الهجرة من أوروبا إلى ما وراء البحار في القرنَين التاسع عشر والعشرين١

بقلم: فرانك ثيستليسويت

كتب المقال التالي الأستاذ فرانك ثيستليسويت، وإذا ما قارنَّاه بتواريخ الهجرة الشائعة — والتي يغلب عليها طابع نمطي واحد — سنجد أنه مقال يثير فينا متعة ونشاطًا ذهنيًّا من حيث أسلوبه في معالجة موضوع الهجرة؛ فهو يعالج الهجرة باعتبارها مجموعة من الحركات المتشابكة، والتي تحدث على نطاقٍ واسعٍ داخل «المجال» العالمي وبين القارات المختلفة. ولقد حذفنا من هذا العرض الموجَز للمقال عددًا كبيرًا من المراجع الغنية التي تثري بها هوامش المقال. وقدَّم المؤلف مقاله أمام مؤتمر ستوكهولم للمؤرخين الذي عُقِدَ عام ١٩٦٠م، ونظمته اللجنة الدولية للعلوم التاريخية.

١

مضى جيل كامل منذ أن حاول الراحل ماركس لي هانزن أبو الأبحاث التاريخية الحديثة في الهجرة، أن يجعل من هذا المجال ميدانًا لدراسة هادفة٢ ويكفي، بطبيعة الحال، بالنظر إلى الباعث الأصلي لدراسات الهجرة في الولايات المتحدة، أن البحَّاثة الأمريكيين كانوا يعنون أساسًا بجانبٍ واحدٍ، وواحد فقط، من عملية الهجرة ألا وهو الاستيطان.
ونتيجة لذلك فإن الذي استحوذ على الجانب الأكبر من اهتمامهم هو نتائج الهجرة دون أسبابها، وأكثر من ذلك أنهم كانوا يعنون — أساسًا — بالنتائج المترتبة على الهجرة في البلدان المستقبِلة للمهاجرين دون البلدان المرسِلة لهم. وإذا لم يأخذ الباحثون الأسباب باعتبارها، على وجه الدقة، أمورًا مسلَّمًا بها فإنهم كانوا يدرسونها دراسة سطحية للغاية. ولقد مضى زمن طويل منذ أن كان في استطاعة الباحث الاجتماعي أن يؤكد لنا أن السبب في قلة هجرة الفرنسيين هو أن فرنسا تتمتع بمؤسساتها الليبرالية، ثم يقنع من الإجابة بهذا القدْر. ولم يعد الباحثون الأمريكيون يقعون في خطئهم السابق؛ حيث كانوا يسلِّمون بما كانت تُسميه هيئة التخطيط السكاني الحكومية باسم «القالب الأمريكي» للمواطن الجائع في العالم القديم، والذي ينظر بعين الحسد إلى العالم الجديد بما فيه من ثروات وفرص متاحة.٣ وسوف أعود — فيما بعد — إلى الحديث عن هذا القالب الأمريكي المتميز «للفلاح»، والذي يؤدي بدوره، بالإضافة إلى «الإقطاع» و«المجتمع العرفي»، إلى أن نهمل بطريقة رومانسية الدراما الواقعية لتأقلم المهاجر المستوطن في أمريكا. ولقد أثْرَت الأبحاث الأمريكية المعاصرة معلوماتنا عن تنظيم الاستيطان بطريقة تدعو للإكبار، ولكن يبدو أنه ما زال هناك حاجز من الماء المالح يحُول دون فهم الأصول الأوروبية. بل ما زلنا نجد عقلًا يتمتع بقدراتٍ رفيعة مثل عقل هانزن يسلِّم بالفرض القائل بأن أمريكا الشمالية، وبالأحرى الولايات المتحدة الأمريكية، هي الهدف الأخير للهجرة من أوروبا إلى ما وراء البحار. نظرًا لأن أغلب الهجرات إلى كندا كانت هجرات عابرة.
ومن ثَم يمكن القول بأن أمريكا كانت طوال هذا القرن بمثابة مغناطيس هائل له قوة جذب متباينة، تجذب إليها شعوب أوروبا من تلك المناطق التي خَلقت منها ظروفها مناطق قلِقة، وتهيأت لهم سُبل الانتقال منها. وحددت ظروف أمريكا موجات الهجرة الوافدة من أوروبا باعتبارها المصدر الرئيسي من حيث استمرارها وارتفاعها.٤
والآن أصبح لِزامًا أن نواجه الحقيقة، وهي أن من بين خمسة وخمسين مليونًا من الأوروبيين، الذين هاجروا إلى ما وراء البحار فيما بين عامَي ١٨٢١م، ١٩٢٤م، نزح إلى الولايات المتحدة ثلاثة وثلاثون مليونًا، أي ثلاثة أخماس العدد الكلي.٥ ولكن ثمة حجة أخرى يستند إليها هذا المقال؛ إذ يرى أننا إذا ما عالجنا الهجرة التي تمت في القرن التاسع عشر بل والقرن العشرين، إلى ما وراء البحار باعتبارها محاولة لسُكنى الولايات المتحدة؛ فإن ذلك يعطينا صورة زائفة.
ومعالجة المؤرخين الأوروبيين للهجرة الحديثة مثالٌ واضحٌ للمنهج الذي تفرضه الوسائل التقليدية للنظر إلى الماضي على التصور التاريخي. فإن نزوح ما يقرب من خمسة وخمسين مليونًا من الأوروبيين إلى ما وراء البحار خلال القرن السابق على تقييد الهجرة إلى أمريكا إنما هي إحدى الظواهر الواضحة التي يتميز بها العقد الحديث. ومع ذلك فيبدو أنها أثرت تأثيرًا واهيًا، إن كان ثمة تأثير لها، على كُتَّاب التاريخ العام لأوروبا. وترجع أسباب ذلك — بلا ريب — إلى النظرة القائلة بأن تاريخ أوروبا إنما كان تاريخًا للأمم، وأن الهجرة إلى ما وراء البحار، حسب وجهة النظر هذه، هي شيء سلبي في جوهره، وتعتبر هذه الهجرة التي تتجاوز الحدود القومية في ظاهرها بمثابة بالوعة تُفَرَّغ داخل أمة ليس من اليسير تقدير تعدادها. مثال ذلك أن الجزر البريطانية أسهمت — إلى حدٍّ كبير — بالشطر الأكبر من المهاجرين، أي بما يقرب من ١٩ مليونًا.٦ ورغم ذلك فحتى لو أخذنا في الاعتبار أن هذا العدد يتضمن جانبًا هامًّا من الأيرلنديين؛ فإن ما يدعو للدهشة — حقًّا — هو أن المؤرخين الإنجليز لم يأبهوا لهذه الحقيقة إلا نادرًا.

وإذا كانت مكتشفات علماء الديموجرافيا والاقتصاد والاجتماع لا تُعَد بديلًا للبحث التاريخي، إلا أننا — مرة أخرى — نجد أن الوضع لا يزال على ما كان عليه منذ خمسين عامًا خلت، حيث نجد أن علماء الاجتماع هم الذين يحرزون قصب السبق، وأن على المؤرخين أن يتعلموا الكثير مما حققه هؤلاء من تقدُّم. وأحد الأسباب التي تدعو إلى ذلك أن كلمة المهاجر التي تُستخدَم — عادةً — إنما هي كلمة مبهَمة وغير محدَّدة إذا ما قارنَّاها بغيرها من الموضوعات التي تتناولها البحوث التاريخية، بحيث يصبح لِزامًا علينا أن نعتمد — بشكلٍ خاص — على الإحصاءات كحُجة في هذا الصدد. وقد تبرر الحُجة الإحصائية في ظاهرها ما كان يقوله المؤرخون القدامى عن «أمريكا مركز الهجرة». ففي خلال القرن السابق على فرض قيود الهجرة إلى أمريكا نجد أن ثلاثة وثلاثين مليونًا من بين خمسة وخمسين مليونًا من المهاجرين الأوروبيين قصدوا جميعهم الولايات المتحدة، ولكن هل نعتبر هذا — يقينًا — تبريرًا للزعم القائل إن تاريخ الهجرة هو تاريخ النزوح إلى أمريكا؟ إلا أننا كلما حاولنا أن نحدد أكثر فأكثر مواصفات هذا الرقم الغفل، بدت لنا الصورة معقَّدة أكثر فأكثر، وأصبحت الولايات المتحدة — من نواحٍ كثيرة — أقل بروزًا داخل هذه الصورة.

  • أولًا: فمن المقدَّر أن ثلث من هاجروا إلى الولايات المتحدة قد هاجروا منها ثانية؛ وهذا من شأنه أن يقلل لدرجة كبيرة من شدة ضغط الهجرة عليها.٧ ومع ذلك ففي الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تخلَّف عن الهجرة الواسعة عبر المحيطات ما يقرب من عشرين مليون نسمة في البلدان الواقعة فيما وراء البحار من مواليد أوروبا؛ استوطن منهم الولايات المتحدة ما يقرب من اثني عشر مليونًا، وهي نفس النسبة التي توازن العدد الإجمالي.٨
  • ثانيًا: كان في النصف الغربي للكرة الأرضية بلدان أخرى تستقبل المهاجرين، وكان حجم الهجرة إليها أهم — نسبيًّا — من حجمها إلى الولايات المتحدة. فكان حجم الهجرة إلى الأرجنتين ٥٫٤ ملايين، والبرازيل ٣٫٨ ملايين، وكندا ٤٫٥ ملايين.٩ وإذا اتخذنا كثافة الهجرة كمعيارٍ أكثر دلالة من الرقم المطلق الفعلي سنجد أن نصيب الأرجنتين من المهاجرين أكبر من حيث العدد قياسًا بتعداد سكانها، وأن كندا تشغل — كقاعدة عامة — مرتبة أعلى من الولايات المتحدة. وفي العقد الأول من القرن العشرين ١٩٠١–١٩١٠م كانت معدلات الهجرة لكل ألف كما يلي: الولايات المتحدة تكاد تزيد على الألف، وكندا ١٥٠٠، والأرجنتين ٣٠٠٠. ومن ثَم فقد يبدو من هذه النسب أن بلدان أمريكا الجنوبية، والأرجنتين بوجه خاص، أهم بكثيرٍ من الولايات المتحدة في نظر مَن يعنى بدقة بضغط المهاجرين على البلد المستقبِل لهم. وعلاوة على ذلك فإن بلدان أمريكا الجنوبية تختلف عن أمريكا الشمالية من حيث إن عدد المجموعات السلالية التي نزحت إليها واستوطنتها كانت مجموعات محدودة للغاية. فقبل عام ١٩٠٠م كان عدد الإيطاليين الذين نزحوا إلى البرازيل يفوق — كثيرًا — عدد النازحين إلى الولايات المتحدة، وكانوا يشكِّلون ٧٠٪ من عدد المهاجرين إلى الأرجنتين، وما يزيد على ٦٣٪ من المهاجرين إلى البرازيل. وكان ثلث سكان الأرجنتين خلال الجيل التالي لعام ١٨٩٥م من الإيطاليين؛ وكانوا يؤلفون ثلث سكان ولاية ساو باولو في البرازيل عام ١٩١٠م. ومثل هذا التركز لمجموعة ذات حضارة معينة يمثِّل صورة مقارنة لها أهميتها بالنسبة للموقف في أمريكا الشمالية. مثال ذلك أن الإيطاليين — بسيطرتهم على مهنة البناء وهندسة المعمار — أكسبوا مدن أمريكا الجنوبية طابعًا إيطاليًّا، ومِثل هذا التأثير الناجم عن الهجرة لا نجد له ما يناظره في الولايات المتحدة.
ومن المقدَّر أن نسبة العائدين إلى الوطن من الولايات المتحدة كانت تزيد على ١٠٪، وبلغت نسبة عالية في الأرجنتين؛ إذ تُقَدَّر بحوالي ٥٣٪. ومن الواضح أن الهجرة إلى أمريكا الجنوبية رغم أنها كانت أكثر منها إلى أمريكا الشمالية، إلا أنها كانت، وبالنسبة لقطاعٍ هام من الأفراد، هجرة وقتية وعابرة. ونحن نعلم أن هذه النسبة كانت تختلف اختلافًا بيِّنًا من فترة إلى أخرى. فقد بلغت ذروتها عندما بلغت الهجرة الصناعية «الجديدة» إلى الولايات المتحدة أقصاها. كما كانت تختلف اختلافًا بيِّنًا كذلك حسب المجموعات السلالية. ففي الفترة الواقعة بين عامَي ١٩٠٨م و١٩٢٣م ارتفعت نسبة العائدين إلى الوطن من أبناء دول البلقان إلى ٨٦ و٨٩٪، وانخفضت في نفس هذه الفترة بالنسبة للأيرلنديين، حيث قُدِّرَت بحوالي ١١٪؛ وقُدِّرَت بالنسبة لليهود بحوالي ٥٪.١٠ واختلف معدل التأقلم كذلك اختلافًا واضحًا؛ فهناك مثلًا بالنسبة للإيطاليين الجنوبيين الذين ألِفوا الإقامة في الولايات المتحدة نجد أن أقل من سُدس عددهم أصبحوا مواطنين في الولايات المتحدة وقت تشكيل مكتب الهجرة بالولايات المتحدة. وأيًّا كانت دلالة هذه الخبرة فإن الهجرة لم تكن تعني — في الغالب — الإقامة الدائمة «والتأقلم الحضاري».

ولسوء الحظ أننا لا نعرف سوى النَّزر اليسير عن هذا الجانب الهام من تاريخ الهجرة إلى ما وراء المحيط. ماذا كان معدل سرعة الهجرة العائدة؟ ماذا كانت نسبة «المترددين» الذين اعتادوا التنقل من وإلى البلد الذي يهاجرون إليه، ونسبة «الجوالة» الذين يتنقلون من بلدٍ يستقبلهم إلى آخر؟ ماذا كانت خبرة أولئك الذين عادوا من مهجرهم واستقروا في وطنهم الأصلي الذي نشئُوا فيه؟ هذه المجالات كلها التي تستحق الكشف عنها إنما هي الوجه الآخر للقمر؛ إلا أن ما يتيسَّر لنا أن نجمعه من المصادر الوصفية يعطينا صورة على درجة كبيرة من الأهمية والتعقيد.

فمن الواضح في البداية أن نسبة لا يُستهان بها من المهاجرين العائدين كانوا من «المترددين» الذين اعتادوا القيام بهجراتٍ وقتية منتظمة. ففي عام ١٩٠٤م كان ١٠٪ من المهاجرين الإيطاليين الذين دخلوا الولايات المتحدة هم ممن سبق لهم الهجرة.

وكان المهاجرون من بين العديد من المجموعات السلالية الهامة هم من العمَّال الموسميين الذين كانوا يؤجرون أنفسهم للعمل على ضفتَي المحيط. فالمهاجر الإيطالي المسمَّى جولو ندرينا (العصفور) هو فلاح اعتاد أن يترك إيطاليا في نوفمبر بعد الحصاد ويرحل إلى حقول القمح والكتان في منطقة كوردوبا الشمالية وسانتافي، ثم يعمل في حصاد القمح فيما بين شهرَي ديسمبر وأبريل في كوردوبا الجنوبية وبونيس آيرس، وفي شهر مايو يعود إلى بيدمونت لزراعة حاصلات الربيع. ولم تكن هذه الحركة الموسمية الكبرى تختلف عن هذا الفيض من عمال الحصاد المكسيكيين الذين يتدفقون على حقول القمح في مونتانا وكاليفورنيا إلا من حيث استخدام الزوارق التي تعبُر بهم المحيط. وكان عمَّال البناء ينزحون من فينيسيا إلى الولايات المتحدة كل عام في شهر مارس، ويعودون في شهر أكتوبر ليعاودوا هجرتهم في الربيع التالي. واعتاد هؤلاء أن يسافروا، ولكن طبقًا لنظامٍ أقل تعقيدًا من النظام الذي اعتاد عليه عمَّال طلاء وتزيين المنازل من الإنجليز الذين ألِفوا السفر إلى الولايات المتحدة كلَّ ربيعٍ لمزاولة مهنتهم هناك ثم يعودون إلى اسكتلندا صيفًا قبل أن تنزح العائلات الإنجليزية شمالًا ثم يرحلون إلى إنجلترا في الخريف بينما موسم الصيد على الأبواب. وعامل المناجم — الذي يعود إلى اسكتلندا ليقضي الشتاء متسكعًا، ينفق الدولارات التي اكتسبها خلال الصيف عن طريق العمل في مناجم الفحم في جبال الأبلاش — كان يخاطر باحتمال أن يفسد عليه فرصته في العمل فلاحٌ وافدٌ من بولندا ليجني بعض الدولارات ويشتري بها أرضًا في قريته التي وفد منها. كما وأن عامل الغزل الذي اعتاد التردد بين بولتون ولانكشير وفول ريفير وماسوشيت كان يجد نفسه وقد استُبدِلَ بعاملٍ كندي من أصل فرنسي يطمع في العودة إلى مقاطعة كويبيك وقد حصل على قليلٍ من المال. وكان من شأن هذا الوضع القلِق أن يُرغم المهاجر — أحيانًا — على الرحيل، والتنقل من بلدٍ إلى آخر من البلدان المستقبِلة، مثلما كان يفعل الإسكافي الإيطالي في بنسلفانيا، الذي عمل لسنوات عدة في البرازيل، أو مثلما فعل والد المطرب شارلس فورت وهو من مواليد لندن، وعامل من عمال الصلب الإيطاليين، وكان يعمل في بتسبرج؛ حيث عرف هناك أهمية ينبوع المياه الغازية. وكان يدخل الولايات المتحدة كل عام، قبل الحرب العالمية الأولى؛ ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف من المهاجرين الإيطاليين الذين كانوا يفدون إليها من بلدان أخرى غير إيطاليا ذاتها. ومع ذلك فإن هذه الطيور المهاجرة لم تزودنا إلا بمعلومات جزئية عن أنماط الهجرة المعقَّدة إلى ما وراء المحيط الأطلسي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أو كما عرضها أحد من يوثَق بحكمه حين قال:

«ربما لو تيسَّر لنا جمع كل السجلات الخاصة عن هذه الحركات لكشفت لنا عن صورة مذهلة للكادحين الذين يجوبون أرجاء المعمورة بصورة متكررة، وهو تكرار لا نجد له مثيلًا عند الرحَّالة من الطبقات الراقية في البلدان الغنية.»١١

ولو قُدِّرَ لنا أن نفعل ما يفعله علماء الطيور الممتازون، وثابرنا على وضع حلقاتٍ حول «طيور الهجرة» فإننا سنكتشف أن نمط الهجرة معقَّد إلى حدٍّ كبير. ويجب ألا نضع في الاعتبار الحركة في اتجاهٍ واحدٍ فقط من أوروبا إلى ما وراء البحار، ولا الحركة المتقابلة بين الموطن الأصلي والبلد المستقبِل، بل ولا حتى بين البلدان المستقبِلة، بل يجب كذلك أن نضع في اعتبارنا الهجرة الواسعة داخل حوض البحر الأبيض المتوسط وداخل أوروبا ذاتها.

فهناك صانع الأواني البريطاني في شرق ليفربول، أهيو، الذي قضى أعوامًا وهو يعمل في هولندا وفرنسا قبل أن يصل إلى الولايات المتحدة، والمهاجر الأيرلندي في إحدى شركات الغزل في رود أيلاند، الذي تعلَّم مهنته في لانكشير، والحائك اليهودي أو صانع السجاد الذي تعلَّم مهنته في الطرف الشرقي من لندن وكان يعيش كالطائر المهاجر ما بين بلده وبولندا الروسية. كل هؤلاء يمثِّلون دليلًا حيًّا على أن حركات الهجرة في القرن التاسع عشر كانت تقع تحت تأثير قوة جذب قوية تشدها إلى العالم الجديد، ولكن بعد أن تجد حافزًا لها على الحركة داخل أوروبا أولًا. فكانت موجات الهجرة التي تتدفق إلى ما وراء المحيط قاصدة الأمريكتين في حلقاتٍ تزداد اتساعًا تتشكَّل بفعل دوافع محلية، فضلًا عن تأثُّرها بفعل تأثيرات مجاورة. ولنأخذ البحر الأبيض مثالًا على ذلك. فهناك العامل الإيطالي المسمى المدييرو أو أرندانيو mediero orrendano وهو أول من ارتاد حقول القمح من الأرجنتين ومزارع البن في البرازيل، وقد كان موطنًا للمستعمِر الذي أتى من صقلية أو كلابري، وعاش في مزارع القمح التي لا تبعد أكثر من ست ساعاتٍ عن باليرمو في تونس. وهناك اليونانيون الذين اقتفوا أثر الإيطاليين إلى كلٍّ من أمريكا الشمالية والجنوبية، وكان قد سبق لهم أن زوَّدوا بلغاريا ورومانيا بالعمَّال، وأمدُّوا مصر وتركيا بالتجار وصغار الحرفيين. وأسهم الإيطاليون في إنشاء قناة بناما، بينما كان مواطنوهم قد أسهموا في حفر نظيرتها عند السويس. وفي المراحل الأولى اتخذ أغلب المهاجرين الإيطاليين من أوروبا وشمال أفريقيا هدفًا لهم يهاجرون إليه. بينما نجد أن نسبة الهجرة إلى أوروبا وشمال أفريقيا قد تغيرت من ٨٢٪ عام ١٨٧٦م إلى ٣٦٪ عام ١٩١٣م. وبينما هاجر إلى الأمريكتين ما يقرب من ٨٫٩ ملايين إيطالي فيما بين عامَي ١٨٧٦م و١٩٢٦م؛ نجد أن ما يقرب من ٧٫٥ ملايين كانوا قانعين بالحركة داخل نطاق أوروبا والبحر الأبيض.
وتشير الأرقام السابقة — ضمنًا — إلى أننا بصدد ظاهرة مجالها القارة الأوروبية، وكذلك فيما وراء المحيط. فبينما كان العمال من كلابري يعملون في حفر قناة السويس كان الحرفيون من لومباردي وبدمونت ينشئون الأنفاق وخطوط السكك الحديدية في سويسرا وفرنسا. وكان ثمة ما يزيد على ربع مليون من الإيطاليين في فرنسا عام ١٨٨٦م، وما يقرب من نصف مليون عام ١٩١١م، وحوالي ثلث مليون من مواليد إيطاليا في الولايات المتحدة. وثمة حقيقة أهملها تاريخ الهجرة وهي ظهور فرنسا كأحد البلدان الكبرى التي اتخذها المهاجرون هدفًا لهجرتهم. وذلك لأن تطور فرنسا البطيء في مجال التصنيع لم يجذب إليها العمَّال الإيطاليين فقط، بل جذب إليها كذلك العمَّال من بولندا وبلجيكا، كما وفد إليها أخيرًا العمَّال الإسبان؛ بحيث أصبح عدد المهاجرين إليها عام ١٩٢٠م قرابة المليونَين، وذلك عندما أصبحت فرنسا الدولة الثانية بين الدول التي يقصدها المهاجرون، ثم أصبحت أهمها جميعًا بعد أن سنَّت الولايات المتحدة القوانين التي تقيِّد الهجرة إليها. ففي عام ١٩٣١م كان في فرنسا ما يزيد على ٩٠٠٠٠٠ إيطالي وأكثر من ٥٠٠٠٠٠ بولندي وأكثر من ٣٣٠٠٠٠ إسباني، وما يزيد على ٣٠٠٠٠٠ بلجيكي. وجذبت حركة التصنيع في ألمانيا عددًا أكبر من المهاجرين، وإن كانت هجرة قصيرة بعد عام ١٨٩٠م، وكان معظمهم من القطاع النمساوي للمجر وإيطاليا.١٢
ومرة أخرى نقول إنه لمن العسير علينا أن نمايز بين الهجرة للاستيطان والهجرة المؤقتة بين البلدان المختلفة. ويحدِّثنا فورستر عن الإيطاليين الجنوبيين الذين اعتادوا التنقل شمالًا في أعدادٍ غفيرة فيقول: «تشبه الهجرة للاستيطان من نواحٍ كثيرة الهجرة الداخلية غير المألوفة في إيطاليا أكثر مما هو الحال بالنسبة لحركة الهجرة إلى ما وراء المحيط.»١٣ وخبرة الأيرلندي الذي كان يهاجر إلى لانكشير أو الاسكتلندي إلى برمنجهام أو سكان جنوب ويلز إلى لندن، إنما كانت تختلف من حيث الدرجة فقط عن خبرة جيرانهم الذين هاجروا إلى بوسطن وتورنتو وسترانتون على الترتيب؛ فكل حركة من هذه كانت تستلزم استئصال عقلية المهاجر وتطويرها بدرجاتٍ متفاوتة.

وخلاصة القول أن الهجرة عبر المحيط لم تكن سوى وجه واحد يثير الحيرة لنمطٍ معقدٍ للغاية لتيارات المد التي لم تكن تقتصر على هجرة المستوطنين النرويجيين إلى مزارع مينو سوتا والمهاجرين الأيرلنديين من وإلى الولايات الألمانية الشرقية ومناجم الفحم في مناطق الأبلاش وعمال الصلب في سيليزيا والعمال الإيطاليين الذين كانوا يتنقلون جيئةً وذهابًا بين شيكاغو وايلينوا وهوميكورت؛ وفي فرنسا عمَّال الفنادق في تنقلهم من وإلى لوزان ونيس وريو دي جانيرو، والاسكتلنديين من وإلى مارسيليا وسانتوس. وهكذا نجد أننا بعيدون كل البعد عن هذه القضية الساذجة المسماة «بالحُمى الأمريكية».

٢

ثانيًا: إننا إذا ما دقَّقنا النظر إلى منبت المهاجرين فإننا لا نكتشف ما نتوقعه من كلٍّ من الإحصاءات الإجمالية وأنماط التاريخ القديمة، أو إننا لا نتبيَّن هذه الحركة الجماعية غير المتمايزة «للفلاحين» أو «الحرفيين» الحقيقيين الذين يفدون في حشودٍ كبيرة إلى مواني الهجرة من «مَواطن» مختلفة لا نتبيَّنها في وضوحٍ مثل إيطاليا أو ألمانيا بل وبولندا أو أيرلندا. وستظل الصورة التي أمامنا صورة زائفة حتى إذا علِمنا هذه الحقيقة الواضحة، وهي أن مثل هذه المصطلحات إنما كانت — في أغلب الأحيان — أسماء باطلة للتعبيرات الجغرافية أو المقاطعات السياسية. وإذا نظرنا إلى هذا السطح المتجانس للحركة الجماعية من خلال منظارٍ مكبِّر سنراه أشبه بقُرصٍ يحتوي على عددٍ لا حصر له من الخلايا والأحياء والقرى والمدن، لكلٍّ منها أوضاعها الخاصة بها بالنسبة لجاذبية الهجرة، وربما لا يكون لقوة الجذب هذه أي تأثير عليها. فالأمر لم يعُد مجرد قضية هجرة سكان الجبال الاسكتلنديين على هيئة جماعات إلى كندا العليا، أو هجرة سكان الراين إلى وسكونسين، أو هجرة أبناء السويد إلى مونتانا وسكان شمال إيطاليا إلى فرنسا والأرجنتين، وسكان جنوب إيطاليا إلى الولايات المتحدة، رغم أهمية هذه الفوارق الأولية. وإذا ما توخينا الصبر والأناة في عملنا هذا فإننا سنصل إلى المنابع الخفية للحركة. ومن ثَم يجب أن يقتصر حديثنا عن ويلز بل بور تمادوك أو سوانس، وليس جنوب أو شمال إيطاليا بل كذلك فينيسيا جوليا وفريولي وبازيليكاتا وكلابريا، ولا نتحدث عن اليونان بل ولا بيلو بونيز، وإنما عن تريبوليس وإسبرطة وميجالو بوليس، ولا يكون كلامنا — بشكلٍ عامٍّ — عن لانكشير بل داروين أو بلاك بورن؛ ولا ينصبُّ حديثنا على النرويج عمومًا، بل كريستيان ونورث بيرجينوس، فثمة قرى في منطقة بيلوبونيز مثل بازيلكاتا وفريولي شبَّ أطفالها على الهجرة. وثمة قطاعات من نيويورك هاجر إليها مهاجرون من إيطاليا أبناء أحياء بذاتها واستوطنوا شوارع خاصة، ونراهم يناصبون بعضهم العداء في أغلب الأحيان. وسبيلنا الوحيد لفهم التشريح الحقيقي لعملية الهجرة أن ندرس هذه الأحياء والمدن دراسة فاحصة ونتعقَّب مصير أبنائها، وما حقَّقوه من نجاح. وأقر هانزن هذا الرأي بوضوحٍ حين قال: «إن ظاهرة الهجرة لا تتحدد خصائصها في لحظة معينة عن طريق نسبتها إلى الأمة ككلٍّ، وإنما عن طريق نسبتها إلى قطاعٍ منها محدَّد للغاية. وعندما تتضح لنا هذه الخصائص فإننا ندرك منبت كل المهاجرين، رغم أننا ندرجهم جميعًا تحت اسمٍ جامع مثل المهاجرين من الألمان أو الإيطاليين.»١٤

وثمة مِهن بذاتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأحياء معينة، وإذا أحطنا بهذه المهن فإن ذلك سيخلِّصنا — نهائيًّا — من الأسلوب النمطي الخاص بالكتلة المتجانسة من «الفلاحين». ومن أهم القسمات المميزة والمثيرة لعمليات التحليل المتتالية للأجانب الذين استوطنوا الولايات المتحدة منذ ١٩١١م هو مدى ارتباط مجموعاتٍ سلالية مختلفة بمهنٍ معينة. وعلى الرغم من أن هذا الارتباط المهني إنما كان — جزئيًّا — نتيجة لفرص العمل المتاحة، إلا أنه في أغلب الأحوال كان يرتبط بظروف العمل في البلد الأم. وهكذا نجد أن العمَّال غير المهرة الذين وفدوا من جنوب إيطاليا كانوا يشتغلون في الولايات المتحدة في ميدان التشييد والصناعات الثقيلة. ولكنهم كانوا أيضًا يتجمَّعون في مهنٍ مستقلة لها خصائصها المميزة. فالإيطاليون، ومن بعدهم اليونانيون الذين سلكوا طريقًا مماثلًا، أسَّسوا أول ركيزة لهم ليثبِّتوا عليها أقدامهم في المدن الأمريكية، وذلك بأن عملوا كماسحي أحذية. وكانوا يحصلون بذلك على بضعة دولارات نتيجة تجوالهم في الطرقات، وهيَّأ لهم ذلك الحصول على النفقات الخاصة بشراء عربة يدٍ لبيع الفاكهة أو المرطبات، ثم محال لبيع الآيس كريم أو الزهور حتى يتمكَّنوا أخيرًا، بفضل هذا كله، من فتح مطعم أو العمل في الفنادق. وقد تحوَّل أربعة أخماس المهاجرين الذين وفدوا إلى أمريكا من لورينزانا في بازيلكاتا إلى ماسحي أحذية.

ويرجع هذا التركُّز — جزئيًّا — إلى غريزة التبعية للقائد، والتي كان يستغلها السادة من مقاولي الأنفار الإيطاليين أو اليونانيين الذين كانوا يجمعون الفتيان من أحيائهم لتشغيلهم طبقًا لعقودٍ شكلية، وغالبًا ما تكون عقودَ عمل مجحفة. ورغم ذلك فقد كان في استطاعة مقاولي الأنفار في الولايات المتحدة أن يقوموا بنفس الدور لأن نفس هذا النظام كان متَّبَعًا من قبل في كلٍّ من جنوب إيطاليا واليونان؛ إذ كان المتَّبَع في الأحياء الرعوية الفقيرة في البيلو بونيز أن يرحل الطفل في سن العاشرة والثانية عشرة إلى مدن اليونان أو تركيا ليكتسب بعض النقود لأبوَيه، عن طريق العمل كماسح أحذية أو صبي في مقهى أو محل بقالة، وغالبًا ما كان يعمل في ظروف قاسية. واعتاد مقاولو الأنفار أن يجمعوهم من هذه الأماكن ليرسلوهم إلى الولايات المتحدة.

وكان هذا العمل من الأعمال المنحطة، والتي يستطيع أي إنسان من الحقول أن يؤديه. ومع ذلك فإن المهاجرين من «الفلاحين» لم يقتصر عملهم على هذه المهن وحدها. وكان الإيطاليون يمثِّلون الجانب الأكبر من الهجرات. هذا ولو أن ما لا يقل عن ثلث المهاجرين الإيطاليين الذين هاجروا إلى الأرجنتين في الفترة التي شهدت وفرة في إنتاج الحبوب، فيما بين عامَي ١٨٧٦م و١٨٩٧م، لم يكونوا من الفلاحين بل من الحرفيين، وكان من بين هؤلاء عمَّال البناء والنجارون وعمَّال المحاجر والبستانيون وعمَّال الطوب وعمَّال الطلاء بالملاط الذين أعطَوا مدن أمريكا طبعها الإيطالي. وكان من بينهم كذلك قباطنة السفن من جِنْوَا والملاحون والبحَّارة الذين كانوا يشتغلون بعمليات الشحن والنقل النهري. وكان ثمة تركُّز مماثل للحرفيين في الولايات المتحدة. وهنا أيضًا كان الأسلوب المتَّبَع محدَّدًا من قبل أن يعبُر أيٌّ من المهاجرين المحيط الأطلسي. وكان العمال المهرة يشكِّلون عنصرًا هامًّا في الهجرة الإيطالية إلى سويسرا وفرنسا، ثم أخيرًا إلى ألمانيا وخاصة العمال الذين كانوا يفدون من فريولي، وهي مصدر للمهاجرين، بل والمصدر الوحيد؛ حيث بدأ الصفوة من سكانها يفكرون مليًّا في حدود الهجرة المؤقتة. وبدأ آلاف العمال يستوطنون فينسيا شتاءً، وهم العمال الذين فشلوا في الحصول على عملٍ دائمٍ هناك، ولم يجدوا أمامهم من سبيلٍ إلا الهجرة. ومن ثَم كان الغلمان في فريولي يتدربون — عن قصدٍ — على العمل في قطع الحجارة أو النجارة لكي يستفيدوا من النقص الذي تعاني منه فرنسا في هذه المهن. كما وأن الآباء في كازيرتا أو بازيليكاتا كانوا يعِدُّون أبناءهم — بشكلٍ مباشر — للعمل في صناعة الزجاج في ليونز. وهكذا كانت هناك علاقة وثيقة في أغلب الأحيان تربط ما بين الهجرة والمهنة؛ وكان هذا هو الوضع القائم في أوروبا قبل أن تصبح أمريكا مركز جذب لهم.

والملاحَظ أننا في مناقشتنا للمهاجرين من العمال المهرة عنيْنا — إلى حدٍّ كبير — بالحِرفي القروي الذي كانت تمتصه بسهولة الأوضاع الاقتصادية البدائية في المناطق الزراعية المتاخمة. إلا أن هذا الموضوع يصبح ذا دلالة كبيرة عندما نتناول بالفحص دور المهاجرين من التكنيكيين في تصنيع البلدان التي هاجروا إليها. فإن ذيوع التكنولوجيا عن طريق هجرة التكنيكيين يمثِّل جانبًا من تاريخ الهجرة، وهو جانب جديرٌ بدراسة مستفيضة. وهنا يجد الدارس للهجرة البريطانية ميدانًا خاصًّا يسهم به في دراسته. فإن تفوق بريطانيا في ميدان الصناعة ورأس المال والتجارة والطرق التجارية، كل هذا شجع على هجرة لا مثيل لها من التكنيكيين الذين أمدُّوا البلاد التي هاجروا إليها — الواحد بعد الآخر — بطاقمٍ من المهارات لتصنيعها. ويصبح دور التكنيكي البريطاني في التصنيع دورًا خطير الشأن بالنسبة للبلدان الحديثة مثل الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وفي كندا أو أستراليا في القرن العشرين، بحيث يحق لنا أن ننظر إلى التصنيع باعتباره صورة من صور تاريخ الهجرة. بل إن هذا الدور له أهميته حتى بالنسبة للنظم الاقتصادية الراسخة منذ القدم. وعلى الرغم من أن ثمة محاولة للتركيز على الولايات المتحدة باعتبارها مثالًا واضحًا إلا أننا هنا، كما هو الحال في جوانب أخرى من تاريخ الهجرة إنما نتناول ظاهرة يحسُن معالجتها باعتبارها ظاهرة عالمية. فالملاحَظ أن الناس الذين ألِفوا أداء مهنة متخصصة كانوا يستفيدون من حاجة غيرهم إلى هذه المهنة ورخص أسعار المواصلات، ويعملون على نشر مهنتهم هذه على نطاق العالم. فعمَّال المناجم في أقصى الجنوب الغربي لإنجلترا كانوا يؤجِّرون أنفسهم للعمل حيثما كانت هناك حاجة لمهاراتهم، وتكوَّن منهم أول جيلٍ أرستقراطي من رؤساء المناجم في مناجم الرصاص والصفيح والنحاس. ولم يحدث هذا في إلينوا وميشيجان فقط، بل حدث أيضًا في بوليفيا وراند وبردكين هيل. وكانوا أحيانًا يتنقلون من قارة إلى قارة ليمارسوا — في بساطة وصدق — مهنتهم الخاصة. وتولى عمال النسيج الذين هاجروا من البنين عملية إنشاء وتشغيل الأنوال في فرنسا وبلجيكا في الوقت الذي كان فيه كلٌّ من سلاتار وسكولفيلد وخلفائهم يقيمون مصانعهم في نيو إنجلند، وكذلك فإن عمال السباكة في إنجلترا وويلز وعمَّال صهر الحديد قاموا بدورٍ مماثلٍ بالنسبة لصناعة الحديد، ولم يقتصر دورهم على بنسلفانيا بل امتد إلى فرنسا والروسيا. وعمَّال الأواني في ستافورد شاير زاولوا مهنتهم كذلك في فرنسا وروسيا كما أنهم استطاعوا أن يحلوا كل المشاكل الخاصة بالصلصال في العالم الجديد. وأشرف المهندسون الإنجليز الاسكتلنديون على بناء وتشغيل خطوط السكك الحديدية في كل بقاع الأرض تقريبًا، عدا الولايات المتحدة، من بلجيكا إلى نيوزيلندا، ومن الهند إلى الأرجنتين. وهكذا كان الوضع في سائر مجالات التكنيك الصناعي في القرن التاسع عشر. وربما لو تيسَّر لنا أن نعرف الكثير عن ذلك لوجدنا أن المجتمعات البريطانية التي نشأت في فول ريفر وماسوشيت أو إيست ليفربول وأوهيو إنما ترتبط بالمجتمعات البريطانية في بونيس آيرس وشارنتون وموريال أكثر مما ترتبط بالمجتمعات الأمريكية المهجَّنة الأخرى في الولايات المتحدة.١٥
وغالبًا ما تعطينا دراسة هجرة التكنيكيين المفتاح الذي يساعدنا على فهم المجتمعات التي تتميز بكيانها المستقل (دراسة الأفراد من خلال دراسة المجتمعات)، وهو ما نفتقر إليه في دراستنا للجماعة السلالية الجديدة. إلا أنها تُعَدُّ شيئًا جوهريًّا ولازمًا إذا ما كنَّا بحاجة إلى أن نتعلم شيئًا له قيمته عن الحوافز والأسباب والتوافق، بل وأي شيء في الحقيقة يتعلق بالطبيعة الحقة لتجربة المُهاجر. وتقوم المهارة بدور جهاز الرسم ذي النشاط الإشعاعي الذي يتعقب حركة الدم من خلال الهجرة. وسبق لي أن أشرت إلى أننا سوف نُحسن صنعًا إذا ما عملنا على تطوير دراستها باعتبارها تكنيكًا يفيدنا في هذه الدراسة١٦ فنحن على سبيل المثال نعرف الكثير عن التكنيكيين البريطانيين في الولايات المتحدة، بحيث يتسنى للدارس أن يقدم الإجابة الشافية عن رضا لأكثر المشاكل الهامة.
وتتميز هجرة التكنيكيين البريطانيين بخاصية مميَّزة، فنحن في استطاعتنا أن نمايز بين مراحل متتابعة: أولها هجرة المخترِعين المبدعين ونقلة هذه المخترعات في صناعات النسيج والحديد والصلب والأواني والمناجم الذين أدخلوا التكنولوجيا الحديثة، ثم هاجر في أعقابهم مئات من العمال المهرة وكانوا يضمُّون الغزالين وصانعي الآلات وعمال السباكة والمناجم، وكان بعضهم فقط مهاجرين موسميين، بينما استوطن البعض الآخر وانخرط ضمن جماعات تتميز بتراثها البريطاني والولاء المهني وألَّفوا نقاباتٍ مهنية. ثم كان الطور الثالث عندما ساعدت الآلات المتطورة وطرق الإنتاج الأمريكية على تضييق نطاق العمل الماهر، وزاد معها عدد المهن التي يمكن لأيدٍ عاملة رخيصة وغير ماهرة وأكثر طواعية أن تؤديها. وكان هؤلاء يفدون من مواطن هجرة حديثة — من أيرلندا وفرنسا وكندا وشرق أوروبا — وما أن حدث هذا حتى ارتقى العنصر البريطاني ليحتل المراكز الإشرافية والإدارية، وتوقفت هجرة التكنيكيين، اللهم إلا إذا كان أحد الإخصائيين ممن تقتضي الظروف هجرته. وثمة جوانب كثيرة ومضيئة ترتبت على ذلك، إلا أنها تخرج بنا بعيدًا عن حدود هذا المقال.١٧ ويكفي هنا الإشارة بأنه كانت لها خصائصها المميزة التي تكررت في صناعة تِلوَ الأخرى ابتداءً من عمَّال غزل القطن في لانكشير عام ١٨٠٠م إلى عمَّال الطلاء بالقصدير في ويلز عام ١٨٩٠م. ورغم أنني كنت أود أن أتمكن من مقارنة مثل هذه الهجرة إلى الولايات المتحدة بالهجرة إلى بلدان أخرى مثل كندا وأستراليا، وما زالت الهجرة إلى كلٍّ منهما مستمرة، إلا أن الدليل الذي بين أيدينا يقدم لنا دلالات هامة عن المضامين الواسعة للهجرة إلى ما وراء المحيط الأطلسي.

٣

إن هجرة التجار تسترعي انتباهنا للبحث عن الجوانب الاقتصادية للموضوع. وبالرغم من الحقيقة الثابتة من أن هجرة القرن التاسع عشر إنما كان الحافز إليها أساسًا حافزًا اقتصاديًّا، إلا أن المحدِّدات الاقتصادية الفعلية إنما كانت تُصاغ صياغة مبهَمة داخل الإطار الذهني القديم؛ إذ كان الباحث يجد نفسه بصدد قائمة تحوي عوامل «جذب» و«دفع» والتي كان يتركها — آنذاك — في خلفية تفكيره بسبب الانهماك في الاعتبارات الثقافية والسياسية التي تتضمنها عوامل التمثُّل. وفهم الهجرة الحِرفية هو الطريقة الصحيحة للوصول إلى تعريفٍ أكثر ثراءً. فأولًا كانت الطرق التجارية هي التي تحدد هذه الهجرة. وبالنسبة لأمريكا الشمالية فقد حددتها الطرق التجارية التي تبدأ من الجزر البريطانية. فمن الحقائق الأساسية أن المهاجرين كانوا — أساسًا — يمثِّلون حمولة لها قيمتها بالنسبة للسفن العائدة غير محمَّلة بالقطن الخام أو أخشاب البناء، وقد بدأت هذه الحقيقة الآن فقط تلقى ما تستحقه من اهتمامٍ. وكانت شركات الشحن من كونارد وأستر-أميريكان إلى الخطوط اليونانية الحديثة تعتمد في تكوين ثرواتها على المهاجرين؛ وظلَّت التجارة ردحًا طويلًا من الزمان في يد البريطانيين، واستمرت — إلى حدٍّ ما — تمرُّ عبر المواني البريطانية بعد أن انتقلت مناطق تجميع المهاجرين إلى وسط وشرق أوروبا. وكان الإتجار في المهاجرين تطويرًا للتجارة الأنجلو أمريكية الواسعة النطاق، والتي وحَّدت بين أمريكا وشمال غرب أوروبا في وحدة اقتصادية للمحيط الأطلسي.

ومفهوم اقتصاد المحيط الأطلسي مثله كمثل تاريخ المحيط الأطلسي، كلاهما حديث النشأة تمامًا، إلا أن لهما أهمية كبرى لفهم تاريخ الغرب في القرن التاسع عشر. والاصطلاح نفسه له ما يبرره، ذلك لأنه لا يقتصر على وصف أحد ظروف التجارة العالمية، أيًّا كان هذا الظرف، بل الظرف الذي كانت تتمتع فيه عوامل الإنتاج بحرية حركة لدرجة كبيرة بحيث يصعب علينا أن نمايز بين البلدين الرئيسيين المعنيين وهما بريطانيا والولايات المتحدة كنظامين اقتصاديين منفصلين، كل منهما مغلق على نفسه. فكان اقتصاد المحيط الأطلسي يتعلق باستغلال العمل ورأس المال الأوربيين لمراعي شمال أمريكا بغية الحصول على منتجات رخيصة الثمن من القطن والقمح لأوروبا، وفتح أسواقٍ للصناعات الأوروبية فيما وراء البحار. وكانت هجرة العاملَين التوءمَين: الاستثمار الرأسمالي والعمل، هي المفتاح لهذا الاقتصاد؛ كما كان المهاجرون هم العنصر الجوهري لتشغيله. أمَّا كيف سارت هذه على وجه الدقة فما زال موضع بحثٍ وجدالٍ، وتمَّت على يد الاقتصاديين الأمريكيين أول محاولة لتهذيب الفروض القديمة عن الهجرة، وهي فروض غير ناضجة عن ميكانيزم الدفع للتضخم السكاني والاستغلال في أوروبا وميكانيزم الجذب للفرص السانحة على الأرض الأمريكية. ويلزم هنا أن ننوِّه بمبادرة الباحثين الأمريكيين من غير المشتغلين بالتاريخ. وكانت محاولتهم هذه نتاجًا فرعيًّا لبحثهم في عمليات الدورة التجارية منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا خلت. ووجد جيروم أن ثمة ارتباطًا مباشرًا بين الذبذبات التي تتعرَّض لها الهجرة إلى الولايات المتحدة والدورة التجارية الأمريكية القصيرة المدى. وأخيرًا أثبت كلٌّ من كوزينتس ولوبان أن ثمة ثلاث ذبذبات طويلة تعرَّضت لها الهجرة الحقيقية فيما بين عامَي ١٨٧٠–١٩٤٥م، والتي لازمت في اتجاهها الذبذبات في دَخْل الفرد.

إلا أن هذه التقديرات التي تقوم على أساسٍ إحصائي ليس لها غير فائدة محدودة لمؤرخي الهجرة. ذلك أن عوامل «الجذب» تفعل أشياء كثيرة، وتضع موضع الشك فكرة أن أمريكا هي مركز الهجرة. ومع ذلك فقد قام برينلي توماس، منذ عهدٍ قريب، بمحاولة جديدة تتسم بأنها أكثر طموحًا على المدى الطويل وأكثر قناعة لوضع نظرية تربط حركة الهجرة بنشاطٍ اقتصادي آخر. ففي دراسته عن بريطانيا واقتصاد المحيط الأطلسي حاول توماس أن يبيِّن لنا أن الحركة الإيقاعية للنمو الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسار الهجرة بين البلدين. وخلاصة القول أنه كشف عن وجود علاقة عكسية بين الاستثمار في أمريكا ومستوى الدخل في بريطانيا من ناحية، وبين الهجرة وتصدير رأس المال من ناحية أخرى، كما كشف عن علاقة موجَبة بين الهجرة والاستثمار والدخل في الولايات المتحدة، ويناظر ذلك تنافرٌ بين معدلات النمو الاقتصادي على جانبي المحيط الأطلسي الشرقي والغربي. وعلى الرغم من أن بعض آراء توماس الإحصائية هي موضع جدلٍ بطبيعتها، إلا أن عمله هذا يمثِّل خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة لدارسي الهجرة؛ إذ كشف أولًا عن وجود ارتباطٍ غير بسيطٍ بين الزيادات التي تطرأ على النشاط التجاري في أمريكا وبين الهجرة: فقبل عام ١٨٧٠م تقريبًا طرأ ارتفاعٌ على النشاط التجاري في أمريكا في أعقاب ارتفاع الهجرة. والنتيجة التي نخرج بها من ذلك، بالنسبة لهذه الفترة على أقل تقديرٍ هي أن عوامل «الدفع» في أوروبا كانت هي القوة الدافعة للهجرة أكثر من عوامل «الجذب» في الولايات المتحدة. ولكن ما هو أهم أنه حين ركز بحثه على اقتصاد المحيط الأطلسي خرج بنظرية اقتصاد الدولتين، وهي نظرية أكثر تعقيدًا بيد أنها أكثر فائدة للمؤرخ من النظريات السابقة، وهي نظريات اقتصاد الدولة الوحيدة التي تُسلِّم بمركزية أمريكا. فهو يبرهن لنا على أن الميكانيزم إنما هو — على أقل تقدير— عملية ذات اتجاهين، ولا سبيل إلى فهمه إلا إذا وضعنا في اعتبارنا ظروف كلٍّ من البلد الذي تبدأ منه الهجرة، والبلد الذي يتجه إليه المهاجرون، وأن نضع في اعتبارنا كذلك كل العوامل المعقَّدة التي تتفاعل مع بعضها، وأن العمل ليس إلا عاملًا واحدًا فقط من بين هذه العوامل التي أسهمت في تطوير اقتصاد حوض شمال المحيط الأطلسي.

والطريقة التي يتناول بها توماس موضوع الهجرة تتيح لنا إمكانية ربط الهجرة بديناميات النمو الاقتصادي على نطاقٍ أكثر شمولًا؛ فرغم أنه يقدم لنا شواهد قيِّمة تعزِّز آراءه بالنسبة للسويد وبلاد الدومنيون البريطانية، إلا أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة قد ظلَّتا تمثِّلان البؤرة التي يتركز فيها اهتمامه. ونحن نستطيع أن نتخيل الزمن الذي يتحقق فيه تطور تكنيكي يمكِّننا من أن نستوضح الكثير مما غَمُض علينا بالنسبة لميكانيزم الهجرة، ولن يقتصر ذلك على الهجرة في حوض شمال المحيط الأطلسي فقط، بل يمتد إلى البلدان الأخرى التي كانت مسرحًا للهجرة، وكذلك فهم الروابط المعقَّدة التي تربطها ببعضها البعض.

ويجلو لنا توماس نظرتنا عن مشاكل الأطوار، فيقرر لنا أن اقتصاد المحيط الأطلسي لم يكن سوى طورٍ واحدٍ من بين أطوار التطور الاقتصادي، وأنه كان يحمل في داخله بذور تحلُّله. والحركة السهلة التي أدت بالفلاحين إلى زراعة القمح في البراري أدَّت كذلك بالصنَّاع إلى استغلال المعادن والأسواق وإقامة صناعة حديثة على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي. وما إن تطور الاقتصاد الأمريكي من وضع اقتصاد بلد مستعمَر تابعٍ إلى اقتصاد بلدٍ مستقل ومتطور حضاريًا حتى انقطع اعتماده على رأس المال الأوروبي أو العمل والمهارات الأوروبية. والتطورات الصعبة التي واجهت حوض المحيط الأطلسي نتيجة ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى، إنما كانت نتيجة منطقية لتفوق الاقتصاد القديم لبلدان المحيط الأطلسي. وليس ثمة شكٌّ في أن صعوبة هذه التطورات قد تفاقمت، كما أشار توماس إلى ذلك، بسبب قصور سياسة الولايات المتحدة في أعوام ما بين الحربين، إذا ما قورنت باتجاه بريطانيا إزاء هجرة رأس المال والعمل خلال الحقبة الليبرالية الكبرى في القرن التاسع عشر. وبالنسبة للجانب الخاص بالعمل الذي تتضمنه المشكلة، يمكن القول بأن سياسة التقييد العنيفة التي اتَّبعتها الولايات المتحدة — فيما بين عامَي ١٩١٧م و١٩٢٤م — بالإضافة إلى سياسة أمريكا الجنوبية، كان لها أثرها الهام على مسار الأحداث في أعوام ١٩٢٠م و١٩٣٠م. وكان الرأي الشائع بين رجال الاقتصاد أن هذه القيود قد أسهمت في «ركود» الاقتصاد الأمريكي خلال فترة الكساد عام ١٩٣٠م. إلا أننا بحاجة إلى مزيدٍ من الدراسة لهذا الرأي، وكذلك لآثاره المزعومة على الاكتظاظ السكاني في أوروبا، مثل تحوُّل الهجرة الإيطالية إلى إمبراطورية موسوليني في شمال أفريقيا. وتُعَد دراسة آثار الهجرة الواسعة على بلدان أوروبا مشكلة تاريخية صعبة رغم أننا نجد هنا أحد الباحثين الأمريكيين مثل دكتور سكراير يقدم عملًا رائدًا في هذا المجال في دراسته عن أيرلندا، مستنِدًا في ذلك إلى المعلومات التي قدمتها لجنة الفولكلور الأيرلندي.١٨ إلا أن دراسة الآثار المترتبة على هذه القيود قد تُلقي مزيدًا من الضوء على هذه القضية، وهذه هي إحدى المشاكل الكثيرة التي أغفلها الدارسون الأوروبيون منذ ذلك الحين إلى الآن.
ويبدو واضحًا مع ذلك أنه أيًّا كانت المشاكل القصيرة المدى المترتبة على قيود الهجرة فإن الدورة الطويلة للهجرة الجماعية من أوروبا كانت في طريقها إلى الانتهاء فيما بين الحربين. وانتهت هذه الدورة باستيطان المراعي الشاسعة غير المأهولة الموجودة خارج أوروبا، وهي جزء من دورة أكبر لم تكن قاصرة على استعمار أستراليا والأرجنتين وأمريكا الشمالية، بل امتدت لتشمل إندوس فالي وسيبيريا ومونجوليا الداخلية ومانشوكو.١٩ ومع عام ١٩٣٠م بدأت حدود الاستيطان الفعلي تتقارب، بما في ذلك أستراليا؛ حيث ظل جزء كبير من أراضيها الداخلية صحراء حسب المقاييس الزراعية المعروفة، ومع بداية القرن العشرين كانت الاتجاهات الطاردة المركزية للهجرة الأوروبية أصبحت معادلة لاتجاهات الجذب المركزية.
ولم تتجه أوسع الهجرات إلى المراعي، بل إلى المناطق التي يتركز فيها الفحم والحديد، حيث أُقيمت الصناعات هناك. وفيما بين عامَي ١٨٧٠م و١٩١٤م كانت هناك حركة هجرة حقيقية بلغ بها الأمر أن كانت تضم مواطنين أمريكيين هاجروا من المزارع إلى المناجم والمصانع ومدن جبال روكي والأبلاش. ووجد كثير من المهاجرين الأوروبيين فرصَ الحياة ميسَّرة لهم في ميدان الصناعة الأمريكية أكثر مما هي متوفرة في مزارع البراري. وبوسعنا أن نتصور ذروة الدورة العظمى والمسماة بالهجرة «الجديدة» باعتبارها هجرة ريفية-حضَرية، وكان يغلب عليها طابع الهجرة العابرة للمحيط أكثر منها هجرة محلية. وبينما نجد بعض الإيطاليين والبولنديين والأكرانيين ينزحون إلى بتسبرج أو شيكاغو نجد غيرهم يضاعف من عدد السكان المهاجرين من الفرنسيين والألمان في لوكروزو والرور وسيليزيا. ومع عام ١٩٢٧م تجاوز عدد المهاجرين الأوروبيين إلى البلدان الأوروبية عدد أولئك الذين هاجروا إلى بلدان تقع فيما وراء المحيط، وأصبحت فرنسا أهم بلدان الهجرة في العالم. وفي عام ١٩٣٠م وفد إلى أوروبا — لأول مرة — في التاريخ الحديث سكان عن طريق الهجرة الفعلية إلى الداخل.٢٠

وفضلًا عن ذلك فثمة علامات تدل على أن هذه الهجرة إلى ما وراء المحيط بدأت تضعُف قبل أن تفرض أمريكا قيودًا على الهجرة إليها. مثال ذلك شدة الهجرة — أو الحركة العالمية للعمل — أي نسبة المهاجرين لكل ألفٍ من السكان، فقد انخفضت لدرجة ملحوظة فيما قبل عام ١٩١٤م في كل بلدان الهجرة والولايات المتحدة، كما وأن توقف الهجرة إلى الولايات المتحدة لم يقابله أي تحوُّل في الهجرة إلى البلدان الأخرى.

ولقد بدأ في الحقيقة مع نشوب الحرب العالمية الثانية، وكانت الدورة الكبرى قد انتهت، وأصبح دارسو الهجرة بصدد مشكلة تاريخية خالصة لا علاقة لها بالمرحلة المعاصرة إلا في نواحٍ قليلة. ولم تغيِّر خبرتنا بعد الحرب من هذه النظرة تغييرًا خطيرًا. فما زالت في أوروبا مناطق ريفية مكتظة بالسكان، خاصة في جنوب إيطاليا واليونان وكذلك بلدان منطقة البلقان. كما طرأ على هولندا حالة من حُمى الهجرة لها أهميتها. إلا أنه — بوجه عام — لم يكن هناك ضغط كبير في أوروبا من أجل الهجرة. وبينما نجد معدلات النمو الاقتصادي في بعض البلدان المستقبِلة تقليديًّا، خاصة أستراليا وكندا، قد صاحبتها زيادة في الطلب على الهجرة، وعلى الرغم من أن أستراليا كانت — لفترة من الزمن — تمتص المهاجرين بمعدل قياسي، فإن حركة الهجرة قد حققت نِسبًا متواضعة. وأجمع رجال الاقتصاد في أحد المؤتمرات الدولية، الذي عُقِدَ عام ١٩٥٥م، على أن تجديد الهجرة على نطاقٍ واسعٍ لم يعد شيئًا محتمَل الوقوع، ولا حلًّا ملائمًا لمشاكل البلدان المتخلفة في منتصف القرن العشرين، والتي تعاني أصلًا من التضخم السكاني على عكس ما كان عليه الوضع بالنسبة للمراعي البكر في القرن التاسع عشر.٢١
وخلاصة القول أننا إذا ما تأمَّلنا أطوار الهجرة إلى ما وراء البحار فإن ذلك يضعها داخل نطاقٍ زمني محدَّد، ويرجع أهميتها إلى علاقتها بالهجرة داخل أوروبا. وتتضاءل هذه النسب كثيرًا إذا ما فحصنا درجات حجم السكان في أوروبا ككل. ففي نفس الوقت الذي كانت فيه أوروبا تمد بلدان ما وراء البحار بما يربو على ستين مليونًا من البشر؛ كان تعداد القارة يتزايد كثيرًا بحيث ارتفعت نسبة سكانها إلى سكان العالم من ٢٠٫٧٪ عام ١٨٠٢م إلى ٢٥٫٢٪. وجدير بالذكر أن الهجرة لم تؤدِّ — في أي فترة من الفترات — إلى نزوح أكثر من ٤٠٪ من الزيادة الطبيعية لسكان أوروبا. وبعبارة أخرى فإن اتجاهات الجذب المركزية التي كانت تبقي على السكان في أوطانهم كانت — على أقل تقدير — تعادل في قوتها قوة اتجاهات الطرد المركزية التي كانت تدفع بهم إلى الخارج. وإذا ما سلَّمنا بهذه الحقيقة، ولم ننظر إلى «التشتُّت الواسع» باعتباره العامل الديموجرافي الغلَّاب في القرن التاسع عشر، وإنما باعتباره قسمة ثانوية للاتجاهات الديموجرافية داخل أوروبا، فسوف تظهر أمامنا صورة جد مختلفة وأكثر تشويقًا. فبدلًا من أن نرى الأوروبيين يفرُّون إلى الأمريكتين وأستراليا، إذا بنا نراهم هم أنفسهم يستعمرون بلادهم. ذلك لأنهم، عن طريق استفادتهم من قوة عملهم ورأسمالهم ودرايتهم بكيفية استغلال المواد الغذائية والمواد الخام في الأراضي البكر، تمكَّنوا من إطعام سكان بلادهم الذين يتزايدون باطِّراد، بل وتمكَّنوا أيضًا من تصنيع قارتهم. فكما هاجر بعض السكان، تكاثر البعض في داخل بلادهم، وتركزوا في مناطق الفحم والحديد. وزيادة على ذلك فما إن بلغت حركة الهجرة إلى الخارج المدى الذي يكفل توفير احتياجاتهم من المواد الخام الأساسية حتى بدأت هذه الحركة في التراخي، ولم يعد العنصر المتحرك من السكان يهاجر إلى ما وراء البحار، بل إلى مركز الصناعة الحضرية في أوروبا الغربية ذاتها. وأصبح هذا الاتجاه في نهاية الأمر هو الاتجاه السائد، وعلى حد تعبير فورسيت حلَّت «مناطق التمركز» محل «الأراضي الفضاء الشاسعة والمباحة»، وأصبحت بمثابة مناطق الجذب للهجرة.٢٢ ومن ثَم يحسُن أن تعالج الهجرة الواسعة إلى ما وراء البحار باعتبارها جانبًا هامًّا، ولكنه جانب ثانوي، لمشكلة النمو السكاني والتصنيع في أوروبا، وهكذا مرة أخرى نجد أنفسنا وقد بعدنا كثيرًا عن حُمى الشغف بأمريكا.

وبعبارة أخرى فإن هذه الزاوية الجديدة، التي أدعو إلى أن ننظر من خلالها إلى الموضوع، تنقل البؤرة من مناطق الحدود إلى العواصم، أي من عوامل «الجذب» إلى عوامل «الدفع»، وخاصة إلى المؤثرات الديموجرافية التي قال عنها برينلي توماس إنها قد تكون العنصر الدينامي في نمو اقتصاد المحيط الأطلسي. ومن ثَم ينبغي علينا أن نبحث عن الأسرار الكامنة للهجرة، من خلال تأثير هاتين «الثورتين» اللتين ترتبطان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا، وهما الثورة الديموجرافية والثورة الصناعية.

وليس ثمة مجال للدخول في التعقيدات الذائعة عن الثورة الديموجرافية، ومع ذلك فيبدو أن نقصًا في نسبة الوفيات دون أن يقابله نقص في نسبة المواليد، كعامل تعويض، هو الذي أدَّى إلى ارتفاع نسبة الزيادة الطبيعية مبتدئًا من شمال غرب أوروبا، ومتجِهًا شرقًا وجنوبًا حسب تأثر المجتمعات بالتقدم في ميدان الطب والغذاء. ورغم أن هذه الزيادة أمكن تعويضها بأنواعٍ جديدة من الأطعمة ذات القيمة الغذائية، خاصة البطاطس، إلا أن سكان الريف كانوا يعيشون على الكفاف. وكانت نتيجة ذلك ميلًا خفيًّا إلى الهجرة تحوَّل في بعض الأحيان، ولكن بدرجاتٍ متفاوتة، إلى هجرة حقيقية. ولم تحدث هذه الهجرة في أوقات الكوارث فقط التي نجمت عن فساد محصول البطاطس، بل عندما تيسَّرت وسائل النقل والمواصلات إلى المواني وإلى بلاد ما وراء البحار. ومن ثَم فإننا نجد في بلدٍ تلو الآخر، ابتداء من أيرلندا إلى إيطاليا ثم اليونان أخيرًا، مُعامل ارتباط مباشر بين معدلات الهجرة ومعدلات الزيادة الطبيعية السابقة عليها بعشرين عامًا. ويمثِّل هذا المُعامل هجرة النسبة الزائدة من بين مجموعة السكان الذين بلغوا من العمر الحدَّ الذي يسمح لهم بدخول سوق العمل. ففي النرويج — مثلًا — نجد منحنى الهجرة يرتفع ارتفاعًا كبيرًا مرتين، أحدهما في عام ١٨٣٠م، والثاني في عام ١٨٦٠م. وحدث هذا الارتفاع وقتما كان هناك عددٌ كبيرٌ جدًّا من كبار السن تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين عامًا. وتأكدت صحة هذا الرأي نظرًا لأن الغالبية الساحقة من المهاجرين كلهم من الشباب. وإذا نظرنا إلى عدد المهاجرين في الولايات المتحدة خلال الفترة التي تيسَّر لنا فيها الحصول على أرقامهم، نجد أن ما بين ٨٦ و٩٥٪ منهم دون الأربعين. وكان المهاجرون البريطانيون، في مطلع القرن العشرين، دون الواحد والثلاثين من العمر. وتجلى شيطان مالتوس بمظاهره المختلفة في بلدٍ بعد الآخر عبر القارة الأوروبية دون النظر إلى البنية الاجتماعية الريفية أو قوانين الإرث وحيازة الأرض أو ظروف الزراعة أو سياسة مُلاك الأرض.

ومع ذلك فإن تضخم السكان في الريف لم يؤدِّ — بذاته — إلى الهجرة الجماعية مثلما كان الوضع في أيرلندا عام ١٨٣٠م أو اليونان عام ١٨٩٠م. فقد كانت هناك شروط أخرى ثلاثة حدَّدها هانزن بما يلي: حرية الحركة، والرغبة في الحركة، ووسائل الحركة.

وتُعتبَر وسائل الحركة أسهل هذه الاصطلاحات تعريفًا. إلا أن الطرق والسكك الحديدية والقنوات والسفن التجارية والبريد والبرق والبنوك ومكاتب السياحة، والتي كان يستخدمها المهاجر في سفره، كانت في ذاتها نتاجًا لقوى حطمت الوجود المغلَق للريف الأوروبي، وأمدَّت الفلاح بحرية الحركة. ويتمثَّل جانبها السلبي في القضاء على العبودية، والإيجابي في إتاحة فرص العمل، كما أمدَّته بالرغبة في الحركة التي تولَّدت عن اتساع الآفاق أمامه، وضِيق الفرص المتاحة داخل وطنه. وارتبطت الهجرة في الحقيقة ارتباطًا وثيقًا بنشاط المواصلات والأسواق والتجارة ورأس المال، والذي يمثِّل الطور الأول في إقامة اقتصادٍ حديثٍ. ونلمس ذلك بالنسبة لاسكندنافيا خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، وبالنسبة لإيطاليا خلال الثمانينيات والتسعينيات من نفس القرن. وكان تفتُّت المجتمع العرفي بفعل القوى التجارية شرطًا أساسيًّا للهجرة. وأدى هذا إلى حدوث نمو ثوري في الحركة الاجتماعية، والتي حوَّلتها فرص السفر والحصول على وظيفة إلى ميلٍ نحو الهجرة، ومن ثَم فقد كانت الهجرة في حقيقتها أحد جوانب الحركة الاجتماعية.

وارتباط الهجرة بالتصنيع والتحضر (وكلاهما لا ينفصمان) كان ارتباطًا وثيقًا مثل ارتباطها بشيطان مالتوس. وأصبح صحيحًا الآن أن فلاحي لومباردو كانوا يفلحون الأرض في الأرجنتين كما كان فلاحو السويد في مونتانا. وأصبح صحيحًا كذلك أن نسبة متزايدة من المهاجرين البريطانيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر هم من التكنيكيين المهرة الذين تعوَّدوا الانتقال من منطقة صناعية إلى أخرى. ولكن أصبح الطابع الغالب للهجرات الكبيرة بعد عام ١٨٩٠م أنها كانت هجرة من المزرعة إلى المصنع ومن القرية إلى المدينة، سواء أكانت هذه الهجرة من آيووا إلى شيكاغو، أو من سيليزيا إلى بتسبرج، أو من بيدمونت إلى بوينس آيرس. وكان أبناء الأقاليم الذين يقطنون منطقة الفيوردات في النرويج يَعتبرون أي رفيق لهم يأخذ أُهْبته للإبحار «أمريكيًّا». بل وبعد الحرب العالمية الثانية كان مجتمع الهجرة النرويجي الذي يقيم على ضفتَي نهر وسكونسين، ويجاهد بغية الاحتفاظ بكيانه اللوثري متكاملًا يعتبر لفظ «الأمركة» مرادفًا للفظ «التحضر» أو سُكنى الحضر.٢٣

بيد أن القوى الدينامية التي خلقت الميل إلى الهجرة في وقتٍ ما هي أيضًا التي ساعدت على تنمية الصناعات التي هيَّأت فرص العمل، ومن ثَم لم تعد الهجرة أمرًا لا مناص منه. وهنا بدأت الهجرة إلى ما وراء المحيط في التناقص. وكانت بريطانيا تمتص — حتى عام ١٨٥٠م — غالبية صغار مُلاك الأراضي الإنجليز ممن كانت ظروفهم تهيئهم للهجرة، كما بدأت منذ عام ١٩٠٠م تمتص الكثيرين من الأيرلنديين الذين كانت ظروفهم تهيئهم للهجرة كذلك إلى أمريكا. وفي السبعينيات من القرن التاسع عشر بدأت الأخشاب النرويجية والمعادن السويسرية تشق طريقها ضمن الهجرة الاسكندنافية، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا بدأ مسارها يتحدد بفعل جاذبية العمالة في أمريكا، والتقدم غير المتعادل للصناعة الاسكندنافية، إلى أن نضب هذا المَعين عشية الحرب العالمية الأولى. وتُعتبر الهجرة الألمانية من أكثر هذه الحالات وضوحًا؛ فقد بلغت أقصاها بالنسبة للغرب والجنوب الغربي في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وبالنسبة للبلد ككل في منتصف الثمانينيات مع بداية الصناعات الثقيلة في هذا العقد من القرن التاسع عشر. بيد أن العمالة لم تكن هي الوجه الوحيد لعملية التحضر والتصنيع التي أضعفت من جاذبية الهجرة؛ إذ كانت حياة الحضر أكثر استهواءً، نظرًا لرخص أسعار اللحوم والحبوب في بلدان ما وراء البحار، فضلًا عن تزايد عدد مهن ذوي الياقات البيضاء. كما وأن ظهور مفهوم رفاهية الدولة بالإضافة إلى التعليم العام والتأمين ضد البطالة والشيخوخة؛ كل هذا طرد المخاوف القديمة عن الخدمة العسكرية. ووجد الفلاح في المفهوم الجديد عن القومية تعويضًا كاملًا وممتازًا لما خسره من إحساسه بذاتيته في قريته. وأدى هذا المفهوم إلى وقوف الدولة ضد الهجرة. ثم هناك أخيرًا انخفاض نسبة المواليد، والتي كانت زيادتها، بالإضافة إلى ما صاحبها من انخفاضٍ في نسبة الوفيات، سببًا في انطلاق الثورة الديموجرافية. إلا أن انخفاض نسبة المواليد أدى إلى تخفيف الضغط على السكان، والذي كان الشرط الكامن للهجرة، وأدى بالتالي إلى خفض معدلات النمو السكاني إلى ما دون المستوى الذي يعوض الفاقد من السكان. وهكذا فإن الهجرات الكبرى عبْر المحيط في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد حدثت خلال طور انتقالي من أطوار التطور الأوروبي، بين تفتيت المجتمعات الريفية القديمة وبداية عصر التصنيع الحديث.

١  أُعيدَ نشر هذا المقال عن المؤتمر الدولي الحادي عشر للعلوم التاريخية، ستوكهولم، ١٩٦٠م، تقرير عن «التاريخ المعاصر»، جوتيبورج، ستوكهولم أو بسالا، الميكويست وويكسيل، ١٩٦٠م، ص٣٢–٦٠، مع حذف بعض الفقرات بإذن الناشرين والمؤلف، نسخة طبق الأصل ١٩٦٠م، عن الميكويست وويكسيل وستوكهولم، السويد.
٢  م. ل. هانزن، «تاريخ الهجرة الأمريكية كميدان للبحث»، المجلة التاريخية الأمريكية، ٢٢، (١٩٢٦-١٩٢٧م).
٣  دادلي كيرك، «الاتجاهات الديموجرافية في أوروبا»، حوليات الأكاديمية الأمريكية للعلوم السياسية والاجتماعية، ١٩٤٩م، ص٤٦.
٤  ماركس لي هانزن، «الاستيطان في تاريخ أمريكا»، ١٩٤١م، ص١٩٢.
٥  إمري فرينكري، «دراسة تاريخية لإحصاءات الهجرة»، مجلة العمل الدولية، ص٢٠، ١٩٢٩م.
٦  و. ف. ويلكوكس، «الهجرات العالمية»، نيويورك، ١٩٣١م، مجلد ١، ص٨٥.
٧  هذا التقرير عبارة عن تصوُّر تقريبي للماضي بناء على الأرقام الخاصة بالفترة التالية لعام ١٩٠٧م، وهي الفترة التي تيسَّر لنا فيها — لأول مرة — الحصول على الأرقام الخاصة بالعائدين من الهجرة، ويلكوكس، نفس المرجع، مجلد ٢، ص٨٩، لوحة رقم ١٧. أ. م. كار-سوندرز، «المشكلة السكانية في العالم»، (أكسفورد ١٩٣٦م)، ص٤٩، ج. إسحاق «الهجرة العالمية والاتجاهات الأوروبية»، مجلة العمل الدولي، ص١١٦ من المقدمة، ١٩٥٢م، ص١٨٨.
٨  دادلي كيرك، «السكان في أوروبا فيما بين الحربين»، برنستون، مكتب الأبحاث السكانية، جامعة برنستوي، ١٩٤٦م، ص٩٠.
٩  لكل بلدٍ نسبة خاصة به ممن عاودوا الهجرة ونزحوا ثانية. وتغطي هذه الأرقام الفترة الواقعة ما بين عامَي ١٨٢١–١٩٢٤م (فرينكزي، دراسة تاريخية، ص٣٧٤-٣٧٥).
١٠  فرينكزي، نفس المرجع، ص٣٨٠: ثمة معامل ارتباط بين معدلات العودة للوطن ونسبة الذكور إلى الإناث، فهي مثلًا نسبة عالية تصل إلى ٩٦٪ من الذكور بين اليونانيين، ونسبة منخفضة بين اليهود إذ تصل إلى ٥٢٪؛ ﻫ. ب. فيرتشيلر «الهجرة اليونانية إلى الولايات المتحدة»، ١٩١١م، ص١١٢؛ ويلكوكس، نفس المرجع، مجلد ٢، ص٢٠٦، ٢٠٧.
١١  ر. ف. فوستر، «الهجرة الإيطالية في عصرنا الحديث»، ١٦١٩م، ص٣٧.
١٢  دادلي كيرك، «سكان أوروبا فيما بين الحربين»، ١٩٤٦م، ص٩٧–١٠٥.
١٣  فورستر، نفس المرجع، ص١٩.
١٤  هانزن، «المهاجر في التاريخ الأمريكي»، ص١٩١-١٩٢.
١٥  من دواعي الأسف أننا لا نعرف غير النَّزر اليسير عن المجتمعات البريطانية في الخارج بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، حيث المجتمعات الأمريكية «المهجَّنة» لها الخاصية البريطانية المميزة مثلما لها خصائص مجموعات سلالية أخرى، وذلك على عكس الاعتقاد الشائع. وثمة دراسة فريدة في هذا الصدد، وكتبها ل. ج. رينولد: «المهاجر البريطاني وتوافقه الاقتصادي والاجتماعي في كندا»، طبعة تورنتو، ١٩٣٥م.
١٦  ف. فيستلبنويت، «هجرة صناعة الأواني عبر المحيط الأطلسي»، مجلة التاريخ الاقتصادي، الحلقة الثانية، ص١١، ١٩٥٨م.
١٧  ثيستليثويت، «الرابطة الأنجلو أمريكية في مطلع القرن التاسع عشر»، فيلادلفيا، ١٩٥٩م، ص٢٩–٣٣.
١٨  أرنولد سكراير، «أيرلندا والهجرة الأمريكية»، مينيا بوليس، ١٩٥٨م.
١٩  و. د. فورسيث، «أسطورة الأراضي الفضاء المباحة»، ملبورن، ١٩٤٢م، فقرات متناثرة.
ل. بومان، «حدود استيطان الأرض»، نيويورك، ١٩٣٧م.
٢٠  كيرك، «السكان في أوروبا»، ص٨٣–٨٨.
٢١  برينلي توماس، «اقتصاديات الهجرة العالمية» لندن، ١٩٥٨م، فقرات متناثرة.
٢٢  فورسيت، نفس المرجع ص١٦-١٧.
ج. إسحاق، «الهجرة العالمية والاتجاهات الأوروبية»، مجلة العمل الدولية ع. ٦٦، ١٩٥٧م، ص١٨٦–١٩١.
٢٣  بيتر مونش، «التوافق الاجتماعي بين سكان نهر وسكونسين من النرويجيين»، المجلة الاجتماعية الأمريكية، ١٩٤٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤