الفصل السابع

الأسطورة والبنية

كلود ليفي-ستروس

لم يقتصر إسهام كلود ليفي-ستروس في دراسة الأسطورة — وهو ما جرت الإشارة إليه في الفصل الأول — على إحياء وجهة نظر تايلور في الأسطورة كمجال معرفي علمي في الأصل، بل تضمن أيضًا صياغة الأسلوب «البنيوي» في التعامل مع الأسطورة. تذكر أن الأسطورة في رأي ليفي-ستروس تعتبر مثالًا على التفكير في حد ذاته، حديثًا كان أو بدائيًّا؛ نظرًا لأنها تصنِّف الظواهر. ويرى ليفي-ستروس أن البشر يفكرون في صورة تصنيفات، خاصة في صورة أزواج من المتعارضات، ثم يطبقون ذلك على العالم. ولا تقتصر عملية التصنيف على الأسطورة والعلم، التي يتعامل معها ليفي-ستروس باعتبارها مجالات تنقسم إلى تصنيفات، بل تدلل مجالات الطهي، الموسيقى، الفن، الأدب، الزي، قواعد السلوك وآدابه، الزواج، والاقتصاد أيضًا على الميل البشري إلى تصنيف الأشياء في صورة أزواج.
في رأي ليفي-ستروس، يتمثل اختلاف الأسطورة عن هذه الظواهر في ثلاثة أشياء؛ أولًا: تعتبر الأسطورة أقل هذه الظواهر تنظيمًا فيما يبدو: «فيبدو أنه الممكن حدوث أي شيء في سياق الأسطورة. ولا يوجد [فيما يبدو] فيها أي منطق، أو أي تسلسل في الأحداث.» وتشير إمكانية تنظيم الأساطير إلى مجموعات من المتعارضات إلى إثبات — بما لا يقبل الدحض — أن النظام شيء كامن في جميع الظواهر الثقافية، وأن العقل يجب من ثم أن يتضمنه. ونقلًا عن ليفي-ستروس في بداية «مقدمة إلى علم الميثولوجيا»، كتابه المؤلف من أربعة مجلدات حول ميثولوجيا الأمريكيين الأصليين:

ستصبح التجربة التي أجريها حاليًّا في مجال الميثولوجيا أكثر حسمًا. إذا كان ممكنًا التدليل في هذا المثال، أيضًا، على أن الاعتباطية الظاهرة للعقل، والسريان التلقائي المفترض لخواطر الإلهام، وابتكاريته الجامحة ظاهريًّا تنطوي على قوانين تعمل على مستوى أعمق، سنستخلص حتمًا أنه عند ترك العقل للانفراد بنفسه دون التفاعل مع الأشياء الأخرى، سيُختزل العقل إلى عملية تقليد لنفسه كشيء … وإذا بدا العقل البشري عاقد العزم وحاسمًا لأمره في مجال الميثولوجيا، «فإنه من باب أولى» سيحسم أمره في جميع مجالات النشاط الأخرى.

(ليفي-ستروس، «النيئ والمطبوخ»، ص١٠)

ومثل تايلور، يلجأ ليفي-ستروس إلى طبيعة العقل التنظيمية للتدليل على أنها تنبثق أكثر من العمليات شبه العلمية للملاحظة والافتراض أكثر مما تنبثق من الخيال الجامح.

ثانيًا: تعتبر الأسطورة، إضافة إلى الطوطمية، الظاهرة الوحيدة البدائية بين الظواهر التي يعرض لها ليفي-ستروس. ويشير التدليل على نظام الأسطورة إلى أن صانعها منظم، ومن ثم منطقي ومفكر أيضًا.

ثالثًا: والأهم، لا تعبر الأسطورة وحدها عن المتعارضات فقط، وهي التي تكافئ المتناقضات، بل توِّفق بينها أيضًا: «فالهدف من الأسطورة هو توفير نموذج منطقي قادر على تجاوز أي تعارض.» وتوفق الأسطورة، أو بتعبير أكثر دقة، تخفف من حدة التعارض «جدليًّا» من خلال تقديم حد أوسط أو متعارضين متشابهين يسهُل التوفيق بينهما.

fig13
شكل ٧-١: كلود ليفي-ستروس.1

ومثل المتعارضات المعبَّر عنها في الظواهر الأخرى، فإن أنواع المتعارضات المعبَّر عنها في الأسطورة لا حصر لها. ويمكن اختزال جميع هذه المتعارضات بوضوح إلى أمثلة على التعارض الأساسي بين «الطبيعة» و«الثقافة»، وهو تعارض ينبثق من الصراع الذي يمر به البشر بين أنفسهم كحيوانات، ومن ثم كجزء من الطبيعة، وبين أنفسهم كبشر، ومن ثم كجزء من الثقافة. ويعتبر هذا الصراع إسقاطًا للطبيعة المتعارضة للعقل البشري على العالم. فالبشر لا يكتفون بالتفكير «بصورة متعارضة» بل يعيشون في العالم «بصورة متعارضة» أيضًا. بينما يبدو الأمر، إذن، كما لو أن ليفي-ستروس، مثل فرويد ويونج، يجعل موضوع الأسطورة العقل بدلًا من العالم، فإن الأمر ليس كذلك. فلا يسعى ليفي-ستروس مثلهم، إلى تحديد الإسقاطات للتخلص منها، إنما يسعى إلى تتبع مصدرها. (يرى ليفي-ستروس في الوقت نفسه أن العالم نفسه منظم «بصورة متعارضة» بحيث تتطابق الإسقاطات البشرية، فيما تحتفظ بطبيعتها، مع طبيعة العالم. ويقرر يونج الشيء نفسه في مذهب التزامن.) وبمجرد تتبع ليفي-ستروس لمصدر الإسقاطات، يمضي إلى التعامل معها باعتبارها خبرات بالعالم، بحيث يصبح موضوع الأسطورة بالنسبة إليه — مثلما هو مع بولتمان ويوناس وكامو — هو الاصطدام بالعالم؛ الاصطدام بالعالم ككيان متعارض، لا ككيان مغاير.

يتمثل أبرز الأمثلة على الصراع بين الطبيعة والثقافة في المتعارضات المتكررة التي يجدها ليفي-ستروس بين الطعام النيئ والطعام المطبوخ، والحيوانات البرية والمستأنسة، وزنا المحارم والزواج من خارج الجماعة. ولا يبدو واضحًا كيف ترمز المتعارضات الأخرى التي يجدها — مثل تلك بين الشمس والقمر، الأرض والسماء، الساخن والبارد، المرتفع والمنخفض، اليسار واليمين، الذكر والأنثى، والحياة والموت — إلى الانقسام بين الطبيعة والثقافة بدلًا من أن ترمز إلى الانقسام داخل الطبيعة. وبالمثل، لا يبدو واضحًا على الإطلاق كيف ترمز متعارضات مثل تلك بين الأخت في مقابل الزوجة، والقرابة من جهة الأم في مقابل القرابة من جهة الأب، إلى شيء آخر بخلاف الانقسام في إطار المجتمع، ومن ثم في إطار الثقافة.

بحسب ليفي-ستروس، تخفف أسطورة أوديب من حالة الصدام بين الطبيعة والثقافة من خلال الإشارة إلى أن البشر يسمحون بوجود حالة موازية من الصدام:

على الرغم من عدم إمكانية حل [توفيق] المشكلة [التعارض] بوضوح، تقدِّم أسطورة أوديب أداة منطقية تحل محل المشكلة الأساسية، إذا جاز التعبير عن ذلك بصورة مباشرة تمامًا … فمن خلال إقامة علاقة ترابطية من هذا النوع [بين التعارض الأصلي والتعارض الشبيه]، تكافئ العلاقة بين تعظيم شأن علاقات القرابة بالتقليل من شأنها [وهو التعارض الأكثر قبولًا] العلاقة بين محاولة الهروب من الموطنية باستحالة النجاح في الهروب منها [وهو التعارض المطلوب التوفيق بين طرفيه المتعارضين].

(ليفي-ستروس، «الدراسة البنيوية للأسطورة»، ص٨٢)

لم يرتب ليفي-ستروس عناصر الأسطورة وفق الترتيب الزمني للحبكة، بل وفق الترتيب المتكرر لمجموعتَي الأزواج المتعارضة، وبذلك يذهب إلى أن الأسطورة تخفف من حدة الصراع في إطار زوج واحد من المتعارضات، من خلال وضعها جنبًا إلى جنب مع زوج آخر مقبول لبيان الاختلاف بينهما. ويتمثل الزوج المتعارض المقارن في «التعظيم» و«التقليل» من شأن «علاقات القرابة». ويشير التعظيم إلى ارتكاب زنا المحارم؛ (أن يتزوج أوديب أمه)، أو مخالفة أحد المحرمات باسم العائلة؛ (أن تدفن أنتيجون أخاها بولينيسس). ويشير «التقليل» إلى قتل الأخ أخاه؛ (أن يقتل إتيوكليس أخاه بولينيسس)، أو قتل الأب؛ (أن يقتل أوديب أباه). ويمثل التعظيم الطبيعة نظرًا لأنه غريزي، بينما يمثِّل التقليل الثقافة نظرًا لأنها مصطنعة. وبينما يحلل ليفي-ستروس أسطورة أوديب، ويركِّز على القتل والجنس في العائلة الواحدة، يبدو متبعًا لفرويد، غير أنه يستبعد تحليل فرويد باعتباره صورةً أخرى من الأسطورة نفسها، بدلًا من اعتباره تحليلًا أقل قيمة لها.

في أسطورة أوديب، التعارض المطلوب قبوله هو التعارض بين «إنكار» و«تأكيد» «الأصل الموطني». ويشير الإنكار إلى قتل الوحوش التي تنشأ من الأرض وتمنع ميلاد البشر؛ (قتل قدموس للتنين الذي نبت البشر من أسنانه التي زرعها قدموس في الأرض)، أو تهديد بقاء البشر؛ (قتل أوديب للهولة الذي يتسبب في جوع أهل طيبة). ويشير التأكيد إلى الارتباط الميثولوجي المشترك بين البشر المستنبتين من الأرض ووجود صعوبات في السير (يشير اسم أوديب إلى «صاحب القدم المتورمة».) ويشير قتل الوحوش التي تولد من الأرض إلى إنكار صلة البشر بالأرض، ويشير تسمية البشر بناءً على وجود صعوبة في السير إلى تأكيد صلة البشر بالأرض. ويمثل الإنكار الطبيعة؛ نظرًا لأن البشر يولدون لآباء من البشر وليس من الأرض، فيما يشير التأكيد إلى الثقافة؛ نظرًا لأن الميثولوجيا ترى أن البشر يولدون من الأرض. ولا يكشف ليفي-ستروس أبدًا عن كيفية تقبل اليونانيين القدماء لمجموعة واحدة من المتعارضات بصورة أكثر يسرًا من المجموعة الأخرى.

في المقابل، تفشل الأساطير الأخرى في تجاوز المتعارضات إلى هذا القدر. وتبين هذه الأساطير أن أي ترتيب بديل سيكون أسوأ. على سبيل المثال، تعمل أسطورة أسديوال الخاصة بقبيلة تسيميهيان الأمريكية الأصلية على:

تبرير أوجه القصور [المتعارضات أي المتناقضات] التي ينطوي عليها الواقع، بما أن المواقف المتطرفة [البديلة] يجري تصورها فقط لبيان صعوبة الدفاع عنها.

(ليفي-ستروس، «دراسة أسطورة أسديوال»، ص٣٠)
وبدلًا من حل التعارض بين الموت والحياة، تجعل الأسطورة الموت أعلى مرتبة من الخلود، أو الحياة الأبدية:

يفسر هنود أمريكا الشمالية ذلك من خلال القول بأن الموت إن كان غير موجود، فإن الأرض ستعتمر بسكان كثيرين للغاية، ولن يوجد مكان لأحد.

(ليفي-ستروس، نقلًا عن أندريه أكون وآخرين، «مقابلة مع كلود ليفي-ستروس»، ص٧٤)

نظرًا لأن الأسطورة تتعلق بالخبرة الإنسانية بالعالم، فضلًا عن التعبير عن أعمق المخاوف التي يشعر بها الإنسان في العالم، فإنها تمتلك فيما يبدو معنى وجوديًّا، كما هي الحال في بولتمان، ويوناس، وكامو. في المقابل، يتعامل ليفي-ستروس مع الأسطورة، مثل تايلور، باعتبارها ظاهرة فكرية باردة؛ إذ تشكِّل المتعارضات المعبَّر عنها في الأسطورة ألغازًا منطقية أكثر منها مأزقًا وجوديًّا. وتتضمن الأسطورة التفكير، وليس المشاعر. في الوقت نفسه، تنطوي الأسطورة على عملية التفكير أكثر من محتواها. وبذلك يستبق ليفي-ستروس هنا مجال بحث علماء النفس الإدراكيين المعاصرين.

في تسمية أسلوبه في تناول الأسطورة «بنيوي»، يهدف ليفي-ستروس إلى تمييزها عن التفسيرات «السردية»، أو تلك التي تلتزم بحبكة الأسطورة، وهو ما تلتزم به جميع النظريات الأخرى التي طرحناها هنا. وأيًّا كان معنى هذه النظريات سواء حرفي أو رمزي، فإنها تعتبر الأسطورة قصة، تتطور من بداية إلى نهاية. ومما لا شك فيه، لا تهتم جميع هذه النظريات بحبكة الأسطورة بالمثل. على سبيل المثال، بينما يهتم ليفي-بريل برؤية العالم الكامنة في الأسطورة، لا يزال يعزي حبكة ما إليها. في رأي تايلور، في المقابل، تعتبر الحبكة مركزية: إذ تقدِّم الأسطورة العملية التي جرى من خلالها خلق العالم أو الطريقة التي تسير بها الأمور فيه.

لا يوجد سوى ليفي-ستروس الذي يتخلى عن حبكة الأسطورة، أو «بُعد التطور الزمني» لها ويحدد معنى الأسطورة في البنية، أو «البعد التزامني». وبينما تتمثل حبكة الأسطورة في أن الحدث (أ) يؤدي إلى الحدث (ب)، الذي يؤدي إلى الحدث (ج)، الذي يؤدي إلى الحدث (د)؛ تتمثل البنية، التي تعتبر متماثلة مع التعبير عن المتعارضات والتوفيق بينها، في أن الحدثين (أ) و(ب) يشكلان معًا تعارضًا يتوسطه الحدث (ج)، أو أن الحدثين (أ) و(ب)، اللذين يشكلان معًا التعارض نفسه، يمثلان بعضهما لبعض ما يمثله الحدثان (ج) و(د) بعضهما لبعض؛ أي تعارض مشابه.

تشتمل كل أسطورة على سلسلة من المجموعات المتعارضة، تتألف كل مجموعة من زوج من المتعارضات التي يجري التوفيق بينها بصورة أو بأخرى. وتتوافق العلاقة فيما بين المجموعات مع العلاقة فيما بين العناصر في داخل كل مجموعة. وبدلًا من أن تفضي المجموعة الأولى إلى المجموعة الثانية، التي تفضي إلى المجموعة الثالثة، التي تؤدي بدورها إلى المجموعة الرابعة؛ تتوسط المجموعة الثالثة التعارض بين المجموعة الأولى والمجموعة الثانية، أو تمثل المجموعة الأولى للمجموعة الثانية ما تمثله المجموعة الثالثة للمجموعة الرابعة.

المعنى البنيوي للأسطورة غير تراكمي ومتشابك؛ غير تراكمي نظرًا لأن الأسطورة تشتمل على سلسلة من التوفيقات بين المتعارضات التي تعبر عنها أكثر من اشتمالها على توفيق واحد يتم بصورة تدريجية. وبينما تقدِّم كل ثلاث أو أربع مجموعات توفيقًا للتعارض، فإنه وفق أي من الطريقتين المذكورتين، لا تقدم الأسطورة ككل توفيقًا للتعارض؛ بناءً عليه، يعتبر معنى الأسطورة دوريًّا أكثر منه خطيًّا، متكررًا أكثر منه تصاعديًّا. ولا تمثل كل دورة من ثلاث أو أربع مجموعات — مثل كل دورة لثلاثة أو أربعة عناصر داخل كل مجموعة — النتيجة المترتبة بل «التحول»، أو تعبيرًا مغايرًا لسابقتها.

ويعتبر المعنى البنيوي للأسطورة متشابكًا؛ نظرًا لأن معنى أي عنصر داخل أية مجموعة لا يكمن فيه نفسه، بل في علاقته «الجدلية» مع العناصر الأخرى في المجموعة. بالمثل، لا يكمن معنى أية مجموعة فيها نفسها، بل في علاقتها «الجدلية» مع المجموعات الأخرى. ولا يمتلك أي عنصر أو مجموعة معنًى في ذاته، حرفيًّا كان أو رمزيًّا.

تمتلك الأسطورة نفس العلاقة التشابكية وغير التراكمية مع الأساطير الأخرى مثلما تمتلك أجزاؤها العلاقات نفسها مع بعضها. ولا يكمن معنى الأسطورة فيها نفسها بل في علاقتها «الجدلية» مع الأساطير الأخرى، وتمثل المجموعة التي تتكون من هذه الأساطير «التحول» أكثر من كونها تمثِّل النتيجة المترتبة على الأسطورة السابقة عليها. أخيرًا، تمتلك الأساطير في مجملها العلاقة نفسها مع الظواهر الإنسانية الأخرى، بما في ذلك الطقوس، مثلما تمتلك الأساطير الفردية العلاقة نفسها مع بعضها. في نسخة ليفي-ستروس الفريدة من النظرية الطقوسية للأسطورة، تعمل الأساطير والطقوس معًا، كمتعارضات بنيوية أكثر منها متناظرات، مثلما يذهب علماء النظرية الطقوسية للأسطورة.

فلاديمير بروب وجورج دوميزيل ومدرسة جرنيه

لا يعتبر ليفي-ستروس هو المنظِّر الوحيد للأسطورة أو حتى الأقدم الذي يصف المنهج الذي يستخدمه بأنه بنيوي. فمن الجدير بالملاحظة أنه كان لكل من عالم التراث الشعبي الروسي فلاديمير بروب (١٨٩٥–١٩٧٠) وعالم الثقافة الهندية-الأوروبية الفرنسي جورج دوميزيل (١٨٩٨–١٩٨٦)؛ كتاباتٌ حول هذا الموضوع قبل ليفي-ستروس وبصورة مستقلة عنه. تتمثل الحبكة المشتركة، التي سبق تلخيصها في الفصل الذي تحدثنا فيه حول الأسطورة والأدب، والتي يفك بروب شفرتها في الحكايات الشعبية الروسية، في البنية التي يطرحها. وعلى عكس بنية ليفي-ستروس، الذي يزدري جهود بروب للسبب التالي، تظل بنية بروب في مستوى السرد ومن ثم لا تختلف عن نوع «البنية» الموجودة في أطروحات كل من أوتو رانك، وجوزيف كامبل، واللورد رَجْلان. في المقابل، بينما تكمن البنية التي يكشف عنها دوميزيل في مستوى يقع تحت المستوى السطحي كما هي الحال في بنية ليفي-ستروس، فإنها تعكس نظام المجتمع وليس نظام العقل، كما هي الحال في بنية ليفي-ستروس، كما تتألف من ثلاثة أجزاء وليس جزءين.

ولقد أثبتت مجموعة من دارسي الحضارة اليونانية والرومانية القديمة الفرنسيين الذين كان مصدر إلهامهم لوي جرنيه ويترأسهم جون-بيير فرنان (١٩١٤–٢٠٠٧)؛ ولاءهم الكامل لبنيوية ليفي-ستروس، حتى إنهم تبنوها منهجًا. كان يُلقى باللائمة على ليفي-ستروس بصورة منتظمة بسبب عزل الأسطورة عن سياقاتها المتعددة، الاجتماعية، الثقافية، السياسية، الاقتصادية، بل الجنسية. وفي مقاله حول أسطورة أسديوال، يقدم ليفي-ستروس تحليلًا إثنوجرافيًّا مفصلًا للأسطورة، فاحصًا ودامجًا العوامل الجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والكونية، إلا أنه لا يفعل ذلك في أي موضع آخر. واتخذ فرنان وزملاؤه من دارسي الحضارة اليونانية والرومانية — خاصةً مارسيل ديتيان، وبيير فيدال-ناكي، ونيكول لورو — من تحليل أسطورة أسديوال نموذجًا لهم. وبوصفهم ورثة لما تركه ليفي-ستروس، سعى هؤلاء العلماء إلى فك شفرة الأنماط المؤسسة للأساطير والكامنة فيها في كثير من الأحيان، لكنهم سعوا فيما بعد إلى ربط هذه الأنماط بالأنماط الموجودة في الثقافة بصورة عامة.

مارسيل ديتيان حول أدونيس

كرَّس دارس الحضارة اليونانية والرومانية الفرنسي مارسيل ديتيان (ولد عام ١٩٣٦)، كتابًا كاملًا لأسطورة أدونيس بعنوان «حدائق أدونيس»، وكان في ذلك الوقت تابعًا مخلصًا لليفي-ستروس. بينما يعتبر أدونيس في رأي فريزر قوة غير شخصية أكثر منه إلهًا، اعتُبر أدونيس في رأي ديتيان بشرًا أكثر منه إلهًا. بينما يرمز أدونيس في رأي فريزر للنبات، يرمز — بل يوازي — أحد أشكال النبات في رأي ديتيان إلى أدونيس. بينما يموت أدونيس ثم يُبعث في رأي فريزر سنويًّا، مثل النباتات، ينمو أدونيس بسرعة، مثل النباتات المرتبطة به، ثم يموت بسرعة، مرة واحدة إلى الأبد. والأدهى من ذلك، بينما يكمن معنى الأسطورة في رأي فريزر في الحبكة — الميلاد، المراهقة، الموت، والبعث — يكمن المعنى للأسطورة في رأي ديتيان في العلاقة الجدلية بين عناصر الحبكة: الشخصيات، الأماكن، الأزمنة، والأحداث.

في رأي ديتيان، سائرًا على نهج ليفي-ستروس، توجد هذه العلاقة الجدلية في عدة مستويات، نباتية، فلكية، موسمية، دينية، واجتماعية. وفي كل مستوى من المستويات توجد منطقة وسط بين النقائض المتطرفة. وتتناظر المستويات فيما بينها، ولا ترمز إلى بعضها. فتشبه العلاقةُ بين العناصر في مستوى الغذاء العلاقةَ بين العناصر في المستوى النباتي. في المقابل، يرتبط المستوى الغذائي — حيث تقع الحبوب واللحم المطهي بين التوابل في أحد الأطراف والخس واللحم النيئ على الطرف الآخر — ارتباطًا وثيقًا بالمستويات الأخرى.

يربط ديتيان أولًا بين التوابل والآلهة، وبين الحبوب واللحم المطهي والبشر، وبين الخس واللحم النيئ والحيوانات. يجري حرق التوابل خلال طقوس تقديم القرابين إلى الآلهة، فتصعد رائحة الحريق إلى الآلهة، التي تستنشقها كمكافئ للغذاء. ونظرًا لأن اللحم مطهو وغير محروق، يأخذه البشر، الذين يزرعون الحبوب أيضًا. ومثلما يذهب اللحم المحروق إلى الآلهة في صورة أدخنة، يذهب اللحم النيئ إلى الحيوانات، التي يربط ديتيان بينها وبين الخس. بالإضافة إلى ذلك، يجري الربط بين التوابل والآلهة بسبب علاقتها بالشمس ومن ثم بقمة جبل الأوليمب، الذي يمثل المكان الذي يعلو الأرض في الخيال اليوناني. ولا يجري حرق التوابل عن طريق الشمس فحسب، بل إن بذورها تنمو حيث ومتى كانت أقرب إلى الشمس، في أكثر الأماكن حرارة وفي أكثر أيام الصيف حرارة. في المقابل، يعتبر الخس باردًا ومن ثم يرتبط بأكثر الأماكن والأوقات برودة؛ العالم الموجود أسفل الأرض — البحار والعالم السفلي — والشتاء. ولا يؤكل اللحم النيئ إلا «باردًا».

تقع الحبوب واللحم المطهي بين التوابل من جانب، والخس واللحم النيئ من جانب آخر. ومثلما يجب طهي اللحم، في رأي البشر، بدلًا من حرقه أو أكله نيئًا، تحتاج الحبوب، حتى تنمو، إلى بعض حرارة الشمس وليس التعرض إليها كثيرًا: «في منطقة وسط على النطاق الجغرافي، تقع على مسافة كبيرة من حرارة الشمس النباتات الصالحة للأكل، والحبوب والفواكه.» ومن ثم لا تُزرع الحبوب فوق الأرض أو تحت الأرض، ولكنها تُزرع داخل الأرض. وبينما يجري جمع بذور التوابل إذن خلال فصل الصيف والخس خلال فصل الشتاء إلى حد ما، يجري حصاد المحاصيل في فصل الخريف بين هذا وذاك.

ترتبط التوابل بالآلهة لأسباب أخرى. تُجمع بذورها أكثر مما تُزرع، ولا تتطلب مجهودًا ومن ثم تناسب حياة الآلهة. في المقابل، بينما لا تعمل الحيوانات، التي تأكل ما تجده، للحصول على عشائها، تأكل الآلهة ما ترغب فيه. تأكل الحيوانات ما تجده فقط. إذن، لا تضطر الآلهة إلى أن تعمل لتتناول غذاءً أفضل من غذاء البشر. وتارة أخرى، يقع البشر في منطقة وسيطة. بينما يجب أن يعمل البشر للحصول على الغذاء، وعندما يعملون يجدون ما يكفي، بالكاد أحيانًا، من الغذاء. وفي قصيدة الشاعر اليوناني هسيود «العصر الذهبي»، كان البشر مثل الآلهة تمامًا؛ نظرًا لأن لديهم الكثير لتناوله دون الحاجة إلى العمل. ومستقبلًا، سيصير البشر مثل الحيوانات، يرفضون العمل، ومن ثم يصبحون جوعى.

لا ترتبط التوابل بالآلهة فقط بل أيضًا بالفوضى الجنسية. وبدلًا من جعل الفوضى الجنسية امتيازًا إلهيًّا، يجعل ديتيان من زيوس وهيرا الزوجين المثاليين حتى في ظل مغامرات زيوس: «يؤكد الزوج زيوس-هيرا على التقديس الطقوسي الذي يصدق على وحدة الزوج والزوجة.» ولا ترتبط الآلهة بل التوابل، من خلال شذاها العطري، ومن ثم إغوائها، بالفوضى الجنسية: «في صورة دهانات، وروائح، ومنتجات تجميلية أخرى تؤدي [التوابل] أيضًا وظيفة جنسية.» لا يعتبر من قبيل المصادفة، إذن، أن تتخلل التوابل كل شيء في مهرجان أدونيا، الذي كان يجري الاحتفال به خلال أكثر الأيام حرارة، فضلًا عن سمعته السيئة بتوفر الفوضى الجنسية خلال فعاليته. في المقابل، يربط ديتيان الخس واللحم النيئ — وليس الحيوانات — بالعقم والتبتل. يرجع ذلك إلى أن الرائحة الكريهة للحم الفاسد، إن لم يكن النيئ — إذ يساوي ديتيان بين الاثنين إلى حد ما — تُبعد بدلًا من أن تجذب ومن ثم تمنع ممارسة الجنس. ليس من قبيل المصادفة إذن أن يزدرى رجال جزيرة لمنوس النساء فيها لرائحتهن النتنة.

وبين الفوضى الجنسية من جانب والعقم أو التبتل من جانب آخر يقع الزواج الذي يرتبط بمهرجان الثسموفوريا، مثلما يشير ديتيان. على الرغم من منع الرجال من المشاركة فيه، كان المهرجان، الذي كان يُحتفل به سنويًّا في أثينا لمدة ثلاثة أيام، يحتفي بالزواج. كانت الإناث المشاركات جميعهن متزوجات. وبين شذا أدونيا والرائحة النتنة لإناث لمنوس، كانت الرائحة السيئة في المهرجان تهدف إلى إبعاد الرجال خلال فترة المهرجان فقط.

يربط ديتيان بين هذه المستويات الثلاثة جميعًا بحياة أدونيس وبالحدائق الطقوسية المخصصة له. في كل مستوى من المستويات، كما يذهب ديتيان، يوجد أدونيس في أحد طرفي النقيض وليس في المنطقة الوسطى. يقفز أدونيس من طرف نقيض إلى طرف آخر، متخطيًا منطقة الوسط. ويمثِّل مصير أدونيس مصير أي إنسان يجرؤ على التصرف كإله؛ إذ يجري سخطه إلى حيوان. وفي اجترائه على الفوضى الجنسية، يكشف الإنسان عن عجزه الجنسي.

في رأي ديتيان، باعتباره عالمًا ينتهج النهج البنيوي، «تتناظر» الأطراف المتناقضة في كل مستوى، دون أن «ترمز» إلى حياة أدونيس. ففي كل مستوى من المستويات تمثِّل الأطراف المتناقضة بالنسبة إلى المنطقة الوسطى ما يمثله أدونيس بالنسبة إلى البشر العاديين. بينما تستخدم الأسطورة في رأي فريزر البشر لترمز إلى القوى غير الشخصية للطبيعة، تستخدم الأسطورة القوى غير الشخصية للطبيعة كشيء مشابه للسلوك الإنساني.

تنطوي حدائق أدونيس، التي يجري زراعتها خلال مهرجان أدونيا، على القليل من العمل؛ إذ تنمو النباتات على الفور، وتناظر عملية العناية بها الحياة المرفهة للآلهة. وفي حقيقة الأمر، تشبه الحدائق توابل الآلهة، حيث يجري جمع النباتات فقط، دون زراعتها، وتنمو في أكثر الأماكن والأوقات حرارة. ويجري نقل النباتات إلى أسطح المنازل في أوج فصل الصيف. وبينما تستغرق المحاصيل العادية ثمانية أشهر لتنمو، لا يستغرق نمو النباتات سوى ثمانية أيام. بينما تتطلب المحاصيل العادية قوة الرجال، ترعى النساء الحدائق. على عكس التوابل، تفنى الحدائق بمجرد نمو النباتات فيها، وعلى عكس المحاصيل العادية تموت دون أن تنتج غذاءً. ولأنها بدأت فوق الأرض، ينتهي المطاف بها تحت الأرض، ويُزج بها في البحر. باختصار، تعتبر الحدائق وسيلة «إثراء سريع» عقيمة للحصول على الطعام دون أي عمل. فبينما لا تحتاج الآلهة للعمل، يجب أن يعمل البشر. وعندما يسعى البشر للحصول على «الطعام السريع» بدلًا من الطعام العادي، لا يحصلون على أي طعام.

يرتبط أدونيس نفسه بالتوابل من خلال أمه، ميرا، التي تصبح شجرة مر. تجري عملية حمل أدونيس في الشجرة، ويتطلب ميلاده خروجه منها. وفي رواية أوفيد، تحمم حوريات الغابة الرضيع في سائل المر الذي تكوَّن من دموع أمه. والأدهى من ذلك، يرتبط أدونيس بالتوابل من خلال الفوضى الجنسية؛ فلعدم قدرتها على التحكم في رغبتها، ترتكب أم أدونيس زنا المحارم مع أبيها. وبسبب عدم قدرتهما على التحكم في رغبتيهما، تتصارع أفروديت وبرسيفوني — وفق رواية أبولودورُس — على حضانة الرضيع أدونيس. ويعتبر أدونيس نفسه — في رأي ديتيان — مغويًا للإلهتين أكثر منه ضحية بريئة للإغواء الإلهي.

يُعتبر أدونيس مُغويًا سابقًا لأوانه؛ ومثل الحدائق، ينمو بسرعة. في المقابل، مثل الحدائق أيضًا، يموت بسرعة. ومثلما تموت الحدائق قبل أوانها قبل أن تنتج غذاءً، يموت أدونيس أيضًا قبل أوانه قبل أن يتزوج وينجب أطفالًا. وبعد أن بدأ حياته بفوضى جنسية، ينتهي عقيمًا. في المقابل، فإن أمه، التي بدأت عقيمة أو على الأقل غير راغبة في الجنس كثيرًا — إذ رفضت جميع الذكور — أصبحت تعيش في فوضى جنسية على أقل تقدير. وبالقفز من طرف نقيض إلى طرف نقيض آخر، ترفض الأم والابن بل تهددان المنطقة الوسطى للزواج.

لا يتخذ عقم أدونيس شكل الطفولية فحسب بل التخنُّث؛ إذ يكشف موته عن طريق الخنزير البري عن عدم قدرته على ممارسة الصيد الذكوري. فبدلًا من أن يكون صيادًا، يصير الفريسة. ومثله مثل «بطل نقيض مثالي لنموذج البطل المحارب مثل هركليز»، لا يعتبر أدونيس «أكثر من ضحية ضعيفة وشخص مثير للشفقة.» وبينما تشير خنوثة أدونيس إلى وجود فجوة غير كافية بين الذكورة والأنوثة، يشير رفض أمه لجميع الذكور في البداية إلى العكس. وتارة أخرى، يقع النموذج المثالي في منطقة وسط؛ فيجب أن يرتبط الذكور والإناث ويجب أن يظلا متمايزين.

ومثلما يربط ديتيان بين الفوضى الجنسية لأدونيس والتوابل، يربط أيضًا بين عقم أدونيس وموته ونبات الخس الذي، في تنوعيات كثيرة للأسطورة، يحاول أدونيس إخفاءه عبثًا بعيدًا عن متناول الخنزير البري. وكما أن نبات المر «يمتلك القدرة على إثارة شهوات رجل مسن»، «يمتلك» الخس «القدرة على إطفاء لهيب المحبين الشباب»؛ إذ «يجلب» الخس «العجز الجنسي الذي يساوي الموت.»

إيجازًا، لا يعلم أدونيس مكانه. لا يعلم أدونيس أنه ليس إلهًا أو حيوانًا بل بشرٌ، وأن ما يميزه كبشر هو الزواج. وبموته قبل زواجه، يفشل أدونيس في تحقيق طبيعته البشرية.

إذا كان «معنى» الأسطورة في رأي ديتيان يتمثَّل في عرض سلسلة لانهائية من المستويات، تؤدي الأسطورة «وظيفة» اجتماعية. فتدعو إلى الزواج كمنطقة وسطى بين الفوضى الجنسية من جانب والعقم أو التبتل من جانب آخر. وفي الفصل التالي، سأطرح وجهة نظر تتمثل في أن الأسطورة تدعو إلى الزواج كحامي للدولة المدينة.

هوامش

(1) © Veldman Annemiek/Corbis Kipa.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤