الحُب فوق هَضْبة الهرم

١

أريد امرأة، أية امرأة.

إنها صرخةٌ مُدوِّية، انبعثت أول ما انبعثت من جوانحي على هيئة همسات من الذهول، همسات من الأنين، همسات من الغضب، ثم انفجرت صرخةٌ مُدوِّية؛ ما هي بالأنانية، ما هي بالبهيمية، ما هي باللامُبالاة. إني أزعم بأني مُواطن بدرجةٍ مقبولة، بل إني أيضًا إنسان بدرجة لا بأس بها. رأسي شهد حوارًا طويلًا عن الفقر والتخلف والسلام والديمقراطية والتموين والمواصلات والطُّرق، به موضع أيضًا لهموم الأسرة الكبيرة كالصراع بين الشرق والغرب، تلوُّث البيئة، نُضوب المواد الأولية، العلاقة بين العالم المتطور والعالم الثالث، احتمالات الحرب النووية؛ إذَن فالوعي آخى بيني وبين المواطن والإنسان، غير أنني لم أعُد أُفكِّر بشيء من ذلك، أو أن تفكيري به فنيَ وتقهقر وذاب في اللامبالاة. أنَجم ذلك عن خمود في العاطفة أو الفكر أو التعلق بالحياة؟ كلا، وأقسم على ذلك. المسألة أنني ما إن ختمت حياتي المدرسية حتى التحقت بالوظيفة؛ ومن ثَم خبرت الفراغ والبطالة. عند ذاك تضخَّمت همومي الشخصية، استأثرت بوعيي كله، ركِبتني، اجتاحتني، استعبدتني، أصابتني بالهوس. باتت أي مشكلة سِواها ترفًا، لهوًا، سخفًا. الجنس أصبح محور حياتي وهدفها، انقلب وحشًا ذا مخالب وأنياب، قوة مطاردة مهددة، يُطالب بالممكن ويطمح إلى المستحيل. خلق مني كائنًا جنسيًّا خالصًا، ذا حواس جنسية، وأخيلة جنسية، وآمال جنسية، وأحلام جنسية. على ذلك فإنني أبعد ما يكون عن الاستهتار أو المجون، رافض للإباحية وفلسفاتها. أروم الحياة الشرعية المستقرة، ألتمس إليها الوسيلة بلا شروطٍ مُتهورة أو طموح كاذب أو طمع قبيح. أنشد حقًّا حيويًّا أوليًّا لا أدري كيف أهتدي إليه.

ولكن من أنا؟

٢

علي عبد الستار، في السادسة والعشرين من عمري، ليسانس حقوق، موظف بالشركة أ. د. س. وُلدت مع الثورة، ناهزت الحُلم عام ١٩٦٧ المشئوم، نِلت ليسانس الحقوق عام ١٩٧٤، أُلحقت بالشركة عام ١٩٧٥. كنت من حملة الثانوية علمي، وكان أملي أن أتخصَّص في الصيدلة أو الكيمياء. خانني المجموع، حملني تيَّار التنسيق إلى كلية الحقوق بشهادتي العلمية. ما خطر لي أبدًا أن أدرس القانون، ولكنني نجحت بقوة الإرادة؛ إكرامًا لعناء أسرتي المكافحة، خوفًا من التشرد والجوع. ولما أُلحقت بشركة أ. د. س. عُيِّنت بإدارة العلاقات العامة. غنيٌّ عن البيان أنني كنت زائدًا عن الحاجة. خُيِّل إليَّ أن الزائدين أكثر من العاملين. وقال لي وكيل الإدارة: احجز كرسيًّا.

ثم قال بنبرة ساخرة: قد يتعذر ذلك غدًا. مَنظرك مقبول، تصلح للعلاقات العامة، ولكنك ستبقى بلا عمل حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا.

فقلت بهدوء: عندي فكرة عن كل شيء.

– عظيم. ستبقى أيضًا بلا مكتب حتى نُراجع المخازن، أصبحنا في حاجة إلى حجرة إضافية. لماذا لا يسمحون للموظفين الجدد بالبقاء في بيوتهم مع الاحتفاظ لهم بحقوقهم في العلاوات والترقيات؟

فقلت بغيظٍ مكتوم: اقتراحٌ وجيه جدًّا.

– ولكن لا بد من التوقيع في دفتر الحضور والانصراف.

هكذا التحقت بالخدمة، وهكذا استقبلت عهدًا من الفراغ المطلق لا خبرة لي به من قبل، فيما مضى استأثرت الدراسة بحيويَّتي، ولم تخلُ العطلات من الاطلاع وأنشطة الشباب. إلى ذاك فقد انتفعت بنشأة أسرية دافئة تعبق بعطر الدين والقيم. ولما انبثق الجنس استطعت أن أُروِّضه بالخلق والعمل والأمل. أما في عصر الفراغ فقد انفرد بي، كما انفرد بي الزمن في جريانه، وتساءلت متى .. وكيف. جلست على الكرسي كمن ينتظر دوره في تحقيق، أُراقب أقراني العاطلين، وآخرين يذهبون بالأوراق ويجيئون، وامرأتَين كهلتين مُتزوِّجتين، بين نوافذ مُغلَقة لتصدَّ تيار الخريف البارد، في جو فاسد بأنفاس البشر والسجائر، ومن زجاج النوافذ أتطلَّع إلى شرفات العمارة المقابلة مُترقبًا ظهور أنثى. وطيلة الوقت أتخيَّل مناظر جنسية ومواقف، وأخوض مغامراتٍ غاية في البراعة والعذاب. وسمعت حوارًا بين الوكيل وزميل له من معارفه: كيف وجدت الفراغ؟

– لا يُطاق.

– على أيامنا كانت الوظيفة حلمًا عزيز المنال، فاذكروا نعمة الله عليكم.

– وما قيمة النقود؟

– هي خير من الشارع.

تبادلت مع الزميل، عقب ذهاب الوكيل، نظرةً شاحبة مثل جو الحجرة، وقلت له: هنيئًا لنا؛ فنحن محسودون.

وتعلمت أن أتسلل إلى شارع قصر النيل مع الضحى. تعلَّمت الصعلكة. إنها مُسلية ومُفيدة ومُنشطة في الجو الآخذ في البرودة، وهي مُضحِكة أيضًا وهي تخوض في بحر مُتلاطم الأمواج من البشر والسيارات والأصوات المُزعجة. طابعه — الشارع — الضيق والعصبية والكبت. كل شيء يريد أن ينطلق ويعجز عن الانطلاق يستوي في ذلك الإنسان والسيارة؛ الكبت والقهر والتذمر. الطريق يُعاني من أزمةٍ جنسية مثل أزمتي. إنه يفتقد الشرعية والحرية والإشباع، ومع ذلك فهو مغطًّى بالتراب كأنه يتهادى في مدينةٍ خيالية، ولكني لم أُعنَ إلا برصد النساء. هن همي وشغلي وحياتي ومماتي. وجعلت أبلُّ ريقي الجافَّ بمضغ اللبان، وتنتقل نظراتي المحمومة من السيقان إلى الصدر إلى الأعيُن. وكدت أفقد حياتي ذات مرة؛ كنت أهمُّ بعبور الطريق حين اقتحمني صدر ناهد فسحرني واستولى عليَّ، قذف بي في أعماق الهو. اندفعت إلى العبور دون أن ألتفت يمنةً كما ينبغي لي، وإذا بسيارة تنقضُّ عليَّ كالقذيفة. نظرت نحوها فأيقنت بالنهاية، لا وقت للرجوع ولا للتقدم. استسلمت استسلامًا نهائيًّا، وتقوَّس ظهري لتلقِّي الضربة القاضية. تجلَّت لي حقيقة الموت لا كفكرة مجردة مُسلَّم بها، ولكن كشعور يملأ الوجدان بثقله وقوته وإقناعه. صرخ بي أن هكذا أجيء عندما يتقرَّر ذلك، وهكذا تنتهي الحياة في غمضة عين. خُيِّل إليَّ أني رأيت وجهه مُجسَّدًا في اللحظة الخاطفة التي لا يكشف عن وجهه إلا فيها. وحيال نظرته الواثقة مرَّ بسرعة البرق شريط حياتي من المهد إلى اللحد؛ لا وجهه أدري كيف أصفه ولا حياتي أدري كيف رأيتها مجتمعة في أقل من ثانية. وبلغ الخوف الدرجة التي يفقد فيها الشعور بذاته، لكنه اختفى بمعجزة. انحرف السائق بالسيارة ببديهة مُذهلة، فصَعِد الطوار مُهددًا حيوات وأوشك أن يصطدم بالجدران. ماذا حدث لي وماذا حدث للآخرين؟ سبحت في ذهولٍ أعفاني من متاعب جسيمة. مرَّت دقيقة على الأقل قبل أن أدرك أن الطريق كله يلهبني بنظرات السخط والغضب. ثَمة صياح وتعليقات شتى .. السائق لصق السيارة ويقذف بالسباب كالمطر. مضيت مُترنحًا أفرُّ بنفسي فرارًا. كنت أُعاني آلام الخروج إلى الحياة من جديد، وأُعاني من مروري الخاطف فوق ثلاثة معابر مُتناقضة؛ هي شهوة الجنس ومقابلة الموت ومفاجأة النجاة. وأحدثت برودةُ النجاة المُلقاة على نيران الفزع أثرًا عنيفًا تعانق فيه السرور المُتألق والحزن العميق. مضيت أسير حتى وقفت لأستردَّ أنفاسي بعيدًا عن موقع الحادثة. حتى في ذلك المكان لم أفلت من عينَي عامل من عمال الطرق، فقال لي بسخطٍ واضح: مسطول! .. بسبب أمثالك يتعرَّض السوَّاقون المساكين إلى متاعب المُحقِّقين. لا تنسَ أنك مدين بحياتك للسائق.

تضاعف ضيقي وقلت كالمُعتذر اتقاءً لسخطه: إنها الهموم.

– فصاح مُحتجًّا: الهموم! .. ماذا تعرفون عن الهموم؟!

ذهبت مُبتعدًا وقد نسيت أزمتي الجنسية وقتًا غير قصير، ولكنه غير طويل أيضًا. حذَّرت نفسي من سحر المناظر، وقلت لنفسي إنها التعاسة حقًّا أن يفقد الإنسان حياته لسبب كهذا. إنها محنة، ولكن ما العمل؟ لا يغيب عني ما يُقال عن الزواج وتكاليفه؛ المهر والشقة وخلو الرجل. يلزمني قرن من الزمان لأقتصد نفقات زيجة عادية. إنه طريقٌ مسدود تمامًا. أجل إن الأيام تمضي والصبر يُفقَد؛ ولذلك هان عليَّ — رغم تقاليد تربيتي الراسخة — أن أفكر في الحرام كضرورة لا مَفرَّ منها دفاعًا عن صحتي الجسدية والنفسية. شاورت في ذلك صديقًا قديمًا من أهل الخبرة فقال لي: الفرص أكثر من أن تُحصى.

ولما أنِس مني إقبالًا شديدًا سألني: هل عندك فكرة عن الأسعار؟

ومضى يستعرض الفرص والأماكن والمراتب ويذكر الأسعار، حتى قلت في ذهول: غير معقول!

فقال باسمًا: العرب والتضخم والانفتاح .. هل أدلُّك على أرخص سبيل؟

فسألته عنه بلهفة، فقال: لعله الزواج.

وقلت لنفسي إنه الحزن ولا شيء إلا الجنون.

٣

أسرتي أيضًا مصدرُ همٍّ لي لا ينقضي. في متاعبها الظاهرة ما يكفي فيمنعنا الحياء من نبش متاعبها الخفية. أبي يقترب من سن المعاش؛ فنحن في سباق مع الزمن. أمي كيميائية؛ لا لأنها درست الكيمياء؛ فحظها من التعليم وقف بها عند الابتدائية، ولكن للأعاجيب التي تصنعها لتُوفِّر لنا الطعام اليومي. وهي تُقلِّب الملابس وتصبغها وترفوها وتُجدِّدها، وتجعل بعضها ملكيةً مشاعة والبعض الآخر ملكية متوارثة، وتصنع من البطاطين القديمة أروابًا للأيام الباردة. والمساعدة التي جاءت نتيجة لالتحاقي بالعمل التهمها الغلاء المُتصاعد. وإني أنظر إلى شقيقتَّي مها (الآداب) ونهى (الثانوية العامة) برثاء، ويحزنني منظرهما البسيط المُتقشِّف. إنهما محرومتان من أشياء تُعتبر في سنهما ضرورية لا كمالية، وممنوعتان أيضًا من الشكوى التي تضيق بها أمي فيرتفع صوتها الحاد: حالنا أفضل من غيرنا ألف مرة.

على ذلك فإيجار شقتنا قديمٌ دون الأربعة جُنيهات بقروش، ومهما قيل في شارع شمردل بروض الفرج فهو مسقط رءوسنا جميعًا؛ لذلك لا يكاد أبي ينعم بضحكةٍ صافية. ودأب على تذكيرنا بمصيره فيقول: لم يبقَ إلا عامان ثم المعاش.

وينظر إلى شقيقتي ويقول: النجاح .. النجاح.

لقد نحل الرجل كأنما يجفُّ رُوَيدًا رُوَيدًا، وزاد من ضآلته قِصرُ قامته، ولم يكد يبقى أثر من وسامته الأصلية. الوسامة خاصية لأسرتنا مثل الفقر. وهو لا يُدخن، كما انقطع عن المقهى منذ أعوام. وكما يُقال، فهو من البيت إلى وزارة المواصلات ومن وزارة المواصلات إلى البيت. وتسليته الوحيدة يجدها في تبادل الزيارة مع جارٍ قديم — مُدرس قديم؛ مُدرس لغة عربية على المعاش — يُسامره ويستفتيه أحيانًا في بعض الشئون الدينية. وكان يقول: منذ أعوام كان رجلٌ مثلي ذو مُرتَّب يُجاوز الستين جنيهًا شهريًّا يُعَد من الموظفين المُنعَّمين، ولكن الدنيا جُنَّت.

وكان مما يحزُّ في نفسه أنه ضيَّع فرصة زواج لا بأس بها على مها. يومها قال بأسًى: ما باليد حيلة، لكن المهم هو العلم والعمل، بعد ذلك تتحسَّن الظروف والأحوال، نحن لا نملك بالكاد إلا قوت يومنا.

فقلت له: الأسعار ترتفع ونحن ننخفض.

فقال باسمًا ابتسامة لا معنى لها: كنا طبقةً وسطى فأصبحنا من الطبقة الدنيا.

فقلت بحدة: نحن الفقراء الجدد في مُقابل الأغنياء الجدد.

فحدجني بنظرة تصدُّني عن الاسترسال وقال: لا تستسلم للسخط؛ فهذا مما يزيد الحياة تعاسة، وحذار أن تُردِّد ذلك أمام مها ونهى.

فقلت مُصرًّا: الزواج حقٌّ مشروع. تُرى كيف تُفكران يا أبي؟

فتجهَّم وجهه وقال: لقد أحسنت تربيتهما، أمك صاحبة فضل أيضًا، نحن أسرة شريفة والحمد لله، وغدًا تتوظفان ويبتسم الحظ.

– لقد شهدت برنامجًا في تلفزيون المقهى يقطع بأن المُتسوِّلين خير حالًا منا.

– ولكنهم يتسولون ونحن نخدم الدولة.

لم تستطِع الأحوال أن تقتلع بقية العزة من نفسه، كما أن أمي تَعْبر أحيانًا عناد الحاضر مُتطلعةً إلى آمال غامضة وراء الأفق. وقلت مُواصلًا حديثي: إني أُتابع أنباء الأفراح في الفنادق بذهول.

فتساءل بحدة: وأي فائدة تجنيها من وراء ذلك؟ يوجد أغنياء مُنحرفون كما يوجد شُرفاء، ولا شيء يدوم في هذه الدنيا.

ثم بنبرةٍ أرَق: أتدري ما هو حُلمي؟

ثم أجاب قبل أن أنبس: أن تعملوا ذات يوم في الخارج، إنه حلم وما هو بالحلم.

٤

الهجرة! إنهم يدعون أهل المهن والحِرف وأنا لا من هؤلاء ولا من أولئك. وما فرصة الحقوقي؟ إنها نادرة جدًّا، فضلًا عن ذلك فإني أمقت القانون، وها أنا أنساه في بطالتي الرسمية دون أسف. وكنت أتسكَّع في وسط البلد لا أدري أين بلغت في تسكُّعي عندما لمحت — في مقهى الحرية — الصحفي القديم عاطف هلال. كان منفردًا بنفسه للراحة أو التفكير، فمضيت نحوه بقرارٍ مرتجل وبجرأة لا تعوزني. وقفت أمامه حتى انتبه إليَّ، فراح ينظر نحوي بعينَين مُستطلعتين وقد تجلَّى الكِبَر في صفحة وجهه أكثر مما يبدو في الصور التي تنشرها الصحف له. قلت: معذرةً عن تطفُّلي، أنا أحد قُرائك.

فتمتم بصوتٍ مُحايد: أهلًا.

– تسمح لي بدقيقتَين من وقتك الغالي؟

– تفضَّل.

– جلست ثم قلت: حرصًا على وقتك سأدخل في الموضوع رأسًا، المسألة أني واقع في أزمة شديدة.

غامت نظراته بغشاء خفيف من الفتور، فخشيت أن الذي تبادر إلى ذهنه أنها أزمة مالية وأنني سأُطالبه بمعونة، فقلت بصراحة: إنها أزمة جنسية.

توارت الغشاوة وراء يقظة طارئة، وتساءل: جنسية؟!

– جنسية بكل معنى الكلمة.

فما تمالك أن ابتسم قائلًا: لعلك أخطأت الرجل المُناسب.

فقلت جادًّا: الرجل المناسب لم يعد مُناسبًا لأمثالي؛ لذلك قصدت الرجل المفكر.

فثبَّت نظارته ليُداري انفعاله وقال: يبدو لي أنك فريسة تَجرِبة عاطفية مريرة.

– إني أتسوَّل تجربة فلا أجدها.

– شيءٌ جديد تمامًا.

– المسألة بكل بساطة أن الزواج مُستحيل وسيادتك سيد العارفين، والانحراف أصبح خياليَّ التكاليف بفضل إخواننا العرب.

فتجلَّى الاهتمام في عينَيه، فتساءلت: هل تُصدِّق أنني بلغت السادسة والعشرين من عمري ولما أُمارس الجنس ولو مرةً واحدة؟!

– أُصدقك ولو أن شكلك مقبول جدًّا.

– ولكني مرفوض موضوعًا.

قبض على ذقنه في حيرة وصمت فسألته: ما الحل يا أستاذ؟

فتمتم جادًّا: إنها مأساة ولستَ ضحيَّتها الوحيد.

– وما العمل؟

– يا له من سؤال!

ثم مُواصلًا حديثه: لا يوجد جوابٌ جاهز، يمكن أن ننتقد تقاليد الزواج السخيفة وندعو إلى الهجوم عليها، يمكن أن نتحدث عن واجب وزارة الإسكان، يمكن أن نتحدث عن مشكلة الإناث.

– وهل أنتظر أنا حتى يتمَّ هذا الإصلاح؟

– ماذا أقول؟ كم من أجيال أجهضت في تاريخ البشرية! وكما أن ملايين من الشباب سعدوا بمعاصرتهم لاكتشاف العالم الجديد فقد هلكت ملايين أُخَر في خضمِّ الحروب الطاحنة.

– يعني أنه ليس أمامي إلا تجرُّع التعاسة في صبر طويل؟

– قد يتغير الحظ بإرادة الإنسان، إنك مُطالَب بالتفكير والعمل، إنك واقع في شبكة من الظروف المُعقَّدة، وعليك أن تسأل نفسك: «ما أفضل سبيل للتصرف في مثل هذه الظروف؟» وعليك أن تُجيب بنفسك.

فسألته بحنقٍ خفي: ألا يوجد رأي عند جيل الأساتذة؟

فابتسم قائلًا: دعك من هذا. إنكم لا تؤمنون بأي جيل سابق. ألم تجد ولو مثلًا واحدًا صالحًا لأن تقتديَ به؟

– تعني …

فقاطعته مُواصلًا حديثي: أعرف أسرةً حلَّت مشكلتها بالدعارة.

– ويقتنون الشقق والسيارات، ولكنه حلٌّ مرفوض كما قلت.

– عرفت زميلًا احترف السطو على الشقق في أثناء الصيف.

– وهو مرفوض أيضًا وعاقبته معروفة.

– سمعت عن آخر اغتصب امرأة ثم قتلها إخفاءً لجريمته.

– لعلك تقصد الشاب الذي طالَب شيخ الأزهر بشنقه علانيةً؟

– لا أدري، ولكن أما كان الأجدر بالشيخ الأكبر أن يقترح حلًّا إسلاميًّا للعاجزين عن الزواج؟!

– التشدد في العقوبة أسهل من إيجاد الحلول.

– فما الحل إذَن؟

– ألم تفكر في الهجرة؟

– لست من أصحاب المهن المطلوبة ولا من أهل الحِرف.

صمت الأستاذ قليلًا ثم قال: ثَمة رأيٌ أفضِّله؛ إذ إنني ما زلت أحتقر الحلول الفردية.

في فترةٍ قديمة دأب على ترديد هذا الرأي، وكان وقتها يكتب بقلمٍ يساري صريح، وها هو يعود إليه فيما يُشبِه الهمس والاستحياء. وقلت له بهدوء لأُخفي انفعالي: جئتك عارضًا أزمة مُلحَّة تتطلب حلًّا عاجلًا، وها أنت تنصحني بالانخراط في عمل سياسي من أجل تغيير المجتمع؛ وعلى ذلك فعليَّ أن أنتظر حلًّا لمشكلتي يجيء مع القرن القادم.

وغادرت مقهى الحرية بلا ذرة من عزاء، ولكن هل كنت قصدت عاطف هلال بدافع من ثقة؟! لقد انتُزعت الثقة ثم ماتت ثم دُفنت. إنهم كذَّابون .. كذَّابون .. كذَّابون، ويعلمون أنهم كذَّابون، ويعلمون أننا نعلم أنهم كذَّابون .. ومع ذلك فهم يكذبون بأعلى صوت، ويتصدرون القافلة.

٥

ما هذه البهجة المُنعِشة؟

نظرت وحلمت وثملت. اشتعلت النيران وأرهفت الحواس، لبثت فوق مقعدي مؤجلًا الانطلاق إلى رحلة التسكع اليومية.

– ضيفة؟

– موظفة جديدة، ليسانس آداب، اسمها رجاء محمد.

سُمرتها صافية، ما أندر السمرة الصافية، لا بالنحيلة ولا بالسمينة، في العينَين العسليتين جاذبيةٌ محسوسة، عند الابتسام ترتسم غمَّازتان في وجنتَيها، بيني وبين أن أرفعها بين يديَّ وأمضي مشكلات تُعيي العديد من وزارات الدولة. انفعلت بها كما أنفعل بأي أنثى يستوي في ذلك المراهقات والكهلات، البلديات والمُتفرنجات، المحتشمات والمبتذلات. انغمس خيالي في مصادر الإثارة، حتى تذكُّري شقيقتيَّ لم يُهذِّب من طغيان الرغبة. غِبت عن الإدارة ساعةً واحدة فصاحبَتني نشوتها الزكية في الذَّهاب والإياب. وفي آخر النهار تم تعارفنا في رزانةٍ رسمية. ورجعت إلى مسكني بروض الفرج وأنا أقرب ما يكون إلى التعاسة والألم، وهما ما يترسَّبان عادةً في صدري عقب الرؤية المؤثرة. في ذلك اليوم اختلست أكثر من نظرة من مها ونهى. جميلتان بلا ريب ولكنه جمال مُلقًى في سلة مهملات. بدتا لي مُتقشِّفتَين صابرتين، تموت الشكوى وراء شفتَيهما المُمتلئتين. وسألت مها: هل تعرفين فتاة من كليتك اسمها رجاء محمد؟

فتساءلت ساخرةً: كيف أعرف ونحن أكثر من الجيش عدًّا؟!

– التحقت بإدارتنا اليوم.

فتساءلت نهى بمكر: لمَ تسأل؟

فقلت بتحدٍّ ساخر: كيف لا وقد توفَّر لديَّ المهر وخلوُّ الرِّجل؟

فقالت مها: ادعُ الله أن يكون أبوها من شارع الشواربي فلا يُطالبك بمليم.

فقلت ضاحكًا: الشواربيات للشواربيين.

قرأت في دعابتها أحلامًا خفية، ونحن عادةً نتحادث بحذر مُتأثِّرين بجو بيتنا المُتشدد؛ أبي، وأمي أشد منه. وأمي مُتفائلة جدًّا رغم عنائها الدائم، وهي سعيدة بأنها حصَّنتنا ضد استهتار الزمن. وفي تقديري أنه سيسعى إليها ذات يوم — خاصةً بعد التحاقها بالعمل — زوجان محترمان متقدمان في السن والقدرة المالية فيُهيِّئان لها الحل الممكن. إنه زمن الكهول والأوغاد.

٦

ما هذه البهجة المُنعشة؟

لقد وهبتني ابتسامةً مُضيئة وبريئة كالوردة اليانعة. تبادلنا الكلمات عند كل مناسبة ثم جادت بالابتسامة. خلقت الابتسامة حياةً جديدة. غلَّفت الانفعال البهيمي بعذوبةٍ صادقة. نمَت الشجرة وتفرَّعت وتعذَّر أن تُنعت بصفةٍ واحدة، وتساءلت: أهكذا تتحول الغريزة إلى عاطفة؟ وكنت أخلق المجال تلو المجال للحديث. قلت لها: حذار من البطالة.

فقالت بِحيرة: إنهم لا يعهدون إلينا بعمل.

– ستنسين ما تعلَّمته.

– العمل نفسه هنا مقطوع الصلة بما تعلَّمته.

– ماذا كان تخصُّصك؟

– التاريخ.

– لولا ضوضاء المكان لاقترحت عليك القراءة.

– لا أحب القراءة إلا نادرًا.

– جيل التلفزيون؟

فضحكت بصوتٍ غير مسموع وقالت: ليس تمامًا.

– وحذار من الملل.

– اليوم طويل حقًّا، ماذا تفعل أنت؟

– أتسكَّع وسط المدينة.

– لا يُناسبني ذلك.

– لا مفر من أن تجديه مُناسبًا ذات يوم.

– المهم ألا نعتاد الكسل.

فقلت بأسفٍ صادق: كنت طالبًا مجتهدًا، حتى العطلة السنوية لم تخلُ من نشاط واطلاع، أما اليوم فقد أصبح التسكع مذهبي .. كيف تُمضين وقتك؟

– لي أخوات وصديقات، هناك التلفزيون دائمًا، وأحيانًا السينما أو المسرح.

لم يعد في الدنيا ما يستأثر بوعيي أكثر منها. لها الغريزة والعقل أيضًا. ومن عَجبٍ أن مظهرها انتبهت إليه مؤخرًا نسبيًّا، تعاملت مع المضمون قبل الشكل. وعندما حدَّثتني عن السينما والمسرح أدركت أنها تُطلُّ عليَّ من مستوًى أرفع، عند ذاك ركَّزت على البنطلون الرمادي والحذاء ذي الرقبة والبلوزة المُزركَشة والجاكتة الجلدية، أنيقة وثمينة. تُرى ما وراء ذلك؟ الزمن يطرح احتمالات شتى. وإني أحلم بالزواج، ولكني أرحِّب بالفرص. عاطف هلال ذو مال وبنين؛ فهو يحتقر الحلول الفردية. وهو لم يصل إلى مركزه المرموق إلا بحلٍّ فردي انتهازي. ووجدتني أتذكَّر عهد الدراسة، أتذكَّر التيارات التي انتظمت الطلبة؛ أبناء الأغنياء الذين ينعمون بالاستقرار ولا يهتمُّون كثيرًا بالدراسة، فقراء يحلمون بالشهادة من أجل الوظيفة، مُتمردون يضطربون في عوالم الأحلام ويرفضون كل شيء. كنت في مكانٍ وسط بين الصنف الثاني والثالث، أحلم بالوظيفة إكرامًا لعناد أسرتي، وأُكنُّ للمُتمردين الإعجاب والتأييد. كثيرًا ما يتعرَّضون للتحقيق والمطاردة، ومنهم من انتهى إلى السجن. تُرى إلى أي فريق تنتمي رجاء؟ على أن الاحتمالات أوسع من ذلك، وإني أريدها من أي سبيل ممكن وإن ظل الزواج حلمي المنشود؛ لذلك لم أدَع فرصةً تفلت لتوثيق مودتنا حتى نطق لسان حالي بما أحلم به، وتشجَّعت ذات مرة فدعوتها إلى لقاء ضمن رحلة للتسكع.

٧

ما هذه البهجة المُنعشة؟!

فاضت نفسي بهذا المعنى وأنا أراها مُقبِلةً نحو موقفي أمام الأمريكين. في تلك اللحظة شعرت بأنني بتُّ من كبار العاشقين فعاهدت الله ألا أُسيء إليها ما حييت قط. غصنا فوق أريكتَين جلديتين يفصل بيننا خوانٌ مَعدني. وضعت حقيبتها السوداء على طرف الخوان وراحت تُمشِّط بعض خصلاتها، كما رحنا نتبادل النظر في هدوء وحب استطلاع. طلبنا الشاي ليُدفئنا في الجو البارد، وشملنا من بادئ الأمر تفاهمٌ حميم، لا ظِل من الغموض يطرح نفسه على الدعوة من جانبي والتلبية من ناحيتها. كلانا ناضج ويعرف ما يريد. وإن تكن صداقة فهي واضحة الهدف. قد تعني من جانبي ميلًا وربما حبًّا، وبحسبها أن تعنيَ من جانبها أنني موضوعٌ صالح للتجربة. ألا يعني ذلك القَبول من ناحية المبدأ؟! سألتني: هذا مكان تسكُّعك؟

فقلت وأنا أقدِّم لها وعاء السكر: التسكع في الشوارع، ولكنه لا يصلح للقاء.

– وكيف تُطيق الزحام؟

– إنها القيامة، ولكنها خير من القعود ست ساعات فوق مقعد خشبي.

فابتسمت قائلةً: إنه نوع من العقاب، ولكن الزحام لمثلي غير مأمون.

– ماذا تركبين في الذهاب والإياب؟

– نحن نُقيم في شارع الشهيد عبد الملك فيما وراء دار القضاء العالي، فلا حاجة بي إلى الباص.

ثم مُواصلةً حديثها بسرعة: لولا ذلك ما قبلت الوظيفة.

فقلت بقلق: إذَن فأنت غنية.

– أبدًا، أبي موظف، موظف كبير إذا شئت، ولكن ذلك لم يعد يعني شيئًا.

وجدت في قولها مُتنفَّسًا للراحة وقلت: الحال من بعضه حتى وإن لم يكن مُتطابقًا.

وانتهزت الفرصة فقدَّمت لها صورةً أمينة لأسرتي مُتوخيًا الصدق في الأمور الجوهرية ودون تطرُّق إلى التفاصيل الحرجة، ثم سألتها: لك إخوة؟

– ثلاث بنات كبراهن بكلية الطب.

– الحق أن الحياة عبءٌ ثقيل.

فأحنَت رأسها الرشيق مؤمِّنةً على قولي، فقلت: خاصة للشرفاء.

– كان أبي (محمد جاد) مُحاميًا مرموقًا، ثم تغيَّر الحال عقب التأميمات، فقبل وظيفة مُدير الإدارة القانونية بشركة أ. م. د.

قلت لنفسي إن مثله جدير بأن يملك مدخرات لا بأس بها؛ فهو خير من الموظف العادي. ليس بالغني ولكنه ليس بالفقير أيضًا. ثَمة أمل ولكنه ضعيف. وقلت مُلقيًا مزيدًا من الضوء على موقفي: أسرتي لن تعرف الراحة قبل أن تتوظَّف أُختاي، وأملُ أبي مُتعلق بهجرة ثلاثتنا إلى بلاد العرب.

– على أُختَيك أن تختارا مهنةً مطلوبة كالتعليم.

– أنت لا تُفكرين في ذلك؟

– إني أمقت هذه الفكرة وأرجو ألا أحتاج إليها أبدًا.

انقبض صدري بعض الشيء، ولكن ذلك دفعني إلى مزيد من الجرأة فسألتها: كيف تتصورين المستقبل؟

فتساءلت مُتغابيةً: ماذا تقصد؟

– لا يمكن أن تعيشي بلا حُلمٍ ما؟

فضحكت قائلةً: أنا لا أحلم.

– كل إنسان له حُلمه.

– حقًّا؟ .. فما حُلمك أنت؟

فقلت مُتماديًا في جرأتي: الحق أني أحلم بشريكة لحياتي.

فرمشت كالمرتبكة ولاذت بالصمت، فقلت: هذا هو حُلمي.

فتساءلت شاردةً: ماذا يمنعك من تحقيقه؟

فلم أدرِ ماذا أقول اعتقادًا مني بأنني قلت كل شيء فسألتني: لمَ لا تتكلم؟

– قلت ما فيه الكفاية، آن لكِ أن تتكلمي أنت.

وإذا بها تقول بجدية تامة: لقد تعرَّضت لتجربةٍ غير سارَّة.

فحدجتها بنظرة مُستطلعة، فقالت: تقدَّم لي موظف من مرءوسي والدي، وفشلت التجربة أمام عقبات لا يمكن التغلب عليها.

فتساءلت بأسًى لم أستطِع إخفاءه: ما هي؟

– المهر .. والمسكن.

فقلت مُتعلقًا بآخر خيط: ليس التغلب عليها بالمستحيل.

– حقًّا؟

– إن يكن بوسع الأب الاستغناء عن المهر، أو يكون من الممكن إخلاء حجرة في البيت للعروسين؟!

فهزَّت رأسها بأسف مما يعني النفي. في الصمت الذي تلا اعترفت بالإخفاق. جاءت مدفوعةً بحب الاستطلاع والأمل فتلاشى كلٌّ في هيكل الحقيقة العارية. لعلها تتأسف الآن على ضياع الوقت سدًى. لعلها تُفكر في انتحال سبب لإنهاء اللقاء. وقلت بلا روح: حسبنا صداقتنا الحميمة.

غمغمت شاكرة. ولم يبقَ إلا أن نُغادِر المكان ليرجع كلٌّ منا إلى الشركة من طريق.

٨

قلت لنفسي إنه لا مفر من النسيان، لا مفر من الوأد. الأمل والغريزة مُتعلقان بها، يتسلطان عليَّ بكل قوة، يستأثران بأحلام اليقظة، يُعذِّبانني ليل نهار ولكن لا مَفر. ما زلت في أول الطريق، وهي لا تُبادلني إحساسًا أو عاطفة. ما هي إلا فتاةٌ عاقلة تبحث عن زوجٍ مُناسب. إنه حقٌّ مشروع ورغبةٌ نبيلة. ويبدو أنه لا يُحركها طمع ولا آمالٌ جامحة، إنها عاقلة تمامًا. لم تُجرب الحب أيضًا أو هذا ما أظن. داخَلني شعورٌ قوي مؤثر بأنني لن أجد فرصتي في العقل، أبدًا. ما فائدة العقل في عالم لا معقول؟ لا مفر؛ وعليه فلْأتجنَّب مبادلتها الصداقة ما أمكن ذلك، ولأهجر الإدارة مُبكِّرًا عن العادة. رجعت إلى الفراغ؛ الفراغ المُحتدِم بالعذاب والملل. إنه يتجسَّد لعينيَّ كما تجسَّد الموت في مقدمة السيارة، كائن محسوس، غير محسوس، يقطر كآبة ورفضًا للحياة، قبضته الخانقة تُفشي لي سر المُدمِنين؛ مدمني الخمر والمُخدِّرات والقمار، لكنني مُحصَّن بمثاليةٍ باهتة وبالفقر. لعلَّ الأوفق لي أن أملأ الفراغ بالسياسة. ما زلت على صلة تعارُف بالزملاء القُدامى، يمكن أن أطوف بهم للمناقشة والاختيار. شعار عاطف هلال صالح للتطبيق. إنه يدعو كثيرين من ذوي الإرادة ويصلح أيضًا لليائسين. إنها مجرد خواطر تعبر رأسي سادرة، ولكن أخطر القرارات قد تبدأ من خواطر سادرة، يتسلل إلى النفس كالمزاح ثم ينقلب جدًّا كلَّ الجد، لكنني أقنع بمداعبة الأفكار ومداراة الغريزة الطاغية. سيحدث شيءٌ ما في وقتٍ ما، شيء قريب أو بعيد. لن تمضي الحياة في فراغ إلى الأبد. الهجرة أو السياسة أو مغامرة لا تخطر بالبال. الأيام تمضي. الحركة بطيئة في الشارع ولكن الأيام تُسرع. رجاء تحرك أحلام اليقظة. ملكتها في الخيال بقدر ما فقدتها في الواقع.

٩

تعرَّض بيتنا بشارع الشمردل لغزوةٍ قوية. تقدَّم سبَّاك في الثلاثين من عمره يُدعى أحمد عبد المقصود لطلب يد نهى. قال أبي ونحن مجتمعون في الصالة: ما على الرسول إلا البلاغ، أبوه عامل بالحديد والصلب، يحمل شهادةً صناعية مُتوسطة، عمل في السعودية أعوامًا خمسة، يملك شقة في المعادي وسيارة نصر.

شملتنا حيرة. وقالت أمي مُقطبةً: ليس من مقامنا.

فقال أبي بمرارة: عمَّ تتحدثين؟ .. انتهى مقامنا من زمان.

فقالت أمي: إنها لم تتم تعليمها بعد ولا بد أن تُتمه.

فقال أبي: إنه يريدها ست بيت.

فقالت أمي: لم نُعدَّها لذلك.

فقال أبي: إنه أسهل من تعلم الطبيعة والكيمياء.

فقلت: العمل ضروري لها حتى لا نتركها تحت رحمة المجهول.

وتحوَّلت نحو مها مُتسائلًا: ما رأيك يا مها؟

فقالت بوضوح: لم نسمع صوت صاحبة الشأن.

فقال أبي: الكلمة الفاصلة لها طبعًا.

وتلاقت النظرات فوق وجهها حتى عطفت مها عليها فقالت: أمهِلوها لتُفكر.

وقلت أنا: ثم إنها لم ترَه.

فتساءل أبي: يهمُّني أن أعرف هل تقبله من حيث المبدأ؟

فقلت بإصرار: بل هو مقبول من ناحية المبدأ، إنه ينتمي اليوم إلى طبقةٍ أعلى.

فهتفت أمي: إنك تخلط الجد بالهزل.

وحدثت الزيارة التقليدية فوجدته مقبول الصورة ولا عيب في مظهره إلا مبالغة في التأنق وحساسية بالذات ملفتة للنظر. ووضحت مواقفنا بين رفض من ناحية أمي وحياءٍ شمل ثلاثتنا أبي ومها وأنا. وما أدري إلا ومها تقول لي ونحن ننتظر الباص صباحًا: نهى موافقة.

– من ناحية شكله لا بأس به.

– ومن ناحية الموضوع أيضًا.

فسألتها بقلق: أهو قرارٌ أملاه اليأس؟

فقالت بضيق: فسِّره كما تشاء.

وفرضت الموافقة نفسها علينا جميعًا، غير أن أمي قالت بغضب مخاطبةً أبي: المسألة أنك وجدت زوجًا لن يُكلفك مليمًا واحدًا.

فسألها بمرارة: هل لديك مالٌ تُخفينه عنا؟

ودعوت لها من قلبي بالتوفيق.

١٠

ما هذه البهجة المُنعشة؟!

وأنا أغادر الشركة مُبكرًا للتسكع وجدت رجاء كالمنتظرة عند الباب. أقبلت نحوي هامسةً في عتابٍ حاد: أين أنت؟ كأنك هاجرت من البلد.

غزتني فرحةٌ راقصة سمَت بي إلى أرفع سموات السعادة. طالما ظننت أنها نسيتني تمامًا، وأن عقلها الحكم قد حذفني من جدول الاحتمالات. عتابها اقتحمني كنغمةٍ عذبة مُفعَمة بالنداء، فيه العتاب والشكوى والرغبة والاعتراف، فيه ما يُغيِّر مذاق الدنيا في ثوانٍ مثلما تُغيِّرها الفصول في أشهُر، فهل يُفرِّق بين اليأس والأمل إلا خيط الفجر؟

حوالَي العاشرة كنا نجلس بمجلسنا في الأمريكين. قلت مُعبرًا عن امتناني: جزاك الله كل خير؛ فقد أعدتِ خلقي من جديد.

تخفَّفت من ارتباكها ناقرةً على سطح الخوان بظفرٍ أحمر على هيئة لوزة مُصغَّرة. قلت: توهَّمت أن لقاءنا الأول هو الأخير، وعزمت على النسيان بأي ثمن، ولكن الحب أقوى من كل شيء.

فهمست باسمةً: ولكنك لا تكاد تعرفني.

– عرفت ما يكفي لخلق الحب في أقوى أحواله.

– خُيِّل إليَّ أنك نسيتني تمامًا.

– تمنَّيت ذلك، وتبدَّد هباءً ما تمنَّيت.

فقالت باسمةً: وها نحن نلتقي لنتقاسم العذاب.

فقلت بحماسٍ خلقته نشوة الظَّفر: مع الحب الحقيقي لا توجد مشكلات.

– حماسك جميل، ولكنه عاطفة وليس معجزة.

– بل هو في الأصل معجزة، علينا أن نعتبره كذلك، في أي شرع يجوز أن يُفرِّق بين قلبَين أشياء مثل شقة وأثاث ومهر؟!

فابتسمت في أسًى وتمتمت: إنك تحلم بحياة كالطيور.

فقلت بإصرار: لدينا الحب والإرادة والحياة التي لا ترحم الأغبياء، فلنتعاهد على ألا يُفرقنا شيء في الوجود.

فتورَّد وجهها حيرةً وسعادة، فقلت والنشوة ترقى بي في مدارج السكر: فلنتعاهد.

فهمست: كما تشاء .. ولكن أما آن لنا أن نفكر؟

فخِفت أن أُفيق من نشوتي فقلت: علينا أن نُعلن خِطبتنا في الحال.

– ماذا؟

– أن نُعلن خِطبتنا في الحال.

– لو اقتصر الأمر علينا لهان.

– علينا أن نُقنع الأهل.

– مهلًا .. ماذا نقول لهم؟

– إننا سنعلن خطبتنا ونحل مشاكلنا بنفسنا.

– ولكن …

فقاطَعتها: لكلٍّ منا عمله واستقلاله.

– ألا نفكر قبل أن نُقدِم؟

– بل نُقدِم أولًا.

– أخاف أن نجعل من أنفسنا …

قاطعتها: فلنعلن خطبتنا، يجب أن نُحقق نصرًا ما، ولكِ عليَّ بعد ذلك أن أسطو على البنك الأهلي عند الضرورة.

غادرنا المكان وأنا أردِّد في باطني: «ما هذه البهجة المُنعِشة؟!»

١١

يبدو أن رجاء اعتبرت ما دار بيننا دردشةً غنائية، فأصرَّت على لقاء ثالث لنُناقش قرارنا بهدوء. قلت لها: رجاء، إذا استرشدنا بالعقل فعلينا أن نُسلم بالفِراق الأبدي.

كانت تُقدِّم رِجلًا وتؤخر رِجلًا. كانت تُشاركني الرغبة ولكنها تخاف العواقب. قلت: إني مُخلِص، يلزمني عمرٌ طويل لكي أقتصد المهر، وثلاثة أعمار لأجمع خلو الرِّجل؛ فإذا لم يكن من التعقل بدٌّ فلنفترق.

فقالت بقلق: سيَرَون في سلوكنا ما يقطع بجنوننا.

– يلزمنا قدرٌ من الجنون نلقى به عالمنا المجنون.

– يحزنني أنني سأُغضب أعزَّ الناس عليَّ.

– إما أن نُغضبهم وإما أن ننتحر.

فتفكَّرت مليًّا ثم تساءلت: هَبْنا فرضنا إرادتنا، فماذا بعد ذلك؟

– لو أن لديَّ خطةً جاهزة ما كتمتها عنك، ولكن تحمُّلنا للمسئولية سيدفعنا إلى التفكير، إلى قهر المستحيل .. ولو وجدنا الطريق مسدودًا؟

– الطريق المسدود شعار العاجزين، ثم ألا يستحقُّ حبُّنا المغامرة والتجربة؟

وكانت في صميمها عازمة على المغامرة.

١٢

خاض كلانا معركةً عائلية على تفاوت في العنف والحرج. دهش أبي وتساءل: تخطب؟!

لكن مرارة الحياة روَّضته على الاستهانة بما يعدُّه من الأمور الثانوية. وتساءل مرةً أخرى: أأنت على استعداد؟

فقلت ببساطة: لا استعداد ولا خلافه.

فقالت أمي: أنت تعلم أنه ليس لدينا …

فقاطعتها: إني أعرف كل شيء.

فتساءلت برجاء: لعل أهلها أغنياء؟

– كلا.

فتمتم أبي: قرارٌ خاطئ ولا شك.

فقلت بإصرار: لن أعدل عنه.

فرفع الرجل منكبَيه قائلًا: أنت حر، وأتمنى لك التوفيق.

أما رجاء فقد خاضت معركةً حقيقية. انهالت عليها الأسئلة وجاءت الإجابات كلها بالنفي. ثار الغضب كما ثار الكبرياء. رُميت بالجنون. تدخَّل أقرباء وقريبات. أصرَّت رجاء على طلبها، بل هدَّدت بإعلان خطبتها خارج نطاق الأسرة.

•••

كانت تجربة عسيرة أن أمضيَ إلى عمارة الشهيد عبد الملك وأنا على علمٍ كامل بمشاعرهم نحوي، وبأنهم يعتبرونني وباءً أفلت من المراقبة الصحية. الحق أن مها صدقت عندما قالت: إن جُرأتك تستحقُّ الإعجاب.

وقد أرهقني ابتياع الدبلتَين، أما الشبكة فقد اشترتها رجاء ودسَّتها إليَّ لأُهديَها إليها في الحفل الكئيب. ولم تُعلَّق خارج المسكن أو داخله علامة من علامات الأفراح، وندَّت الوجوه عن بسماتٍ مُتكلَّفة أخفت منها العبوس.

وقال لي الأستاذ محمد جاد: طبيعي أن أتمنى لكما التوفيق، لا تُسئ الظن بنا، ستكون يومًا ما أبًا وتعرف.

أما حرمه — أمُّ رجاء — فقالت لي: نحن دائمًا متَّهَمون، لماذا؟ أيوجد أثاث بلا مهر؟

هل يعيش ابن آدم بلا مأوًى؟ أيوجد أب أو أم بلا قلب؟!

إنه صوت العقل، هو ما يعترضني دائمًا بجدارٍ صخري. لم يبقَ إلا أن نُجرِّب الجنون. إذا صدَّك العقل عن السعادة فجرِّب الجنون، أليس ذلك من العقل أيضًا؟! ما يستحقُّ اللعنة حقًّا هو الاستسلام. ونحن نلقى الإهمال والضياع على حين تتغنَّى الحناجر بالوعود المعسولة. وتحدَّيت الظلام.

١٣

حقَّقنا الرغبة واستقرَّت الدبلة في البنصر، وأثملَنا إحساسٌ حميم بأننا بلغنا غايةً ما وراءها غاية. وسرعان ما أدركت أنني لم أقطع إلا الخطوة الأولى. أجَّلنا مناقشة المشكلة استبقاءً للصفاء، ولكنها استوَت على الأفق مثل نذير النشرة الجوية، ولم يُحرجني أحد من أسرتي فيسألني مثلًا: «وماذا بعد ذلك؟» مها وهي أقربهم إليَّ همست لي يومًا: لعله عليك الآن أن تُخصِّص لي جنيهًا شهريًّا من مُرتَّبك شهريًّا؟

فضحكت ضحكةً عصبية وقلت: أتظنِّين أن توفير نقطة ماء يُجدي لملء بُحيرة؟

فقالت باهتمام: أظن أنه في وسع والدها أن يحل المشكلة.

فقلت بامتعاض: إنه حقًّا موظف كبير، ولكنهم أصبحوا جميعًا يتبعون كادر الشحَّاذين، ومدَّخَراته تفي بالكاد بأعبائه، ولعله يستطيع أن يقوم بالواجب إذا قدَّم الطرف الآخر الشقة والمهر.

– إذَن فما هي خطتك للمستقبل؟

فقلت ضاحكًا: لا أملك إلا إرادتي.

وغامت نظرتها بالتفكير، ربما في حالها أيضًا، حتى سألتها: فيمَ تُفكرين؟

فقالت وهي تتنهَّد: تمتَّعوا بشبابهم في أيام يُسر ورخاء، ولم يخلفوا لنا إلا الأطلال.

ودأبت على زيارة آل جاد بشارع الشهيد عبد الملك من حين لآخر. أملت أن أظفر بعلاقةٍ صادقة مع المسئولين، ولكن أم حبيبتي تصدَّت لي هناك كالصخرة، وضنَّت عليَّ حتى بالابتسامة العابرة، وما من زيارة إلا وذكَّرتني بالواجبات المقدسة؛ الشقة والمهر. وفي مجلس الأمريكيين قلت لرجاء: الهجرة .. الأمل في الهجرة.

فسألتني والحق أنها لم تطرق الموضوع حتى فتحته لها: ما هي فرصتك؟

– عملٌ قانوني في شركةٍ ما، إني أتابع الإعلانات في الصحف، إنها فرصةٌ نادرة.

– لكنها محترمة.

– الحق أني ما أحببت القانون أبدًا، لقد اقتحمني مثل حوادث الطريق.

•••

إني أنتظر معجزة. أنتظر عونًا من الخارج؛ خارج ذواتنا، لم أتعلم شيئًا ينفعني. أحمد عبد المقصود يعيش عصره أكثر مني ألف مرة. إني أتحدَّى وأحلم ولكني لا أفعل شيئًا. وضاعَف من حدة مسئوليَّتي أن عرَف الزملاء في الإدارة بخطبتنا. انهالت علينا التهاني والأسئلة. هذا السؤال اللعين: وجدتم الشقة؟

– دفعت الخلو؟

ما هو إلا مزيج من الإحراج. تضخَّمت المسئولية التي أحملها. الأيام تمر؛ الأسابيع والأشهُر. ينظرون إليَّ كطُفَيلي يقف عثرةً في سبيل شابَّة مُمتازة. ولم تسكت عني الأسئلة حتى فقدت أعصابي واختنقت بمشكلتي المُستعصية.

•••

وسألتني أمُّ رجاء ذات مرة: حتى متى ننتظر؟

وأفصحت عن مشروع لأول مرة — بعد موافقة رجاء سرًّا — فقلت: هنالك حلٌّ ممكن؛ جهِّزونا واعتبِروا نصيبي دينًا يُرَد عند الميسرة.

فهتفت الأم مُحتدةً: يا له من اقتراح لا أحب أن أصفه، حسبي أن أخبرك أنه مُستحيل التنفيذ.

– لماذا؟

فصاحت: إنه غير لائق.

همست رجاء برجاء: ماما!

وقلت أنا مُنفعلًا أشد الانفعال: لا حيلة لي، ولكن لا داعيَ للإهانة.

فقالت الأم بحدة: افسخ الخطبة.

فقلت بالحدة نفسها: لا أقبل أمرًا إلا من رجاء.

فصاحت الأم: إن كنت تحبها فابعد عن طريقها.

ولم تكفَّ إلا حين أفحمَت رجاء في البكاء.

١٤

رجعت الكآبة بسمائها الشاحبة وهوائها اللافح المُشبع بالتراب. زادها الصيف احتدامًا ففتر نشاطي الروحي وغطَّاه الرماد. رغم جرأتي عانيت حساسيةً شديدة. تمخَّض الموقف الباهر لعينيَّ عن أنانية تتجسَّد كالبلطجة، وقلت لبقايا الحُلم الوردي: «لا.» لعلها لاحظت كآبتي في اليوم التالي في الأمريكين فقالت لي: إني معك حتى النهاية.

ومع أنني تلقَّيت قولها مثل شربة مُثلَّجة في يومٍ قائظ إلا أنني قلت: ليبعد الله عنك شر هذه النهاية.

فتساءلت بقلق: ماذا حل بروحك؟

فقلت بوضوح: ليس الحب أن أضحِّيَ بك على مذبح جنوني.

– ما زلنا في أول الطريق وسوف نجد حلًّا ما.

– أين الحل؟ .. المسألة أفظع مما تصوَّرنا وأنتِ الخاسرة.

فقالت بعتاب: أحسبتني قاصرة؟ .. لا تعتبرني ضحية من فضلك.

– هذا هو سر جنوني الباهر، ولكنه هو أيضًا ما يُملي عليَّ ما ينبغي عمله.

– ما ينبغي عمله؟

– لا يجوز أن تبقى خطبتنا أكثر من ذلك بلا حلٍّ واضح.

فقالت بانفعال: شخص آخر يتحدث، أنسيت …

فقاطعتها: لم أنسَ، كنت مجنونًا، لقد أسأت إليك إساءةً بالغة، الجميع يُدركون ذلك لا والدتك فقط، الجميع حتى الزملاء، لا شك أنك تسمعين وتفهمين.

– لا أهمية لذلك.

– نبل وشجاعة، ولكنك تُسيئين إلى نفسك بلا أمل، رجولتي تأبى عليَّ ذلك، حبي يؤنِّبني ويتَّهمني، لا .. لا.

فقالت بحدة: إني صاحبة الحق في القول الأخير.

– لي حق أيضًا، بل هو واجب، على المجنون ألا يجرَّ الآخرين إلى جنونه.

– كنت في جنونك أفضل منك الآن ألف مرة.

فقلت بتصميم: إني آسف، ولست في حاجة إلى أن أؤكد لك حبي.

فهزَّني اليأس، وكنت مُصرًّا بقدر ما كنت يائسًا.

١٥

ما فعلته بنفسي لا يُصدَّق. استيقظت عقب ليلة مُسهَّدة لأرى حقيقةً بشعةً ترصدني لتقول لي بصوتٍ فظ: «اختفت رجاء من حياتك.» ترامت إليَّ أصوات الطريق كأنما هي نعي للوجود، نعي لأي معنًى. لمَ أحيا؟! كيف أُعاشر هزيمتي إلى الأبد؟! بودِّي أن أبصق على كل فكرة خطرت وكل فعل نُفِّذ.

قال أبي لي بأسًى: إني حزين يا علي، وددت لو كان بوسعي مساعدتك.

واغتمَّت أمي حتى دمعت عيناها.

الحزن يتغلغل في أعماقي كلها، ولكني لم أجد بدًّا من حمل حياتي والمضي بها. واستسلمت لرد فِعل غضبي فقابلت وكيل الإدارة وسألته أن أُنقَل إلى إدارةٍ أخرى مُقدِّمًا أسباب ذلك. ونُقلت إلى إدارة المستخدمين عاطلًا كما كنت، وصارعت أشواقي والأيام تمرُّ مُثقَلةً بأنفاس الصيف. رجوت أن يتلاشى الحب مع الزمن، رجوت أن تُحرَّر هي من كافة القيود لتستردَّ رونقها البهيج. في تلك الأيام تابعت بإعجابٍ مغامرات الإرهابيين في الصحف. إنهم ينفجرون في أركان البلد مُعلِنين عن نبض جنين ينمو في رحم الغيب. انبعثت من قلبي المحطم أخيلةٌ مُطلَقة مرقت في الفضاء وغاصت في أعماق المحيطات، وجعلت أتآمر مع خلايا الأحياء وذرَّات الجمادات، ولم يخمد الحب ولم يبرد الشوق، وتمادت الغريزة اشتعالًا.

•••

وقادتني قدماي إلى مقهى الحرية فلمحت الأستاذ عاطف هلال في مجلسه. أقبلت نحوه بتلقائية وتوتُّر مشحونًا بالاحتقار. حيَّيته قائلًا: لعلك تذكُرني.

فرمقني بنظرةٍ طويلة وشتَّ بعجزه عن تذكُّري، فقلت: أنا صاحب المشكلة الجنسية.

فالتمعت عيناه وقال ضاحكًا: آه .. لا مؤاخذة .. السن والشواغل .. اجلس.

جلست فراح يقول مُتسائلًا: لعلك وجدت الحل؟

فدفعني العبث لأن أقول: الحل الكامل.

ثم مُستسلمًا أكثر للعبث: سأنضمُّ قريبًا إلى أصحاب الملايين.

فارتفع حاجباه الأشيبان الهائشان وتساءل: حقًّا؟

فقلت بثقة لا حد لها: بكل تأكيد.

– كيف؟

– الأسرار لا تُباح.

فهزَّ رأسه هزة الخبرة وقال: إنها مُسجَّلة في جدول محفوظ.

فابتسمت فيها يُشبِه الطمأنينة فسألني: أأنت سعيد؟

– طبعًا.

– لأنك ما زلت في أول الطريق.

– هذا حق.

– أما سمعت عن الذين يربحون الدنيا ويخسرون أنفُسهم؟

فقلت كاتمًا سخريتي: كيف لا وأنا أحدهم؟!

فقال بنبرةٍ مأساوية: خسارة النفس لا تُعوَّض.

فقلت مُنفعلًا: كذب.

استاء ولا شك من لهجتي فصمت مُقطبًا، فقلت بسخرية: تحرَّر من الأكلشيهات لتعرف الدنيا على حقيقتها.

فقال مُتضايقًا: إني أعرفها خيرًا منك.

فاندفعت أقول مُحتدًّا: ماذا كنت؟ .. وماذا أصبحت؟ .. وثبت في الوقت المناسب من السفينة وهي تغرق.

تساءل في انزعاج: ما هذا؟

فقلت مُستزيدًا في التمادي: أنت أيضًا من الذين ربحوا الدنيا وخسروا أنفُسهم.

فهتف غاضبًا: لقد جئت بقصد إهانتي، ولن أسمح لك بالبقاء بعد ذلك.

قمت. غادرته دون سلام، وتحت الشمس المحرقة في الخارج شعرت بانشراح فضحكت. ماذا قلت؟ كيف تأتَّى لي قوله؟ الحوار من جانبي مُرتجَل من ألفه إلى يائه. المقابلة تمَّت بغير خطة سابقة. انتشيت بمرحٍ عارض وأنا أمضي فوق قاعدة راسخة من الألم. وفي صباح اليوم التالي بدأت بعاموده اليومي في الصحيفة فوجدته يتحدث عن الطوفان الجديد، وأنه لن ينجوَ من الغرق إلا من يلوذ بسفينة المبادئ. الحق أنه ليس أسوأ من غيره، ومقالته تُفهَم على وجهها الصحيح إذا اعتُبرت نوعًا من النقد الذاتي الخفي، وإعرابًا عن الاغتراب الذي تطوَّعوا لاعتناقه.

وفي مرحلةٍ مُتأخرة من رحلة الآلام — وأنا أتسكَّع على غير هدًى — اقتحمني إلهامٌ مُنعِش، مجهول الأسباب مقطوع الصلة بالواقع، على مقربة من الأمريكين تألَّق الإلهام وتوهَّج، دفعني إلى دخول المكان بقوةٍ واعدة بالمعجزة.

١٦

رأيت رجاء في مجلسنا كأنها تنتظر. تسمَّرتُ أمامها. تلاطمتني أمواج انفعالات مُتضاربة. مضيت أخرج من ليلي الحالك إلى نهارٍ مُشرِق. انهمرت فوقي أعذب ألحان الوجود ونشواته مؤيدة بقوة تستطيع أن تفعل ما تشاء. ارتميت إلى جانبها صامتًا. تنفَّست بعمق لأستردَّ شيئًا من الهدوء. تساءلت بصوتٍ هامس: ماذا جاء بك؟

فسألتها بدوري: ماذا جاء بكِ؟

فقالت بعتاب: إنك ماهر في الاختفاء فلم أرَ بدًّا من الجري وراءك.

تذكَّرت آلامي بندم وأسف فواصلت حديثها: كأنك كنت تهرب من هذا المكان أيضًا.

– هل تردَّدتِ عليه قبل هذه المرة؟

فحنَت رأسها بالإيجاب، فقلت: آسف جدًّا.

– ما فائدة الأسف؟

– سعادتك هي ما كانت تهمُّني.

– وفَّرت لي من الشقاء ما يُشفق منه العدو.

– أما آلامي فلن أحدِّثك عنها.

فقالت بحرارة: أرجو ألا تتصرف بغباء بعد الآن.

فقلت بقوة وإيمان: لن نفترق أبدًا.

فابتسمت بعذوبة، فقلت: لن نتراجع حيال عقبة.

– لم أكفَّ عن التفكير لحظةً واحدة.

فهتفت: هذا هو الخطأ.

– ماذا؟

– التفكير في مثل حالنا هو خصمنا.

فابتسمت قائلةً: لقد جرَّبنا الارتجال.

– ونجحنا، ولم نفشل إلا بالإذعان للتفكير.

فقالت بقلق: أخشى أن نجعل من أنفُسنا أضحوكة للدنيا.

فقلت بتصميم وهدوء: لنتزوَّج في الحال.

فرمقتني بذهول فكرَّرت: في الحال.

– أتعني ما تقول؟

– بكل جدية، ودون الرجوع إلى أحد.

فتساءلت بِحيرة: ثم ماذا؟

– أجِّلي هذا السؤال إلى ما بعد الزواج، وسوف يتبدَّى لنا في صورةٍ جديدة تمامًا.

– ربما وجدت في الزواج ما وجدت في الخطبة من قبل؟

– إني أعرف الآن معنى الفراق كما أعرف قيمة الجنون.

فتفكَّرت في قلقٍ واضح ثم تمتمت: الناس .. الناس .. التعليقات .. أف.

فقلت مُترفقًا بها: لنبدأ في سريةٍ مؤقتة .. أيُريحك هذا؟

فتساءلت في حيرة: لمَ تكره التفكير؟

فقلت بسخرية: أي تفكير؟ .. ما هو إلا ترديد لأصداءِ ماضٍ علينا أن نُحطِّمه.

١٧

سِرنا معًا مُتلاصقَين بعد أن تقرَّر مصيرنا بأجرأ خطوة أقدمنا عليها في حياتنا. كنا نشعر بدفء داخلي رغم برودة الخريف المُودِّع، كما شعرنا بطمأنينة ونحن نخوض دنيا لم تعترف بعدُ بنا. بيدِ كلٍّ منا وثيقةٌ ملكية تشمل الروح والجسد، وبقلبي شعلة استأثرت بجوارحي فتناسيت الأمور المُعلَّقة. سألتني في مرح: كيف تشعر؟

فقلت دون تردُّد: بأنني انتزعت المسئولية من أيدي المُغتصِبين.

– أظن أن التفكير الآن لا يُعتبر جريمة.

– يوجد الآن ما هو أهم.

التفتت نحوي مُتسائلةً: ما هو؟

– أن نجد مكانًا نرتاح فيه ولو ساعة من زمان.

فقالت وهي تُداري ابتسامة: المسألة أكبر من ذلك.

– أجل، ولكني أسير هذه اللحظة، الأخيلة المرحة تُطاردني.

فقالت بعتاب: إني أسيرة أفكاري أيضًا.

ربَّتُّ على يدها وقلت بعجَلة: لا مستحيل بعد اليوم، ممكن أن تُقنعي نفسك بالتعليم وأقنع نفسي بالقانون ثم نُهاجر.

– طالما كرهت ذلك!

– أنا مثلك، فلنعمل ما نكره لنعيش ما نحب .. لكن يلزمنا مكان.

– مكان .. مكان .. أنت تُضحكني.

فقلت وأنا أتصفَّح وجوه العمارات: فندق .. بنسيون.

فهتفت: ماذا؟ .. لا حقيبة معنا.

فقلت بجدية محمومة: معنا تحقيق الشخصية والوثيقة الشرعية.

– سلوك غريب.

– لا تتعلقي بالأوهام الفارغة، سترجعين إلى بيتك في الوقت المناسب.

فقالت وهي تُداري ابتسامة: إنك تفكر مثل مراهق!

فقلت مُدافعًا عن نفسي ومُتذكرًا في الوقت نفسه لتاريخي الأليم: ولكني أتصرَّف كرجل.

١٨

لقاءات نهارية، قصيرة العمر، مُتباعدة على قدر ما تسمح به الميزانية. لأول مرة أشعر بأنني أنضج كإنسان وكعاشق. لم تُشاركني رجاء أفراحي بنفس القوة. حثَّني ذلك على مواجهة الحقائق. قلت لها: الهجرة هي طريقنا الواضح.

فقالت بعصبية: لا أدري كيف سأتحمَّل العمل الجديد.

فقلت رغم مشاركتي إياها في موقفها: هو خير من البطالة، ثم إنه سيُهيِّئ لنا عش الزوجية.

– العمل بلا حب نوع من السُّخرة.

فقلت برجاء: ثم يجيء الحب مع النجاح وهناء القلب.

فتساءلت بقلق: ثم من أدرانا أن ذلك الهدف الثقيل ميسور في النهاية؟

فقلت بقوة أُغطِّي بها قلقي: أعتقد أنه غير مُستحيل، ثم إنه توجد تَجارِب أخرى.

أدركت عند ذلك أني أسير بها نحو الفندق، فشدَّتني إلى شارع ماسبيرو وهي تقول: كرهت التردد على الفندق.

فرمقتها بعتاب، فقالت كالمُعتذرة: الجميع يُدركون لماذا نجيء، ما أفظع نظرات المُوظَّفين والخدم!

– ألا تستطيعين أن تُقلِّديني في عدم المُبالاة بالآخرين؟

– فعلت الكثير ولكنني أعجز عن مُجاراتك.

انزعجت حقًّا، وقلت وكأنما أُحادث نفسي: لا أُطيق العودة إلى العذاب.

– وحتَّامَ تُسدل على شرعيتنا ستار السِّرية؟!

– ما اخترتها إلا تشجيعًا لك، وإني مستعدٌّ لإعلانها اليوم قبل الغد، أعلنيها وقتما تشائين ودون الرجوع إليَّ.

وخشيت ألا تمضيَ الأمور بالعذوبة التي مضت بها.

١٩

دُعيت إلى مقابلة مُدير عام العلاقات العامة؛ أول دعوة من نوعها منذ التحقت بالخدمة. ولماذا يدعوني وأنا رجلٌ عاطل؟ طالَعني بوجهٍ مُتجهِّم أثار أعصابي، وبخاصة وأنه من الجيل الذي أُناصبه العداء.

– حضرتك علي عبد الستار؟

– نعم.

– ما عملك؟

– لا عمل لي.

– ألا يكفي أن تستبقيك الشركة رغم أنك زائد عن الحاجة حتى تُكافئها بارتكاب الجرائم في رابعة النهار؟

فقلت بغضب وذهول معًا: إني مُعيَّن بحكم قانون عام فلا فضل لأحد عليَّ، ثم إنني لست مُجرِمًا؛ فلعلك أخطأت الشخص المطلوب.

فتساءل بهدوء الظافر بفريسته: من إذَن الذي يصحب الزميلة رجاء محمد إلى فندق «العش الجميل»؟

انشقَّ قلبي تحت ضربة ذهول داهم، فتساءل ساخرًا: أرأيت؟

تمالكت نفسي بسرعة وقلت بتحدٍّ: سيادتك مُخطئ، ومُبلِغك مُخطئ أيضًا، رجاء زوجتي الشرعية.

– ماذا؟

– إليك الدليل.

قرأ الرجل الوثيقة بدهشة ثم تفحَّصني باهتمام وقد لانت ملامحه وتمتم: مُدهش، ألم يعلم زملاؤك بذلك؟

– كلا، ثَمة ظروفٌ جعلتنا نفرض سِريةً مؤقتة على علاقتنا؟

– ولماذا تتردَّدان على الفندق بتلك الحال المُريبة؟

– المسألة بكل بساطة أننا لا نجد مكانًا.

دارى الرجل ابتسامةً خفيفة وقال: أنا مضطرٌّ إلى إعلان زواجكما كتفسيرٍ ضروري لعدم إحالتكما إلى إدارة التحقيقات.

فسألته بسخريةٍ خفية: هل يمكن أن تدلَّني مشكورًا على شقة؟

فأجابني ببرود: لست سمسارًا يا حضرة.

٢٠

أُعلنَ الزواج، لا مَفر. في بيتنا أحدثَ دهشة ولا شيء سِواها. هتفت أمي: غير معقول أن تفعل ذلك من وراء ظهورنا.

أغرقت مها ونهى في الضحك، أما أبي فقال: أنتم جيلٌ مجنون، قدِّم لي سببًا واحدًا يُبرر تصرُّفك المُضحِك.

فقلت مُعتذرًا: كانت السرية إكرامًا لها.

– أنت أحمق، وهي أيضًا حمقاء، لولا ضيق شقتنا لدعوتك للإقامة معنا.

– إني مُدرِك لذلك كله.

– فتساءل ساخرًا: ماذا يُغريكم بالزواج؟ ألا تتَّعظون بما حصل لنا؟

فقلت عابثًا: سعادة بيتنا هي التي أغرتني بما فعلت.

أما بيت زوجتي فقد اجتاحه حريق. استنتجت ذلك من كلمات رجاء المُوجَزة ومن امتعاضها الدائم. تخيَّلت الطعنة وأثرها الدامي في قلبَي الوالدَين. قالت لي: إني أعيش في بيت يرفضني تمامًا.

فدفعني قولها إلى الارتطام بمسئوليتي فقلت: تعالي إلى بيتنا مؤقتًا.

ولكنها لم تنبس، فقلت: سأجد الإعلان الذي أبحث عنه في الصحف، لا بد أن أعثر عليه ذات يوم.

فقالت بضيق: ومن ناحيتي فالتعليم أحبُّ إليَّ من هذه الدنيا.

فقلت بإصرار: لو اقتضى الأمر أن أتعلم حِرفة فسأتعلم حرفة …

•••

وكان رفضها لفكرة الفندق قد أرجعني إلى حيرة العذاب. ورغم أن الأمل في الرسوِّ على بَر — بعد تقبُّلنا للهجرة — بات ممكنًا إلا أن عذابي لم يبرد. ومضيت بها ذات مساء لا يخلو من دفء إلى هضبة الهرم. لم يبقَ الهلال الوليد في السماء إلا قليلًا ثم انتشر ظلامٌ مُريح. عن يميننا ويسارنا مرقت الأشباح إلى الخلاء وذابت في الظلمة. طوَّقتها بذراعي بحنان وشوق ونحن نتعثَّر على مهل حتى توقَّفنا تمامًا. مِلت نحو أذنها لأهمس لها بخواطري المُضطرمة، ولكنها لكزتني بكوعها قائلةً في تحذير: انظر.

رأيت شبحًا قادمًا تبيَّنته شرطيًّا عندما وقف أمامنا. اضطربت واتجه وعيي نحو الوثيقة في جيبي. قال الشرطي: سلام عليكم.

فقلت وأنا أجهل ما وراء سلامه: وعليكم السلام.

وصمت فانتظرت الخطوة التالية، ولكنه لم ينبس ولم يتحرك، فقلت: نحن نشمُّ الهواء، أنا وزوجتي.

فقال بنبرةٍ واضحة: مُتزوج أو غير مُتزوج لا يهم.

فقلت بتحدٍّ: لسنا وحدنا، الخلاء مليء بأمثالنا.

فقال ضاحكًا: افعل مثلهم.

زايلني الارتباك ففطنت إلى مقصده. دسست بيدي في جيبي مُستخرجًا ورقة من ذات الخمسة والعشرين قرشًا ومددتها إليه. تناولها ثم قرأها على ضوء بطارية ثم ردَّها قائلًا: مقامك جنيه على الأقل.

ولما ذهب قلت ضاحكًا: أرخص من الفندق بما لا يُقاس.

فهتفت: يا للعار!

فضممتها إليَّ بحرارة وأنا أقول مُعتذرًا: إنها ظروفٌ استثنائية لعينة، ولسوف نضحك عليها في القريب.

وأطلَّت علينا القرون من فوق الهرم وهي تضرب كفًّا بكف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤