مقدمة

سيد قديم

تعتبر المتاحف الوطنية والمعارض الفنية من أكثر الأماكن التي بزيارتها يتضح لنا ما نعنيه عندما نتحدث عن «عصر النهضة». فمعظم زوار المتحف الوطني بلندن لا يسعهم أن يغادروا قبل أن يشاهدوا واحدة من أشهر الأعمال الفنية بالمتحف؛ وهي لوحة «السفيران» لهانز هولباين التي يعود تاريخها إلى عام ١٥٣٣. وبالنسبة للكثيرين، تمثل لوحة هولباين الزيتية صورة محددة المعالم لعصر النهضة الأوروبية، ولكن ما الذي يجعلها تحمل سمات «عصر النهضة» على هذا النحو المميز؟

تصور لوحة «السفيران» رجلين يرتديان ملابس أنيقة وحولهما حاجيات الحياة في القرن السادس عشر. ولعل تصوير هولباين رقيق الدقة والتفصيل لعالم هذين الرجلين اللذين عاشا في عصر النهضة — واللذين يحدقان في الناظر إلى اللوحة بنظرة تحمل وعيًا واثقًا بالذات لا يخلو من التساؤلات — لهو أمر لم يسبق له مثيل في عالم الفن. يبدو فن القرون الوسطى أكثر غرابة، حيث يفتقر إلى هذا الإبداع شديد الوعي بالنزعة الفردية. حتى إن كان من الصعب فهم الدافع وراء الفيض الجامح من المشاعر المعبر عنه في لوحات مثل لوحة هولباين، يظل من الممكن التوحد مع هذه المشاعر على أنها «حديثة» على نحو ملحوظ. وبعبارة أخرى، عندما ننظر إلى لوحات مثل لوحة «السفيران»، فإننا نلحظ بزوغ شمس الهوية ونزعة الفردية الحديثتين.
fig1
شكل ١: لوحة «السفيران» لهانز هولباين، وهي أحد رموز عصر النهضة، مع أنها لم تُكتشف إلا في القرن التاسع عشر. ويقدم الشخصان الغامضان والأدوات المعروضة بها كنزًا من الرؤى الثاقبة عن تلك الفترة.1

وهذه بداية مثمرة في محاولة فهم لوحة هولباين باعتبارها تجسيدًا فنيًّا لعصر النهضة. لكنَّ هناك بالفعل بعض المصطلحات الغامضة — إلى حد ما — التي بدأت تتراكم وتحتاج إلى بعض التوضيح. فما هو «العالم الحديث»؟ أوليس هذا المصطلح فضفاضًا بقدر مصطلح «النهضة»؟ وبالمثل، هل ينبغي تعريف فن القرون الوسطى (ورفضه بشدة) بكل هذه البساطة؟ وماذا عن «رجل النهضة»؟ وماذا عن «سيدة النهضة»؟ لكي نبدأ في الإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من إمعان النظر في صورة هولباين.

عصر نهضة متعلم

إن ما يأسر العينين بقدر ما تأسرهما النظرة الثاقبة للشخصين الواقفين في اللوحة هو المنضدة الموجودة في وسط اللوحة والأشياء المتناثرة فوق رفَّيها العلوي والسفلي. فعلى الرف السفلي للمنضدة، يوجد كتابان (كتاب ترانيم، وكتاب رياضيات خاص بأحد التجار)، وعود، ونموذج كرة أرضية، وجراب لآلات الفلوت، ومثلث، وفرجاران. ويضم الرف العلوي كرة سماوية، والعديد من الأدوات العلمية شديدة التخصص: أدوات الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع، ومزاول (ساعات شمسية)، وجهاز الربعية لرصد الأجرام السماوية (جهاز ملاحة، وأداة لمعرفة الوقت). وتمثل هذه الأشياء الفنون السبعة الحرة التي شكلت أساس التعليم في عصر النهضة. فالفنون الثلاثة الأساسية — النحو، والمنطق، والبلاغة — كانت معروفة باسم «المقدمات»، ويمكن ربطها بأنشطة هذين الرجلين؛ فهما سفيران تدرَّبا على استخدام النصوص، لكن يتمتعان بمهارة خاصة في فن الجدل والإقناع. أما «الرباعي العلمي» — الذي يشير إلى الحساب، والموسيقى، والهندسة، والفلك — فجميعها جلي في تصوير هولباين الدقيق لكتاب الحساب والعود والأدوات العلمية.

شكلت هذه الموضوعات الأكاديمية أساس «الدراسات الإنسانية»، وهي المسار الدراسي الذي سلكه معظم الشباب في تلك الفترة، والمعروفة على نحو أكثر شيوعًا باسم «الحركة الإنسانية». وقد مثلت الحركة الإنسانية تطورًا جديدًا مهمًّا في أوروبا في أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وتضمن ذلك التطور دراسة النصوص الكلاسيكية للغتين والثقافتين والسياستين والفلسفتين: اليونانية والرومانية. وقد شجعت الطبيعة شديدة المرونة للدراسات الإنسانية على دراسة مجموعة متنوعة من التخصصات الجديدة التي أصبحت محورًا للفكر في عصر النهضة، مثل فقه اللغة الكلاسيكي والأدب والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.

يوضح هولباين أن الرجلين اللذين يصورهما في لوحته هما أنفسهما «رجلان جديدان»؛ أي شخصان متعلمان لكنهما خبيران بالشئون الدنيوية، يستخدمان تعليمهما في السعي وراء الشهرة والطموح. فالشخص الموجود إلى اليسار هو جون دى دينتفيل — السفير الفرنسي لدى البلاط الملكي الإنجليزي في عهد الملك هنري الثامن — وإلى اليمين يقف صديقه المقرب، جورج دي سيلف — أسقف لافور. وقد انتقيت الأشياء الموجودة على المنضدة لتشير إلى أن مكانتَي هذين الرجلين في عالمي السياسة والدين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفهمهما للفكر الإنساني. فاللوحة تشير إلى أن تعلم المجالات التي تمثلها هذه الأشياء يعد أمرًا بالغ الأهمية للطموح الدنيوي والنجاح.

الجانب المظلم من عصر النهضة

لكن إذا نظرنا إلى الأشياء الموجودة في لوحة هولباين نظرة أكثر إمعانًا، فإنها تكشف لنا عن وجه مختلف تمامًا لعصر النهضة؛ فأحد أوتار العود الموجود على الرف السفلي مقطوعة، وهذا رمز للتنافر وغياب الانسجام، ويوجد بجانب العود كتاب ترانيم مفتوح، يمكن تمييزه بأنه كتاب المصلح الديني مارتن لوثر. وعلى الجانب الأيمن من اللوحة، سحبت الستارة قليلًا إلى الوراء لتكشف عن صليب فضي يحمل صورة المسيح مصلوبًا. تلفت هذه الأشياء انتباهنا إلى الجدال والخلاف الديني في عصر النهضة. فعندما رسم هولباين هذه اللوحة، كانت أفكار لوثر البروتستانتية تجتاح أوروبا وتتحدى السلطة القائمة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والوتر المقطوع يعد دلالة قوية على النزاع الديني الذي يصوره هولباين في وجود كتاب ترانيم لوثري بجوار صليب كاثوليكي.

من الواضح أن كتاب الترانيم اللوثري في لوحة هولباين كتاب مطبوع، فاختراع الطباعة في النصف الأخير من القرن الخامس عشر أحدث ثورة في عالم إيجاد المعلومات والمعرفة وتوزيعهما وفهمهما، وبمقارنة الكتب المطبوعة بالنسخ الشاق وغير الدقيق غالبًا للمخطوطات، كانت الكتب المطبوعة تنشر بسرعة ودقة وكميات لم يمكن تخيلها قبل ذلك، ولكن انتشار أفكار جديدة في مطبوعات، لا سيما في الشئون الدينية، كان من شأنه كذلك أن يثير حالة من عدم الاستقرار والشك والقلق، مما يدفع الفنانين والمفكرين إلى مزيد من التساؤل عن هويتهم وكيف أنهم يحيون في عالم سريع التوسع. وتعتبر هذه العلاقة بين الإنجاز والقلق الذي يتمخض عنه واحدة من السمات المميزة لعصر النهضة.

وبجانب كتاب الترانيم الخاص بمارتن لوثر في لوحة هولباين، ثمة كتاب آخر مطبوع يبدو من الوهلة الأولى كتابًا دنيويًّا، لكنه يعرض بعدًا آخر قويًّا من عصر النهضة؛ فهذا الكتاب عبارة عن دليل إرشادي للتجار يتعلق بكيفية حساب الربح والخسارة. ووجوده بجانب الأشياء الأكثر ارتباطًا بالنواحي «الثقافية» في اللوحة يوضِّح أن المال والأعمال في عصر النهضة كانا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالثقافة والفن. ففي الوقت الذي يلمح فيه الكتاب إلى «الرباعي العلمي» للمعرفة الإنسانية في عصر النهضة، فإنه يشير أيضًا إلى الوعي بأن الإنجازات الثقافية لعصر النهضة قامت على النجاح في مجالي التجارة والمال. ومع ازدياد حجم العالم وازدياد درجة تعقيده، كان لزامًا أن تكون هناك آليات جديدة لفهم التداول غير المرئي على نحو متزايد للمال والبضائع؛ من أجل زيادة الربح إلى الحد الأقصى وتقليل الخسارة إلى الحد الأدنى. نتج عن ذلك اهتمام متجدد بفروع المعرفة مثل الرياضيات؛ باعتبارها طريقة جيدة لفهم اقتصاديات نموذج عصر النهضة الآخذ في التحول إلى العالمية.

أما وجود نموذج الكرة الأرضية خلف كتاب الحساب للتجار فيؤكد توسع التجارة والمال بوصفهما سمة مميزة لعصر النهضة. ويعد نموذج الكرة الأرضية واحدًا من أهم الأشياء التي تحويها اللوحة. فالسفر والاستكشاف والاكتشاف كانت جوانب ديناميكية ومثيرة للجدل من عصر النهضة، والكرة الأرضية في لوحة هولباين تخبرنا بذلك من خلال تصويرها شديد العصرية للعالم كما كان معروفًا عام ١٥٣٣. فأوروبا كانت مكتوبة بالطريقة نفسها التي كانت تكتب بها آنذاك، وهذا في حد ذاته شيء له مدلول؛ حيث كان القرنان الخامس عشر والسادس عشر هما النقطة التي بدأ فيها تعريف أوروبا بوصفها تمتلك هوية سياسية وثقافية مشتركة. فقبل ذلك، نادرًا ما كان الناس يطلقون على أنفسهم «أوروبيين». وهولباين يصور أيضًا الاكتشافات الأخيرة التي تمخضت عنها رحلات في أفريقيا وآسيا، وكذلك في رحلات «العالم الجديد» التي ابتدأها كريستوفر كولومبوس عام ١٤٩٢، وإبحار فرديناند ماجلان للمرة الأولى حول العالم في عام ١٥٢٢. وقد وضعت هذه الاكتشافات أوروبا في عالم سريع الاتساع، وغيَّرت كذلك من علاقة القارة بالثقافات والمجتمعات التي احتكت بها.

وكما هو الحال مع تأثير آلة الطباعة، وتأثير الاضطرابات الدينية، فإن هذا التوسع العالمي خلَّف تراثًا ذا حدين؛ فكان أحد نتائجه تدمير الثقافات والمجتمعات الأصلية من خلال الحرب والمرض؛ لأنها لم تكن معدَّة أو مهتمة باعتناق المعتقدات وسبل المعيشة الأوروبية. وإلى جانب الإنجازات الثقافية والعلمية والتكنولوجية عن تلك الفترة، كان هناك تعصب ديني، وجهل سياسي، وتجارة رقيق، وتفاوت هائل في الثروة والمنزلة الاجتماعية — وهذا ما أطلق عليه «الجانب المظلم من عصر النهضة».

السياسة والإمبراطورية

يقودنا هذا إلى أبعاد أخرى بالغة الأهمية لعصر النهضة تناولها هولباين في لوحته، حيث تحدد هذه الأبعاد الرجلين والأغراض الأخرى ألا وهي: السلطة والسياسة والإمبراطورية. ولفهم أهمية هذه القضايا، وكيفية ظهورها في اللوحة، نحتاج إلى معرفة المزيد عن محتويات اللوحة. فقد كان دينتيفل وسيلف يعيشان في إنجلترا عام ١٥٣٣ بأمر من الملك الفرنسي فرانسيس الأول. وكان الملك هنري الثامن قد تزوج سرًّا من آن بولين، وكان يهدد بالانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية إذا رفض البابا أن يطلقه من زوجته الأولى. وكان كل من دينتيفل وسيلف يحاولان منع انشقاق هنري عن روما، وكانا بمثابة وسطاء لفرانسيس في المفاوضات. ومع أن هذه اللوحة — على غرار جانب كبير من تاريخ عصر النهضة — عن العلاقات بين الرجال، فإنه من الملاحظ أيضًا أنها تصور في جوهرها نزاعًا حول امرأة غائبة، ولكن وجودها ملموس بقوة في الأشياء داخل اللوحة والمحيط. فالمحاولات المستميتة من الرجال لإسكات النساء ما كانت إلا سببًا للفت مزيد من الانتباه لمكانتهن المعقدة في مجتمع أبوي: فقد حرمت المرأة من الكثير من مزايا التطورات الثقافية والاجتماعية لعصر لنهضة، ولكنها كانت تضطلع بدور رئيسي في آلية عمل هذا المجتمع، بصفتها من تحمل الورثة من الذكور الذين يضمنون الخلود لهذه الثقافة التي يسيطر عليها الذكور.

كما أن دينتيفل وسيلف كانا في لندن لتنفيذ مهمة أخرى؛ ألا وهي لعب دور الوساطة في التحالف السياسي بين هنري وفرانسيس وبين السلطان العثماني سليمان القانوني؛ القوة العظمى الأخرى في السياسة الأوروبية آنذاك. فالبساط الموجود على الرفِّ العلويِّ للمنضدة في لوحة هولباين كان من تصميم وصناعة العثمانيين، ويشير إلى أن العثمانيين وأراضيهم الممتدة إلى الشرق كانت أيضًا جزءًا من المشهد الثقافي والتجاري والسياسي لعصر النهضة. ومحاولات دينتيفل وسيلف لدفع هنري الثامن للتحالف مع فرانسيس وسليمان كان بسبب خوفهم من القوة المتنامية للقوة الاستعمارية العظمى الأخرى لعصر النهضة، وهي إمبراطورية هابسبورج بقيادة شارل الخامس (في إسبانيا). وبالمقارنة، نجد أن إنجلترا وفرنسا كانتا لاعبتين استعماريتين صغيرتين: وهذا ما توضحه لنا الكرة الأرضية في اللوحة، والتي تشير أيضًا إلى أن الإمبراطوريات الأوروبية بدأت في اقتسام العالم المكتشف حديثًا. وهذه الكرة التي وضعها هولباين في لوحته توضح الخط الفاصل الذي وضعته إمبراطوريات إسبانيا والبرتغال عام ١٤٩٤، بعد «اكتشاف» كولومبوس لأمريكا.

لقد وُضعت هذه الحدود لحل نزاع قائم على أراضٍ في الشرق الأقصى، حيث إن إسبانيا والبرتغال كانتا تحاولان استعمار جزر الملوك — وهي من جزر الأرخبيل الإندونيسي البعيدة — التي كانت تشتهر بإنتاج التوابل التي تدر أرباحًا هائلة. وفي عصر النهضة، وضعت أوروبا نفسها في مركز الكرة الأرضية، ولكنها تطلعت إلى ثروات الشرق، بدءًا من منسوجات وحرائر الإمبراطورية العثمانية، إلى توابل وفلفل الأرخبيل الإندونيسي. والكثير من محتويات لوحة هولباين لها أصل شرقي، بدءًا من الحرير والمخمل اللذين يرتديهما الرجلان، إلى المنسوجات والتصميمات التي تزين الغرفة.

أما الأشياء الموجودة في أسفل اللوحة فإنها تكشف عن جوانب متعددة من عصر النهضة: الإنسانية، والدين، والطباعة، والتجارة، والاستكشاف، والسياسة، والإمبراطورية، بالإضافة إلى الوجود البارز لثروات وعلوم الشرق. وأما الأشياء الموجودة على الرف العلوي فإنها تشير إلى أمور مجردة وفلسفية أكثر؛ فالكرة السماوية هي أداة فلكية تستخدم لقياس النجوم وطبيعة الكون، وبجانب الكرة توجد مجموعة من المزاول، والتي تستخدم لمعرفة الوقت بالاستعانة بأشعة الشمس. وأما عن الأشياء كبيرة الحجم فهي الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع وجهاز لرصد الأجرام السماوية؛ وهي أدوات ملاحية تُستخدم في تحديد موقع السفينة من حيث الزمان والمكان. ومعظم هذه الأدوات تم اختراعها بواسطة علماء فلك عرب ويهود، وانتقلت إلى الغرب بعد ذلك عندما احتاج المسافرون الأوروبيون خبرة ملاحية في السفر لمسافات بعيدة. وهذه الأدوات تعكس الاهتمام المتزايد بفهم العالم الطبيعي والسيطرة عليه في عصر النهضة. وكما ناقش فلاسفة عصر النهضة طبيعة عالمهم، فإن الملاحين وصناع الأدوات والعلماء حوَّلوا هذه المناقشات الفلسفية إلى حلول عملية للمشكلات الطبيعية؛ وكانت النتيجة هي ابتكار أشياء مثل تلك الموجودة في لوحة هولباين.

وأخيرًا، دعنا نتأمل الصورة المائلة الموجودة أسفل اللوحة والتي يستحيل فهمها إذا نظرنا إليها مباشرة. ولكن إذا وقف الناظر بزاوية ونظر إلى اللوحة، فستتحول الصورة إلى جمجمة مرسومة بوضوح، وهذه من الخدع البصرية الشائعة التي كان يستخدمها الكثير من فناني عصر النهضة، والتي يطلق عليها أنامورفوسيس. ولقد قال مؤرخو الفن بأن هذه الصورة تنتمي إلى فن «فانيتاس» والتي تذكرنا بحقيقة تقشعرُّ منها الأبدان، وهي أنه بالرغم من الثروة والقوة والعلم، فإن الموت مصيرنا جميعًا. ولكن تبدو هذه الجمجمة وكأنها تمثل مبادرة هولباين الفنية، بغض النظر عن متطلبات عميله. وتصور لنا هولباين وقد تحرر من قيود هويته كفنان محترف، وتؤكد القوة المتزايدة للرسام واستقلاليته كفنان لديه القدرة على تجربة التقنيات والنظريات الجديدة مثل البصريات وعلم الهندسة في ابتكار صور مرسومة ثرية بالإبداع.

أين كان عصر النهضة ومتى؟

عادة ما يرتبط عصر النهضة بدويلات المدن الإيطالية مثل فلورنسا، ولكن درجة الأهمية التي لا شك فيها التي تحتلها إيطاليا غالبًا ما حجبت تطور الأفكار الجديدة في شمال أوروبا وشبه جزيرة أيبيريا والعالم الإسلامي وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. ولكي نعرض طبيعة عصر النهضة من منظور عالمي شامل، سيكون من الدقة أن نشير إلى سلسلة من عصور نهضة في تلك المناطق، والتي عكس كل منها مميزات تلك المناطق وسماتها الخاصة. وعصور النهضة في هذه المناطق غالبًا ما كانت تتداخل وتتبادل التأثير مع عصر النهضة الكلاسيكي المعروف الذي اتخذ من إيطاليا مركزًا له، فقد كان عصر النهضة ظاهرة دولية سلسة ومتنقِّلة بصورة متميزة.

واليوم، هناك إجماع على أن تعبير «عصر النهضة» يشير إلى تغير عميق ودائم وتحول في الثقافة والسياسة والفن والمجتمع في أوروبا ما بين عامي ١٤٠٠ و١٦٠٠. والكلمة تشير إلى فترة من التاريخ، وإلى نموذج أكثر شمولًا من التجدد الثقافي، وهي مشتقة من كلمة فرنسية تعني «إحياء». ومنذ القرن التاسع عشر، استخدم هذا المصطلح لوصف فترة من التاريخ الأوروبي شهدت إحياء التقدير الفكري والفني للثقافة اليونانية-الرومانية، والذي أدى إلى ظهور المؤسسات الفردية والاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحدد هوية الكثيرين في العالم الغربي اليوم.

غالبًا ما يرى مؤرخو الفن أن عصر النهضة يبدأ من القرن الثالث عشر، مع فن جوتُّو وتشيمابو، وينتهي في أواخر القرن السادس عشر بأعمال مايكل أنجلو، ورسامي فينيسيا مثل تيتيان. ومن ناحية أخرى، يتبنى الباحثون في مجال الأدب في العالم الأنجلو-أمريكي منظورًا مختلفًا، فيركِّزون على نشأة الأدب الإنجليزي باللغة العامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر في شعر ودراما سبنسر وشكسبير وميلتون. أما المؤرخون، فيتبنوَّن نهجًا مختلفًا، حيث يطلقون على الفترة من حوالي ١٥٠٠ إلى ١٧٠٠ «أوائل العصر الحديث»، بدلًا من «عصر النهضة». وقد ازدادت حدة هذه الاختلافات في تأريخ — وحتى تسمية — عصر النهضة لدرجة أثارت الشكوك في صحة هذا المصطلح؛ فهل لا يزال للمصطلح أي معنى؟ وهل من الممكن فصل عصر النهضة عن العصور الوسطى التي سبقته وعن العصر الحديث الذي تلاه؟ وهل هذا المصطلح يدعم الاعتقاد بالتفوق الثقافي الأوروبي؟ للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم أولًا كيف ظهر مصطلح «عصر النهضة» إلى الوجود.

لم يكن الناس في القرن السادس عشر يعرفون مصطلح «عصر النهضة»، وكانت الكلمة الإيطالية بمعنى «إحياء» تستخدم في القرن السادس عشر للإشارة إلى إحياء الثقافة الكلاسيكية. ولم يستخدم المصطلح الفرنسي «عصر النهضة» كعبارة تاريخية وصفية حتى منتصف القرن التاسع عشر. وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو المؤرخ الفرنسي جول ميشليه، القومي الفرنسي الذي كان ملتزمًا بقوة بمبادئ المساواة التي أفرزتها الثورة الفرنسية. وفي الفترة ما بين ١٨٣٣ و١٨٦٢، كَرَّسَ ميشليه جهده لمشروعه الأعظم؛ ألا وهو تأليف «تاريخ فرنسا» الذي صدر في عدة مجلدات. كان ميشليه ينتمي للتيار الجمهوري التقدمي، وملأ الدنيا ضجيجًا بإدانته للطبقة الأرستقراطية والكنيسة. وفي عام ١٨٥٥، نشر ميشليه المجلد السابع من «تاريخ فرنسا» وأسماه «عصر النهضة»؛ وكان عصر النهضة يعني بالنسبة له:

… اكتشاف العالم، واكتشاف الإنسان. القرن السادس عشر … بدأ من كولومبوس إلى كوبرنيكوس، ومن كوبرنيكوس إلى جاليليو، ومن اكتشاف الأرض إلى السماوات. لقد أعاد الإنسان اكتشاف نفسه.

كانت الاكتشافات العلمية التي توصل إليها مستكشفون ومفكرون مثل كولومبوس وكوبرنيكوس وجاليليو تمضي جنبًا إلى جنب مع تعريفات فلسفية أكثر للفردية التي رصدها ميشليه في كتابات رابليه ومونتين وشكسبير. وكانت هذه الروح الجديدة تتناقض مع ما كان يراه ميشليه في القرون الوسطى على أنه صفة «غريبة ووحشية». فبالنسبة له، كان عصر النهضة يمثل حالة ديمقراطية تقدمية تحتفي ببعض الفضائل العظيمة التي يقدرها — مثل العقل والحقيقة والفن والجمال. ووفقًا لميشليه، فإن عصر النهضة «يتطابق في جوهره مع العصر الحديث».

كان ميشليه أول مفكر يعرِّف عصر النهضة على أنه فترة تاريخية حاسمة في الثقافة الأوروبية مثَّلت فاصلًا جوهريًّا مع العصور الوسطى، والتي صاغت فهمًا حديثًا للبشرية ومكانتها في العالم. كما روَّج لعصر النهضة على أنه يمثل روحًا معينة أو موقفًا بعينه بقدر ما يشير إلى فترة تاريخية محددة. لم يبدأ عصر النهضة كما يراه ميشليه في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كما قد نتوقع، وإنما في القرن السادس عشر. وبصفته قوميًّا فرنسيًّا، فإن ميشليه كان شغوفًا بأن يدعي أن عصر النهضة كان ظاهرة فرنسية. ونظرًا لأنه كان ينتمي للحزب الجمهوري، فقد رفض أيضًا ما رأى أنه إعجاب إيطاليا في القرن الرابع عشر بالكنيسة، والاستبداد السياسي، واعتبر أن هذا ضد الديمقراطية تمامًا، ومن ثم، بعيد كل البعد عن روح عصر النهضة.

وقد تشكَّلت قصة عصر النهضة عند ميشليه بصورة قاطعة على يد ظروفه الخاصة في القرن التاسع عشر. وفي الحقيقة، فإن قيم عصر النهضة عند ميشليه قريبة جدًّا بشكل مدهش من قيم ومبادئ الثورة الفرنسية: التي تعتنق مبادئ الحرية والعقل والديمقراطية، وترفض الاستبداد السياسي والديني، وتحافظ على قدسية روح الحرية وكرامة «الإنسان». ونظرًا لشعوره بالإحباط من عدم تطبيق هذه القيم في عصره، فقد راح ميشليه يبحث عن اللحظة التاريخية التي انتصرت فيها قيم الحرية والمساواة وبشَّرت بعالم حديث يخلو من الاستبداد.

عصر النهضة من منظور سويسري

إذا كان ميشليه هو من اكتشف فكرة عصر النهضة، فإن الأكاديمي السويسري ياكوب بوركهارت عرفها بأنها ظاهرة إيطالية حدثت في القرن الخامس عشر. فقد أصدر بوركهارت في عام ١٨٦٠ كتابًا باسم «حضارة عصر النهضة في إيطاليا»، وقد قال بأن الخصائص المميزة للحياة السياسية في نهاية القرن الخامس عشر أدت إلى ظهور نزعة فردية عصرية متميزة. وقد كان إحياء العصور الكلاسيكية القديمة، واكتشاف عالم أوسع، وعدم الارتياح المتزايد تجاه الدين الذي يتخذ شكلًا مؤسسيًّا؛ يعني أن «الإنسان أصبح فردًا له روحانيته». وقارن بوركهارت عمدًا بين هذا التطور الجديد وبين غياب الوعي بالذات الذي كان السمة الأساسية للعصور الوسطى من وجهة نظره؛ إذ كان «الإنسان مدركًا لذاته على أنه فرد من جنس كامل، أو من مجتمع أو حزب أو عائلة أو مؤسسة». بعبارة أخرى، فإن الناس — قبل القرن الخامس عشر — كانوا يفتقرون إلى الإحساس القوي بهويتهم الفردية. وطبقًا لبوركهارت، فإن إيطاليا في القرن الخامس عشر أنجبت «إنسان عصر النهضة»، والذي أطلق عليه «المولود الأول بين أبناء أوروبا الحديثة»، وكانت النتيجة هي ذلك الشكل الذي أصبح مألوفًا الآن لعصر النهضة: مهد العالم الحديث الذي أنشأه بيترارك وألبيرتي وليوناردو، والذي يتسم بإحياء الثقافة الكلاسيكية، وانتهى بحلول منتصف القرن السادس عشر.

لم يسترسل بوركهارت كثيرًا في حديثه عن فن عصر النهضة، أو التغيرات الاقتصادية، ولكنه غالى في تقديره لما يرى أنه نهج شكوكي، بل وحتى «وثني» للدين في ذلك الوقت، وكان تركيزه مقتصرًا على إيطاليا فقط، فلم يحاول أن يربط عصر النهضة بالثقافات الأخرى. وظل فهمه لمصطلحات مثل «الفردية» و«العصرية» غامضًا للغاية. وعلى غرار ميشليه، كانت رؤية بوركهارت لعصر النهضة مبنية على ظروفه الشخصية. فقد كان بوركهارت مفكرًا أرستقراطيًّا، يفتخر بتأييده للنزعة الفردية البروتستانتية والجمهورية في سويسرا. ولكنه كان يخشى نمو الديمقراطية الصناعية، وما رأى أنه تدمير للجمال الفني. ومن ثم، فقد كانت رؤيته لعصر النهضة كفترة اتحد فيها الفن والحياة، واحتُفِي فيها بالجمهورية ولكن مع تقييدها، وتولت الدولة تكوين صورة معتدلة من الدين، تبدو صورة مثالية لمدينة بازل التي يحبها. ورغم ذلك، فقد ظل كتاب بوركهارت — في الجدل الدائر بأن عصر النهضة كان أساس العصر الحديث — في قلب دراسات عصر النهضة منذ ذلك الحين، وغالبًا ما كان يواجه الكثير من الانتقادات، إلا أنه لم يستبعد تمامًا.

وقد وجد احتفاء كل من ميشليه وبوركهارت بالفن والنزعة الفردية، على أنهما السمات المحدِّدة لعصر النهضة، الدعم المنطقي في دراسة والتر باتر التي تحمل اسم «عصر النهضة»، والتي نشرت لأول مرة في إنجلترا عام ١٨٧٣. تلقَّى باتر تعليمه في أوكسفورد، وعمل أستاذًا بها، وكان مؤيدًا للمذهب الجمالي، واستخدم دراسته لعصر النهضة كوسيلة للدفاع عن اعتقاده في «حب الفن من أجل الفن». رفض باتر الجوانب السياسية والعلمية والاقتصادية لعصر النهضة، حيث رأى أنها غير ذات أهمية، كما رأى «روح التمرد والثورة ضد الأفكار الأخلاقية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت» في الأعمال الفنية لبعض رسامي القرن الخامس عشر مثل بوتيتشيلي وليوناردو وجورجوني. كان هذا احتفاءً جماليًّا تلذذيًّا، بل ووثنيًّا، لما كان يطلق عليه باتر «متعة الحواس والخيال». وقد وجد باتر آثارًا لهذا الاعتقاد «بحب أمور الفكر والخيال من أجل الفكر والخيال» ترجع إلى القرن الثاني عشر والقرن السابع عشر. ورغم أن الكثيرين قد صدموا بكتاب باتر الفاسد والمضاد للدين، فقد شكلت آراؤه نظرة العالم الناطق بالإنجليزية لعصر النهضة على مدار عقود.

لقد رسم كل من ميشليه وبوركهارت وباتر صورة عن عصر النهضة من منظور القرن التاسع عشر، صورة ترى هذا العصر فترة روحانية أكثر منها تاريخية. وقد كشفت إنجازات الفن والثقافة موقفًا جديدًا تجاه الفردية وما يعنيه أن يكون المرء «متحضرًا». ومشكلة هذه الطريقة في تعريف عصر النهضة أنها بدلاً من أن تقدم وصفًا تاريخيًّا دقيقًا لما حدث منذ القرن الخامس عشر وما تلاه، فقد بدت أكثر وكأنها مثال نموذجي للمجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر. فقد احتفى هؤلاء النقاد بالديمقراطية المحدودة، ومذهب الشك تجاه الكنيسة، وقوة الفن والأدب، وانتصار الحضارة الأوروبية على جميع الحضارات الأخرى. وقد شكلت هذه المبادئ أسس الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر. ففي تلك المرحلة من التاريخ التي كانت فيها أوروبا تحاول بعدوانية فرض سيطرتها على معظم أجزاء الأمريكتين وأفريقيا وآسيا، كان أناس مثل باتر يخلقون رؤية لعصر النهضة بدت كما لو أنها تقدم تأصيلًا وتبريرًا للهيمنة الأوروبية على العالم.

عصر نهضة القرن العشرين

وفي وقت مبكر من القرن العشرين، ظهرت وجهة نظر أكثر تناقضًا عن عصر النهضة. وقد واجه بوركهارت أول التحديات في عام ١٩١٩، عندما نشر يوهان هازينجا كتاب: «انحسار العصور الوسطى». فقد درس هازينجا كيف تم تجاهل ثقافة ومجتمع أوروبا الشمالية في التعريفات السابقة لعصر النهضة، وتحدى تقسيم بوركهارت لتلك الفترة إلى «عصور وسطى» و«عصر النهضة»، قائلًا بأن الأسلوب والمواقف التي حددها بوركهارت بأنها عصر النهضة، كانت في الواقع انحسارًا لروح العصور الوسطى. واستدل هازينجا بالفن الفلمنكي ليان فان أيك في القرن الخامس عشر:

إنه — من حيث الشكل والمضمون — نتاج تراجع العصور الوسطى. وإذا اكتشف بعض مؤرخي الفن عناصر عصر النهضة خلال هذه الفترة، فذلك لأنهم اختلط عليهم الأمر بشكل خاطئ تمامًا في التمييز بين الواقعية وعصر النهضة. وهكذا أصبحت هذه الواقعية الدقيقة، وهذا الطموح في تقديم كافة التفاصيل الطبيعية، هما السمة المميزة لروح العصور الوسطى التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

تمثل الواقعية المرئية المفصلة في لوحة فان أيك — في نظر لهازينجا — نهاية تقاليد العصور الوسطى، وليس ميلادًا لروح عصر النهضة المتمثلة في التعبير الفني القوي. ورغم أن هازينجا لم يرفض استخدام مصطلح «عصر النهضة»، فإنه لم يتبقَّ من الفكرة سوى جزء ضئيل لم ير أنه قد انبثق عن العصور الوسطى. لقد قدم كتاب هازينجا نظرة متشائمة للغاية لنموذج عصر النهضة الذي احتفى به أسلافه في القرن التاسع عشر. ونظرًا لأن هذا الكتاب قد وضع في خضم الحرب العالمية الأولى، فليس من المدهش أنه لم يستطع إثارة قدر كبير من الحماسة لفكرة عصر النهضة باعتباره ازدهار تفوق الفردية و«الحضارة» الأوروبية.

شهد منتصف القرن العشرين قيام مجموعة من المفكرين المهاجرين من أوروبا الوسطى بإعادة تقييم عميق لعصر النهضة، في وقت هدد فيه ظهور الأنظمة الاستبدادية بتقويض القيم الفلسفية الرحيمة للنزعة الإنسانية في عصر النهضة. فقد هرب العديد من الباحثين الألمان — مثل بول أوسكار كريستلر، وهانز بارون، وإرفين بانوفسكي — من الفاشية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وذهبوا إلى المنفى في الولايات المتحدة؛ ولذلك فإن كتاباتهم اللاحقة عن عصر النهضة تأثرت تأثرًا كبيرًا بهذه الأحداث، ولا تزال تؤثر في الدراسات المعاصرة عن تلك الفترة.

يقول كتاب «أزمة عصر النهضة الإيطالية المبكرة» (١٩٥٥) لهانز بارون بأن إحدى اللحظات الفارقة في تاريخ الحركة الإنسانية في عصر النهضة ظهرت في فلورنسا نتيجة لحرب ميلانو الثانية (١٣٩٧–١٤٠٢). ومن منظور بارون، فإن اللحظة التي استعد فيها دوق ميلانو جان جالياتسو فيسكونتي لمهاجمة فلورنسا عام ١٤٠٢ كانت أشبه «بوقائع التاريخ الحديث التي يخيم فيها الغزو بهدف التوحيد على سماء أوروبا». وعندما قارن بارون جان جالياتسو بنابليون وهتلر، توصل إلى أن تلك المقارنات ساعدت على فهم «أزمة صيف عام ١٤٠٢، وفهم أهميتها المادية والنفسية بالنسبة للتاريخ السياسي لعصر النهضة، ولا سيما لنمو الروح المدنية بفلورنسا». أصيب جان جالياتسو بالطاعون في سبتمبر ١٤٠٢ ونجت فلورنسا من بين يديه. ومن منظور بارون، فإن البطل العظيم لما أطلق عليه انتصار الجمهورية المدنية على حكم الفرد الإقطاعي كان العالِمَ ورجلَ الدولة ليوناردو بروني. ووفقًا لما ذكره بارون في كتابه «في مدح مدينة فلورنسا» وكتابه «تاريخ الشعب الفلورنسي»، فإن بروني قد تحدث عن «فلسفة جديدة للمشاركة السياسية، والحياة النشطة التي نشأت اعتراضًا على نماذج الانسحاب العلمي». وكان هذا يمثل تعريف بارون للنزعة الإنسانية المدنية، والتي «كانت تحاول أن تثقف الإنسان باعتباره عضوًا في مجتمعه ودولته»، والتي اعتنقت فضائل الجمهورية، والتي رأى بارون أنها ممثلة في عائلة ميديتشي في فلورنسا.

كانت أطروحة بارون استجابة جذابة لدور المفكر الإنساني في وقت كانت أوروبا مهددة بظهور الاستبداد السياسي، واعتبرت هذه الأطروحة فلورنسا وآل ميديتشي في قلب أصول عصر النهضة، ولكنها في الوقت نفسه نظرت إلى النزعة الإنسانية لدى بروني والتوجه الجمهوري في فلورنسا نظرة مثالية. أما بول أوسكار كريستلر، فقد تبنَّى منهجًا مغايرًا لمنهج بارون؛ فبالنسبة لكريستلر، الفلسفة التأملية لمارسيليو فيتشينو — وهو من مؤيدي الحركة الإنسانية في فلورنسا — خاصة كتابه «اللاهوت الأفلاطوني» (المكتوب في الفترة ما بين ١٤٦٩ و١٤٧٣)؛ هي ما حددت انصهارًا جديدًا بين العالم الكلاسيكي والمسيحية. ومن منظور كريستلر، فإن ابتكار فيتشينو يكمن في الاعتقاد بأن:

الفلسفة تقف الآن حرة وعلى قدم المساواة مع الدين، ولكن لا يمكن أن تتعارض معه؛ لأن الأصل المشترك والمحتوى المشترك يضمن اتفاقهما. وهذا بلا شك أحد هذه المفاهيم التي أشار بها فيتشينو إلى الطريق نحو المستقبل.

تناولت أفلاطونية فيتشينو العلاقات المتوترة بين الفلسفة والدين والدولة؛ تلك العلاقات التي كانت أيضًا متوترة في أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عندما كان كريستلر يدرس أعمال فيتشينو.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية في ستينيات القرن العشرين، خاصة تسييس العلوم الإنسانية وظهور الحركة النسائية والمساواة بين الجنسين، خضع عصر النهضة لعملية إعادة تقييم جوهرية. وكانت هناك استجابة مؤثرة بوجه خاص من الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام ١٩٨٠، نشر الباحث الأدبي ستيفن جرينبلات كتاب «تشكيل الذات في عصر النهضة: من مور إلى شكسبير». وقد بنى الكتاب على وجهة نظر بوركهارت عن عصر النهضة بأنه نقطة ميلاد الإنسان الحديث. ويقول جرينبلات — الذي أسس عمله على التحليل النفسي وعلم الإنسان والتاريخ الاجتماعي — بأن القرن السادس عشر قد شهد «وعيًا متزايدًا بتشكيل الهوية الإنسانية»، حيث إن الرجل (وأحيانًا المرأة) تعلَّم كيف يعالج أو «يشكل» ذاته وفقًا للظروف المحيطة. وعلى غرار بوركهارت، رأى جرينبلات ذلك بداية ظاهرة عصرية على نحو مميز. وبالنسبة لجرينبلات، فإن أعمال كبار كتاب القرن السادس عشر بإنجلترا — مثل إدموند سبنسر، وكريستوفر مارلو، وويليام شكسبير — قدمت شخصيات خيالية مثل فاوستس وهاملت اللذين — بإدراك كامل للذات — تأمَّلا هوياتهما وبدآ معالجتها؛ أي إنهما — على هذا المستوى — كانا أشبه برجلين عصريين. واللوحة التي استخدمها جرينبلات لعرض نظريته عن تشكيل الذات كانت بالضبط مثل لوحة «السفيران» لهانز هولباين.

استنتج جرينبلات أنه في عصر النهضة «بدأ موضوع الإنسان نفسه يبدو مقيدًا بصورة ملحوظة، ويبدو المنتج الأيديولوجي لعلاقات القوة في مجتمع معين». ونظرًا لأن جرينبلات كان كاتبًا أمريكيًّا، فقد استعرض لاحقًا إعجابه بإنجازات عصر النهضة وقلقه بشأن الجانب المظلم منه، ولا سيما — بالنسبة له — استعمار العالم الجديد ومعاداة السامية التي انتشرت طوال القرن السادس عشر.

ورغم عنوان كتاب جرينبلات، فإنه وغيره من الباحثين بدءوا في استخدام تعبير «أوائل العصر الحديث» للإشارة إلى عصر النهضة. وهذا المصطلح مشتق من التاريخ الاجتماعي، ويشير إلى علاقة تملؤها الشكوك بين عصر النهضة والعالم الحديث بشكل أكثر من النظرة المثالية التي يتبناها ميشليه وبوركهارت. كما يؤكد أيضًا على أن عصر النهضة فترة من التاريخ وليس «الروح» الثقافية كما أشار كتاب القرن التاسع عشر. ومصطلح «أوائل العصر الحديث» كان يشير كذلك إلى أن ما حدث في الفترة ما بين ١٤٠٠ و١٦٠٠ كان له تأثير كبير على العالم الحديث. وبدلًا من التركيز على كيف نظر عصر النهضة إلى العالم الكلاسيكي، فإن مصطلح «أوائل العصر الحديث» يشير إلى أن الفترة تضمَّنت توجهًا مستقبليًّا وضع تصورًا مبكرًا لعالمنا الحديث.

كما أشعل مفهوم أوائل العصر الحديث فتيل استكشاف موضوعات وقضايا لم يكن يتصور أحد أن لها علاقة بعصر النهضة. وقد عمد بعض الباحثين مثل جرينبلات، وناتالي زيمون ديفيس في كتابها «المجتمع والثقافة في فرنسا في أوائل العصر الحديث» (١٩٧٥) إلى استكشاف الأدوار الاجتماعية التي لعبها الفلاحون والحرفيون، والمخنثون، والنساء «الجامحات». ونظرًا لأن التخصصات الفكرية مثل علم الإنسان والأدب والتاريخ تتعلم من الرؤى النظرية لبعضها البعض، فقد ازداد التركيز على الفئات المستبعدة والأمور المهمشة. ومن ثم، خضعت فئات مثل «السحرة» و«اليهود» و«السود» لدراسة متأنية مجددًا، حيث سعى النقاد لاستعادة الأصوات المهملة أو المفقودة من عصر النهضة.

وقد تأثر بعض النقاد — مثل جرينبلات وزيمون ديفيس — بالفكر الفلسفي والنظري في أواخر القرن العشرين، لا سيما فكر حركتي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. وقد كانت هذه المناهج متشككة في «الروايات الجليلة» للتغير التاريخي من عصر النهضة إلى التنوير والحداثة. وهناك بعض المفكرين الذين ينتمون إلى توجهات متنوعة — مثل ثيودور أدورنو، وميشيل فوكو — قالوا بأن القيم الإنسانية والحضارية التي اعتبروا أنها نشأت في عصر النهضة لم يكن لها رد على الكوارث — بل وحتى من الممكن أن تكون متواطئة معها — التي نتجت عن التجارب السياسية للنازية والستالينية وأهوال محرقة الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال السوفييتية. ونتيجة لذلك، فإن القليل من المفكرين في نهاية القرن العشرين كانت لديهم رغبة في الاحتفاء بالإنجازات الثقافية والفلسفية الكبرى لعصر النهضة، وبدلًا من ذلك، بدأ الكثير من المؤرخين في تحليل الأشياء والأمور على مستوى محلي أكثر.

وبالمثل، فإن الأشياء العادية التي تمثل أهمية في الحياة اليومية ولكنها فُقدت أو دُمرت لاحقًا، ظهرت لها أهمية مجددًا. وبدلًا من أن يركز الباحثون من مختلف التخصصات العلمية على فنون الرسم والنحت والهندسة المعمارية، فإنهم بدءوا البحث في كيف شكلت الأهمية المادية للأثاث والطعام والملابس والخزف وغيرها من الأشياء الدنيوية، عالم عصر النهضة. وبدلًا من رؤية أوجه التشابه، فإن هذه المناهج أشارت إلى الهوة بين عصر النهضة والعالم الحديث. فالأشياء والهويات الشخصية لم تكن ثابتة وغير قابلة للتغيير كما أشار بوركهارت ضمنًا في حديثه عن الإنسان «الحديث»، بل كانت سلسة وتعتمد على ما حولها.

ولا يزال النزاع قائمًا على تراث عصر النهضة في القرن الحادي والعشرين، فمنذ الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر ٢٠٠١، احتل الحديث عن صدام الحضارات بين الشرق والغرب موقع الريادة بناءً على افتراض أن عصر النهضة يمثل انتصارًا عالميًّا للقيم العليا لإنسانية الغرب. ولكن كما سنرى في الفصل التالي، فإن أصول عصر النهضة كانت مختلطة ثقافيًّا أكثر بكثير مما قد توحي هذه المزاعم، ويمتد تأثيرها إلى ما وراء شواطئ أوروبا.

هوامش

(1) National Gallery, London.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤