وبدلًا من «التحلل الطبيعي للنباتات بصورة عامةً في ظل حرارة فصل الصيف أو برودة فصل الشتاء»، فإن موت أدونيس هو «تدمير الذرة بعنف من جانب الإنسان.» ولكن لا يزال أدونيس حيًّا للدرجة التي تمكِّنه من معاقبة البشر، وهو شيء تسعى طقوس الغفران لتفاديه. ولأن أدونيس يموت بسبب موت النباتات نفسها، فإن الإله هنا، كما في المرحلة الأولى، ليس إلا استعارة تشير للعنصر الذي يتحكم فيه على الأرجح. وتارة أخرى نؤكد أن ما يحدث للنباتات يتعرض له أدونيس.

fig7
شكل ٤-١: رقصة خصوبة الذرة الخضراء لقبيلة ميناتاري في أمريكا الشمالية، صورة رسمت بريشة جورج كاتلين في القرن التاسع عشر.1

أما في مرحلة فريزر الثالثة التي تجمع بين السحر والدين، أخيرًا يبدو أدونيس إلهًا. فإذا كان — في المرحلة الثانية — ما يحدث للنبات ينعكس على أدونيس، فإن ما يحدث في هذه المرحلة لأدونيس ينعكس من ثم على النبات. ويشير موت أدونيس إلى هبوطه إلى العالم السفلي ليقيم مع برسيفوني. ويفترض فريزر أن أدونيس أضعف من أن يرتقي بنفسه، سواءٌ أكان يرغب في ذلك أم لا، ومن خلال تمثيل انبعاثه، يسهِّل البشر ارتقاءه بنفسه. ومن جانب تستعين عملية التمثيل بقانون التشابه السحري، ومن جانب آخر لا تجبر عملية التمثيل أدونيس، كما هي الحال في المرحلة الأولى، على شيء بل تدعمه، وهو الذي بالرغم من حالة موته الراهنة لا يزال يتمتع بما يكفي من الصحة لإحياء ذاته، وإن كان ذلك في ظل وجود مساعدة. وفي هذه المرحلة، لا تزال الآلهة تتحكم في العالم المادي، إلا أن تأثيرهم عليه فطري وليس متعمدًا. ويعتبر تمثيل انبعاث أدونيس حافزًا لانبعاثه الفعلي، ومن خلاله تُبث الروح في النباتات من جديد.

ولكن حتى في هذه المرحلة، يتمثل الملمح الوحيد لحياة أدونيس الذي عرضه فريزر في شيء يوازي مراحل عملية الإنبات سنويًّا، وهو موته وانبعاثه، مع تجاهل الجوانب «غير الطبيعية» الأخرى في حياته بدءًا من ميلاده الناتج عن زنا المحارم. والأدهى من ذلك أن موت أدونيس النهائي قد تم تجاهله، وهو موت غير طبيعي وقع بالقتل، بل بالقتل العمد. وإذا كانت حياة أدونيس ترمز إلى مراحل عملية الإنبات، يجب أن يستمر أدونيس في الموت والانبعاث، وهو ما لا يحدث. ولكن يتغلب أدونيس مهما كانت الوسائل على الموت سنويًّا في رواية أبولودورُس، وإن كان ذلك لا يحدث إلى الأبد. وفي رواية أوفيد، لم يمت أدونيس قط من قبل ثم بُعث، ولم تشعر فينوس بكل هذا الأسى لأن أدونيس مات ولم يعد مرة أخرى للحياة. كيف إذن ترمز حياته القصيرة الفانية إلى عملية الانبعاث الأبدي؟ وكيف يمكن أن يكون إلهًا؟ لا يجيب فريزر عن ذلك أبدًا.

أخيرًا، يعلن فريزر، الذي لا ينتبه إلى عدم الاتساق في طرحه، في الوقت ذاته عن أن حياة أدونيس في المرحلة التي تجمع بين السحر والدين ترمز إلى مراحل عملية الإنبات نفسها: فأسطورة قضاء أدونيس جزءًا من السنة في العالم السفلي:

تُفسر تفسيرًا بسيطًا وطبيعيًّا بافتراض أنه يمثل النبات، خاصةً نبات الذرة، الذي يبقى مدفونًا تحت الأرض نصف السنة، ثم يعاود الظهور فوق الأرض في النصف الثاني.

(فريزر، «الغصن الذهبي»، ص٣٩٢)

يثبت أدونيس الآن أنه ليس السبب في مصير النبات، بل لا يمثِّل سوى استعارة تشير لهذا المصير، لتوضيح أن ما يحدث للنبات في المرحلة الثالثة وكذلك المرحلة الثانية ينعكس على أدونيس، وليس العكس. وليس من السهولة بمكان استيضاح كيف تُعد النظرية الطقوسية للأسطورة ممكنة في حال عدم وجود إله يمكن إحياؤه طقوسيًّا، وعندما لا يكون هناك سوى وصف — وليس تفسيرًا — لمراحل الإنبات. وفي النظر إلى الميثولوجيا على أنها وصف رمزي للعمليات الطبيعية، يشبه فريزر مجموعة من المنظرين الألمان في القرن التاسع عشر يُعرفون عن حق بأنهم خبراء في الأسطورة الطبيعية.

جين هاريسون وإس إتش هوك

شهدت النظرية الطقوسية للأسطورة المرحلة التالية على يد جين هاريسون (١٨٥٠–١٩٢٨) وإس إتش هوك (١٨٧٤–١٩٦٨)، الرائدين الإنجليزيين للمجموعة الرئيسة الأولى من علماء النظرية الطقوسية للأسطورة: دارسي الحضارتين اليونانية والرومانية ودارسي الكتاب المقدس. والجدير بالذكر أن رؤى جين هاريسون وإس إتش هوك متقاربة؛ فكلاهما يتبع النسخة الأولى من النظرية الطقوسية للأسطورة — التي وضعها فريزر — في جزء كبير منها، على الرغم من أن هوك، الذي يتميز بعدم اتساقه مثل فريزر، يتبع أحيانًا نسخته الثانية. ولكن على عكس فريزر، تفترض هاريسون وهوك عدم وجود مراحل مختلفة تسبق مرحلة السحر والدين. ويبدأ كلاهما بمرحلة تكافئ مرحلة السحر والدين مجتمعين في نظرية فريزر. ومثل فريزر، يعتبر كلاهما أن النظرية الطقوسية للأسطورة هي النظير القديم والبدائي للعلم الحديث، الذي لا يحل محل النظرية الطقوسية للأسطورة فحسب، بل يحل محل الأسطورة والطقس في حد ذاتهما. والأهم من ذلك أن هاريسون وهوك ينهجان نهج فريزر في استعدادهما للنظر إلى الأديان السماوية عالية المقام حينئذٍ — أثناء حقبة اليونان الهيلينية وإسرائيل المذكورة في الكتاب القدس — كأديان بدائية. وكانت ولا تزال في الغالب الرؤية التقليدية والدينية تقول بأن اليونان وإسرائيل تقفان في مرتبة تعلو المساعي الجهولة والسحرية التي تبذلها الدول المجاورة لهما.

بتجاوز فريزر وهوك، تضيف هاريسون إلى طقس تجديد الإنبات طقس الابتداء أو التقديم إلى المجتمع، حتى إنها ترى أن الطقس الأصلي، بينما يُمارس سنويًّا، فقد كان ابتدائيًّا بالكامل، في ظل عدم وجود أسطورة. إذن فهي ترى — وكذلك سميث — أن الطقس يسبق الأسطورة، وكان الإله مجرد صورة ذهنية للابتهاج الناتج عن ممارسة الطقس؛ بناءً عليه، صار الإله إله النبات، ونشأت أسطورة الموت والانبعاث لذلك الإله، وأصبح طقس الابتداء طقسًا زراعيًّا أيضًا. وكما يموت المبتدئون رمزيًّا ثم يولدون من جديد كأعضاء ناضجين في المجتمع، ينطبق الأمر على إله النبات، وبالتالي تموت المحاصيل حرفيًّا ثم تولد من جديد. وفي النهاية، يتلاشى الجانب الابتدائي للطقس المجمَّع، ولا يبقى سوى طقس فريزر الزراعي.

في مقابل سميث، تنفي هاريسون وهوك نفيًا تامًّا أن تكون الأسطورة تفسيرًا للطقس. وعلى حد قول هاريسون: «لا تعتبر الأسطورة محاولة لتفسير الحقائق أو الطقوس.» ولكن في حقيقة الأمر لا يختلف كل منهما عما يقصده فريزر؛ فلا تزال الأسطورة تفسيرًا لما يحدث في الوقت الراهن في الطقس، وليس تفسيرًا لطريقة نشوء الطقس. وتعتبر الأسطورة مثل الصوت في فيلم، أو السرد في التمثيل الإيمائي الصامت. وعن ذلك كتب هوك: «بصورة عامة، يتألف الجزء المنطوق من الطقس من وصفٍ لما يجري فعله … وهذا هو المعنى الذي يُستخدم به مصطلح «أسطورة» في مناقشتنا»، بينما تصيغ هاريسون العبارة بطريقة جامعة وموجزة في قولها: «يتمثل المعنى الأساسي للأسطورة … في العلاقة التبادلية المنطوقة بين الطقس الممثَّل والشيء المنجز.»

تمضي هاريسون وهوك لأبعد بكثير من فريزر في طرح أن قوة الأسطورة، بينما تُعد في وجهة نظر فريزر درامية بحتة، فهي في رأيهما سحرية بالكامل. وكتب هوك: «تمتلك الكلمة المنطوقة … قوة الفعل.» بينما كتبت هاريسون: «تتحول الأسطورة عمليًّا إلى قصة ذات معنى وقوة سحرية.» وفي هذه العبارة نرى كلمة سحر. ويشير علماء النظرية الطقوسية للأسطورة المعاصرون مثل دارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة الأمريكي جريجوري ناجي إلى طبيعة الأدب الشفهي، في مقابل الأدب المكتوب، للذهاب إلى أن الأسطورة كانت في الأصل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالطقس، أو الأداء، ما يطبعها هي نفسها بالطابع الطقوسي:

بمجرد النظر إلى الأسطورة كأداء، نستطيع أن نرى الأسطورة نفسها على أنها شكل من أشكال الطقس: وبدلًا من التفكير في الأسطورة والطقس بصورة منفصلة وكمجالين متقابلين، يمكن النظر إليهما باعتبارهما متسلسلة تمثل الأسطورة فيها ملمحًا لفظيًّا للطقس، بينما يمثل الطقس ملمحًا فكريًّا للأسطورة.

(جريجوري ناجي، «هل يمكن إنقاذ الأسطورة؟»، ص٢٤٣)

ولكن ليس من الواضح على الإطلاق كيف يختلف هذا الموقف من الأسطورة والطقس عن موقف هوك وهاريسون.

تطبيق النظرية

طبَّق دارسو الحضارة اليونانية والرومانية القديمة: جيلبرت موراي، وإف إم كورنفورد، وإيه بي كوك، الإنجليزيون أو المقيمون في إنجلترا؛ نظرية هاريسون على ظواهر يونانية قديمة مثل: التراجيديا، والكوميديا، والألعاب الأوليمبية، والعلم، والفلسفة. ويجري تفسير هذه الظواهر التي تبدو علمانية، بل ومعادية للدين، كصور تعبير كامنة تشير إلى أسطورة موت وانبعاث إله النبات.

ومن بين دارسي الكتاب المقدس، اختلف السويدي إيفان إنجل، والويلزي أوبري جونسون، والنرويجي سيجموند موينكل حول مدى التزام إسرائيل القديمة بالنمط الطقوسي للأسطورة؛ فيرى إنجل التزامًا من جانب إسرائيل بذلك النمط أكثر مما يرى هوك الحذر، فيما يرى جونسون وخاصةً موينكل التزامًا أقل.

وكما فعل فريزر، طبَّق برونيسلاف مالينوفسكي — الذي عرضنا نظريته في الفصل الأول — نسخته الخاصة الفعالة من النظرية على أساطير السكان الأصليين حول العالم؛ فيرى مالينوفسكي أن الأسطورة، التي يتطابق رأيه فيها مع رأي سميث، تفسر أصل الطقس، وتسبغ على الطقوس ماضيًا عتيقًا ومن ثم تصدق عليها. ويعتمد المجتمع على الأسطورة لتحفيز الالتزام بممارسة الطقوس. في المقابل، إذا كانت جميع الطقوس تعتمد على الأسطورة، فإن العديد من الممارسات الثقافية الأخرى، التي يعتمد عليها المجتمع، تعتمد أيضًا على الأسطورة وذلك في رأي مالينوفسكي. وتمتلك المجتمعات أساطير خاصة بها؛ بناءً عليه لا يتزامن وجود الأسطورة مع الطقس.
طبَّق ميرسيا إلياد، الذي جرى تناول نظريته في الفصل الثالث، صورة مشابهة من النظرية على الثقافات الحديثة والبدائية على حد سواء، وتجاوز بذلك ما قدمه مالينوفسكي. وتصدق الأسطورة في وجهة نظر إلياد على جميع أنواع الظواهر، وليس الطقوس فقط، من خلال منحها أصلًا يمتد إلى أول الزمان. وفي رأي إلياد أيضًا، لا يتزامن وجود الأسطورة والطقس معًا. في المقابل وتارة أخرى، يتجاوز إلياد ما طرحه مالينوفسكي في التأكيد على أهمية التمثيل الطقوسي للأسطورة في تحقيق الوظيفة النهائية لها، إذ عند تمثيلها، تقوم الأسطورة مقام آلة الزمن، فتحمل المرء إلى زمن الأسطورة في الماضي ومن ثم يقترب المرء أكثر من الإله.

تطبيق النظرية على الأدب

كان أبرز التطبيقات للنظرية الطقوسية للأسطورة خارج نطاق الدين على مجال الأدب. وقد استقت هاريسون نفسها بجرأةٍ جميع أشكال الفن — وليس الأدب وحده — من الطقس. فهي ترى أن الناس توقفوا تدريجيًّا عن الاعتقاد في أن محاكاة فعل ما يتسبب في حدوثه فعليًّا. ولكن بدلًا من التخلي عن الطقس، يمارسه الناس كغاية في حد ذاته؛ فصار الطقس في حد ذاته فنًّا، والمثال الأبرز الذي ضربته هاريسون على ذلك هو الدراما. وقد أرجع موراي وكورنفورد، على نحو أكثر تواضعًا من هاريسون، الملحمة والتراجيديا والكوميديا اليونانية بوجه خاص إلى النظرية الطقوسية للأسطورة، وطبَّق موراي لاحقًا النظرية على أعمال شكسبير.

يشمل رواد النظرية أيضًا كلًّا من: جيسي وستون في تطبيقها على أسطورة الكأس المقدسة، وإي إم باتلر على أسطورة فاوست، وسي إل باربر على كوميديا شكسبير، وهربرت وايسنجر على التراجيديا التي قدمها شكسبير وعلى التراجيديا كجنس أدبي، وفرانسيس فيرجسون على التراجيديا، واللورد رَجْلان على أساطير الأبطال وعلى الأدب ككل، ونورثروب فراي وستانلي إدجار هيمان على الأدب بصورة عامة. وكنقاد أدبيين، لم يهتم علماء النظرية الطقوسية للأسطورة هؤلاء بوضوح بالأسطورة نفسها قدر ما اهتموا بالأصل الخرافي للأدب؛ ولذا تُفسَّر الأعمال الأدبية على أنها منبثقة من الأساطير بمجرد ارتباطها بالطقوس. ويرجع الأدب، في رأي النقاد الأدبيين هؤلاء الذين يدينون بالفضل إلى فريزر — وكذلك أغلبية النقاد — إلى السيناريو الثاني للنظرية الطقوسية للأسطورة عند فريزر. فتصبح عبارة «يجب أن يموت الملك» هي العبارة الإيجازية المألوفة لدى مستمعيها.

ويرى علماء النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة أن الأسطورة تصير أدبًا عندما تنفصل عن الطقس. وتعتبر الأسطورة المتصلة بالطقس أدبًا دينيًّا، فيما تعتبر الأسطورة المنفصلة عن الطقس أدبًا علمانيًّا أو أدبًا صرفًا. وعند ربطها بالطقس، يمكن أن تؤدي الأسطورة أيًّا من الوظائف الفعالة التي يعزيها علماء النظرية الطقوسية إليها. وبتجريدها من الطقس، تُختزل الأسطورة إلى مجرد شروح.

لا تدور النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة حول الأسطورة والطقس أنفسهما، الذي يجري افتراضهما، بل حول أثرهما على الأدب. في المقابل، هي لا تعتبر نظرية عن الأدب أيضًا؛ إذ إنها لا تقبل اختزال الأدب إلى أسطورة، وإنما تعتبر النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة تفسيرًا لتحول الأسطورة والطقس إلى أدب، وهو ما سنتناوله بمزيد من التفصيل في الفصل التالي.

رينيه جيرار

في كتاب «البطل»، الذي سوف نناقشه بمزيد من التفصيل في الفصل التالي، يوسِّع اللورد رَجْلان نطاق سيناريو فريزر الثاني من النظرية الطقوسية للأسطورة، من خلال تحويل الملك الذي يموت من أجل الجماعة إلى بطل. وفي كتاب «العنف والمقدس» وفي أعمال أخرى كثيرة لاحقة، يقدِّم الناقد الأدبي، فرنسي المولد والمقيم في أمريكا، رينيه جيرار (ولد عام ١٩٢٣) نسخة معدلة ساخرة من نظرية رَجْلان الذي لم يشر إليه قط. وبينما لا يجد بطل رَجْلان مانعًا في الموت من أجل الجماعة، يُقتَل بطل جيرار أو تنفيه الجماعة؛ نظرًا لما سببه لهم من فواجع. ويعتبر «البطل» في البداية مجرمًا يستحق الموت، ولاحقًا فقط يتحول الشرير إلى بطل يموت، كما في طرح رَجْلان، مضحيًا بنفسه من أجل الجماعة. ويذكر رَجْلان وجيرار أوديبَ كمثال نموذجي على ما يرميان إليه. (ولكن لا يجعل ذلك من أيهما فرويديًّا؛ فكلاهما يرفض فرويد رفضًا شديدًا.) وفي رأي جيرار، فإن تحولَ أوديب من المنفي البغيض حيث كان في مسرحية سوفوكليس «أوديب ملكًا» إلى مُنعَّم موقَّر في مسرحية سوفوكليس «أوديب في كولونس»؛ نموذجٌ مثالي على تحول المجرم إلى بطل.

غير أن هذا التغيير لا يعتبر في رأي جيرار سوى النصف الثاني من العملية. ويتمثل النصف الأول في التغير من ضحية بريئة إلى مجرم. في الأصل، يتفجر العنف بين أفراد الجماعة، ويرجع السبب في ذلك إلى الميل إلى تقليد الآخرين، وهو شيء فطري في الطبيعة الإنسانية، ومن ثم الرغبة في الحصول على الأشياء نفسها التي يملكها من يجري تقليدهم. فيؤدي التقليد إلى المنافسة التي تؤدي إلى العنف. وفي محاولةٍ مضنية لإنهاء العنف، تنتقي الجماعة عضوًا بريئًا لإلقاء ملامة وقوع الاضطرابات عليه. وقد يكون «كبش الفداء» هذا أي شخص، وربما يكون أكثر الأشخاص الذين لا حول لهم ولا قوة أو أعلى الأشخاص مقامًا، بما في ذلك الملك، كما هي الحال مع أوديب. وعادةً ما تُقتل الضحية، كما هي الحال مع أوديب، أو تُنفَى. ويعتبر القتل هو التضحية الطقوسية. وبدلًا من «توجيه» الطقس، كما عند فريزر، تنشأ الأسطورة في رأي جيرار «بعد» القتل «لتبريره». وبينما تنبثق الأسطورة عن الطقس، كما عند سميث، فإنها تنبثق عنها «للتبرير» وليس لتفسير الطقس، كما هي عند سميث. فتحوِّل الأسطورة كبش الفداء إلى مجرم يستحق الموت، ثم تحوِّل المجرم إلى بطل مات طواعيةً لصالح الجماعة.

قد تبدو نظرية جيرار، التي تتمحور حول مكانة البطل في المجتمع، غير قابلة للتطبيق إلى حد كبير على أسطورة أدونيس؛ فأدونيس لا يموت طواعيةً أو إيثارًا. وتبدو العوالم التي يعيش فيها — الغابات والعالم السفلي — بعيدة كل البعد عن المجتمع. وفي الفصل الثامن، سوف تُفسر هذه الأسطورة من منظور اجتماعي، كما سيُقدم تفسير جيرار لأسطورة أوديب.
فيما لا يورد جيرار ذكر رَجْلان على الإطلاق، يشير إلى فريزر بصورة متكررة، قاصرًا طرحه على السيناريو الثاني من نظريته الطقوسية للأسطورة، مما جعله يُثني عليه لإدراكه الطقس البدائي الرئيس لقتل الملك وينتقده لعدم إدراكه الأصل والوظيفة الحقيقية للقتل. ويرى فريزر أن التضحية هي التطبيق البريء لتفسير جهول قبل علمي للعالم؛ إذ يُقتل الملك ويحل محله شخص آخر بحيث يحتفظ أو يستعيد إله الإنبات صحته، فتسكن روح هذا الإله في الملك الجديد. ولا تعتبر وظيفة التضحية زراعية بصورة كاملة. ولا توجد كراهية للضحية الذي يؤدي واجبه كملك ويُحتفى به عبر أحداث الأسطورة لتضحيته بذاته. ومن منظور جيرار، ينخدع فريزر بعملية الإخفاء الخرافية. ويعتبر الأصل والوظيفة الحقيقية للطقس، وبالتالي الأسطورة، اجتماعية أكثر منها زراعية، مثلما سنرى في الفصل الثامن.

والتر بوركرت

ربما كان أول من خفف من رسوخ الرأي القائل بأن الأساطير والطقوس منفصلان هو عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي كلايد كلوكهون. وقد تجاوز دارس الحضارة اليونانية والرومانية القديمة الألماني والتر بوركرت (ولد في عام ١٩٣١) ما وصل إليه كلوكهون، ليس فقط في السماح بالاستقلال الذي تتمتع به الأسطورة والطقس في الأصل، بل في افتراضه بالكامل. ويرى بوركرت أنه عندما يجتمع الاثنان، لا يؤديان وظيفة مشتركة فقط — كما يفترض كلوكهون — بل يدعمان بعضهما البعض. فالأسطورة تدعم الطقس من خلال منح السلوك الإنساني الصرف أصلًا إلهيًّا، كمثل قول: افعل هذا لأن الآلهة فعلته أو تفعله. من الوجهة المقابلة، يدعم الطقس الأسطورة من خلال تحويل قصة عادية إلى سلوك مُوصى به من أكثر السلوكيات التزامًا، كمثل قول: افعل هذا من باب القلق، إن لم يكن العقاب. وبينما تخدم الأسطورة في رأي سميث الطقس، يخدم الطقس في رأي بوركرت الأسطورة بقدر متساوٍ.

وشأنه شأن جيرار، يرجع بوركرت جذور الأسطورة إلى التضحية وجذور التضحية إلى العدوان، لكنه لا يقصر التضحية على التضحية الإنسانية، بل يرجعها إلى الصيد — التعبير الأصلي عن العدوان. إضافة إلى ذلك، لا تعمل الأسطورة من منظور بوركرت على إخفاء حقيقة التضحية، كما هي الحال عند جيرار، بل على العكس تعمل على الحفاظ عليها، ومن ثم الإبقاء على آثارها النفسية والاجتماعية. أخيرًا، لا يربط بوركرت بين الأساطير وطقوس التضحية فحسب بل إنه، مثل هاريسون، يربط بينها وبين طقوس الابتداء. فتؤدي الأسطورة في هذا السياق الوظيفة الاجتماعية نفسها التي يؤديها الطقس.

fig8
شكل ٤-٢: صيد الخنزير الكاليدوني من تشيرفيتيري، كأس يوناني صنع في مقاطعة لاكونيا، القرن السادس قبل الميلاد.2
ويُعتبر الطقس بالنسبة إلى بوركرت «كأنه» سلوك. ولنضرب مثلًا بنموذجه المحوري؛ فلا يعتبر «الطقس» من وجهة نظره تجسيدًا للعادات والشكليات التي تتضمنها عملية الصيد الفعلية بل هو صيد درامي. ولا تتمثل الوظيفة، إذن، في توفير الغذاء، كما هي الحال عند فريزر؛ إذ ينشأ الطقس الحق فقط بعد حلول الزراعة محل الصيد كمصدر رئيس للغذاء:

فقد الصيد وظيفته الأساسية بظهور الزراعة قبل نحو عشرة آلاف عام مضت. في المقابل، صار طقس الصيد من الأهمية بمكان حتى صار لا يمكن التخلي عنه.

(بوركرت، «البنية والتاريخ في الميثولوجيا والطقوس اليونانية»، ص٥٥)

كانت الطبيعة المجتمعية للصيد الفعلي وللصيد الطقوسي فيما بعد تعمل على التخفيف من حدة القلق حيال عدوانية المرء وفنائيته، وفي الوقت نفسه توطد الروابط بين المشاركين فيه. وكانت هذه الوظائف نفسية واجتماعية، وليست زراعية.

إذن تمثِّل أسطورة أدونيس حالة تهكمية لطرح بوركرت، فلا يكتفي أدونيس بالصيد وحده بدلًا من الصيد في جماعة، بل إنه لا يعتبر صيَّادًا في الأساس، دع عنك أنه شخص ينهكه القلق. وفيما يتعلق بأدونيس، يعتبر الصيد رياضة أكثر منه مسألة حياة أو موت؛ بناءً عليه، من الصعب أن يساعد الصيد أدونيس نفسيًّا أو اجتماعيًّا. وفي المقابل، لا تزال قصة أدونيس البطولية تؤدي وظيفة تحذيرية للآخرين، كما سنناقش ذلك في الفصل الثامن.

هوامش

(1) Mary Evans Picture Library.
(2) © The Art Archive/The Louvre/Dagli Orti.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤