مقاصد الشعراء

نريد بمقاصد الشعراء: الغايات النبيلة التي يسعون إليها في الحياة، وبعبارة أوضح: الصور الجميلة التي تتمثلها أرواحهم كلما هموا بضرب الأمثال للناس. ولست أريد في هذه الكلمة أن أنتزع صورة للشاعرية الحَقَّة، من بين ما قرأت من شُعراء العرب والفرنجة؛ فإن ذلك وإن صح أن يكون هاديًا لبعض العقول، فإنه كثيرٌ في الكتب المختارة من دواوين ومجاميع، وهو — على الجملة — في مقدور كثير من عُشَّاق الأدب والبيان.

لم يعرف الأدباء ولا العلماء — إلا قليلًا منهم — معنى الشعر في القرآن، أو ما يقصد العرب من وصف النبي بأنه شاعرٌ، أو الصورة التي تَمَثَّلُوها حينما ظَنُّوا القرآن قصيدةً طويلة، وحسبوا أن النبي شاعر مطيل. ويخطئُ من يظن أنهم كانوا مستهزئين بالنبي حين وصفوه بالشاعرية؛ فإن الشعر كان عندهم في منزلةٍ فوق الإعزاز والإجلال، ولكنهم أرادوا أن يصفوه بالعبقرية، وأن يجعلوا رسالته في صف الأماني العالية التي لا يتخيلها إلا الشعراء، وأن يجعلوا لأنفسهم عذرًا في التخلُّف إذا رأوا في الشريعة تكليفًا فوق الوسع، ثم استحبُّوا العمى على الهدى، فما يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس.

وأُريد أن أقول: إنهم يرون في الشعر شرعة خاصة يُلزم باتباعها من سَمَتْ نفسه إلى إدراك ما يوحي به الشاعر المجيد، فهم يشيرون على النبي بأن يبحث عن طائفة من الناس تفهم كما يفهم، ويكون مرأى الحياة في إدراكها كمرآها في إدراكه، ويلذ لها من التكاليف العصيبة ما يلذ له.

أما هم فإنهم بفضل سلامتهم من جنون الشعراء — والنبوغ نوعٌ من الجنون — غيرُ مكلفين باتباع ما يبعد الشعر وأهله من أنظمة الحياة العالية، وكذلك يرون التشريع الخاص غير التشريع العام، ويرون في شريعة النبيِّ دِقَّةً تسمو بها إلى الشرائع النظرية، وتُبعدها عن الشرائع العملية، وإنهم لفي ضلال مبين.

الشعر في نظر العرب يدعو إلى شريف الخلال، وكريم الخِصال أو يبدع صورًا لِلَّذائذ الحسية والمعنوية، فالحق العالي الصرح، والباطل الواهي الأساس، والفضيلة الرفيعة، والرذيلة الوضيعة؛ كل أولئك مما يقع تحت حِسِّ الشاعر المبدع، فهو فاضل إن دعا إلى الفضيلة، وناقص إن زَيَّنَ الرذيلة، وهو — على كل حال — معروف بالقدرة على وصف ما يدعو إليه العقل، أو يرنو له القلب، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

أقول ذلك لئلا يحسب واهمٌ أني أجعل الشعراء، في درجة الأنبياء، ولكني كذلك أرجو أن لا يتخلف عني بعض القراء فيما فهمناه معًا من أن الشعر إنما يضع الأمثلة العالية، فالشاعر إما صانعٌ قادر، أو واصف ماهر والناس مختلفون في اتباعه، فمنهم من يتبعه أحسن أم أساء؛ لأن الحياة عندهم ذات ألوان، والشاعر يصف ألوانها الدميمة والوسيمة، وهم يريدون أن يتذوقوا كل مظاهر الحياة، ومنهم من يتبعه إن أخطأ ويصدف عنه إن أساء، وهؤلاء المخلدون إلى الحياة الوادعة، والصادفون عن الحياة العاملة.

وهم لا يقرءون كل شعر كالصنف الأول ليقفوا على أنواع المدركات، من حق واضح، أو باطل فاضح، ولكنهم يعكفون على طائفة من الشعر الذي انفصمت عُراه، وتفكَّكَت وصاله؛ ليتم لهمُ التناسبُ بين ما تعمل أيديهم وما تقرأ ألسنتهم، وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.

ومن الناس من يتبع الشعر الداعيَ إلى الحق، ويرى فيه نغمة من نغمات النبوة، وعلامةً من علامات الرسالة، والشعراء عنده لا يتفاوتون بما تفاوتوا به عند غيره من الرغبة في الفضيلة، أو الميل إلى الرذيلة، ولكنهم يتفاضلون بتقديرهم للفضائل، وتصويرهم للمحامد، فهو يفضل بعض الشعراء على بعض، كما فضل الله بعض الأنبياء على بعض وهؤلاء الشعراء وتابِعوهم من بُناة المجد هم الذين عَناهم أبو تمام حين قال:

ولو لا بناة الشعر في الناس ما درى
بناة الندى من أين تبنى المكارم

ولا يتوهمنَّ قارئٌ أن اختلاف الشعراء في مذاهبهم الأخلاقية، مما يؤثر عليهم في الحكم من الناحية اللغوية، فإن أبا نواس في خمرياته، أفصحُ من أبي العتاهية في زهدياته، ولكن هناك وجهًا آخر للمفاضلة، وهو أن للغواية دركات، كما أن للهداية درجات، فالمثل العالي للخلاعة إنما يدركه الشعراء الخلعاء، والمثل الأعلى للنبالة إنما يدركه الشعراء النبلاء، ولكل شعر موضع، ولكل مقام مقال، فليس للشاعر أن يلبس روح الخليع حينما يريد أن يكون قدوةً في المكارم، وليس له أن يلبس روح النبيل حين يريد أن يكون عمدةً في المآثم، وإنما يلبس لكل حال لبوسها من جد وهزل، فيتعالى في الجد حتى يُقال: نبيٌّ مرسَل أو حكيم موفَّق، ويتراجع في الهزل حتى يقال: ماجن مازح، أو ذو صبوة خليع.

إذا جد حين البأس أغناك جده
وذو باطل إن شئت أرضاك باطله

وليس يخفى على القارئ أني هنا، إنما أحكم على أنواع الشعر وطوائفِ الشعراء، ولست أدعو إلى طريقة معينة أو مذهب خاص؛ فإن لذلك بحثًا غير هذا البحث، وأُريد أن أسأل القارئ بعد ما سلف من البيان هل الشعر في «مشروع ملنر» من الجد أو الهزل؟ وهل الشعراء فيه من الخلعاء أو الحكماء؟

•••

قرأْنا للشاعر المجيد أحمد بك شوقي قصيدة في هذه الاتفاقية، كان نصفها الأول النسيب، وهو يتطلَّب الإسرافَ في الخلاعة؛ فلذلك راقنا منه أن يذكر أن قلبه لم يُقلع عن الغواية وهو أشيب، وأن سرب الغواني لعب بِلُبِّهِ فأَضَلَّه سواء السبيل، راقنا ذلك كله؛ لأنا نستملح كل ما يأتي عن طريق القلب، ولأن النسيب من الأشيب عنوان ظرفه، ولأن هذا المثل مما يتأسى به المسرفون في الصبابة وهم أحداث، ولا ننكر أن هذا مقبول ولو إنصافًا للفن، وإن كنا نود لو وصف شوقي نفسه بما وصف به ابن الصمة أخاه حين قال:

صبا ما صبا حتى علا الشيبُ رأسَه
فلما علاه قال للباطل ابْعُدِ

وكان النصف الثاني بيانًا لرأيه في مشروع الاتفاق، ولا يستطيع من قرط قصيدة شوقي تلك بكلمة موجزة أن يدعي أن الحكم على هذا المشروع مما يدخل في طائفة الحكم على عتق الخمر، وصفاء الكأس، وحلاوة العين، وجمال الأنف، ورشاقة القد؛ إلى غير ذلك من الأوصاف الظاهرة لمحاسن النساء أو الأشجار أو الأنهار أو الجبال، وإنما هو حكم على آمال أمة تختلف أطماعُها السياسية باختلاف عقول أبنائها البَرَرَة من علماء وحكماء وشعراء، وباختلاف الآمال ضعفًا وقوة يُوصفُ الرجل بأنه قويٌّ أو ضعيف.

ولئن كان الشاعر حرًّا في اختيار النوع الذي يحبه من الحياة؛ فإنه غير حر أو غير مقتدًى به في الدعوة إلى نوع من الحياة لا يتلاءم مع ماضي الشعب الذي وُلد فيه، والوطن الذي درج منه، وهو عرضةٌ لأنْ يُوصف بضعف العزيمة، وخمود النفس، وركود الطبع، وأهل لأن ينكر عليه ماضيه الأغر، وسابقه المحجل، وأقل ما يجد الناقد فيه من العيوب أن شعره ليس شريعة عامة للشعب، وأنه بدلًا من أنْ يتعالى إلى أبكار الأماني فهو يتسفَّل إلى ثيبات النوازع، فهو يدعو الناهضين إلى السقوط، ولا يحض الساقطين على النهوض. وهل أوجبُ للعتب من أن يختص شوقي بك جريدةَ الأخبار بتلك القصيدة التي لا تسوغ إلا لدى النفوس الضعيفة، ولا يبسم لها إلا من يئس من روح الله؟

إنه لا يصح لمثلي أن يلفت نظر شوقي بك إلى آمال المتنبي، ولا مطامع دانونزيو؛ فإنه بهما أعلم، وبفضلهما أعرف. ولكن أَلا يصح أن نرسل دمعة واحدة في توديع الآداب العربية؟

لقد بلغ ضعف النفوس مبلغًا لا يُستهان به حتى لقد كتب «شاعر» يعرفني وأعرفه قطعةً في مدح المشروع ولم يجرؤ على التصريح باسمه، ولكني عرفتُه بسيما شعره، وسأُعاتبه بعد حين، فأين هذا المحتجب من الذي قال:

الليل والخيل والبيداء تعرفُني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

إنكم لا تجهلون فضل المثال الأكمل في رءوس الوطنيين، كما لم يجهل العرب فضل المثل الأعلى في الشعر، الذي حسبوا القرآن نوعًا منه، فهل يهديكم الله من بعد كما هداهم من قبل؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤