معدلات الأجور والأسعار دليل على الضغط السكاني في القرن السادس عشر١

بقلم: أ. ﻫ. فيلبس براون وشيلا ف. هوبكين

كان القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر فترة قلقٍ في تاريخ الحضارة الغربية. وعُرِفَت هذه الفترة بكثرة الأفَّاقين والمتشردين والمرتزَقة من الجنود؛ وسادها الشك الذي روَّج له مذهب إنكار التعميد وكذلك حركات اليأس، والشك في أبسط جوانب العقيدة الدينية. وكان هناك في الحقيقة خوف مشترك بين عامة الناس، وهو الخوف الذي كان شكسبير يشارك فيه غالبية أبناء عصره. واتسع نطاق الفوارق التي تمايِز بين دخول الأفراد. وأسهم هذا في تقويض دعائم التضامن الاجتماعي داخل المدن، كما أسهم في خلق حالات التوتر السياسي والديني التي تَميَّز بها هذا العصر. ويقدم لنا المقال التالي توضيحًا كَميًّا للظروف الديموجرافية التي كانت تقوم عليها الحياة الاجتماعية والسياسية في هذه الفترة.

•••

سبق لنا أن عرضنا في عددٍ سابقٍ٢ تقييمًا أوضحنا فيه أن ما يساوي ملء سلة من السلع الاستهلاكية، والتي كان يشتريها عامل البناء الإنجليزي بأجره اليومي بدأ يتناقص — تدريجيًّا — ابتداء من عام ١٥١٠م حتى انكمش في عام ١٦٣٠م إلى ما يساوي خُمس ما كان عليه في القرن الخامس عشر. ونظرًا لأن عامل البناء كان يعاني من ذلك، ويمكن النظر إليه باعتباره ممثلًا للأُجَراء غير الماهرين إلى حدٍّ كبير، إذن يحق لنا أن نعتقد بأن هذا التدهور لم يكن قاصرًا فقط على مجال البناء، بل أصاب — بالتالي — كل الأُجراء الآخرين كذلك؛ ولقد كان الوضع بمثابة كارثة. وعلى قدر عِلمنا فإن ما حدث ليس له مثيل في كل تاريخ الأجور، ورغم ذلك فإن المرء قد يقرأ الكثير عن أحداث القرن السادس عشر دون أن يرِد أي ذكر لما حدث. وربما كان السبب في ذلك أنه لم يحدث انفجارٌ ضخم يدفع المؤرخين إلى البحث عن سبب لنشأته يكمن في ضائقة اجتماعية كبيرة. تُرى هل حدث حقًّا أي شيء بمثل القسوة التي توحي بها الأرقام؟ وإن كان قد حدث شيء كهذا فما هو السبب؟

١

من المؤكد أن أولئك الذين عملوا قبلنا على دراسة موضوعات مماثلة قد وجدوا نفس الشيء، وعلى نفس الدرجة تقريبًا. فقد قال مالتوس على سبيل المثال — رغم أنه كان يستخدم فقط أسعار الحبوب — في كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي»٣ ما يلي: «ثمة حقيقة واضحة لا يتطرق إليها الشك كانت سائدة منذ أواخر عهد هنري السابع إلى أواخر أيام حكم إليزابيث … إذ انخفضت — لدرجة لم يسبق لها مثيل — كميات القمح التي كان يتقاضاها العمال كأجورٍ مقابل عملهم، حتى أصبحت في أواخر القرن لا تزيد على ثلث كمية القمح التي كانوا يحصلون عليها أيام هنري السابع». وكان ثورولد روجر أكثر تأكيدًا في حديثه حين قال: «سبق لي٤ أن بيَّنت أن أولى الحوليات المسجَّلة قد أشارت إلى أن ظروف العامل الإنجليزي كانت — خلال ما يقرب من ثلاثة قرون — ظروفَ رخاء وأمل، ثم تدهورت بعد ذلك تدهورًا شديدًا خلال قرن من الزمان ولأسبابٍ مفهومة تمامًا بحيث أصبح العامل عاجزًا للغاية من الناحية العملية. وبلغت ظروفه هذه أحطَّ درجاتها مع نشوب الحرب العظمى بين الملك والبرلمان.» واستخرج كنوب وجوتس في دراستهما عن المعمار دليلًا للأجر اليومي للعامل٥ واستندا في ذلك على معدل الأجور الذي حدَّدته أكسفورد وكامبريدج ولندن بريدج، وقارنَاه بدليلٍ لأسعار الطعام استخرجاه من دراسات ثورولد روجر بأن جمعا عددًا من المجموعات تتألف من اثنتي عشرة سلعة، ابتداءً من القمح إلى الحمام وبأوزان متساوية. ووجدا أن كمية الطعام التي كان في استطاعة عامل البناء أن يشتريها بأجره اليومي خلال الفترة الواقعة ما بين ١٥٩٣–١٦٣٢م تعادل من ٣٨ إلى ٤٠ في المائة من كمية الطعام التي كان يشتريها في الفترة الواقعة بين عامَي ١٤٥١–١٤٧٥م. وفي تقديرنا الخاص أنها تساوي ٤٠٪ من ثمن شراء سلة كاملة من السلع. وقام كلابهام بدراسة أولية اكتشف فيها أن الأجر اليومي للعامل الذي يعمل في الأرض قد تضاعف تقريبًا خلال القرن السادس عشر، بينما ارتفعت أسعار الغذاء إلى ما يساوي ستة أمثالها تقريبًا: «ويبدو أن هذا شيء يدعو لليأس فقد كان شيئًا سيِّئًا للغاية بكل تأكيدٍ.»٦

ويمكن لنا أن نضيف إلى ذلك دليلًا آخر؛ حيث إن القوة الشرائية للأجر اليومي لعامل البناء في فرنسا والألزاس انخفضت خلال هذه الفترة ذاتها بنفس الدرجة تقريبًا.

والأجور والأسعار الفرنسية مأخوذة عن فيكونت دائينيل، وليس من العسير علينا أن نستعيد جداوله المتعلقة بهذا الموضوع٧ وقد استخرج متوسط الأسعار الذي حصل عليها من هنا ومن هناك من كل أنحاء فرنسا، وكدَّس سلعًا متباينة للغاية تحت عناوين واسعة ومبتكَرة مثل «الأسماك» أو «الملابس» أو «الخمور».
ومع ذلك فقد استطاع أن يجمع قرابة ٥٦٠٠٠ تسعيرة على مدى ستة قرون، ثم أعطانا متوسط هذه الأسعار موزَّعًا على فتراتٍ كل منها ٢٥ عامًا. وإذا نظرنا إلى هذه المتوسطات، حسب هذا التوزيع، فإننا نجد شيئًا من الاتساق في النتائج التي حصل عليها. وثمة مجموعات أخرى أكثر تلاحمًا واتصالًا مأخوذة كل منها من مقاطعة بذاتها مثل مقاطعة بواتو ودوا وإيل دي فرانس.٨ وقد عُرِضَت هذه المجموعات لتكشف لنا بعض التباين من حيث التوقيت الزمني لحركات الأسعار ومداها. ولكنها تتلاقى مع غيرها من حيث إنها تكشف عن انخفاض القوة الشرائية لمعدل الأجور انخفاضًا كبيرًا خلال القرن السادس عشر. وعندما نجد تشابهًا كبيرًا بين التغيُّرات التي تشير إليها جداول دافينيل، رغم أنها غريبة في ذاتها، والتغيُّرات التي حدثت في إنجلترا والألزاس فإننا نصل إلى قاعدة تكون بمثابة شاهد يُبرر لنا الاستنتاج التالي: «إنه لأمر بعيد الاحتمال أن تصل بنا بيانات خاطئة إلى نتائج متماثلة لدرجة مثيرة للغاية، ولكن إذا ما تأكدت صحة هذه البيانات فإن من شأنها أن تؤكد لنا النتيجة التي انتهينا إليها.» وبوسعنا أن نضيف إلى ذلك أن المجموعات [الفرنسية تؤدي أيضًا إلى نتائج مماثلة للتي خرجنا بها من] المجموعات الإنجليزية بالنسبة للفترة السابقة على تاريخ المقارنة المعروضة هنا بوقتٍ قليلٍ، أي في عام ١٤٠١م.

واستقينا الأجور والأسعار الخاصة بمنطقة الألزاس من المجلدَين اللذين نشرهما أبيه أنوويه في عامَي ١٨٧٦–١٨٧٨م. وتماثل دراسته عن الألزاس في جوهرها دراسة ثورولد روجر عن جنوب إنجلترا التي استخرجها آنذاك من الحسابات الموجودة بأرشيف كولمار وبال خاصة حسابات الأديرة والمستشفيات وسجلات المجالس البلدية والتقارير الخاصة بحالة الأسواق. ونشر كل ما حصل عليه تفصيلًا مع بعض التعليقات التي تتسم بالحذر والحرص، ولكن تسجيلاته عن أسعار القرن الخامس عشر ناقصة وقليلة فيما عدا أسعار الحبوب، كما وأن تسجيلاته عن الأجور لا تتعدى عام ١٦١٠م.

ومعدلات الأجور التي استخدمناها هنا هي أجور ثلاثة أنماط من الحرفيين في فرنسا، هم البنَّاءون والنجارون وعمال النقش والطوب والبياض، وعمال البناء والنجارة فقط من الألزاس. والأجور التي أشرنا إليها في كلتا المنطقتين هي الأجور اليومية دون حساب لمصاريف الأكل.

ولكي نتتبَّع حركة أسعار السلع الاستهلاكية فقد راعينا، بدقة وبقدر المستطاع، تشابه العناصر التي تتكوَّن منها الوحدة المركَّبة التي استخدمناها في إنجلترا، ما عدا الوحدة التي تتعلق بالمشروبات؛ حيث كانت تعني في إنجلترا في أكثر الأحوال (الملت)، بينما كانت تمثِّل في فرنسا والألزاس النبيذ فقط. لذلك فقد حوَّلنا عشر نقاط من ٢٢٫٥ نقطة من وزنها إلى المواد النشوية. وفضلًا عن ذلك فلم يكن بين أيدينا بالنسبة لمنطقة الألزاس قوائم كافية عن الأسماك أو الجبن أو النسيج. وكان عدد العناصر التي تتكوَّن منها هذه المجموعات أقل — بوجه عام — من عددها في إنجلترا. ولم تكن كل هذه العناصر التي تتكوَّن منها هذه المجموعات من السلع التي يتيسَّر الحصول عليها في كل وقتٍ على مدى القرون الثلاثة.

ولكن الأجر اليومي لعامل البناء في كل هذه البلدان الثلاثة كان مع نهاية القرن السادس عشر لا يساوي إلا أقل من نصف ما كان يشتريه العامل بهذه القيمة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. وكان هذا الهبوط في القيمة الشرائية في فرنسا والألزاس أكبر منه في إنجلترا. وتتفق مجموعات الأسعار في إنجلترا والألزاس في بيانها لهذا التدهور الحاد فيما بين عامَي ١٥٠٩ و١٥١٣م، أما المجموعات الإنجليزية والفرنسية، وهي المجموعات الوحيدة التي تيسَّر لنا الحصول عليها لما بعد عام ١٦٠٥م، فإنها تتفق معًا في الإشارة إلى توقف الأسعار عن التدهور حتى عام ١٦٠٠م، ثم ظهور بعض الانتعاش فيما بعد عام ١٦٣٠م.

وها هنا نجد بعض الأسباب القوية التي تبرر لنا الاعتقاد بأن وضع عامل البناء في المناطق الثلاث قد ساء لدرجة محزِنة، ولكن هل ساء وضعه حقًّا بنفس القدر الذي توحي به تقديراتنا؟ إن المناقشة السالفة أعطتنا بعض الأسباب التي تدعونا إلى الاعتقاد بأننا بالغنا في ذلك؛ إذ إن بعض المنتجات مثل الخبز والبيرة لم ترتفع أسعارها بنفس القدر الذي ارتفعت به أسعار الحبوب والملت، مع أنه من المفروض أن ثمن الرغيف مثلًا لا يغطي فقط تكاليف الحبوب، بل يغطي كذلك أجور طحنه ونقله وخبزه. ولكن نظرًا لأن أسعار هذه العمليات كلها لم ترتفع بنفس القدر الذي ارتفعت به أسعار الحبوب فإن سعر الرغيف لم يرتفع بالتالي بنفس القدر، وهذه نقطة هامة. فلو أن الأثمان التي كان يدفعها العامل الأجير عند شرائه بالتجزئة تساوي ثلثَي تكاليف الجملة للطعام والمواد الأساسية والثلث الآخر للأجور فإن الدليل الإنجليزي لأسعار التجزئة الذي يتخذ من عامَي ١٤٥١–١٤٧٥م سنة أساس يبدأ من ١٠٠ وسيرتفع إلى ٣٨٠ فقط مع نهاية القرن السادس عشر بدلًا من ٤٧٥ كما هو مبيَّن في دليلنا. ومن ثَم فإن سلة السلع ستصل إلى ما يربو على ٥٠٪ من حجمها الأصلي، بدلًا من ٤٠٪. ولقد شهد القرن السادس عشر تقدمًا هامًّا في طرق التصنيع. وكل هذه الأمور توضح لنا السبب في أن كمية النقود والتي تعادل مصاريف الأكل اليومي لعامل البناء، والتي تم إدراجها ضمن الحسابات الإنجليزية ارتفعت من ٢ شلن عام ١٤٩٥م إلى ما لا يزيد على ٥ شلنات في عامَي ١٥٩١–١٦١٠م، بينما كان يجب أن ترتفع لتصل إلى ٩٫٥ شلنات إذا كان لا بد لها وأن تساير ارتفاع الأسعار حسب ما هو وارد في دليل الأسعار الذي قدَّمناه نحن. ومن الممكن كذلك أن نجد الدخل السنوي النقدي في إنجلترا وقد زاد كثيرًا على المعدل اليومي الذي ذكرناه؛ وذلك لأن العمال تكاتفوا من أجل خفض ساعات العمل وكمية العمل المحدَّدة يوميًّا، ومن ثَم أمكنهم الحصول على مزيدٍ من الأجر الإضافي. وثمة سببٌ آخر وهو خفض عدد أيام الإجازات حسب ما قرَّره نظام الإصلاح، ويقدِّر كنوب وجونس أن كل هذه الإجراءات قد زادت من عدد أيام العمل في السنة بما يساوي الخُمس.

لذلك فإن ما يعادل الأجر السنوي للأجير من سلع التجزئة انخفض، كما هو وارد في دليلنا عما يعادل الأجر اليومي للأخير من المواد الغذائية والمؤن بسعر الجملة. ورغم ذلك فإن هبوط الأسعار يظل كبيرًا جدًّا، ولا يزال يطرح علينا مشكلة البحث عن السبب في عدم حدوث أي اضطرابٍ. وربما يرجع السبب — جزئيًّا — إلى أن هذا الهبوط إنما كان هبوطًا من مستوى مرتفع للمعيشة؛ فإنه رغم ضخامته فقد ظل الأجير قادرًا على أن يقيم أوده. وقد أشار مالتوس٩ إلى ذلك بقوله: «إن الأجور التي يشقُّ علينا فهمها قبل غيرها هي أجور القمح المرتفعة في القرن الخامس عشر قبل أجور القمح المنخفضة في القرن السادس عشر.» ولكن تبقى بعد ذلك أهم نقطة يجب أن نوليها اهتمامنا، وهي أن كثيرًا من الأجراء كانوا يمتلكون أرضًا، وكانوا يزرعون جزءًا كبيرًا لطعامهم الخاص. ولولا ارتفاع قيمة الإيجار لما وقعوا في حالة الفاقة المتزايدة. وكان هناك تدرج يبدأ من المالك الصغير الذي يكتفي ذاتيًّا، وقد يؤدي أحيانًا بعض الأعمال الموسمية ليزيد من دخله، إلى العامل الذي يعتمد أساسًا على أجره، ولكنه يزرع قطعة أرضٍ إلى جانب ذلك، وينتهي بالعامل المعدَم، ومن ثَم فإن هذا الأخير هو الذي أحس بوطأة العاصفة وحده.

ولقد كانت عاصفة حقًّا. وليس ثمة شكٌّ — على ما يبدو — في أننا كنا نواجه حالة فقر متزايدة؛ إذ إن مستوى المعيشة في قِطاع معين من السكان العاملين في منطقة تمتد من الراين إلى التيمس، كان يتدهور باطرادٍ على مدى قرن من الزمان أو يزيد. ويندر أن نجد مثيلًا لذلك في أي زمن آخر، ولكن لماذا حدث هذا في تلك الفترة بالذات؟

٢

وجد ثورولد روجرس «أسبابه المعقولة تمامًا» في أسلوب الطبقة الحاكمة الذي كان يتعمَّد استغلال العامل وقهره. ولكن هل لنا أن نتصور وجود مثل هذه السياسة في كلٍّ من المناطق الثلاث، وأنها أدَّت إلى نفس النتيجة خلال هذه الفترة ذاتها؟

ولكن مالتوس وجد أن السبب يرجع إلى عاملٍ آخر ظهر في عددٍ من المناطق في وقتٍ واحدٍ، وقال في هذا الصدد:١٠ كانت الأجور في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، والتي كانت تُقَدَّر عينيًّا بالقمح، أجورًا غير عادية؛ ومن ثَم لم يكن من المستطاع أن تكون أجورًا ثابتة ودائمة. ولا يتضح لنا ذلك فقط عن طريق مقارنتها بالعهود السابقة أو اللاحقة على هذه الفترة، وإنما أيضًا عندما نضع في اعتبارنا كميتها العملية. فالإيراد الذي يعادل — في قيمته — نصف بوشل من القمح يوميًّا كان يمكن لصاحبه أن يتزوج في سن مبكرة، وأن يعُول أسرة كبيرة. وهذه الكمية تعادل نفس دخل العامل في الولايات المتحدة … وإذا وضعنا في الاعتبار ارتفاع أجور القمح في تلك الفترة ارتفاعًا غير مألوف، وأنها إذا انخفضت فلا بد وأن تنخفض تدريجيًّا؛ إذن فلا بد وأن العامل المؤثر كان له تأثيره القوي والمستمر طوال فترة طويلة خلال هذا القرن. وارتفعت الأصوات التي تضج بالشكوى من التخلخل السكاني في نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر بينما أصبحت الوفرة الزائدة عن الحاجة من السكان من الأمور المعترَف بها في نهاية القرن السادس عشر. والحقيقة أن هذا التغيُّر في حالة السكان، وليس اكتشاف المناجم الأمريكية، هو الذي هيَّأ الظروف لخفض أجور العمل التي يتقاضاها العمال عينيًّا على هيئة قمح، انخفاضًا ملحوظًا.
ونحن نعرف على الأقل أنه كان من الممكن في تلك الفترة أن تطرأ زيادة على السكان. وسبق أن أُشيرَ — وبتحفُّظ كبير — إلى أن تعداد سكان إنجلترا وويلز كان يتراوح ما بين ٢٫٥ و٣ مليون نسمة حوالي عام ١٥٠٠م، كما يُشار بنوعٍ من التأكيد إلى أن هذا التعداد قد وصل في عام ١٧٠٠م١١ إلى ٥٫٨ مليون نسمة، ومعنى هذا أن تعداد السكان ازداد بما يقرُب من الضعف خلال قرنَين من الزمان.
وليس لزامًا علينا أن نسلِّم بتقدير مالتوس للسبب المباشر لنمو السكان في القرن السادس عشر. والحقيقة أن السجلات الموجودة بين أيدينا عن تعداد السكان في النرويج والسويد في القرن الثامن عشر تتفق مع السجلات الخاصة بإنجلترا وويلز من حيث الإشارة إلى أنه «في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة المواليد فقد انخفضت نسبة الوفيات.»١٢ وهذه الحقيقة تدعم الاكتشافات الخاصة بكل بلدٍ على حدة، كما توحي لنا بوجود سببٍ مشترك؛ إذ ربما يكون انخفاض نسبة العدوى بالجراثيم أو الفيروس تفسيرًا محتمَلًا يفسِّر لنا انخفاض نسبة الوفيات التي تحدث في نفس الوقت تقريبًا في عديدٍ من البلدان ذات الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المختلفة. وهذا من شأنه أن يوعز إلينا برأي عن القرن السادس عشر، فلو كان الإيراد المرتفع هو الذي أدى حقيقةً إلى زيادة السكان عن طريق الزواج المبكر؛ إذن يلزم علينا أن نفسر لماذا ظلَّت تلك الأجور كما هي تقريبًا طوال تسعين عامًا، أي من عام ١٤٢٠م إلى عام ١٥١٠م١٣ على وجه التقريب، دون أن يكون لأثرها على السكان أي رد فعل عليها، والإمكانية البديلة هي انخفاض نسبة الوفيات، وأن السبب في انخفاضها عامل آخر غير عامل الدخل.
ولو افترضنا حدوث زيادة كبيرة في السكان في إنجلترا في أوائل القرن السادس عشر فإننا نستطيع أن نرى كيف يمكن أن تترتب عليها تلك النتائج التي نراها الآن حقيقة واقعة. فلقد زاد ناتج الطعام والصوف في بعض المقاطعات بفضل استخدام طرقٍ مختلفة؛ ولكن لم يكن لنا أن نتوقع — أبدًا — أن تُحقق الزراعة أي توسُّعٍ، سواء أكان توسعًا أفقيًّا أم زيادة في كثافة الإنتاج؛ بحيث ترفع من قوة العمل، أو تزيد من ناتجه بما يتناسب مع زيادة تعداد السكان. ومن ثَم كان لا بد للفائض من قوة العمل أن يتجه إلى حيث يجد مجالًا له في ميدان العمالة الصناعية. وبذلك يرتفع ناتج الإنتاج الصناعي، ويجد الفائض من قوة العمل نصيبه من هذا الإنتاج ليستبدل به الطعام الذي يتيسر له الحصول عليه. إلا أن هذا الطعام لم تزد كمياته بنسبة كبيرة؛ إذ كان ثمة حالة من الضغط، وبالتالي فإن الأعمال التي كان عليها أن تتحمَّل العبء هي تلك التي كان يتنافس عليها هذا الفائض الذي يعاني الفاقة من حين لآخر. تلك كانت نظرة كلابهام، وقال في ذلك:١٤ «نشأت المشكلة الرئيسية من زيادة تعداد السكان في المجتمع الريفي الذي لم تزد فيه الحيازات الزراعية المتناثرة. ومن ثَم فإن كثيرًا من الأفواه الوليدة اتجهت إلى العاصمة أو المدن أو تعلَّقت بأي عمل تجاري في الأقاليم، وتشرَّد البعض في الطرقات أو عرف طريقه إلى الجريمة، وحاول كل من يستطيع من أفراد الأسرة أن يقوم بأي عمل جانبي يتيسَّر له الحصول عليه ليضيف به إلى دخل الأسرة شيئًا ما … مثل العمل في صناعة الغزل أو صناعة المسامير، أو أي عمل آخر ميسور له، وعمل الباقون مقابل أي أجرٍ يحصلون عليه …»
ولو كان الضغط السكاني هو السبب الذي يكمن وراء انخفاض القوة الشرائية لمعدل الأجور إذن فإن ما حدث عقب نهاية هذا القرن، من توقف القوة الشرائية عن الانخفاض، لا بد وأن يعني الضغط السكاني قد خفَّت حدَّته، وثمة دلائل تشير إلى حدوث مثل هذا. وأشار إلى ذلك د. س. كولمان حين قال: «لقد طلع علينا القرن السابع عشر أثر مجاعة ١٥٩٦-١٥٩٧م، ومن ثَم أتى معه بالطاعون الذي تفشَّى من جديد، وبصورة قاسية، فضلًا عن مزيدٍ من نقص المحاصيل والحرب وسوء الظروف المناخية، وغير ذلك من العوامل التي ساعدت على زيادة نسبة الوفيات وانخفاض معدل النمو السكاني انخفاضًا واضحًا.»١٥ وربما كان قد تغيَّر أيضًا الجانب الآخر من الميزان، وسارت عملية التوسع الزراعي في نفس الاتجاه، سواء من حيث عدد الأيدي العاملة التي يمكن استيعابها، أو من حيث معدل إنتاج الفرد أو كلاهما معًا.

وتفسيرنا هذا لعملية تدهور القوة الشرائية أو ثباتها يوحي — ضمنًا — بوقوع تغيُّرات بالنسبة لشروط التجارة بين الزراعة والصناعة؛ إذ نتوقع مع زيادة الضغط السكاني أن تتحرك هذه الشروط لغير صالح الصناعة، وعندما يتوقف هذا الضغط فإننا نتوقع أن تتوقف هذه الحركة أيضًا. ويمكن لنا أن نضيف دليلًا نؤكد به أن هذا هو ما حدث بالفعل، وبشكلٍ واضحٍ تمامًا في كل من المناطق الثلاث خلال نفس الفترة التي تدهورت فيها القوة الشرائية لمعدل الأجور؛ إذ سارت الأسعار في حركة متميزة تمامًا عن عملية الارتفاع العامة التي حدثت أثناء هذه الفترة عن طريق زيادة الوارد من الفضة ونقص كمية الفضة التي تحتوي عليها العملة. وقد تتبَّعنا هذه الحركة على النحو التالي: أخذنا دليل أسعار المكونات الغذائية للوحدة السلعية المحدودة، وذلك بالنسبة لكل إقليمٍ على حِدة، ثم قسَّمناها إلى دليلٍ لأسعار الوقود والإضاءة والنسيج (باستثناء الألزاس)، وهي العناصر التي تتكوَّن منها الوحدة السلعية بالإضافة إلى بعض مواد البناء والمعادن مثل الآجر والجير والحديد والرصاص في الألزاس؛ والخشب والبغدادلي والقرميد المسطَّح والآجر مع الرصاص والقصدير في جنوب إنجلترا؛ وفي فرنسا لم ندرج مواد البناء ضمن هذه السلعة، واكتفينا بالحديد والنحاس والرصاص. ويشير نقص ناتج القسمة في كلٍّ من البلدان الثلاثة إلى مدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية أكثر من ارتفاع أسعار العيِّنة التي ضربنا بها المثل في منتجاتنا الصناعية. ويدل — في نفس الوقت — على أن القوة الشرائية لمعدل أجر عامل البناء قد بدأت في الانخفاض. ويستمر الوضع على هذا النحو حتى نرى أن كمية الأطعمة في المناطق الثلاث التي تساوي وحدة من المنتجات الصناعية ويمكن استبدالها بها ستصبح أقل من نصف ما كانت عليه عام ١٥١٠م. ثم يثبت معدل الهبوط عند نهاية القرن، وهو نفس الوقت تقريبًا الذي تتوقف فيه القوة الشرائية لمعدل الأجور عن الانخفاض. ويشير كلٌّ من الدليلَين، سواء في إنجلترا أو في فرنسا إلى ارتفاعٍ واضحٍ بعد عام ١٦٤٠م. ومن الواضح أن انكماش كمية الطعام التي كان يحصل عليها الأجير، وهي ما تساوي ملء سلة، إنما يرجع من ناحية على الأقل إلى التغيُّر الذي طرأ على شروط التجارة بين الورشة والمزرعة.

جدول ١: الألزاس وجنوب إنجلترا وفرنسا، دليل لكل من:
(١) سعر الوحدة المركبة للمواد الغذائية.
(٢) سعر عيِّنة من المنتجات الصناعية.
(٣) كمية الأطعمة التي يمكن استبدالها بوحدة من المنتجات الصناعية الواردة في العيِّنة المذكورة، أي ٢ ÷ ١ في القرن ١٥، ١٦، ١٧.
١٤٥١ − ١٤٧٥ = ١٠٠
السنة الألزاس إنجلترا فرنسا
(١) (٢) (٣) (١) (٢) (٣) (١) (٢) (٣)
١٤٠١–١٤١٠م ١١٥ ١٠٧ ٩٣
١٤١١–١٤٢٠م ٩٩ ١١٠ ١١١ ١١١ ١٠٧ ٩٦ ١٤٠ ١١٠ ٧٩ ١٤٠١–١٤٢٥م
١٤٢١–١٤٣٠م ١١٠ ١٠٧ ٩٧ ١٠٧ ١٠٨ ١٠١
١٤٣١–١٤٤٠م ١٢٧ ١١٣ ٨٩ ١١٨ ١٠٦ ٩٠ ١٥٦ ١١٧ ٧٥ ١٤٢٦–١٤٥٠م
١٤٤١–١٤٥٠م ١١٨ ١١٧ ٥٩ ٩٥ ١٠١ ١٠٦
١٤٥١–١٤٦٠م ١١٣ ١٠٣ ٩١ ٩٨ ٩٩ ١٠١
١٤٦١–١٤٧٠م ٩٨ ٩٨ ١٠٠ ١٠٥ ١٠٣ ٩٨ ١٠٠ ١٠٠ ١٠٠ ١٤٥١–١٤٧٥م
١٤٧١–١٤٨٠م ٩٥ ٩٩ ١٠٤ ٩٣ ١٠٠ ١٠٨
١٤٨١–١٤٩٠م ١٢٧ ١٠٠ ٧٩ ١٢١ ١٠٣ ٨٥ ١٣٢ ١٢٥ ٩٥ ١٤٧٦–١٥٠٠م
١٤٩١–١٥٠٠م ١٢٠ ٩٢ ٧٧ ١٠٠ ٩٧ ٩٧
١٥٠١–١٥١٠م ١٠٨ ٨٩ ٨٢ ١٠٦ ٩٨ ٩٢
١٥١١–١٥٢٠م ١٣٤ ٩٢ ٦٩ ١١٦ ١٠٢ ٨٨ ١٦٨ ١٥١ ٩٠ ١٥٠١–١٥٢٥م
١٥٢١–١٥٣٠م ١٤١ ٩٤ ٦٧ ١٥٩ ١١٠ ٦٩
١٥٣١–١٥٤٠م ١٥٧ ١٠١ ٦٤ ١٦١ ١١٠ ٦٨ ٢٧٦ ١٩٤ ٧٠ ١٥٢٦–١٥٥٠م
١٥٤١–١٥٥٠م ١٨٨ ١١٥ ٦١ ٢١٧ ١٢٧ ٥٩
١٥٥١–١٥٦٠م ٢٢١ ١٤٠ ٦٣ ٣١٥ ١٨٦ ٥٩
١٥٦١–١٥٧٠م ٢٨٠ ١٥٦ ٥٦ ٢٩٨ ٢١٨ ٧٣ ٤٤٩ ٢٤٥ ٥٥ ١٥٥١–١٥٧٥م
١٥٧١–١٥٨٠م ٣٧٦ ١٨٣ ٤٩ ٣٤١ ٢٢٣ ٦٥
١٥٨١–١٥٩٠م ٤٥٣ ٢٠٤ ٤٥ ٣٨٩ ٢٣٠ ٥٩ ٨٥٣ ٣٨٥ ٤٥ ١٥٧٦–١٦٠٠م
١٥٩١–١٦٠٠م ٥٠٧ ٢٣١ ٤٦ ٥٣٠ ٢٣٨ ٤٥
١٦٠١–١٦١٠م ٤٩٤ ٢٧١ ٥٥ ٥٢٧ ٢٥٦ ٤٩
١٦١١–١٦٢٠م ٥٤٠ ٣١٦ ٥٩ ٥٨٣ ٢٧٤ ٤٧ ٧٢٩ ٣٣٥ ٤٦ ١٦٠١–١٦٢٥م
١٦٢١–١٦٣٠م ١٠٥٧ ٤٢٥ ٤٠ ٥٨٥ ٢٦٤ ٤٥
١٦٣١–١٦٤٠م ١١٦٩ ٣٤٨ ٣٠ ٦٨٧ ٢٨١ ٤١ ١٠٩١ ٤٦٦ ٤٣ ١٦٢٦–١٦٥٠م
١٦٤١–١٦٥٠م ٦٦٨ ٤١١ ٦٢ ٧٢٢ ٣٠٦ ٤٢
١٦٥١–١٦٦٠م ٤٤٨ ٣٧٦ ٨٤ ٦٨٧ ٣٢٧ ٤٨
١٦٦١–١٦٧٠م ٤٥٣ ٣٥٣ ٧٨ ٧٠٢ ٣٤٣ ٤٩ ٩٨٠ ٥٦٩ ٥٨ ١٦٥١–١٦٧٥م
١٦٧١–١٦٨٠م ٦١٦ ٣٧٦ ٦١ ٦٧٥ ٣٥١ ٥٢
١٦٨١–١٦٩٠م ٥٨٨ ٤٥٦ ٧٨ ٦٣١ ٣١٠ ٤٩ ١٠٦٧ ٥١٩ ٤٩ ١٦٧٦–١٧٠٠م
١٦٩١–١٧٠٠م ٨٨٩ ٥٤٢ ٦١ ٧٣٧ ٣٣١ ٤٥

ويشبه تغيُّر شروط التجارة التغيُّر الذي طرأ على سلة الطعام، ليس فقط من حيث الاتجاه والتوقيت، بل كذلك من حيث الحجم. ويمكن لنا أن نخرج بالنتيجة التالية: أن أسعارنا للمنتجات الصناعية لم تسلك طريقًا مخالفًا لطريق معدل الأجور. وهذا هو ما حدث بالفعل في كل بلدٍ من البلدان الثلاثة على الأقل في هذا الاتجاه، بحيث إنها رغم ارتفاعها عن معدل الأجور إلا أنها لم ترتفع مثل ارتفاع أسعار الطعام. وهذا هو ما كان عليه الوضع عام ١٦٠١–١٦٢٠م مع اعتبار فترة الأساس ١٤٥١–١٤٧٥= ١٠٠٪.

دليل الألزاس جنوب إنجلترا فرنسا
أسعار مواد الغذاء ٥١٧ ٥٥٥ ٧٢٩
أسعار بعض المنتجات الزراعية ٢٩٤ ٢٦٥ ٣٣٥
معدل أجور عمَّال البناء ١٥٠ ٢٠٠ ٢٦٨

ويجب علينا ونحن نتأمل العلاقة بين السطرَين الأخيرين أن نضع في اعتبارنا أن جانبًا من تكاليف المنتجات الزراعية، باعتبارها موادَ خامًا، دخل ضمن أسعار الوقود والإضاءة والنسيج. ونستنتج من ذلك أن انكماش سلة الأجير إنما كان يرجع — أساسًا — إلى تغيُّر شروط التجارة بين الورشة والمزرعة؛ إذ ربما كان الأجير يأتي بغية الحصول على نصيبٍ أقل من إنتاجه الصناعي؛ إلا أن ما فقده بهذه الطريقة إنما هو جزء ضئيل إذا ما قارنَّاه بما يمكن أن يفقده لو أنه أتى ليستبدل إنتاجه بمواد غذائية.

ويترتب على ذلك أن كينز قد ضلَّ طريقَه حينما كان يناقش في رسالته١٦ الارتفاع العام في الأسعار، ورأى أنه كان حافزًا للنمو الصناعي بأن وسَّع من حدود الربح الناتج عن فروق البيع والشراء. وكما أشار نيف١٧ عام ١٩٣٧م فإن الأرقام التي استند إليها كينز تشير إلى حدوث انكماشٍ في المواد الغذائية الخاصة بسلة الأُجراء الصناعيين أكثر مما تشير إلى حدوث أي توسُّع في الحد الفاصل بين أجره وسعر إنتاجه.
ومن ثَم فإن النظرية القائلة بأن الضغط السكاني كان يمثِّل جذر انخفاض القوة الشرائية لمعدل الأجور تجد ما يدعمها في حركة شروط التجارة بين المزرعة والورشة، في كلٍّ من المناطق الثلاث التي ذكرناها هنا. وجديرٌ بالذكر أن الورشة والمزرعة لم تكونا — آنذاك — متمايزتَين بنفس القدر كما هما الآن، ولكن ما نشاهده هو أن النمو السكاني هو الذي يدعم هذا التمايز أكثر فأكثر. وإذا كنا نعني بالأجير الشخص الذي يعتبر دخله العيني من أي أرضٍ يشغلها دخلًا ثانويًّا بحيث تتوقف معيشته على أجره أساسًا؛ إذن فإننا نؤمن بما يُشار إليه عادة، وهو أن ما يقرب من ثلث سكان إنجلترا في النصف الأول من القرن السادس عشر كانوا أُجراء. لقد كانوا كما يقول كلابهام١٨ «في طريقهم ليصبحوا فئة اجتماعية لها خطرها، مقدَّرًا لها أن تشكِّل، فيما بعد وقبل نهاية القرن التالي، غالبية المجتمع. إن وجود أكثرية من الأجراء المعدَمين — بنسبة أربعة تقريبًا من بين كل خمسة من سكان بريطانيا في عهد الملكة فيكتوريا — إنما كان النتيجة المترتبة على الضغط السكاني. إن العمل بالأجر ليس هو المصير الذي يبحث عنه الناس لذاته؛ لذلك فليس لنا أن نتوقع أن يعمل الكثيرون من سكان إنجلترا وويلز كعمَّالٍ أُجراء وقتما كان مجموع كل سكانهما لا يتعدى ثلاثة ملايين فقط، تمامًا مثل ما هو حادث الآن بالنسبة لأي مستعمرة حديثة أو مجتمع من مجتمعات ما وراء الحدود التي نشأت في الأعوام الأخيرة. ولكن مع تزايد عدد السكان، يتزايد — باطرادٍ — عدد من يفشلون في حيازة قطعة أرض أو مأوًى، ومن ثَم أصبح لزامًا عليهم أن يبحثوا عن مكان لهم». ومع نمو الصناعة وجدت خاماتها البشرية من بين هذه الطبقة العريضة من الأُجراء ذات الثِّقل الاجتماعي، من حيث وفرة عددها، وهي الطبقة التي تُعتبَر من الخصائص المميزة لعصر الصناعة، ولكن عصر الصناعة لم يخلق هذه الطبقة، بل هيَّأ لها أعمالًا لتشغلها.

عنينا في دراستنا هذه بحالة الفقر التي أصابت الأجير، والجانب الآخر من العملة هو ثراء أولئك الذين كانوا يبيعون غلة المزرعة أو كانوا يؤجرون مزارعهم ويرفعون قيمتها الإيجارية حسب هواهم. إن تكاليف العمل (إذا كان عامل البناء هو الممثِّل لذلك) وتكاليف بعض المنتجات الصناعية الرائدة كانت تصل إلى نصف أسعار المواد الغذائية. ولا شك أن هذا التغيُّر الشامل العميق لا بد وأنه أدَّى إلى تحوُّل في الدخول الحقيقية لأولئك الذين كان في استطاعتهم الحصول على نصيبٍ من الأجور الحقيقية المرتفعة مقابل العمل في الزراعة.

•••

يمكن للقارئ إذا شاء الاستزادة بحججٍ أخرى عن الضغط السكاني في إنجلترا أن يرجع إلى: ي. س. برينر «تضخم الأسعار في إنجلترا في أوائل القرن السادس عشر»، مجلة التاريخ الاقتصادي، الفصل الرابع عشر، (١٩٦١-١٩٦٢م)، ص٢٢٥–٢٣٩، ويمكن الرجوع إلى برنتس سيترلنج في كتابه «السوقة عند شكسبير» ١٩٤٩م، الذي يتحدث فيه عن خشية عديد من الكُتَّاب المعاصرين من تنظيم الجماهير ضد السلطة المدنية والمِلكية الخاصة. وفي نفس الوقت أثرى منتجو المواد الغذائية بهدف بيعها في السوق. وخلال هذه الفترة لم يقتصر الثراء على الأغنياء وحدهم، بل امتد الرخاء إلى أبناء الطبقة المتوسطة من الفلاحين. وكان هناك نشاطٌ واسع في ميدان البناء داخل الريف على أيدي كبار المزارعين ومُلاك الأراضي والأعيان أكثر مما كان عليه الوضع منذ القرن الثالث عشر. وكانت الأكواخ أكبر حجمًا من الأكواخ القديمة، وتميزت بأنها أكثر راحة من حيث تأثيثها، كما أوضح ذلك و. ج. هوسكينز في كتابه: «تجديد الريف الإنجليزي فيما بين عامَي ١٥٧٠–١٦٤٠» مجلة الماضي والحاضر، عدد ٤، نوفمبر ١٩٥٤م، ص٤٤–٥٩. ويمكن الرجوع إلى أنجريد هامرستروم بخصوص تخلف الأجور عن الأسعار في السويد في: «ثورة الأسعار في القرن السادس عشر» مجلة التاريخ الاقتصادي، عدد ٥٠، ١٩٥٧م، ص١١٨–١٥٤.

وأصبح قطع الطرق والاضطرابات المدنية داءً متوطنًا في كل من كاتالونيا وجنوب فرنسا، وعمَّت كل أرجاء إيطاليا، وزادت بوجه خاصٍّ في جنوبها، وكذلك في الإمبراطورية العثمانية. وفي كتاب «البحر الأبيض المتوسط وعالمه في عصر فيليب الثاني» ١٩٤٩م يشير مؤلفه فيرناند بروديل إلى البؤس الذي انتشر على نطاقٍ واسعٍ بين السكان الذين زاد تعدادهم على الحد في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وكانت المدن الإيطالية تعاني المزيدَ من المشاكل بالنسبة لتزويدها بالغذاء. وفي عام ١٥٨٩م روَّج بوتيرو لأفكاره المتشائمة عن التضخم السكاني، والتي سبق فيها مالتوس من نواحٍ كثيرة.

وثمة سجلات عن أجور عمال الحديد في بافاريا تسمح لنا بتصنيف مجموعات كاملة من الأجور خلال الفترة الواقعة بين عامَي ١٥٥٤–١٦٦٠م. وتبيِّن لنا هذه السجلات أن الدخل الحقيقي لفترة عملٍ كاملة قد انخفض إلى نصف قيمته الأصلية، وبلغ أدنى مستوى له في أعوام ١٦٠٥–١٦٣٠م. ثم بدأت الأجور الحقيقية ترتفع بعد ذلك حتى وصلت عام ١٦٦٠م إلى النقطة التي كانت قد بدأت تنخفض عندها منذ قرن سابق (انظر فرانز ميشيل ريس، تطور أسعار المواد التموينية والأجور والدخل الحقيقي من ١٥٥٤م إلى ١٦٦٠م، الكتاب السنوي شمولر ٨٢ (١٩٦٢) ٥٩–٦٥).

وفي جنوب غرب ألمانيا، وربما في ألمانيا الوسطى ولكن لدرجة أقل، كانت هناك أعداد غفيرة من الشحاذين والمتشردين والعاطلين، وكان هؤلاء يمثِّلون مشكلة ضاغطة على المدن. وزاد عدد السكان في ألمانيا الوسطى في القرن السادس عشر بنسبة ٦٠٪، وكانت الزيادة حوالي ٣٥٪ في النصف الأول، و٢٥٪ فقط من النصف الثاني؛ وهو أمر يثير الاهتمام، وذلك حسب التقديرات النابهة التي عرضها فرينز كورنر في كتابه: «الزيادة السكانية والضغط السكاني في وسط أوروبا حتى بداية العصر الحديث» فورشنجن وفورتشرايت ص٣٣ (١٩٥٩م) عدد١١، ص٣٢٥–٣٣١. ولقد كانت هذه الزيادة مخيفة، وكان ما يقرب من ٨٠٪ من السكان يعتمدون على الزراعة. وسرعان ما بدأت المِلكيات الزراعية في الريف تتفتَّت، وأدَّى ذلك إلى نشوء مزارع أصغر حجمًا يومًا بعد آخر، طبقًا لما كان يقتضيه قانون الملكية. ونظرًا لأن القانون السائد كان يمنح الابن الأكبر حقَّ امتلاك جميع الميراث وحده فإن الفائض من السكان كان يجد نفسه مضطرًّا إلى إحدى اثنتين؛ إما أن يعمل تابعًا لملَّاك الأرض أو أن ينزح بعيدًا عنها.

وفي القرن السادس عشر شهدت بلدان أوروبا زيادة كبيرة في السكان، ولكن لم يؤدِّ ذلك إلى نتيجة واحدة متماثلة في كل مكان؛ ففي هولندا سرعان ما عادت الأجور الحقيقية إلى ما كانت عليه بعد أن اتسع مجال الاقتصاد الهولندي وازدهر.

(هذه الملاحظة بقلم الناشر)
١  أُعيدَ نشر هذا المقال عن مجلة «إيكونوميكا» السلسلة الجديدة، ص٢٤، عدد ٩٦، نوفمبر ١٩٥٧م، ص٢٨٩ إلى ٣٠٦. وقد حُذِفَت منه بعض الفقرات بإذن من المؤلفين وهيئة التحرير المشرفة على مجلة إيكونوميكا، نسخة طبق الأصل، ١٩٥٧م، بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
٢  «سبعة قرون من أسعار السلع الاستهلاكية مع مقارنتها بمعدلات أجور عمال البناء» مجلة إيكونوميكا، عدد نوفمبر ١٩٥٦م، وقد استقيت سلسلة الأجور الواردة فيها من مقالنا «سبعة قرون من أجور البناء» إيكونوميكا، أغسطس ١٩٥٥م.
٣  ت. د. مالتوس، «مبادئ الاقتصاد السياسي»، الطبعة الثانية ١٨٢٦م، الباب الرابع، ص٢٤٠.
٤  ج. أ. ثورولد روجر «ستة قرون من العمل والأجور» ١٨٨٤م، الباب التاسع عشر.
٥  د. كنوب وج. ب. جونس «المعمار في العصر الوسيط» ١٩٣٣م، ص٢٠٤–٢١٥، وتذييل ١.
٦  سير جون كلابهام: «الموجز في تاريخ بريطانيا الاقتصادي»، ١٩٤٩م، ص١٨٦-١٨٧، ٢١١.
٧  ف. سبمياند، «أبحاث قديمة وحديثة عن الحركة العامة للأسعار من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر»، ١٩٣٢م، ص١٢٢–١٢٥.
٨  ج. أ. نيف «الأسعار والرأسمالية الصناعية في فرنسا وإنجلترا»، ١٥٤٠–١٦٤٠م، مجلة التاريخ الاقتصادي، ٧، ١٩٣٧م، وأُعيد طبعها ضمن «مقالات في التاريخ الاقتصادي» ١٩٥٤م التي أشرف على إصدارها أ. م. كاروس ويلسون.
٩  المبادئ، الطبعة الثانية، ص٢٤٢.
١٠  المبادئ، الطبعة الثانية، ص٢٤٢.
١١  كلابهام، نفس المرجع المذكور، ص٧٨، ١٨٦.
١٢  أ. م. كار-سوندرز: «سكان العالم»، ص٦٢.
١٣  فيلبس براون وهوبكينز، سبعة قرون عن أسعار السلع الاستهلاكية مع مقارنتها بمعدلات الأجور، مجلة إيكونوميكا، نوفمبر ١٩٥٦م.
١٤  نفس المرجع، ص٢١١.
١٥  د. س. كولمان، «العمل في الاقتصاد الإنجليزي خلال القرن السابع عشر»، مجلة التاريخ الاقتصادي ٨، ٣، أبريل ١٩٥٦م.
١٦  ج. م. كينز، رسالة عن النقود، ١٩٣٠م، مجلة ٢، فصل ٣.
١٧  نفس المرجع.
١٨  نفس المرجع، ص٢١٢-٢١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤