مالتوس ونظرية السكان١

روبرت ب. فانس

تعرَّض مالتوس، أكثر من أي مفكرٍ اجتماعي كلاسيكي آخر لهجومٍ حانقٍ شديدٍ، كما دافع عنه البعض أيضًا بحماسٍ شديدٍ؛ فكان موضع ذمٍّ كمُنَظِّر اجتماعي ومُوَجِّه سياسي ينذر الناس بأحداث المستقبل، ومفكِّر أخلاقي بل وربما كباحثٍ يعنيه جمع الحقائق. وقد يكون ثمة مبرر له قيمته يبرر بعض هذه الانتقادات إذا نظرنا إليها على ضوء معرفتنا الاسترجاعية لمسار الأحداث أو للمعايير الحديثة للضبط والاتساق النظري. ومع ذلك فقد كان مالتوس علامة مميَّزة لعصرٍ بذاته، وثمة وجهان متمايزان لدوره الرئيسي الذي قام به. أولًا: فقد ارتبط اسمه بالجزع من مستويات المعيشة المنخفضة، ولم يكن جزعه هذا أمرًا غير واقعي بالنسبة لعصره الذي كان يعيش فيه (١٧٦٦–١٨٣٤م). ثانيًا: أنه وقف عند نقطة تحوُّل هامة في تاريخ البشرية تمثِّل الانتقال من عادات الخصوبة العالية إلى الخصوبة الضعيفة، ولم يحاول أن يكبح جماح هذا التحوُّل الخطير، ولكنه أعطاه من فكره — تحت اسم «التماسك الخُلقي» — أكثر مما أعطاه أي مفكر آخر قبله. ويبدو أن معظم العداء الذي صبَّه أصحابه على مالتوس — في شكل محاجاة عقلية — إنما كان مبعثه في الحقيقة الفزع من حالة الاستياء التي تقوم عليها الحضارة.

١

مقال عن مبدأ التكاثر السكاني من حيث تأثيره على تحسين أوضاع المجتمع مستقبلًا، مع بعض الملاحظات الخاصة بتأمُّلات السيد جودوين وم. كوندرسيه وكُتَّاب آخرين. كتب المقال توماس روبرت مالتوس، لندن، ١٧٩٨م.

لم يحدث أن صدر كتاب في وقته تمامًا مثلما حدث بالنسبة لكتاب توماس روبرت مالتوس: «مقال عن مبدأ التكاثر السكاني». ظهر هذا الكتاب عام ١٧٩٨م، أي في منتصف الثورة الديموجرافية، وعلى الأرض التي كان سكانها على وشك التكاثر بسرعة أكبر إبان «قرن السيادة البريطانية» المقبل، أكثر مما كان في أي بلدٍ آخر من بلدان القارة؛ إذ ظل سكان أوروبا منذ مائة وأربعين عامًا في وضعٍ استاتيكي يُقَدَّر عددهم بما يقرب من ١٠٠٠٠٠٠٠٠ نسمة. وبعد مائة وأربعين عامًا بدأت الدول الأوروبية المتقدمة تواجِه مشكلة تناقص سكانها. ولكن في عام ١٧٩٨م كان لمبادئ التكاثر السكاني المعروضة في «المقال» أهمية مفزعة؛ إذ بدأ يتضاعف تعداد سكان أوروبا الذي كان يُقَدَّر — آنذاك — بحوالي ١٨٧٠٠٠٠٠٠، وكان مقدَّرًا له أن يصل إلى ٥٥٠٠٠٠٠٠٠ رغم الهجرات الواسعة.

ففي عام ١٦٥٠م كان يُقدَّر تعداد سكان العالم بما يقرب من ٥٠٠٠٠٠٠٠٠ نسمة، وكان مقدَّرًا له أن يصبح في عام ١٩٤٠م بليونَين، وأتى نصف بليون من هذه الزيادة في ١٥٠ عامًا، أي من عام ١٦٥٠م إلى عام ١٨٠٠م، وأتى بعد ذلك ما يربو على بليون نسمة. والسِّمة المميزة لهذه الفترة كلها هي تكاثر السكان في أوروبا بأعدادٍ كبيرة. ففي خلال ثلاثمائة عام ازداد عدد الأوروبيين — مع احتساب أصحاب الدم الأوروبي الخالص الذين يعيشون خارج القارة — أكثر من سبعة أضعاف. ويقول في ذلك كنجسلي دافيز «لو نظرنا إلى الموضوع في إطار المستقبل البعيد نجد أن نمو سكان الأرض أشبه بفتيل بارود طويل ودقيق يحترق في بطء وتَرَدُّد إلى أن تصل النار في النهاية إلى شحنة البارود ثم لا يلبث أن ينفجر.» وأبرز شيء في زيادة سكان الغرب، وهي الزيادة المسماة «بالثورة الديموجرافية»، هو تكاثر السكان المتكلمين باللغة الإنجليزية؛ إذ زاد تعداد هؤلاء من ٥٥٠٠٠٠٠ نسمة تقريبًا عام ١٦٠٠م إلى ٢٠٠٠٠٠٠٠٠ نسمة عام ١٩٤٠م. وخلال المائة وخمسين عامًا الأخيرة من التاريخ الإحصائي زاد سكان الجزر البريطانية أكثر من أربعة أضعاف، بينما أسهموا في نفس الوقت بأكثر من ١٧٥٠٠٠٠٠ نسمة استوطنوا شمال أمريكا وأراضي الدومنيون فيما وراء البحار.

ويعتقد الباحثون المحدثون من خلال دراستهم للطبعة الأولى من «المقال» أن مالتوس كان معنيًّا — أساسًا — بمشكلة الفقر أما مسألة التكاثر السكاني فقد كانت تحتل مرتبة ثانوية من تفكيره. فقد كان يعتزم بحث طبيعة الفقر أسوة بآدم سميث في دراسته لطبيعة الثروة، ولكنه قدَّم كتابه في شكل ردٍّ على وليام جودوين ودعاة الكمال الاجتماعي. وترتب على ذلك أنه بضربة واحدة أثار ثائرة كل من المحافظين من رجال اللاهوت والراديكاليين الاجتماعيين. «وظلت الانتقادات تتساقط كالمطر ثلاثين عامًا متوالية.» ويقول جيمس بونار مؤرخ حياة مالتوس: «إن مالتوس هو الإنسان الذي أُسيءَ إليه أكثر من غيره في هذا العصر، وغبنه الناس حين نظروا إليه «كإنسان يدافع عن مرض الجدري والعبودية وقتل الأطفال»، وأنه كان ضيفًا بمطاعم الفقراء التي تمنحهم الحساء مجانًا، ويعارض الزواج المبكر والهبات التي تقدمها الكنيسة للفقراء. وأنه أشبه بمن بلغت به القحة إلى حد أن يعقد زواجه بعد أن يعظ الناس ضد مساوئ الأسرة. وأنه كان يرى العالم يُساس بطريقة سيئة للغاية؛ بحيث إن أفضل الأعمال تنجم عنها أكثر النتائج ضررًا وإيذاءً.» ولكن مالتوس كمفسرٍ يوضح أسباب الفقر لم يكن أوْفق من غيره في الاقتراب من الإجابة المقنِعة مثل ما فعل قادة مبرَزون آخرون من أصحاب الاتجاه الفكري الواحدي من أمثال هنري جورج. وإن أهم ما أسهم به هو نظريته الخالدة عن التكاثر السكاني، والتي طورها خلال محاولاته الست التي نقَّح فيها رسالته.

وكان مالتوس يؤمن، كما يعرف الآلاف ممن لم يقرءوا له، أن النمو السكاني يتجه إلى تجاوز وسائل العيش، وأننا إن لم نكبح جماح هذا الاتجاه فإن البشرية ستغرق في البؤس والفوضى الشاملة. وعرض مالتوس المشكلة في نسبته المشهورة: يتزايد السكان حسب متوالية هندسية، بينما يتزايد الغذاء حسب متوالية حسابية. وقال إن أي أمة ما لم تضِف أرضًا جديدة فإنها تتوقع أن تنتج كل عام من الغذاء مثل ما أنتجته في العام السابق تمامًا، بينما يمكن أن يتضاعف عدد السكان لكل جيل كما أثبتت أمريكا ذلك. واستطرد قائلًا، ويمكن أن يبقى التعداد السكاني معادلًا لكميات الغذاء وذلك عن طريق فرض قيود معينة. وآخر القيود كلها هو المجاعة، أو الجدار الأصم الذي ستصطدم به الزيادة السكانية في النهاية. ولكنْ ثمة قيود أخرى يمكن لها أن توجد قبل أن تبلغ ذلك القيد الأخير، وهي الفقر وسوء التغذية والرذيلة والحرب. ويُعتبر الزواج المتأخر مع التماسك الخُلقي الوسيلة الوحيدة للخلاص من هذه النتائج الكئيبة (وهذه هي النتيجة التي أثارت ثائرة جودوين بشكلٍ خاص) وأي مشروع يهدف إلى إصلاح المجتمع وتخفيف وطأة الحاجة التي تضعف من هذا الدافع لن يترتب عليه سوى تعميق هذه الشرور التي ينشد المشروع علاجها.

٢

يميل العلماء المحدَثون إلى تجنُّب الجدل الذي لا طائل تحته، وذلك بتوجيه سؤال واحد: كيف لنا أن نعيد صياغة الفرض الذي وضعه مالتوس بحيث يتسنَّى لعلماء الديموجرافيا أن يضعوه موضع الاختبار؟ ربما يكون من المستطاع تنقيحه ليصبح على النحو التالي: علينا أن نتوقع زيادة كبيرة في السكان، وسيعقب هذه الزيادة انخفاضٌ في نصيب الفرد من استهلاك المواد الغذائية، وزيادة في نسبة الوفيات بحيث ينتهي الأمر بحدوث مجاعة. والبديل الوحيد لذلك هو الزواج المتأخر على نطاقٍ واسعٍ بقدر الإمكان، حتى تقل الخصوبة بدرجة كبيرة. وإذا راجعنا هذه العبارة الفرضية على ضوء وقائع الديموجرافيا سيتضح لنا مقدَّمًا، إذا استثنينا شرط الحرب، أن شعبًا واحدًا فقط من بين شعوب الحضارة الأوروبية — وهو الشعب الأيرلندي — هو الذي حقق التوقعات المعقولة لمذهب مالتوس. ويعرف علماء الديموجرافيا المحدَثون، بعد نظرتهم إلى مسرح الأحداث على مدى ١٥٠ عامًا تالية، أن مالتوس كان يعيش في مرحلة خاصة من مراحل الدورة السكانية.

•••

ونحن نعرف يقينًا أن نسبة الوفيات (باستثناء الذبذبات التي نجمت عن الحرب) ظلَّت تتناقص منذ أيام مالتوس. ونحن نعرف أيضًا أن سبب الثورة السكانية الكبرى التي أدت بمالتوس إلى تقديم نظريته هو زيادة طول الأعمار، وليس ارتفاعًا مفترَضًا في نسبة الوفيات. وكما أوضح أ. م. كار-سوندرز فإن هذا النقص في الوفيات قد بدأ في إنجلترا حوالي عام ١٧٣٠م، وهو العام الذي وُلِدَ فيه مالتوس الكبير. وانخفضت النسبة من ٣٥ في الألف إلى ٢٢ في الألف عام ١٨٢٠م، أي بعد ثلاثة أعوام من التاريخ الذي أصدر فيه مالتوس الصغير الطبعة الخامسة من كتابه «المقال». ومضى مائة وأربعون عامًا منذ تاريخ حدوث أول نقص كبير في نسبة الوفيات في إنجلترا، أي حوالي عام ١٧٤٠م، إلى تاريخ حدوث أول انخفاض كبير في نسبة المواليد حوالي عام ١٨٤٠م. واستمرت الوفيات تتناقص إلى أن بلغت ١٠ في الألف في العقد الأول من هذا القرن. واستمرت الزيادة السكانية طوال الستين عامًا التالية، وترجع الزيادة أساسًا إلى التباعد بين النسبتين.

إن التغيُّرات الكبيرة التي طرأت على ميادين الطب والرعاية الصحية والاجتماعية أنقذت حياة الكثيرين في إنجلترا، كما أنقذت حياة الكثيرين في غيرها من البلدان. وهكذا أصبح مرض الأسقربوط من الأمراض النادرة منذ عام ١٧٥٠م. ويرجع ذلك أساسًا إلى أن الفلاحين بعد أن كانوا يتركون الأرض بورًا في الشتاء أدخلوا زراعة المحاصيل الدرنية التي زوَّدتهم بالخضراوات، وساعدتهم أيضًا على الحصول على كمياتٍ أكبر من اللحوم الطازجة. وساعد استخدام القطن — فيما بعد — على انتشار الأقمشة الرخيصة بين الجماهير.

•••

وأصبحت العادة المتَّبعة أن يرتدي الأطفال مع بداية الشتاء حُللًا جلدية؛ وهكذا أدَّت زيادة النظافة إلى خفض نسبة الوفيات. وخفَّضت الرعاية الصحية والطبية من الأمراض الوبائية ووفيات الأطفال التي نكلت بإنجلترا قرونًا طويلة.

إن الثورة في مجال الطب والرعاية الصحية أنقذت حياة الأطفال، وأبقت الثورة الصناعية عليهم أحياء ليشِبُّوا ويكبروا. وكما قال هارولد رايت:٢ «إن المشكلة السكانية التي عنى بها مالتوس بوجه خاص، وهي مشكلة إطعام هذا العدد المتزايد بسرعة من الإنجليز من إنتاج جزيرة ظلَّت كما هي من حيث الحجم أمكن حلُّها لمدة مائة عام على الأقل، وذلك عن طريق الزيادة الهائلة في إنتاج السلع المصنَّعة واستبدال هذه السلع بالطعام والمواد الخام من قارات جديدة. وبينما تزايد عدد السكان أصبح الطعام أرخص سعرًا بالفعل، وأصبح في وسع عددٍ كبيرٍ من المهاجرين أن يستنبتوا الطعام في الخارج، وأمكن امتصاص عددٍ كبيرٍ من النساء الأوروبيات في ميدان إنتاج الآلات الزراعية والسفن البخارية والسكك الحديدية التي مكَّنت من إنتاج الطعام ونقله إلى أرض الوطن للاستهلاك.» وخلاصة القول أن الثورة الصناعية أرجأت الأزمة السكانية في إنجلترا لمدة مائة عام، ولكن ما أن يعم التصنيع جميع أرجاء المعمورة حتى تكون إنجلترا وأوروبا الغربية قد خلقت — عن طريق التكاثر بهذه الحدود الجديدة — سكانًا صناعيين تزيد كثافتهم كثيرًا عن الحد المعقول الذي كانت تأمل في تحمُّله. ويجب أن نشير، إنصافًا لمالتوس، إلى أنه تنبأ — مقدَّمًا — بهذا الاحتمال. وقد حذَّرنا من هذا الخطر في الفقرة التالية، التي قليلًا ما يُلتَفَت إليها:
«وسط تيه التأمُّل أشار البعض إلى أن أوروبا ينبغي عليها أن تزرع قمحها في أمريكا، وتكرس نفسها للصناعة والتجارة باعتبار أن هذا هو أفضل تقسيم للعمل على نطاق المعمورة. ولكن على أحسن الفروض فإذا كان المسار الطبيعي للأحداث سيؤدي إلى مثل هذا التقسيم للعمل لفترة ما، وإذا افترضنا أن أوروبا ستتمكَّن بمثل هذه الوسائل أن تزيد تعدادها أكثر مما تحتمل أرضها، إلا أننا يجب أن نخشى مغبة ذلك؛ فثمة حقيقة مسلَّم بها وهي أن كل دولة تتجه في تقدمها نحو الثروة وتنشد تصنيع نفسها. ولكن إذا ما بدأت أمريكا على أساس هذا المبدأ تحجز قمحها عن أوروبا، ولم يتمكَّن الإنتاج الزراعي في أوروبا من سد العجز؛ فإننا سنشعر يقينًا أن المزايا المؤقتة للثروة الكبيرة والتكاثر السكاني قد دفعْنا مقابلها ثمنًا غاليًا جدًّا يتمثَّل في فترة طويلة نقضيها مع البؤس والتراجع إلى الوراء.»٣

وعلى الرغم من أن الثورة الصناعية أعطت أوروبا مهلة قبل مواجهة مخاطر التضخم السكاني إلا أن هذا لم يكن إصلاحًا دائمًا في مواجهة التحدي الذي صاغه مالتوس. وعندما بدأت الحركة التعويضية فقد اتخذت نفس المسار الذي كان يدافع عنه — أي انخفاض مستمر وحاد في المواليد — وإن لم تحدث بنفس الصورة التي تخيلها. فقد ظلت نسبة الزواج مرتفعة عدا منطقة واحدة سنشير إليها. وتجنَّبت شعوب الثقافة الغربية الأزمة السكانية عن طريق الحركة المعروفة باسم «المالتوسية الجديدة» أو تنظيم النسل أو منع الحمل أو تحديد الأسرة. وإذا قلنا إن نقص الوفيات كان بداية الثورة الديموجرافية فإننا نستطيع — أيضًا — أن نقول إن انخفاض الخصوبة كان بداية الثورة المضادة.

وقد أصبح واضحًا مع عام ١٨٥٠م أن نسبة المواليد كانت في تناقصٍ مستمر في فرنسا والولايات المتحدة وأيرلندا. وثبت أن الخصوبة العالية في أمريكا قد بدأت تنخفض مع فترة التعداد الأول عام ١٧٩٠م، وانخفضت نسبة المواليد في فرنسا عن عام ١٨٤٧م إلى عام ١٩٤١م من ٢٧ في الألف إلى ١٩ في الألف، ونقصت خلال الحرب العالمية الأولى إلى ١١ ثم ارتفعت قليلًا ارتفاعًا مؤقتًا، ولكن لم تلبث أن استعادت سيرتها الأولى في مسارها التنازلي. وكان ثمة انخفاض ضئيل، بل نكاد نقول إنه لم يحدث تغير يُذكَر، بالنسبة لسن الزواج أو فيما يتعلق بنسبة المتزوجين إلى غير المتزوجين من السكان. ويرجع الانخفاض إلى تقييد الخصوبة أثناء الزواج. ومن الواضح أن العمل على الحد من حجم الأسرة بدأ أولًا في فرنسا، ثم امتد من هذا البلد إلى غيره من بلدان أوروبا الغربية.

وبلغت نسبة المواليد في إنجلترا درجة عالية عام ١٨٧٠م، ومع عام ١٨٨٠م كانت الخصوبة في إنجلترا في حالة انحدارٍ كامل. فمن عام ١٨٧٠م إلى ١٩٣٠م، أي خلال ستين عامًا، انخفضت النسبة من ٣٥ إلى ١٥ في الألف، وكانت طبيعة الاتجاه العام للحياة الإنجليزية تؤدي إلى هذا التحول. والشيء المؤكَّد أنه لم يكن في إنجلترا من هو ملَكي أكثر من «المَلِكة»، ولم يكن هناك من هو أفضل منها في التعبير عن نظرة الشعب البريطاني إلى قضايا داخلية بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة. فقد كتبت في عام ١٨٤١م إلى ملك البلجيك تقول: «أظن يا عمي العزيز أنك لا تستطيع بحقٍّ أن تتمنى لي أن أكون أمًّا لعائلة كثيرة العدد، ذلك لأنك — على ما أعتقد — ستتفق معي في أن العائلة الكبيرة مصدرَ قلق لنا جميعًا، وللبلد بوجه خاص، ناهيك عن المشاق والمتاعب التي تخصُّني. إن الرجال لا يفكرون أبدًا، أو أنهم نادرًا ما يفكرون في العبء المضني الذي تضطر النساء إلى تحمُّله كثيرًا جدًّا.»

ولكن لماذا فشل مالتوس، وهو المفكر الواقعي، في تصور إمكانية تحديد الأسرة، وهي أبرز حركة ديموجرافية في العالم الحديث؟ يبدو أن مالتوس في نظر الغالبية العظمى من المفكرين يخدم سيِّدَين جَد مختلفَين؛ مذهب المنفعة العامة ومذهب السلطة.

انتهى جيمس أ. فيلد إلى أن مالتوس كان على علمٍ بالدعاية السائدة في أيامه عن تنظيم النسل، وأنه شجب — بقوة — استخدام أي جهاز بدني للحد من حجم الأسرة.٤ وكان مالتوس برأيه هذا يراعي التقليد الأرثوذكسي، وهذا هو المثال الوحيد الذي استحق من أجله العالِم الديموجرافي صفة «القس مالتوس» والذي كان كثيرًا ما يُوصَف به. وبفضل هذا الرأي أصبح المهيجون المعاصرون من أمثال فرنسيس بلاس وريشار كارليل وروبرت دال أوين ودكتور شارلس نولتون في وضعٍ أفضل من مالتوس من حيث التحكم في وسائل التنبؤ العلمي. وفي رأي مالتوس أن الشرط الأساسي للزواج كان «الاعتقاد بإمكانية إعالة زوجة وست أطفال»، (ويقدِّر علماء الديموجرافيا المحدَثون أن ثلاثة أطفال لكل أسرة مخصبة يمثِّل العدد الكافي لتعويض الفاقد من التعداد السكاني وضمان استقراره. أما ستة أطفال لكل أسرة فسوف يؤدي إلى مضاعفة السكان مع كل جيل). وليس ثمة شك في إخلاص مالتوس في دفاعه عن القيد الأخلاقي، ولكن يمكننا أن نلاحظ أيضًا أن الكُتَّاب الراديكاليين في عصره أشاروا إلى ما يؤكده رجال الدين والأطباء والكُتَّاب الاجتماعيون اليوم من أن المجتمع إذا كان يرغب في أن يعلي من قيمة العفة الجنسية فلا بد من السماح بالزواج المبكر.

ويعتبر تاريخ السكان في أيرلندا صورة مأساوية لمعضلة مالتوس؛ إذ كانت المجاعة هي الباعث المحرك لها. فمع عام ١٨٤٥م تضاعف السكان خلال فترة تعيها ذاكرة الأحياء، وبلغ تعداد السكان ٨٣٠٠٠٠٠ نسمة. وكتب سير جيمس أوكنور في كتابه «تاريخ أيرلندا» ما يلي: «كانت الكنيسة تشجع الزواج المبكر، وشجعت سياسة الحكومة الأيرلندية السكنى من الباطن. وأدى اجتماع الزواج المبكر والسكنى من الباطن إلى زيادة السكان بسرعة كبيرة. وكان ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف من السكان يعيشون في بيوتٍ من طين غُطيت سقوفها بالقش بطريقة رديئة، ولكل منهم حجرة واحدة لا غير، وأغلب هذه الحجرات بدون نوافذ أو مدخنة.» وظهرت في أمريكا عام ١٨٤٤م آفة البطاطس التي تستطيع أن تتلف المحصول في أيامٍ قلائل. وفي عام ١٨٤٦م اجتاحت هذه الآفة أيرلندا وكأنها الموت الأسود، ودمرت كل موارد غذاء الفلاحين. وفي خلال خمسة أعوام من ١٨٤٦م إلى ١٨٥١م مات ١٠٠٠٠٠٠ شخص. وذكرت التقارير أن ٢١٧٧٠ حالة وفاة كانت بسبب الجوع في الفترة الواقعة بين عامَي ١٨٤١م و١٨٥١م، وهو سبب لا يُستَحَب ذكره عادة في السجلات الرسمية.

وكانت النتيجة هجرة جماعية إلى خارج أيرلندا. ففي خلال عشرة أعوام هاجر ربع سكان البلاد، واتجه أكثرهم إلى الولايات المتحدة، وكان قد غادر البلاد خلال جيلَين فقط ما يقرب من ٥٠٠٠٠٠٠. وواجه الأيرلنديون الموقف عن طريق تأجيل الزواج أو العزوف عنه. ولا يسعنا إلا أن نقدِّر — تخمينًا — نسبة المواليد في أيرلندا للفترة الواقعة في منتصف القرن التاسع عشر. بيد أن كار-سوندرز يعتقد أنها كانت أقرب إلى ٤٠ منها إلى ٣٠ في الألف قبل عام ١٨٥٠م، ثم بدأت تتناقص حوالي هذه الفترة. وكانت هذه النسبة في عامَي ١٨٧١–١٨٨١م هي ٢٦٫٢ في الألف، وفي عامَي ١٩١١–١٩٢٦م ٢١٫١ في الألف. وزادت نسبة السيدات غير المتزوجات خلال هذه الفترة ممن تتراوح أعمارهن بين ٢٥ و٣٥ عامًا من ٢٨٪ عام ١٨٤١م إلى ٥٣٪ عام ١٩٢٦م. ولكن إذا ما أرجأ شعب بأكمله الزواج لفترة طويلة فإن هذا يعني بطبيعة الحال أن كثيرين من أبنائه سينصرفون عن الزواج كلية. وفي عام ١٨٤١م كان ١٥٪ من نساء أيرلندا من المتقدمات في السن من ٣٥–٤٥ عامًا غير متزوجات. وارتفعت هذه النسبة مع عام ١٩٢٦م إلى ٢٩٪. وهكذا فإن ثلاثة أعشار نساء أيرلندا جميعهن يحيون فترة الإخصاب بغير زواجٍ، ومع ذلك فبالنسبة للنساء اللائي تزوجن فقد احتفظن بخصوبتهن عالية كما كانت دائمًا. ففي عام ١٨٦١م كان هناك في أيرلندا ١٣٠ طفلًا ممن تقل أعمارهن عن خمسة أعوام لكل ١٠٠ زوجة يقل عمرها عن ٤٥ عامًا. وفي عام ١٩٢٦م كان الرقم المناظر ١٣١ طفلًا. أما في إنجلترا، وخلال الفترة ذاتها، فقد انخفض الرقم المناظر من ١١٦ طفلًا لكل ١٠٠ امرأة متزوجة إلى ٧١.

واستقر عدد سكان أيرلندا الآن حول ٤٣٠٠٠٠٠ أي نصف عدد السكان قبل المجاعة تقريبًا. وتوجد الآن في أيرلندا أعلى نسبة في العزوبة في الغرب، إن لم يكن في العالم كله، وتهب أيرلندا أبناءها وبناتها ليعملوا رهبانًا أو راهبات في الكنيسة الكاثوليكية على نطاق العالم. أما في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة فلم تنقص نسبة المتزوجين أو ربما نقصت بنسبة ضئيلة، ونظرًا لأن أيرلندا قد خفَّضت من نسبة المواليد فيها عن طريق العزوف عن الزواج، وكان هذا نتيجة سلسلة غريبة من الملابسات الاقتصادية دعمها ولاء شعبها للكنيسة. وتؤكد مأساتها جدوى الأسلوب الذي كان يمكن أن يتبعه العالم الغربي لخفض عدد سكانه لو أنه عنى بمالتوس الأخلاقي وليس بمالتوس العالِم، وتشير هذه المأساة إلى مدى عنف الإجراءات المطلوبة لتنفيذ توجيهات مالتوس.

١  أُعيد نشر هذا المقال عن مجلة الشئون الخارجية، ص٢٦، عدد ٤ (يوليو ١٩٤٨م)، ص٦٨٢–٦٨٩، مع حذف بعض الفقرات بإذنٍ من المؤلف وهيئة تحرير مجلة الشئون الخارجية. نسخة طبق الأصل ١٩٤٨م، مجلس العلاقات الخارجية.
٢  هارولد رايت، «السكان»، نيويورك، هاركوت ١٩٢٣م، ص٣٣.
٣  ت. ر. مالتوس، «مقال عن السكان» الطبعة السابعة، إفري مانز ليبراري، مجلد ٢، ص١١١.
٤  «مقال» ملحق، الطبعة الخامسة، ١٨١٧م؛ وبالطبعة السادسة ١٨٢٦م، المجلد الثاني، ص٤٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤