ظلم العواطف

قيل لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أتقول الشعر في فقهك وورعك، فقال: لا بد للمصدور أن ينفث، وكان عبيد الله من وجوه الفقهاء الذين رُوِيَ عنهم الفقه والحديث، وهو أحدُ الفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومن شعره:

شققت القلب ثم ذررت فيه
هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ
ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور

إن الناس يُجلُّون الفقهاء عن قول الشعر ولا سيما النسيب، ويرون بُعدهم عنه وبراءتهم منه؛ من متمِّمات فضلهم ومكملات مجدهم، وكان ذلك ظلمًا للعواطف وقتلًا للشعور؛ فإن لبعض أولئك قلوبًا نزَّاعة إلى الحسن، ونفوسًا عشَّاقة للجمال، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما جنحوا إلى السلوان.

ولئنْ خرج عبيدُ الله على الجفاة من معاصريه، فقال في الغزل ما قال، فإني لَأحسبه كَتَمَنا كثيرًا من شجونه، وضَنَّ على الشعر بمكنون صدره مداراةً للعامة من جيرته، والسذج من عارفيه، فإن الخوف من صغار العقول، والهرب من ثرثرة السفلة، لم يسلم منه نابهٌ، في عصر من العصور أو قطرٍ من الأقطار.

إن الأبيات القلائل التي نقلها الرواةُ إلينا من شعر عبيد الله لَتُحدث عن صبابة وتسفر عن غرام، ولو أن الرجل أوتي من قوة الإرادة وشجاعة الفؤاد ما يشرح به هواه ويمثل به خواطره لَكان له من المواقف الحِسان والمشاهد المبجلة ما يضمن له الخلود في الشعر الوجداني من عالم الآداب.

إن ظلم العواطف حرمنا كثيرًا من نفثات الشعراء، وجعلنا نتصيد طرائفَ الشعر الوجداني من هنا وهناك، ثم لا نجد ما ينقع الغلة، ويشفي النفس؛ لما في أكثره من التلون المُذْهِب للعاطفة، المُمِيت للشعور.

ولو أن ذلك كان وقفًا على الفقهاء لِتجمُّلهم بالزهد أو النساء لتحلِّيهن بالعفاف؛ لَهان الأمر وسهُل، ولكنا وجدنا في أشهر الشعراء بالظرف وأعرفهم بالخلاعة من يمنون بالنهاة من أهلهم، فينزلون عند حكمهم ويصدعون بأمرهم فيتناسون الهوى ويصدفون عن الغرام.

هذا عمر بن أبي ربيعة، كان من أجرأ الناس على إذاعة هواه، وأبعدهم صيتًا في الغواية، وطاعة الشباب، ثم ما برح أخوه الحارث يعظه وينهاه، حتى كان من ذلك أن أعطاه ألف دينار على أن لا يقول شعرًا، فقال: «أما ما دمت بمكة فلا أقدر، ولكني أخرج إلى اليمن.» فلما سار إلى هناك لم تدعه نفسه وقول الشعر، فقال:

هيهات من أمة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
واحتل أهلك أجيادًا فليس لنا
إلا التذكُّر أو حظ من الحزن
لا داركم دارنا يا وهب إن نزحت
نواك عنا ولا أوطانكم وطني
يا وهب إن يك قد شط البعاد بكم
وفرق الشمل منا صرف ذا الزمن
فكم وكم من حديث قد خلوت به
في مسمع منكمو أو منظر حسن
بل ما نسيت ببطن الخيف موقفها
وموقفي وكلانا ثم ذو شجن
وقولها للثريا يوم ذي خشب
والدمع منها على الخدين ذو سنن
بالله قولي له في غير معتبة
ماذا أردت بطول المكث في يمن
إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن

ويذكرون أن أخاه لما سمع هذا الشعر يئس من صلاحه وقال: قد فتك أخي وغدر.

والذي أراه أن عمر بن أبي ربيعة، ما كان له أن يذهب إلى اليمن، دفعًا للوم أخيه فحسب، فإن الرجل طالما نهاه النهاة فلم ينته ولم يرجع، وكان بينه وبين أخيه ما يشعر بتهاونه بنصحه، وسخريته من عذله، بدليل ما يذكرون من أخذه ألف دينار من أخيه، في حين أنه كان من أكثر الناس مالًا ووفرًا، وأعظمهم تيهًا وكبرًا، ولكن الرجل كان يحاول أن يتناسى صبابته، ويتغاضى عن هواه، حتى كان من أمره أن حلف لا يقول بيتًا من الشعر إلا أعتق رقبة، نهيًا للنفس عن الهوى، وكبحًا لها عن الغواية وكان من المسرفين.

فر ابن أبي ربيعة إلى اليمن ليبعد عن ملعب صباه، ومرتع شبابه، فيودع بذلك الشعر، ويسرح النسيب، ثم غُلب على أمره فقال نونيته السالفة طوعًا لأمر الفؤاد.

كان ابن أبي ربيعة من أصبح الناس وجهًا، وكان عشقه شبيهًا بعشق الملوك، لتهافت الغواني عليه، والتفاف النساء حوله، فكان شعره لذلك ضائعًا بين الأوصاف الظاهرة، والمحاسن البادية، فلا ترى له حسرة على فائت، ولا لهفة على مأمول، فلما صوح شبابه، وحان منه التذكر، نضب معين شعره، وتهدجت صبابته، برًّا بذلك القسم، ونزولًا عند حكم المشيب، فكان نصيبه من الشعر الوجداني ضئيلًا، لما ظلم عاطفته، وعق وجدانه وكان من القاسطين.

أنا لا أبخس ابن أبي ربيعة حظه من الشعر الوجداني، ولا أبعد أن يكون في ديوانه من هذا النوع شيءٌ كثير، ولكني أقول: إن الرجل الذي يبهر الناس شعره في مجالس الأنس، ويروقهم حديثه عن اللهو واللعب، لَجدير أن يقرح أجفانهم، ويفتت أكبادهم، لو بكى عهوده السوالف ومعاهده المقفرات.

ولكن أبى الجد العاثر إلا أن تُوضع هذه الأغلال في أعناق الشعراء فيمسون كالبلابل الموثقة الحبيسة، لا تستطيع التغريد، ولا تملك الترجيع.

وما عسى أن يكون حزن بشار وبَثُّه، وقد نهاه المهديُّ عن التشبيب، وحال بينه وبين ما يشتهي من الغزل، ومداعبة النساء.

وإني ذاكر لك مثالًا مختارًا من شعره فيما يتعلق بالعواطف، ويختص بالوجدان، حتى تعرف أي خطب أَلَمَّ بالشعر الوجداني، فأصبح ضئيلًا في شعر هذا الرجل الكبير، قال:

أيها الساقيان صُبَّا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الظما وإن شفائي
شربةٌ من رضاب ثغر برود
ولها مبسم كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلتْ في السواد من حبة القلـ
ـب ونالتْ زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقاي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد
لا أبالي من ضن عني بوصل
إن قضى الله منك لي يوم جود

فإنك لَتبصر من خلال هذا الشعر، رجلًا صادق الحب، متين الصبابة، ألحَّ عليه ساقياه بالراح، فتعفف عنها، لا زهدًا فيها، ولا نفورًا منها، ولكن ذكرى حارة، ولوعات دخيلة، هاجت بصدره، وثارت بلُبِّه؛ إذ ذكر صهباء الثغر ممن يهوى، وخمر الريق ممن يحب.

شغل الشاعر عن الراح بما ذكر من محاسن محبوبه، ولطائف معشوقه، فأخذ يذكر ما فعل الحب بقلبه، ونال الهم من نفسه.

نأسى عليكم إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنَّانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا

كان بشار من أظرف الناس غزلًا، وأبدعهم نسيبًا، ولكن قضى الله أن يحول المهدي بينه وبين التشبيب، فيضيع بذلك الشعر الوجداني من هذا النوع، فيما عسى أن يقول في ذكرى لياليه الخوالي، وعهوده السوالف، وقد ختمت زفراتُه المحرقة، وعبراته المغرقة، بكلمته الآتية:

يا منظرًا حسنًا رأيته
من وجه جارية فديته
لَمَعَت إليَّ تَسومُني
ثوب الشباب وقد طويته
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك وربما
عرض البلاء وما اتقيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئًا أبيته
ويشوقني بيت الحبيـ
ـب إذا غدوت وأين بيته
قام الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء فما عصيته
بل قد وفيت ولم أضع
عهدًا ولا رأيًا رأيته

ثم انقضت حياة بشار الودية، وما عدت تسمع له غير أبيات فاترة في الأسف على ما حيل بينه وبين هواه، فنال اليأسُ من قلبه، والقنوط من ضميره، وعاد من الهالكين.

ولقد نال أبا نواس إمام الشعراء في وصف الخمر، ما نال بشارًا إمامهم في وصف النساء، فقد نهاه الأمين عن شربها وحبسه ابن أبي الفضل من أجلها، ثم كلم فيه، فأخرجه على أن لا يشرب خمرًا، ولا يقول فيها شعرًا، فطالتْ حسراته وكثرت زفراته، ثم قال:

أيها الرائحان باللوم لوما
لا أذوق المُدام إلا شميما
نالني بالمَلام فيها إمام
لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني
لست إلا على الحديث نديما
جل حظي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزين منها
قعدي يزين التحكيما
كل عن حمله السلاح إلى الحر
ب فأوصى المطيق أن لا يقيما

وتعرف أن أبا نواس إن نُهي عن الخمر فقد لا ينتهي، ولكنه لا بد مقلع عن وصفها؛ طاعة للإمام، وفي ذلك يقول:

عين الخليفة بي موكَّلة
عقد الحذار بطرفها طرفي
صحت علانيتي له وأرى
دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدة
إني عليك لخائف خلفي

نُهي أبو نواس عن الخمر فشربها سرًّا، ولكنه جامل الإمام بترك نعتها، والتحدث عن وصفها، فأصاب الأدب ما أصابه، وغشي الشعر ما غشيه، فإن أبا نواس — فيما أرى — أول الناس وآخرهم، في وصف الراح والسقاة.

ولو لم يقف في سبيله الأمين لَأبان لنا من مذاهب القول، وطرق البيان ما كُنَّا في حاجة إلى بعضه، ولكن الزمان للأدب ظلومٌ قهَّارٌ.

ليس وصف الخمر والندامى، والكئوس والسقاة، ضربًا من الشعر الوجداني، فإنها أوصافٌ محسة، ترجع في جملتها إلى ما ترى العين، ويذوق اللسان، ولكن طبع أبي نواس ومهارته، جعلا لتلك المعاني الخمرية صبغة خاصة، تُشبه أن تكون من عمل القلب، وصُنع الضمير.

قَلَّ شعر عبيد الله لَمَّا تخوف الجمهور، ونضب شعر ابن أبي ربيعة لما نهاه أخوه وذهبت لطائفُ بشار في الغزل لما منعه المهدي، وحُرمنا بدائع أبي نواس في الخمر لما زجره الأمين.

فكان ذلك مما أوجب فقر الآداب العربية، وجعل حظ الشعر غاية في الضئول ونهاية في الخمود.

فيا ليت شعري أتشمل الحرية الأدب وتنتظم الشعر، أم يعيش الشعراء أسرى الأوامر العالية، والزواجر الطاغية أبد الآبدين، ودهر الداهرين؟

كلمة

عن موشحات حضرة الزميل الشيخ محمد إبراهيم الجزيري:

مقطعات حسانٌ
كفاتنات الخدودْ
كأنهن الغواني
يمسن في يوم عيد
أو خاطرات الأماني
يزرن قلب عميد
ما أجحد القلب إن لم
يحيها بالسجود
وأظلم الدهر إن لم
يَجُدْ لها بالخلودْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤