إطلاق المدافع؟!

اختلف كثير من الناس في فهم ما ذاع من عزم الوزارة المصرية على إطلاق مائة مدفع ومدفع يوم توافق إنجلترا على الاستقلال، قال قائل منهم: لقد فطنت الحكومة إلى أن الفطرة السليمة تأبى على المصريين تصديق ما يزعم المعتدلون من نيل الحرية من طريق المفاوضة والاتفاق، فهي تطلق المدافع «في وجه العدو» ولو في الهواء! وهنا لا يشك الناس في مشروعية الاستقلال. وقال آخر: إن الحكومة لا تجهل أن هذا لا يقنع المعارضين، ولا يهدي الضالين، ولكنها تريد أن تطلق المدافع في الهواء مجاراة لقول العامة «هف طلع النهار» وكان ما كان «يا سادة» يا كرام، ورُوي عن بعض المعارضين أنه قال: لقد كانت الحكومة — فيما مضى — تُدافع عن سياستها بالبلاغ بعد البلاغ، فرأت الأمةَ لا تعجز عن مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فصح رأيُها أخيرًا على أن تُدافع عن سياستها بالمدافع. والذي يراه كاتب هذه السطور — بكل أدب وإجلال — أن الغرض من إطلاق المدافع ربما كان وقر الآذان، وتصديع الرءوس؛ حتى لا يُدرك الناس حقيقة ذلك اليوم المشهود، ويؤيد هذا الرأي ما أُشيع من أن دويَّها سيكون أشد ما رواه التاريخ.

وقد اختلفوا أيضًا في سبب التحديد، وهو مائة مدفع ومدفع؛ فمنهم من قال: إن الغرض مائة مدفع فقط، والمدفع الزائد للتأكيد، ومثال ذلك قول العامة في كفَّارة اليمين «ثلاثة أيام وثلث»، وقال بعض اللغويين: إن العدد لا مفهومَ له، والمراد التكثير؛ كما قال جرير وهو يعد أبناءه:

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
لولا رجاؤك قد قَتَّلْت أولادي

وقال بعض العدليين القدماء: إن الغرض من زيادة المدفع هو التيقُّن من أنها مائةٌ لا شك فيها؛ ليكون استقلالًا لا شك فيه، وقال عفريتٌ من الجن: إن المائة مدفع الأساسية هي بشرى الاستقلال، والمدفع الزائد بشرى النصف الزائد، والغرض هو التأمين على قول أنصار مشروع ملنرانه «استقلال ونصف»، والله أعلم بحقيقة المراد.

بقيت كلمةٌ واحدةٌ نقدمها إلى رئيس الوزراء:

ألا يعلم صاحب الدولة أن تصريحات الإنجليز الرسمية كفيلةٌ بمحو ما تترك المدافع في آذاننا ورءوسنا من الوقر والتصديع؟ فإن لم يكن ذلك، أفلا يكون بقاءُ الاحتلال دليلًا على أن المدافع ليس لها من الأثر إلا أنها أصداءٌ، تتراجع في الهواء أو ضوضاءٌ تدوِّي في الفضاء؟

أيام الشباب

ولم أَرَ كالفحشاء يُخزى بها الفتى
ويُثلم منها عرضُه فيهون
وما كان زين النفس إلا عفافها
ولكن لأيام الشباب شئون

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤