كيف يحكمون؟

عزيزتي فتحية

قرأتُ خطابك البديع، بعد انتظاره أيامًا كانت أمر من الصبر وأقسى من الهجر، ولقد قبلته، ثم قبلته، حتى خفت أن تبلى سطوره من زفراتي المحرقة، ولو رأيتني وأنا أضمه إلى رسائلك السالفة، لرثيت لصبري المغلوب، ودمعي المسكوب، ولكن في سبيل الحب ما أعاني!

تسألينني عما نشره أبو الهول؟ وهل كان ذلك أول ما لقيت فيك من جارح اللوم، وقاتل التأنيب؟ وأنا أسألك لم اقتصرت في خطابك على التلميح لما كتبتْه الآنسة زكية ماهر؟ ألا يعد هذا إيثارًا للجنس اللطيف على الجنس النشيط؟ تلك — والله — سجية الأوانس، لا يعجبن بشيء إلا إن كان صادرًا عنهن، أو متعلقًا بهن، ولعلك تذكرين حديثَ السيدة سكينة بنت الحسين حين دخل عليها الشعراء لتُفاضل بينهم من وراء حجاب، فصارت تهزأ بهذا وتسخر من ذاك، ثم طربتْ لجميل حين قال:

يقولون جاهدْ يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل عندهن شهيد

ولقد رأى من الأدب أن لا أناقش خطاب الآنسة زكية هانم، فاسمعي كلمة عما قاله الكُتاب الآخرون:

يقول كاتب من بولاق: «إن خطابي إليك يحمرُّ له وجه الفضيلة! ولقد يظهر أن الفضيلة عند هذا الكاتب أضعفُ من أن تَثبت أمام رسائل الحب، وقصائد النسيب! وهو رأيٌ غريبٌ، يدل على ميل صاحبه إلى ظلم العواطف، وقتل القلوب! ولئن كان هذا الكاتب صادقًا فيما يُحدث عن نفسه من بغض الحب ومقت الصبابة، فإنَّا نسأل الله الرحمة مما مني به هذا الذي يعيش بلا فؤاد.»

أما كلمة الكاتب «ع. صيام» ففيها هنات كنا نود لو سلم منها قلمُهُ البليغ! ولقد أتعب نفسه في إثبات أنك محبوبةٌ حقيقيةٌ لا خيالية، ثم ختم كلمته بقوله: «إذا كان كذلك فالسلام عليك يا أبا فتحية»، وإني لَأتقبلُ منه هذه الكنية الجميلة، وأرجوه أن يتأمل هذا البيت:

لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي

ولا يفوتني أن أصرح لك بأني اضطربت عند قوله: «ولو كانت فتحية تُضمر لك شيئًا من الحب الذي تزعمه أنت؛ لَرأيت عواطفها تسبق محفوظاتها الأدبية»، أليس في هذا شيء من الحق يا فتحية؟ صدقت يا صيام وصدق معك من نظر لحبيبته وهو يقول:

أما والله لو تجدين وجدي
جمحت إلي خالعة العذار

وأنت يا فتحية؟

هل تعلمين وراء الحب منزلة
تدني إليك فإن الحب أقصاني

ولكن ليعلم هذا الكاتب أن الحب نوع من الفناء، ولو كان الحب — كما يظن — نوعًا من الأخذ والإعطاء؛ لكان ضربًا من ضروب التجارة لا يُعرف فيه إيثارٌ ولا إخلاص!

أما خطاب حضرة الكاتب محمد لطفي حسن ففيه من الرفق ما نود لو تحلت به رسائل الكُتاب، وهو يرى أن تحليل العواطف يُغير من أخلاق النساء! ولست أدري كيف صغرت قيمة المرأة في نظر كثير منا، حتى لا تراها أهلًا لأن تتمتع بما في قلبها من إحساس؟! ولقد وافقني من طرف خفي حين أنشدني قول ليلى الأخيلية:

وذي حاجة قلنا له لا تُبح بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل

فإن هذا الشعر لا ينكر الحب، ولكنه يمقت الفجور! وألفت نظر لطفي أفندي إلى خطأ التمثيل بقول توبة:

وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها

فإن لهذا البيت واقعة غرامية لا يجهلها مثل هذا الأديب، وجملة القول أن هؤلاء الأدباء يريدون مني أن أكتب في إصلاح المرأة، وذلك ما أبغيه لولا أنهم يرون إصلاحها في تهذيبها بالحقائق العلمية، وأنا أرى إصلاحها في تزيينها باللطائف الوجدانية.

أسيرُ على نهج يرى الناسُ غيره
لكل امرئ فيما يُحاول مذهبُ

وحتام أنشد مولاتي قول جميل:

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون أنتِ حبيبة
إليَّ وإن لم تصفُ منك الخلائق

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤