الفصل الخامس

الأسطورة والأدب

أخذت العلاقة بين الأسطورة والأدب أشكالًا متباينة، وكان أبرز هذه الأشكال استخدام الأسطورة في الأعمال الأدبية. ومن الموضوعات المتكررة في المناهج الأدبية، المشي على خطى الشخصيات والأحداث والموضوعات الكلاسيكية في الأدب الغربي تباعًا؛ ابتداءً من آباء الكنيسة، الذين استعانوا بالميثولوجيا الكلاسيكية فيما كانوا يحاربون الوثنية، ومرورًا ببترارك، وبوكاشيو، ودانتي، وتشوسر، وسبنسر، وشكسبير، وميلتون، وجوته، وبايرون، وكيتس، وشيلي، ثم جويس، وإليوت، وجيد، وكوكتو، وأنويه، ويوجين أونيل. وجرى تطبيق الأسلوب نفسه مع أساطير الكتاب المقدس؛ إذ كان يتم قراءة مجموعتَي الأساطير بالتبادل حرفيًّا ورمزيًّا، وكان يُعاد ترتيب أحداثهما، بل وسردهما مجددًا بصورة مختلفة جذريًّا. ويمكن العثور على هذه الأساطير في جميع أنواع الأدب، بما في ذلك الموسيقى والفيلم. وقد استخدم فرويد الشخصيتين أوديب وإلكترا للإشارة إلى أعمق الدوافع الإنسانية، كما اقترض من الأطباء النفسيين شخصية نارسيسوس للإشارة إلى حب الذات.

يحقق شيوع الميثولوجيا الكلاسيكية أو الوثنية إنجازًا يفوق ما تحققه ميثولوجيا الكتاب المقدس؛ إذ استمرت الميثولوجيا الكلاسيكية بعد انهيار الدين الذي كانت جزءًا أصيلًا منه قبل ألفَي عام. في المقابل، استمرت ميثولوجيا الكتاب المقدس في الوجود بدعم من الوجود شبه المهيمن للدين الذي تظل جزءًا منه. وفي الواقع، حُفظت الميثولوجيا الكلاسيكية من خلال الثقافة المتصلة بالدين الذي قضى على الدين الكلاسيكي. وحتى وقت قريب، كان لمصطلح «الوثنية» دلالة سيئة. ويُعد استمرار الميثولوجيا الكلاسيكية — فيما لم يستمر الدين الذي كانت جزءًا منه — رؤية عكسية ساخرة من رؤية تايلور حول مصير كليهما، على الرغم من أن تايلور يشير إلى استمرار المسيحية، وليس الوثنية، وإلى استمرار المسيحية في ظل العلم الحديث، وليس في ظل أي دين منافس.

الأصل الخرافي للأدب

يتمثل أحد الأشكال الأخرى للعلاقة بين الأسطورة والأدب — وهو ما أشرنا إليه بالفعل في الفصل السابق — في نشوء الأدب من الأسطورة، وهو أسلوب كان من رواده جين هاريسون وزميلاها العالِمان في الحضارة اليونانية والرومانية القديمة جيلبرت موراي وإف إم كورنفورد. ولنضرب بعض الأمثلة الآن على هذا الأسلوب.

في كتاب «من الطقس إلى الرومانسية»، طبَّقت عالمة القرون الوسطى الإنجليزية جيسي وستون (١٨٥٠–١٩٢٨) النسخة الثانية من نظرية فريزر الطقوسية للأسطورة على أسطورة الكأس المقدسة. وقد اتبعت منهج فريزر وذهبت إلى أن خصوبة الأرض، في نظر القدماء والبدائيين على حد سواء، كانت تعتمد على خصوبة الملك نفسه، الذي كان يسكنه إله النبات. ولكن بينما كان الطقس الرئيس في رأي فريزر هو استبدال ملك مريض، كان الهدف من عملية البحث عن الكأس المقدسة هو «إعادة الشباب» للملك في رأي وستون. وكذلك تضيف وستون بعدًا أثيريًّا روحيًّا يتسامى على نموذج فريزر؛ فيتضح أن الهدف من عملية البحث عن الكأس المقدسة هو تحقيق التوحد الروحي مع الإله، وليس فقط الحصول على الغذاء من الإله. وكان ذلك البعد الروحي للأسطورة هو الذي أوحى إلى تي إس إليوت للرجوع إلى وستون في نظم «الأرض الخراب». وبينما لا تختزل وستون أسطورة الكأس المقدسة إلى أسطورة وطقس بدائيين، فإنها تُرجعها إليهما. وتعتبر الأسطورة نفسها أدبًا، لا أسطورة. ولأن السيناريو الثاني من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر لا يدور حول تمثيل أية أسطورة لإله النبات، بل يدور حول حالة الملك الحاكم؛ فإن الأسطورة التي تتمخض عنها الأسطورة لا تمثِّل حياة إله كأدونيس، بل تمثل حياة ملك الكأس المقدسة نفسه.

في كتاب «فكرة مسرح»، طبَّق فرانسيس فيرجسون (١٩٠٤–١٩٨٦)، وهو ناقد مسرحي أمريكي مرموق، النسخة الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر على التراجيديا ككل كجنس أدبي. ويرى فيرجسون أن قصة المعاناة والخلاص من الخطيئة التي يعيشها بطل المأساة تُستقى من نسخة نظرية فريزر الخاصة بقتل الملك واستبداله. على سبيل المثال، يجب على أوديب، ملك طيبة، التضحية بعرشه، وليس بحياته، لصالح رعاياه. ولا يتوقف البلاء إلا من خلال تخلي الملك عن عرشه. ولكن في رأي فيرجسون، وكذلك وستون، لا يعتبر التجديد المطلوب بدنيًّا قدر ما هو روحي، وكما يرى فيرجسون، يسعى أوديب إلى التجديد لنفسه وللآخرين.

يهتم فيرجسون أكثر من معظم علماء النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة الآخرين بالناتج؛ أي الدراما، قدر ما يهتم بالمصدر؛ أي الأسطورة والطقس. حتى إنه ينتقد هاريسون، ومواري بصورة خاصة، بسبب تفسير معنى التراجيديا من منظور قتل الملك الذي طرحه فريزر بدلًا من تفسيره مثلًا من منظور موضوع التضحية بالذات. وفي رأي فيرجسون، وكذلك وستون، يقدِّم السيناريو الذي تطرحه نظرية فريزر الخلفية للأدب باعتباره أسطورة وطقسًا وليس أدبًا.

في كتاب «تشريح النقد»، يرى الناقد الأدبي المشهور نورثروب فراي (١٩١٢–١٩٩١) أن جميع أجناس الأدب — وليس جنسًا واحدًا — مُستقاة من الأسطورة، خاصةً أسطورة حياة البطل. ويربط فراي بين دورة حياة البطل ودورات أخرى عديدة، منها الدورة السنوية للفصول، والدورة اليومية للشمس، والدورة الليلية للحلم والاستيقاظ. ويستلهم فراي الربط بين دورة حياة البطل ودورات الفصول من فريزر، وربما يستلهم الارتباط مع دورة الشمس من ماكس مولر، وهو ما لا يعزيه أبدًا إليه، ويستلهم الارتباط مع الحلم والاستيقاظ من يونج، وربما يستلهم ارتباط الفصول مع البطولة من رَجْلان — الذي سنتناول إسهامه بعد قليل — غير أن فراي لم يعزِ إلى رَجْلان أيضًا هذا الارتباط. ويقدِّم فراي نمطه البطولي الخاص الذي يطلق عليه «البحث-الأسطورة»، وهو يتألف من أربعة مراحل رئيسة: ميلاد البطل، ونصره، وعزلته، وهزيمته.

يقابل كل جنس رئيس في الأدب في وقت واحد فصلًا من فصول السنة، ومرحلة في اليوم، ومرحلة في الوعي، والأدهى من كل ذلك مرحلة في الأسطورة البطولية؛ فتقابل الرومانسية في وقت واحد الربيع، وشروق الشمس، والاستيقاظ، وميلاد البطل؛ وتقابل الكوميديا الصيف، ومنتصف النهار، والوعي اليقظ، وانتصار البطل؛ وتقابل التراجيديا الخريف، وغروب الشمس، وأحلام اليقظة، وعزلة البطل؛ ويقابل الهجاء الشتاء، والليل، والنوم، وهزيمة البطل. ولا تقتصر الأجناس الأدبية على مقابلة الأسطورة البطولية فقط، بل تستقي منها أيضًا. وتستقي الأسطورة نفسها من الطقس، من نسخة النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر التي يُقتل فيها الملوك ويُستبدلوا.

ومثل معظم علماء النظرية الأدبية الطقوسية للأسطورة، لا يختزل فراي الأدب إلى أسطورة. على النقيض من ذلك، فهو يصر بحزم أكثر من غيره على استقلال الأدب. ومثل فيرجسون، لا ينتقد فراي موراي وكورنفورد على تنظيرهم حول الأصل الطقوسي الخرافي للتراجيديا (موراي) والكوميديا (كورنفورد) — وهو موضوع غير أدبي — بل على تفسير معنى كليهما باعتباره تمثيلًا لسيناريو فريزر من النظرية الطقوسية للأسطورة التي ترى في الأسطورة نموذج قتل الملك، وهو الموضوع الأدبي.

على الجانب الآخر، يستعين فراي بفريزر ويونج لمساعدته في استخلاص معنى الأدب، وليس أصله فقط؛ وذلك لأنه يعتبر أعمالهما الرئيسة أعمال نقد أدبي ولا تقع في صميم أعمال الأنثروبولوجيا أو علم النفس حصريًّا:

إن الإثارة التي يخلقها كتاب «الغصن الذهبي» وكتاب يونج حول رموز الرغبة الجنسية [«رموز التحول» (أعمال يونج المجمعة، المجلد الخامس)] في نفوس النقاد الأدبيين … تعتمد … على حقيقة أن هذه الكتب تعتبر بصورة أساسية دراسات في النقد الأدبي … ولا يدور كتاب «الغصن الذهبي» حول ما فعله الناس في زمن سحيق بدائي، بل حول ما يفعله الخيال الإنساني عندما يحاول التعبير عن نفسه تجاه الأسرار الكبرى؛ أسرار الحياة والموت والحياة الآخرة.

(فراي، «أنماط الأدب الأصلية»، ص١٧؛ «رمزية اللاوعي»، ص٨٩)

بالمثل، «لا يعتبر» كتاب يونج «علم النفس والخيمياء» (أعمال يونج المجمعة، المجلد الثاني عشر)، الذي ينتقيه فراي أيضًا، «مجرد كتاب مقبول يقدِّم ما يشبه العلم الميت [الخيمياء] وأحد الكتب الكثيرة التي تنتمي إلى مدارس علم النفس بفيينا، بل يبين هذا الكتاب قواعد الرمزية الأدبية، التي يعدها كل طلاب الأدب الجادين من الأهمية بمكان وآسرة للغاية.»

ولا شك أن فراي يمضي بعيدًا في توصيف فريزر ويونج على أنهما في الأصل جامعا أساطير أكثر من كونهما منظِّرَين. ويهدف كل من فريزر ويونج إلى بيان أصل الأسطورة ووظيفتها، وليس فقط معناها، كما يقدِّمان «القواعد» الذي يعرضانها كبراهين، وليس كمجموعة من الرموز. ويزعم فريزر وقوع عملية قتل الملك الطقوسية في الواقع، حتى لو جرى التخفيف منها لاحقًا بجعلها مجرد دراما. ويزعم يونج أن الأنماط الأصلية موجودة بالفعل في العقل، بل وفي العالم الواقعي.

ونظرًا لأن فراي يربط بين الأسطورة والأدب ربطًا وثيقًا، دون اختزال الأدب إلى أسطورة، فإن نقده الأدبي يسمى بصورة ملتبسة «نقد الأسطورة»، الذي يعتبر هو أحد أكبر ممارسيه. بالمثل، يُطلق على نقده الأدبي على نحو شائع «نقد الأنماط الأصلية»؛ حيث إنه في إطلاق مصطلح «أنماط أصلية» على الأجناس الأدبية ببساطة، يُشار إليه خطأً بأنه ينتمي إلى مدرسة يونج، فضلًا عن الإشارة المغلوطة إليه بأنه من كبار ممارسي نقد الأنماط الأصلية. ولزيادة هذا الالتباس تعقيدًا، يوجد نقاد أدبيون من أتباع يونج قلبًا وقالبًا يُطلق عليهم بحق نقاد الأنماط الأصلية، بدءًا من مود بودكين في كتاب «الأنماط الأصلية في الشعر». ومرة أخرى، لزيادة الالتباس تعقيدًا أكبر، هناك نقاد جاءوا بعد يونج يطلقون على أنفسهم «علماء نفس الأنماط الأصلية» بدلًا من أتباع يونج. ويعتبر أبرز أمثلة هؤلاء جيمس هلمان وديفيد ميلر، اللذان كتبا بغزارة عن الأسطورة.

في «العنف والمقدس» وأعمال أخرى، يقدِّم رينيه جيرار، الذي تناولنا نظريته في الفصل السابق، نموذجًا للفصل الحاد بين الأسطورة والأدب. ومثل فيرجسون وفراي، ينتقد جيرار هاريسون وموراي على دمج الأسطورة والطقس مع التراجيديا، كما ينتقدهما نقدًا أكبر لترويض التراجيديا. فهاريسون وموراي يريان أن دور الأسطورة يقتصر على «وصف» الطقس كما يراه فريزر، ولا تفعل التراجيديا سوى «إضفاء الصبغة الدرامية عليه». الأسوأ من ذلك أن التراجيديا تحول حدثًا حقيقيًّا إلى مجرد موضوع. ومن منظور جيرار، «تبرر» الأسطورة الطقس، فيما «تكشف» التراجيديا، كما هي الحال في مسرحية سوفوكليس التي تدور حول أوديب، «عن الحقيقة». في المقابل، يُوجَّه نقد جيرار نحو السيناريو الثاني من النظرية الطقوسية للأسطورة، لفريزر، الذي يُقتل الملك فيه؛ ولذا يلجأ هاريسون وموراي إلى السيناريو الأول من نظرية فريزر الذي يلعب الملك فيه دور إله الإنبات فقط. ووفق تلك النسخة، بينما يموت الإله لا يموت الملك، وربما يموت الإله دون أن يُقتل، كما الحال مع رحلة أدونيس السنوية إلى حادس. ويعتبر انتقاد جيرار لهاريسون وموراي، بل ولفريزر بصورة جزئية — بأنهم يتغاضون عن القتل الإنساني الذي يعتبر مكونًا أساسيًّا في جميع التراجيديا — انتقادًا جانبه الدقة بصورة مخزية.

الأسطورة كقصة

تمثل ملمح آخر للأسطورة باعتبارها أدبًا في التركيز على قصة شائعة، فلا يوجد أي ذكر في طرح تايلور أو فريزر للأسطورة باعتبارها قصة، (وسأستخدم هنا مصطلح «قصة» بدلًا من «سرد»؛ المصطلح الأكثر تفضيلًا اليوم.) ولا يتعلق الأمر بأن تايلور أو فريزر قد ينكران اعتبار الأسطورة قصة، بل بأن كليهما يعتبران الأسطورة تفسيرًا سببيًّا للأحداث التي تقع فتأخذ صورة قصة. وتتطلب المقابلة بين الأسطورة والعلم التقليل من أهمية الأسطورة كقصة والتأكيد على أهمية المحتوى التفسيري. وبطبيعة الحال، تقص الأسطورة بالنسبة إلى تايلور وفريزر «قصة» كيف صار هيليوس مسئولًا عن الشمس، وكيف يمارس هذه المسئولية، بينما ينصب اهتمام كليهما على المعلومات نفسها، لا الطريقة التي يجري توصيلها بها. كما يتم تجاهل الاعتبارات الأدبية التقليدية، مثل التوصيف، والوقت، والصوت، ووجهة النظر، واستجابة القارئ، كما الحال في تحليل أي قانون علمي.

ونظرًا لأن الأسطورة في رأي تايلور وفريزر تهدف إلى تفسير أحداث متكررة، فإنها يمكن إعادة صياغتها كقانون. على سبيل المثال، عندما يسقط المطر، فهو يسقط نظرًا لأن إله المطر قرر ذلك، وللسبب نفسه دومًا. وعندما تشرق الشمس، فهي تشرق نظرًا لأن إله الشمس قرر أن يستقل عربته، التي تلتصق بها الشمس، وأن يقود عربته عبر السماء، وللسبب نفسه دومًا. فقدر ما يعتبر فريزر الآلهة رموزًا للعمليات الطبيعية، فإن الأسطورة التي جرى إعادة صياغتها ستؤدي فقط وظيفة وصفية وليست تفسيرية: فستقول الأسطورة ببساطة إن المطر يسقط (بانتظام أم لا) أو إن الشمس تشرق (بانتظام) دون أن تقدِّم «سببًا».

وفي رأي تايلور بصورة خاصة، الذي يفسر الأسطورة حرفيًّا، تعتبر الأسطورة بعيدة كل البعد عن كونها أدبًا، ولا يعتبر تناول الأسطورة باعتبارها أدبًا إلا تقليلًا من شأنها، وذلك يحدث بتحويل مزاعم حقيقتها التفسيرية إلى مجرد توصيفات شعرية منمقة. وبينما يرى فراي وآخرون أن الأدب غير قابل للاختزال إلى أسطورة، يرى تايلور أن الأسطورة غير قابلة للاختزال إلى أدب. وبعد فترة الحداثة، التي أُعيد فيها توصيف الطروح في جميع المجالات، بما فيها العلم والقانون، في صورة قصص، يعتبر عدم اكتراث تايلور بالجانب القصصي للأسطورة ملحوظًا.

لا يعتبر فصل تايلور للأسطورة عن القصة أقل وضوحًا عند النظر إليه من وجهة نظر الناقد الأدبي الأمريكي كينيث بيرك (١٨٩٧–١٩٩٣). ففي كتاب «بلاغة الدين» بصفة خاصة، يرى بيرك أن الأسطورة هي الصورة المتحولة لما وراء الطبيعة إلى قصة. وتعبِّر الأسطورة رمزيًّا، وفق الأولوية الزمنية، عما لا يستطيع البدائيون التعبير عنه حرفيًّا: أي أولوية ما وراء الطبيعة. وفي عبارة بيرك المشهورة، الأسطورة هي «مماطلة على الجوهر». على سبيل المثال، تضع قصة الخلق الأولى في سفر التكوين في صورة ستة أيام ما يعتبر في حقيقة الأمر «تصنيفًا» للأشياء الموجودة في العالم إلى ست فئات:

بناءً عليه، بدلًا من قول «وذلك يتمم القسم الأول الكبير، أو التصنيف، لموضوعنا»، نقول: «وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا».

(بيرك، «بلاغة الدين»، ص٢٠٢)
بينما تمثل الأسطورة بالنسبة إلى بيرك في نهاية المطاف تعبيرًا عن حقائق خالدة، فإنها لا تزال تعبِّر عن الحقائق الخالدة في صورة قصة، بحيث إذا برزت الحاجة إلى استخلاص المعنى من الشكل القصصي، لا تزال القصة هي ما يجعل الأسطورة أسطورة. ويشبه بيرك هنا ليفي-ستروس، الذي سيجرى تناول أسلوبه في التعاطي مع الأسطورة باعتبارها قصة في الفصل السابع. وما يسميه بيرك «جوهر»، يُطلق ليفي-ستروس عليه اسم «بنية».

أنماط الأسطورة

بينما تتسم الأساطير بصورة عامة بالتنوع على نحو يحول دون تحديد حبكة مشتركة بينها، فإنه جرى تقديم حبكات مشتركة لأنواع محددة من الأساطير، وهي غالبًا الأساطير التي تتمحور حول بطل. وقد أظهرت أقسام الأساطير الأخرى مثل أساطير الخلق، والطوفان، والفردوس، والمستقبل، تنافرًا كبيرًا فيما بينها إلا في اشتراكها في ملامح كبرى. ويرى تايلور أنه بينما تدور الأساطير حول طريقة اتخاذ الإله لقرار بوقوع حدث طبيعي، فإنها لا تدور حول صورة الإله أو طريقة تصرفه. وفي تركيزه أكثر على آلهة النبات، يشير فريزر إلى أن الآلهة تموت ثم تنبعث، دون ذكر كيفية حدوث أي من ذلك.

وبالرجوع إلى عام ١٨٧١، يرى تايلور نفسه — متحولًا بصورة مدهشة ووجيزة من تناول أساطير الآلهة إلى أساطير الأبطال — أنه في كثير من أساطير الأبطال، يُتخلى عن البطل عند ميلاده، ثم ينقذه أشخاص أو حيوانات أخرى، ثم ينشأ ليصبح بطلًا قوميًّا. وكان تايلور يسعى إلى وضع نمط مشترك، وليس إلى تطبيق نظريته حول أصل ووظيفة وموضوع الأساطير بصورة عامة على أساطير الأبطال. في المقابل، يلجأ تايلور إلى تناسق النمط للزعم بأنه مهما كان أصل أو وظيفة أو موضوع أساطير الأبطال، فإن هذه الجوانب جميعًا يجب أن تتطابق في جميع أساطير الأبطال بحيث تبرر التشابه في الحبكة فيها:

يتيح التعامل مع الأساطير المتشابهة التي تأتي من مناطق مختلفة — من خلال تنظيمها في مجموعات مقارنة كبيرة — تعقُّب طريقة عمل العمليات التخيلية المتكررة في الميثولوجيا من خلال التناسق الواضح للقانون العقلي …

(تايلور، «الثقافة البدائية»، المجلد الأول، ص٢٨٢)

بينما يعزي فراي الأسطورة إلى الخيال الجامح، يعزي تايلور الأسطورة إلى الخيال الخاضع لقيود معرفية صارمة، وهو ما يُعد استباقًا لما يُعرف اليوم باسم علم النفس الإدراكي.

في عام ١٨٧٦، استخدم الأكاديمي النمساوي يوهان جورج فون هان أربع عشرة حالة للدفع بأن جميع حكايات الأبطال «الآرية» تتبع صيغة «تخلٍّ وعودة» أكثر شمولًا مما في نظرية تايلور. ففي كل حالة من هذه الحالات، يُولد البطل ولادة غير شرعية، وخوفًا من نبوءة تحوله إلى شخص عظيم في المستقبل يتخلى عنه أبوه، وتنقذه الحيوانات، ويربيه زوجان متواضعا الحال، ويخوض غمار الحروب، ويعود إلى الديار منتصرًا، ويهزم مضطهديه، ويحرر أمه، ويصبح ملكًا، ويبني مدينة، ويموت شابًّا. وعلى الرغم من أن فون هان خبير في الأساطير التي تدور حول الشمس، فإنه يحاول، على غرار تايلور، وضع نمط لأساطير الأبطال. ولو أن فون هان تقدم في طرحه منظرًا حول الحكايات، ربما كانت ستعتمد نظريته على القاسم المشترك في الحبكة.

بالمثل، في عام ١٩٢٨، سعى عالم التراث الشعبي الروسي فلاديمير بروب إلى بيان أن الحكايات الخرافية الروسية تتبع حبكة مشتركة ينطلق فيها البطل في مغامرة ناجحة، وعند عودته يتزوج ويحصل على العرش. ويتفادى نمط بروب ذكر ميلاد وموت البطل. وعلى الرغم من ماركسيته، لا يحاول بروب في مرحلته الشكلية المبكرة طرح ما يزيد عما طرحه تايلور وفون هان؛ ألا وهو وضع نمط مشترك لقصص الأبطال. وتارة أخرى نؤكد على أن أي إسهام نظري من المفترض أنه كان يعتمد على القاسم المشترك في الحبكة.

من بين العلماء الذي نظَّروا حول الأنماط التي وضعوها لأساطير الأبطال مَن هم أكثر أهمية من غيرهم، أمثال المحلل النفسي الفييني أوتو رانك (١٨٨٤–١٩٣٩)، وجامع الأساطير الأمريكي جوزيف كامبل (١٩٠٤–١٩٨٧)، وعالم التراث الشعبي الإنجليزي اللورد رَجْلان (١٨٨٥–١٩٦٤). فرغم أن رانك انفصل إلى غير عودة عن سيجموند فرويد، إلا أنه وقت تأليف كتاب «أسطورة ميلاد البطل» كان تابعًا له. وبينما لم يكن كامبل تابعًا ليونج بصورة كاملة، إلا أنه كتب «البطل ذو الألف وجه» وكأنه توءَمه الروحي. وقد كتب رَجْلان «البطل ذو الألف وجه» مرتديًا عباءة فريزر. ولسوف نتناول أعمال رانك وكامبل تفصيلًا في الفصل التالي، حول الأسطورة وعلم النفس. ولنأخذ رَجْلان هنا مثالًا على مركزية الحبكة.

اللورد رَجْلان

يطبِّق رَجْلان النسخة الثانية من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر على أساطير الأبطال. وبينما يُماهي فريزر بين الملك وإله النبات، يماهي رَجْلان بدوره بين الملك والبطل. ومن منظور فريزر، ربما يعتبر استعداد الملك للموت من أجل الجماعة عملًا بطوليًّا، غير أن رَجْلان يعطي الملك مباشرةً لقب البطل. ويقدِّم فريزر نمطًا بسيطًا لأسطورة الإله؛ متمثلًا في موت الإله ثم انبعاثه. بيد أن رَجْلان يقدِّم نمطًا مفصلًا مؤلفًا من اثنتين وعشرين خطوة لأسطورة البطل، وهو نمط يطبِّقه بعد ذلك على إحدى وعشرين أسطورة. في المقابل، لا يقف رَجْلان عند هذا الحد، بل يربط بين الأسطورة والطقس. تذكَّر أنه في النسخة الثانية من نظرية فريزر لم يكن الطقس الممثل هو أسطورة موت وانبعاث الإله، بل نقل روح الإله من ملك إلى آخر. ولا توجد أسطورة في ذلك في حقيقة الأمر على الإطلاق. فيطابق رَجْلان، من خلال جعل جوهر أساطير الأبطال فقدان العرش وليس الحصول عليه، بين أسطورة البطل وطقس فريزر المتمثل في التخلص من الملك. ويقابل الملك في الأسطورة الذي يفقد عرشه ثم حياته لاحقًا، الملك في الطقس الذي يفقد كليهما مرة واحدة. ولا تُعد الأسطورة التي يربطها رَجْلان بالطقس أسطورة عن الإله، بل إنها أسطورة عن البطل، الذي يكون شخصية أسطورية يُتوقع من الملوك الفعليين تقليده في إيثاره. وبصورة أدق إذن لا تمثل الأسطورة نص الطقس، كما هي الحال في السيناريو «الأول» من النظرية الطقوسية للأسطورة لفريزر، قدر ما تمثل مصدر إلهام للطقس.

نمط رَجْلان لأسطورة البطل، من كتاب «البطل»

(١) أم البطل عذراء ومن عائلة ملكية؛

(٢) أبو البطل ملك؛

(٣) عادةً أحد الأقرباء من الدرجة الأولى لأمه، لكن

(٤) ظروف حمله غير طبيعية،

(٥) وهو مشهور أيضًا باعتباره ابن إله.

(٦) وعند ميلاده، يتعرض لمحاولة القتل، عادة من أبيه أو جده لأمه، لكنه

(٧) ينتقل سحريًّا إلى مكان آخر،

(٨) ويتولى تربيته والدان بديلان في بلد بعيد.

(٩) لا نعرف شيئًا عن طفولته، لكن

(١٠) عند بلوغه سن الرجولة يعود أو يذهب إلى مملكته المستقبلية.

(١١) بعد تحقيق انتصار على الملك و/أو أحد العمالقة؛ تنين، أو وحش بري،

(١٢) يتزوج من أميرة، عادةً ابنة الملك السابق،

(١٣) ويصبح ملكًا.

(١٤) يحكم المملكة دون أية منغصات،

(١٥) ويسن القوانين، لكن

(١٦) يفقد تفضيل الآلهة له و/أو رعيته،

(١٧) ويُخلع من عرشه ويُطرد من المدينة، وبعدها

(١٨) يموت في ظروف غامضة،

(١٩) عادةً فوق قمة تل.

(٢٠) لا يخلفه أبناؤه، إن وجدوا.

(٢١) ولا يواري جثته الثرى، لكن

(٢٢) يُقام له ضريح مقدس أو أكثر.

على عكس أنماط تايلور وبروب، أو رانك أو كامبل، مثلما سنرى، يغطي نمط رَجْلان، مثل نمط فون هان، حياة البطل بأكملها.

يساوي رَجْلان بين بطل الأسطورة وإله الطقس. أولًا: يرتبط الملك بالبطل ليكون الإله؛ فالأبطال ملوك، والملوك آلهة. ثانيًا: تعتبر كثير من الأحداث في حياة البطل خارقة، خاصةً النقطتين ٥ و١١. وبينما يجب أن يموت البطل، فإنه يجب أن يتحقق جراء موته عمل إلهي؛ ألا وهو إحياء النباتات. ثالثًا: في كل من الأسطورة والطقس، يضمن التخلص من الملك بقاء الجماعة، التي ستموت جوعًا لو لم يمت الملك. وفي كل من الأسطورة والطقس يعتبر الملك مخلِّصًا.

fig9
شكل ٥-١: دوق ودوقة وندسور يوم زفافهما، يونيو ١٩٣٧، بعد تخلي إدوارد عن العرش.1

لا شك أن رَجْلان لا يتوقع على الإطلاق أن يناسب أدونيس هذا النمط. فبينما تبدو النقاط من ١ إلى ٤ منطبقة تمامًا على الأسطورة، فإنه لا ينطبق عليها سوى نقاط أخرى قليلة. على سبيل المثال، هناك محاولة تجري لقتل أم أدونيس، ولكن ليست من محاولة لقتل أدونيس نفسه، على الأقل في البداية (حتى النقطة ٦). وربما يُقال إن أدونيس قد نشأ وتربى على أيدي أبوين بديلين — أفروديت وبرسيفوني — في أرض بعيدة (النقطة ٨)، لكن لم يحدث ذلك لأنه انتقل بصورة سحرية إلى ذلك البلد البعيد (النقطة ٧). الأهم من ذلك أن أدونيس لم يصبح ملكًا قط، ومن ثم لم يكن هناك عرشٌ ليفقده، لكنه فقد حياته، ولم يحدث ذلك أثناء حكمه كملك، أو حتى بينما كان يعيش في المجتمع. ومن بين جميع الأمثلة التي ينتقيها رَجْلان، يعتبر المثال الأكثر ملاءمةً هو مثال أوديب. ومن أبطال الكتاب المقدس ممن قد يناسبون هذا النمط أيضًا شاول الملك. وعلى عكس فريزر، يتحفظ رَجْلان كثيرًا فلا يذكر مثال المسيح. ومن الأمثلة الحديثة التي تناسب نمط رَجْلان مثال الملك إدوارد الثامن ملك إنجلترا، الذي كان جوهر حياته تخليه عن العرش.

إن ما يهمنا في هذا الفصل هو مركزية الحبكة في نظرية رَجْلان. فيستند رَجْلان إلى شيوع الحبكة للدفع بأن معنى أساطير الأبطال يكمن في تلك الحبكة المشتركة، وأن جوهر الحبكة المشتركة هو فقدان العرش، وأن وجود الطقس المصاحب الخاص بقتل الملك يجعل التركيز الشائع في الأسطورة على خلع الملك منطقيًّا. ولا تقتصر النظرية الطقوسية للأسطورة لرَجْلان على جعل الحبكة هي سيناريو الطقس بل تدفع بنشوء الطقس من الحبكة.

هوامش

(1) © Bettmann/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤