السكان في الاتحاد السوفييتي اليوم١
دراسة تحليلية للنتائج الأولية لإحصاء عام ١٩٥٩م

بقلم: وارين إيزون

يعكس لنا الإحصاء السوفييتي لسكان عام ١٩٥٩م صورة لدراما تُشيع في النفوس الخوف والرجاء معًا، وهي دراما المعاناة البشرية والبقاء. وهو شاهد كذلك على التغيُّرات السلوكية العميقة التي تحدث في المجتمع السوفييتي، فضلًا عن أنه يكشف لنا عن الحدود التي يفرضها الأساس الديموجرافي، والتي ترى الحكومة السوفييتية نفسها مضطرة إلى أن تضعها موضع الاعتبار عندما تتخذ قراراتها السياسية سواء على الصعيد المحلي أو العالمي.

١

ظل المحلِّلون الغربيون للشئون السوفييتية طوال العشرين عامًا الماضية يعانون بين الحين والآخر من ندرة المعلومات الإحصائية الرسمية عن السكان في الاتحاد السوفييتي، وها قد بدأ يواتيهم الغوث الذي طال انتظارهم له.

وثمة حقيقة تبرز من بين كل البيانات التي وصلت إلينا؛ فقد كانت خسائر السوفييت في الأرواح خلال الحرب العالمية الثانية أفدح بكثيرٍ مما كنا نتصور. والحقيقة أن عدد الوفيات بين الذكور من السكان يكاد يدير رءوسنا، ولكن قبل أن نتم حديثنا عن هذه النقطة، نلقي — أولًا — نظرة إلى البيانات التي وصلت إلينا، ونناقش — في إيجاز — نصيبها من الصحة.

تشير الدلائل الأولية للإحصاء إلى أن المجموع الكلي للسكان هو ٢٠٨٨٠٠٠٠٠ نسمة، يمكن توزيعهم على النحو التالي:

ذكور ٩٤٠٠٠٠٠٠
إناث ١١٤٠٠٠٠٠٠
سكان الريف ١٠٩٠٠٠٠٠٠
سكان الحضر ٩٩٠٠٠٠٠٠

ولدينا، بالإضافة إلى ذلك، تعداد سكان الريف والحضر في كل جمهورية على حدة من خمس عشرة جمهورية وتقسيماتها الإدارية (إقليم ومقاطعة ودائرة انتخابية) وعدد مناطق الحضر بأنماطها المختلفة وسكانها، وكذلك سكان العواصم التي تمثِّل مراكز الأقسام الإدارية وفروعها، وكذلك المدن التي يزيد تعداد سكانها على ٥٠٠٠٠ نسمة. ويعرض لنا التعداد إحصاءً غير وارد في النتائج الأولية عن فئات الأعمار والجنسية واللغة والتعليم ووضع الأسرة والتصنيف الاجتماعي ومصادر الكسب والمهنة حسب فروع الصناعة.

٢

إذا كان المجموع الكلي لسكان الاتحاد السوفييتي هو ٢٠٨٨٠٠٠٠٠ حتى عام ١٩٥٩م فإن هذا يكشف لنا — كما ذكرنا — عن مدى الخسارة التي لا تُصَدَّق في الأرواح خلال الحرب العالمية الثانية. حقًّا لقد كنا متنبهين لمثل هذا الاحتمال بعد صدور نشرة رسمية تقدِّر تعداد السكان ﺑ ٢٠٠٢٠٠٠٠٠ نسمة حتى أول أبريل عام ١٩٥٦م. بيد أن هذا المجموع الكلي يزيد زيادة طفيفة على تعداد ١٩٤٠-١٩٤١م، والذي لا يستند إلى مصادر إعلامية مختصة بالإحصاء، ويشوبه ضعف إحصائي واضح. وقد شعر عدد من رجال الإحصاء السوفييت أن تعداد ١٩٥٩م سيبيِّن، إن كان ثمة ما يدل عليه، أن العدد الكلي للسكان أعلى من ذلك بقليلٍ، وبالتالي فإن خسائر الحرب الرهيبة ستكون أقل. والحقيقة هي أن المجموع الكلي للسكان، حسب ما هو وارد في تعداد ١٩٥٩م، يقل عما يوحي به تقدير ١٩٥٦م بحوالي ١٤٠٠٠٠٠ مع احتساب الزيادة الطبيعية في السكان خلال الشهور الفاصلة بين التقديرين.

إن «خسائر الحرب» التي تشير إليها أرقام التعداد السكاني غير دقيقة تمامًا؛ وذلك لما يلي؛ أولًا: لأن الجهد اللازم لإعادة افتراض ما كان مقدَّرًا له أن يحدث لو لم تكن هناك حربٌ أمرٌ موضع فروض تختلف عن بعضها اختلافًا بيِّنًا للغاية فيما يتعلق بنسبة المواليد. ثانيًا: لأن التأثير الكلي للحرب على نمو السكان يتطلب مرور أجيالٍ عدة حتى يظهر أثره بالكامل، ومع ذلك فلو أننا قصَرْنا حديثنا على فترة الحرب والأعوام التي تليها مباشرة، وحاولنا أن نقدم فروضًا مبسَّطة فيما يتعلق بنسبة المواليد والوفيات على فرض أن الحرب لم تقع؛ سنجد أن مجموع الأشخاص الذين كانوا يمكن ألا يموتوا، بالإضافة إلى مَن كان يمكن أن يولدوا يقارب ٤٥٠٠٠٠٠٠ نسمة.

هذا التقدير للمجموع الكلي لخسائر الحرب، والذي لا يستقر على وضعٍ محدَّدٍ مصدره الاعتبارات التالية:
  • (١)
    يُقَدَّر تعداد سكان الروسيا حتى أول يناير ١٩٤٠م قياسًا إلى تعدادهم بعد الحرب، مع استثناء الأشخاص الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي بعد ذلك، بحوالي ١٩٤٠٠٠٠٠٠.٢
  • (٢)

    ويمكن تقدير السكان بعد عشر سنوات، ابتداءً من أول يناير ١٩٥٠م، بحوالي ١٧٩٠٠٠٠٠٠، وهكذا يُقدَّر النقص في عدد السكان بحوالي ١٥ مليونًا، فيما بين ١٩٤٠م و١٩٥٠م (هذا عدا النقص الذي حدث نتيجة الهجرة إلى الخارج وتعديل الحدود). ولقد كان النقص في تعداد السكان، خلال أعوام الحرب نفسها، أضخم من ذلك من ٢٠٠ مليون في أول يناير ١٩٤١م إلى حوالي ١٧٠ مليونًا عام ١٩٤٥م.

  • (٣)
    كان من المقدَّر، لو لم تنشب الحرب، أن يصبح تعداد السكان حوالي ٢٢٤ مليونًا عام ١٩٥٠م، وقد كان ١٩٤ مليونًا عام ١٩٤٠م. معنى هذا أن نفترض حدوث نقصٍ حادٍّ — نسبيًّا — في نسبة المواليد عن المستوى العالي الذي كانت عليه قبل الحرب، وهو ٣٨ في الألف، حسب ما هو مقرَّر لعام ١٩٣٨م. ويتسق هذا الفرض مع المستويات الفعلية التي تحققت عام ١٩٥٠م، كما يتسق مع التقديرات الفرضية التي قدمها لوريميز على ضوء الوضع في الدول النامية الأخرى. هذا مع افتراض أن نسبة الوفيات كان لا بد لها وأن تنخفض فيما بين عامَي ١٩٤٠م و١٩٥٠م لو لم تحدث الحرب أسوة بما حدث في البلدان الأخرى.٣
وإذا قارنَّا المجموع الكلي الفعلي للسكان في عام ١٩٥٠م، وهو ١٧٩ مليونًا، بالمجموع الكلي الفرضي، وهو ٢٢٤ مليونًا، إذن معنى هذا أن خسائر الحرب تُقَدَّر بحوالي ٤٥ مليونًا. ويمكن توزيع هذا الرقم بين مَن كان يمكن أن يُولَدوا، ومَن كان يمكن ألا يموتوا على النحو التالي:
  • (١)

    يمكن تقدير عدد السكان ممن لم تتجاوز أعمارهم التاسعة في عام ١٩٥٠م بحوالي ٣٠ مليونًا، بينما يُقَدَّر عدد السكان من هذه السن لو لم تحدث حرب بحوالي ٥٠ مليونًا. معنى هذا أن عدد الأشخاص الذين لم يُولَدوا أو ماتوا وهم أطفال نتيجة للحرب حوالي ٢٠ مليونًا، ويدل هذا على حدوث نقص في نسبة المواليد أو زيادة في نسبة وفيات الأطفال أو كليهما معًا خلال أعوام الحرب ذاتها تُقَدَّر بما يزيد على ٥٠٪.

  • (٢)

    إذا طرحنا عدد الفئة التي تتراوح أعمارها بين صفر–٩ من المجموع الكلي للسكان لعام ١٩٥٠م، يتبقَّى لنا ١٤٩ مليونًا، وهو عدد من بلغوا العاشرة من عمرهم وما فوقها. ويمثِّل هذا الرقم عدد من بقَوا على قيد الحياة بعد الحرب من بين ١٩٤ مليونًا، هم عدد الأحياء في أول يناير ١٩٤٠م. معنى هذا أن حوالي ٤٥ مليون نسمة لقَوا حتفهم — بالفعل — خلال الأعوام العشرة السابقة على عام ١٩٥٠م، بينما كان المتوقَّع أن يكون عددهم حوالي ٢٠ مليونًا على أساس نسبة المواليد المفترَض سابقًا. وبعبارة أخرى فقد كانت الحرب مسئولة عن موت حوالي ٢٥ مليون نسمة من بين مَن كانوا أحياءً من السكان عام ١٩٤٠م. ويجب أن نضيف إلى هذا الرقم ٢٠ مليونًا وهو عدد من لم يولَدوا، أو عدد من لم يحيوا طفولتهم بسبب الحرب.

ولكن سنرى أن هذا التقدير الإجمالي لخسائر الحرب والبالغ ٤٥ مليونًا سيقِل عندما توزعه على أساس اختلاف الجنس. فتعداد السكان حسب إحصاء عام ١٩٥٩م هو ١١٤٨٠٠٠٠٠ من الإناث و٩٤ مليونًا من الذكور. ويشير بذلك إلى وجود عجزٍ مطلقٍ بين الذكور يُقَدَّر بحوالي ٢٠٨٠٠٠٠٠. ويمكن مقارنة هذا بعجزٍ آخر مقداره ٧٠٠٠٠٠ حسب إحصاء عام ١٨٩٧م، و٥ ملايين عام ١٩٢٦م، و٧٢٠٠٠٠٠ عام ١٩٣٦م. وإذا قارنَّا هذه الزيادة المطردة في العجز من الذكور بالفترة السابقة على النظام السوفييتي فإنها تعيد إلى الأذهان الأحداث التالية على الترتيب: الحرب العالمية الأولى، الحرب الأهلية ثم فترة التجميع الزراعي وفترة العجز في المواد الغذائية في أوائل الثلاثينيات، وأخيرًا الحرب العالمية الثانية.

وفي نفس الوقت فإن الزيادة في العجز بين الذكور، والتي حدثت من جراء الحرب العالمية الثانية، تتجاوز كثيرًا كلَّ ما كان يمكن أن نتوقعه. وثمة مصادر وتصورات عديدة ومتميزة تعطينا تقديرًا متساهلًا — نسبيًّا — لعدد الذكور الذين قُتِلوا أثناء الخدمة العسكرية كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للحرب، ويُقَدَّر بحوالي ١٠ ملايين نسمة. ويُسلِّم هذا التقدير بموت قرابة نصف العشرين مليونًا من الرجال الذين كانوا يؤدُّون الخدمة العسكرية في هذا الوقت أو ذاك ضمن صفوف القوات المسلحة للاتحاد السوفييتي إبان الحرب العالمية الثانية.

وكما أوضحنا سابقًا، فمن المقدَّر أن ٢٥ مليونًا ماتوا نتيجة كل الأسباب مجتمعة، فيما بين عامَي ١٩٤٠م و١٩٥٠م، علاوة على العدد الذي كان مقدَّرًا له أن يموت لو لم تنشب الحرب. وإذا كان عدد من لقَوا حتفهم، وهم في ثياب الجندية، هو ١٠ ملايين؛ إذن لنا أن نقدِّر عدد الخسائر في الأرواح من المدنيين ﺑ ١٥ مليونًا (مع استبعاد الوفيات من الأطفال). وعلى ضوء البيانات الخاصة بعدد الذكور والإناث الواردة في تعداد سكان ١٩٥٩م نجد أن من بين الخمسة عشر مليونًا، وهو عدد الوفيات من المدنيين، حوالي ١١ مليونًا من الذكور و٤ ملايين من الإناث.

ولكن ما هو السبب، أو مجموعة الأسباب التي تفسر لنا لماذا كان عدد الوفيات من الذكور، الذين ماتوا خارج الخدمة العسكرية أثناء الحرب وبعدها، يساوي ثلاثة أمثال الإناث، فضلًا عن عدد مَن كان مقدَّرًا لهم أن يموتوا في ظروفٍ «طبيعية»؟ ونظرًا لأنه من غير المحتمَل أن يكون عدد الوفيات ١٠ ملايين، فإن تفسير ذلك يشير إلى الاحتمالات التالية:
  • (١)

    أن نسبة الذكور بين سكان الأراضي التي ضمَّها الاتحاد السوفييتي إلى أراضيه بعد الحرب كانت أقل بكثيرٍ مما هو مقدَّر لها.

  • (٢)

    ارتفاع نسبة الذكور بين المهاجرين من السكان، وربما كان هذا السبب أهم من غيره بكثيرٍ.

  • (٣)

    العوامل المختلفة التي أدت إلى زيادة الوفيات بين المدنيين وهي: العمليات العسكرية ضد المدنيين، وانخفاض مستوى الصحة بوجه عام، وانخفاض مستوى التغذية، واستخدام الألمان لنظام فرق العمل وإبادة السكان، ونظام معسكرات العمل الإصلاحية؛ وقد وقع عبء هذا كله على الذكور.

وقد تفيدنا هنا مطابقة ذلك بما حدث في الثلاثينيات. ففي هذه الفترة زاد العجز بين الذكور بما يربو كثيرًا على ٢ مليون — من المجموع الكلي وهو ٥ ملايين عام ١٩٢٦م إلى ٧ ملايين عام ١٩٣٩م — بينما كان يجب أن يقل العجز في ظل الظروف «العادية». معنى هذا، بعبارة أخرى، أن «الزيادة في فترة تطبيق سياسة التجميع الزراعي على نطاقٍ واسعٍ، والهجرة الواسعة من الريف إلى الحضر، والتوسُّع في تطبيق نظام معسكرات العمل الإصلاحية؛ وقد وقع عبء كل هذا — أيضًا — على الذكور من السكان.»

وقد بدأ العجز في الذكور يتناقص خلال خمسة أعوام تقريبًا؛ وهو ينحصر الآن، حسب نتائج التعداد السكاني، بين مَن بلغوا الثانية والثلاثين من العمر وما فوقها. لذلك فإن مشكلة النقص في القوى العاملة التي نجمت عن العجز في الذكور قد بدأت تخف تدريجيًّا. ومن ناحية أخرى فقد بدأ الاتحاد السوفييتي يحس الآن فقط بأثر الحرب على مجموعة الأعمار التي بدأت تدخل الآن ضمن القوى العاملة. وبينما زاد تعداد السكان ممن هم في سن العمل زيادة طبيعية من مليون إلى مليونَين كلَّ عام، فلن يتعدى هذا النمو خلال العقد التالي بضع مئات من الآلاف سنويًّا. وبدأ الاتحاد السوفييتي يولي المشاكل المترتبة على هذا التطور اهتمامًا متزايدًا، ويتجلَّى ذلك في التغيرات الأخيرة التي طرأت على السياسة السوفييتية فيما يتعلق بوسائل تعبئة وتدريب القوى البشرية والاستفادة منها.

٣

يتعيَّن علينا أن نفحص طراز النمو السكاني في الاتحاد السوفييتي من زوايا متعددة، وذلك حسب ما يظهر لنا من خلال النتائج الأولية للتعداد السكاني، فضلًا عن بعض البيانات الأخرى. فإذا وضعنا في الاعتبار الفترة كلها، منذ بداية حركة التصنيع — أي ابتداءً من التعداد السكاني لعام ١٩٢٦م إلى تعداد ١٩٥٩م — سنجد أن معدل نسبة الزيادة السكانية تصل تقريبًا إلى ٠٫٠٨ في المائة كل عام.٤ وهذا المعدل أقل من معدل الزيادة خلال فترة طويلة الأمد تشمل فترة روسيا القيصرية. ذلك لأن السكان زادوا داخل أراضي الاتحاد السوفييتي من ١٨٥٠م حتى وقتنا هذا بمعدلٍ يزيد زيادة طفيفة على ١٫٠ في المائة كلَّ عام، وكانت الزيادة خلال فترة الخمسين عامًا السابقة على ١٨٥٠م، أي في عهد روسيا، أقل بنسبة طفيفة من ١٫٠ في المائة كل عام.

وأحد أسباب انخفاض نسبة الزيادة طوال السنوات الثلاثين يكمن — بطبيعة الحال — في الآثار الديموجرافية الناجمة عن الحرب العالمية الثانية، والتي أسلفنا ذكرها. ويتضح لنا ذلك إذا ما عرفنا أن مقدار نسبة الزيادة في السكان فيما بين مقدار ١٩٣٩م ومقدار ١٩٥٩م لم يتجاوز ٥٪ في المائة لكل عام. وفي نفس الوقت فإن نسبة الزيادة في السكان أثناء فترة السلم، منذ بداية حركة التصنيع، كانت أيضًا أقل من نسبة الزيادة في الأعوام السابقة. وكان النقص في نسبة النمو السكاني إبان الأعوام الأولى لحركة التصنيع السريعة (١٩٣١–١٩٣٤م) لا يقل أبدًا عن نسبة النمو في فترات الكوارث؛ وذلك للأسباب التي سبق أن ألمحنا إليها. وعلى الرغم من أن النمو السكاني قد استعاد ارتفاعه ثانية في أواخر الثلاثينيات إلا أن أثر هذه الأعوام القليلة في أوائل الثلاثينيات كان قاسيًا؛ بحيث إنه أدى إلى نقص معدل الزيادة خلال الفترة الواقعة بين عامَي ١٩٢٦م و١٩٣٩م إلى ١٫٢٣ في المائة كلَّ عام، أو إنه تجاوز قليلًا نصف المعدل الذي توقعه رجال التخطيط السوفيت، ومع هذا كله فقد كان أعلى من معدل الزيادة التي حققتها بلدان أخرى كثيرة.

وكانت نسبة النمو السكاني منذ ١٩٥٠م حوالي ١٫٦ في المائة — وهي أيضًا أقل من نسبة النمو قبل بداية حركة التصنيع السريعة — ولكن الفارق هنا ليس فارقًا كبيرًا جدًّا. ومرة أخرى، وكما تؤكد لنا المصادر السوفييتية، فإن نسبة اﻟ ١٫٦٪ كل عام هي نسبة مرتفعة — نسبيًّا — قياسًا بنسبة النمو في غالبية البلدان الأخرى. ومع ذلك فإن هذا النقص المعتدل — نسبيًّا — في نسبة النمو السكاني إبان ظروف السلم إنما يخفي نقصًا حادًّا — نسبيًّا — في كلٍّ من نسبة الوفيات والمواليد منذ أوائل العشرينيات، وثمة بعض الإحصائيات الهامة صدرت مع النتائج الأولية للتعداد، علاوة على بعض البيانات التي استقيناها من مصادر أخرى، تشير إلى أن نسبة المواليد الإجمالية في الفترة الراهنة هي ٢٥ في الألف مقابل أكثر من أربعين في الألف عشية مرحلة التصنيع السريع؛ وأن نسبة الوفيات أقل من ٨ مقابل ١٨، وأن متوسط العمر ٦٧ عامًا مقابل ٦٤ عامًا. ومحاولة وضع مقاييس محدَّدة للتغيرات التي تحدث في بنية الأعمار بالقياس إلى التغيرات في العشرينيات ستؤدي إلى خفض نسبة المواليد الحالية، ورفع نسبة الوفيات شيئًا ما، بحيث إن كلًّا من هاتين النسبتين هي الآن نصف ما كانت عليه منذ ٣٥ عامًا. وإذا كانت نسبة الوفيات قد نقصت من ١٨ إلى ٨ في الألف، فإن نصف هذا النقص — تقريبًا — يرجع إلى النقص في وفيات الأطفال، والتي قُدِّرَت بخمسٍ وأربعين حالة وفاة بين كل ألف من المواليد في عام ١٩٥٧م مقابل ١٨٤ عام ١٩٤٠م.

ونسبة الوفيات الإجمالية التي تقل عن ٨ في الألف إنما هي دون نسبة الوفيات الإجمالية في أي بلد آخر، وتشابه نسبة الوفيات الإجمالية في الولايات المتحدة حيث تقل عن ١٠ في الألف، مع العلم بأن الولايات المتحدة بها نسبة عالية من المسنِّين.

ونسبة الوفيات بين الأطفال التي تُقَدَّر بخمسة وأربعين بين كل ألفٍ من المواليد تعادل نفس النسبة في هذا البلد عام ١٩٤٠م تقريبًا.

وظهر أخيرًا مصدرٌ سوفييتي واحد فقط يتضمن محاولة لتفسير انخفاض نسبة المواليد الإجمالية.٥ وحتى في هذه الحالة اختيرت تواريخ ما قبل الحرب لعمل مقارنة تقلل من مدى هذا النقص، والتي تنسبه إلى:
  • (١)

    انخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال (وأظن أن المقصود بذلك أنها تؤدي إلى خلْق حاجة أو رغبة في الإقلال من عدد الأطفال).

  • (٢)

    الزيادة في نسبة المقيمين في المدن.

  • (٣)

    تغيُّر النسبة بين الجنسَين من جراء الخسائر في الأرواح في زمن الحرب، وأيًّا كانت الاحتمالات المتوقَّعة فإن كلَّ هذه العوامل تقصر تمامًا عن تفسير كل هذا النقص. وعلى أية حال، فمن الواضح تمامًا على ما يبدو أن العائلات التي تسكن الحضر، وكذلك العائلات الريفية، بدأ حجمها يتناقص باطرادٍ، ويتفق هذا الاستنتاج مع انطباعات الزوار [الحاليين للاتحاد السوفييتي، ولما] كان لزامًا علينا أن نتأمل الأسباب الكامنة وراء هذا التحوُّل في الأحداث فإننا نستطيع على أقل تقدير أن نشير إلى عددٍ من العوامل، وهي: ارتفاع مستوى التعليم بين السكان بمعدلٍ سريعٍ، مشاركة النساء في ميدان العمل على نطاقٍ واسعٍ، سواء في الريف أو المدن، النقص المستمر في مساكن المدن.

ونظرًا لأن «أطفال الحرب» سيبلغون سن الإنجاب خلال العقد الثاني أو نحو ذلك تقريبًا؛ فإن نسبة المواليد قد تنخفض إلى ٢٠ في الألف أو أقل من ذلك حتى وإن لم تقل نسبة الخصوبة. وبعبارة أخرى فإن نسبة المواليد ستظل ثابتة أو ترتفع في حالة واحدة فقط إذا ما زادت نسبة الخصوبة زيادة حقيقية.

٤

تبيِّن لنا البيانات الخاصة بسكان الريف والحضر التي أعدنا عرضها سالفًا أن نسبة السكان في الحضر (وهي ٤٨٪) أضخم مما نتوقعه على ضوء التقدير الرسمي غير الإحصائي لأول أبريل عام ١٩٥٦م (الذي يشير إلى أن نسبة السكان في الحضر ٤٤٪) استنادًا إلى الزيادات الواردة عن سكان الحضر فيما بين عامَي ١٩٥٠–١٩٥٥م. ويبدو لنا هنا أحد احتمالين: (أ) إما أن سكان الحضر قد زادوا في الواقع منذ عام ١٩٥٦م بما يزيد على ٥ ملايين نسمة في السنة قياسًا إلى ٣٤٠٠٠٠٠ فيما بين عامَي ١٩٥٠–١٩٥٥م. (ب) وإما أن الدقة الكبيرة للتعداد الكلي للسكان يضع الرقمين في وضعٍ فريدٍ لا مثيل له في الحقيقة. وعلى أية حال فإذا كان أكثر من نصف السكان في الاتحاد السوفييتي يعيشون الآن في الحضر، فإن هذه الحقيقة تضع الاتحاد السوفييتي في مصاف أكثر بلدان العالم تحضرًا رغم أنه في هذا الصدد دون الولايات المتحدة بكثيرٍ (٥٩٪)، والدانيمرك (٦١٪)، والمملكة المتحدة (٨٠٪).

والنسبة المئوية لسكان الحضر في الاتحاد السوفييتي الآن تماثل النسبة المئوية للولايات المتحدة حوالي عام ١٩١٠م، بينما بدأت فترة التصنيع السريع، وسارت معها حركة الانتقال إلى الحضر بنفس الدرجة التي كانت عليها في الولايات المتحدة عام ١٨٦٠م. ومع ذلك فقد كانت حركة التحضر في الاتحاد السوفييتي خلال الثلاثينيات أسرع منها في الولايات المتحدة بعد عام ١٨٦٠م. وبصورة مقلِقة فقد تضاعف عدد سكان الحضر خلال الأعوام العشرة الأولى لحركة التصنيع في الاتحاد السوفييتي، بينما تضاعفت في الولايات المتحدة خلال العشرين عامًا الأولى. أو إذا شئنا أن نُعبِّر عن ذلك بعبارة مختلفة نقول: تضاعفت النسبة المئوية لزيادة السكان في الحضر في الاتحاد السوفييتي خلال عشرين عامًا، بينما تضاعفت في الولايات المتحدة خلال أربعين عامًا.

وهذه الأرقام لا تفسرها فقط زيادة معدل سرعة الهجرة لسكان الاتحاد السوفييتي من الريف إلى الحضر، بل تفسرها كذلك عملية الإبادة في الحرب العالمية الثانية، والتي وقع عبؤها أساسًا على سكان الريف السابقين الذين انخرطوا في صفوف جيشٍ يتألَّف أكثره من «الفلاحين»، وهذا أمر يزيد على الحد، مما لا يتيسَّر تعويضه، بالقياس إلى ما حدث في الولايات المتحدة، ذلك لأن نسبة كبيرة من السكان الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر استوطنوا المدن.

وتفيدنا النتائج الأولية للتعداد موزَّعة على التقسيمات الإدارية في أنها تعطينا صورة أكثر دقة عن التحركات السكانية بعد الحرب إلى الأجزاء الوسطى والشرقية للبلاد. وسوف تظل روسيا الأوروبية أكثر المناطق الآهلة بالسكان، إلا أن سكانها تغيَّروا تغيرًا طفيفًا منذ أعوام ما بعد الحرب. لذلك فإننا نفترض أن كلَّ الزيادة التي طرأت على المجموع الكلي للسكان منذ تعداد ١٩٣٩م، رغم ضآلتها، حدثت في المناطق الموجودة خارج روسيا الأوروبية. وحدث ذلك نتيجة اتجاه حركة التصنيع ناحية الشرق وتعبئة الجهود لاستصلاح «الأراضي البكر»، وقد تطلَّب كلاهما هجرة واسعة. ولكنها تعكس أيضًا حقيقة أخرى، وهي أن نسبة المواليد ظلَّت عالية نسبيًّا في بعض المناطق الشرقية، خاصة في آسيا الوسطى السوفييتية.

وجماع القول أن دلالة نتائج الإحصاء التي وصلت إلينا ذات شقَّين؛ أولًا: فهي نتائج هامة لما تكشفه لنا عن بلدٍ يجتاز حربًا ضروسًا وتحولًا سريعًا في مجال التطور الاقتصادي والاجتماعي، ولأنها تسجل لنا عددًا من العوامل الديموجرافية والتي لا بد وأنها أثَّرت — إلى حدٍّ ما — على الحكومة السوفييتية في صياغة سياستها بالنسبة للعمل والجيش وغيرها من المجالات الأخرى. ثانيًا: ترجع أهميتها إلى حقيقة بسيطة، وهي أنها وصلت إلينا لتكون جزءًا مكمِّلًا للمعلومات التي تدفقت من المصادر الرسمية، والتي بدأت ترد إلينا منذ عام ١٩٥٦م، وتبشر بالمزيد منها مستقبلًا.

١  عن مجلة الشئون الخارجية، ٣٧، العدد الرابع، يوليو ١٩٥٨م، ص٥٩٨–٦٠٦، مع حذف بعض فقراتها بإذنٍ من الكاتب وهيئة تحرير مجلة الشئون الخارجية. نسخة طبق الأصل، (١٩٥٩م) من مجلس العلاقات الخارجية.
٢  الهدف من استبعاد المهاجرين هو أن نحصر المقارنة ببيانات ما بعد الحرب في حدود أثر تغيُّر نسب المواليد والوفيات. والمصادر التي استقينا منها هذه البيانات الواردة في المقال وغيرها هي، علاوة على تعداد ١٩٥٩م، كتاب و. و. إيزون «القوة البشرية السوفييتية: السكان والقوى العاملة في الاتحاد السوفييتي»، وهي رسالة دكتوراه مودَعة بمكتبة جامعة كولومبيا.
٣  النسب المشار إليها في هذه الافتراضات مأخوذة عن كتاب ف. لوريمير، «السكان في الاتحاد السوفييتي: تاريخ وتوقعات للمستقبل»، جنيف، عصبة الأمم، ١٩٤٦م، ص٢٥٤-٢٥٥.
٤  استبعدنا من حسابنا على طول الخط في هذا المقال الأراضي التي ضُمَّت إلى الاتحاد السوفييتي منذ عام ١٩٣٩م.
٥  م. يا. سونين، «حول المشاكل الراهنة لإنتاج موارد العمل في الاتحاد السوفييتي»، أكاديمية العلوم باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، مشاكل تجديد الإنتاج الاشتراكي موسكو، ١٩٥٨م، ص٢٥٧–٢٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤