الفصل الرابع

عوالم جديدة

في عام ١٤٨٢، نشرت إحدى المطابع في مدينة أولم الألمانية طبعة جديدة من كتاب بطليموس «الجغرافيا»، وصوَّرت خريطة العالم التي جاءت بالكتاب شكل العالم كما كانت تعرفه الصفوة الحاكمة في أوروبا في القرن الخامس عشر. وكان بطليموس قد وضع كتابه في الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي. أما الدارسون العرب، فقد حافظوا على النص، وراجعوه قبل ترجمته إلى اللاتينية بنهاية القرن الرابع عشر. أما الجغرافيا المسيحية في العصور الوسطى فقد كانت مقصورة على الخرائط التخطيطية المعروفة باسم «خرائط العالم»، والتي كانت رموزًا دينية للفهم المسيحي للخلق، فكانت تضع أورشليم (القدس) في مركز تلك الخرائط، دون محاولات جادة — إن وجدت محاولات من الأساس — لفهم أو تمثيل العالم الأكبر. جاء كتاب بطليموس «الجغرافيا» ليغيِّر مفاهيم القرن الخامس عشر عن شكل وحجم الأرض؛ فقد سجَّل الكتاب ووصف أكثر من ثمانية آلاف مكان، علاوة على شرح كيفية رسم الخرائط الإقليمية والعالمية. أما الشبكة الهندسية لخطوط الطول ودوائر العرض التي استخدمها بطليموس حول العالم المعروف، فقد قدمت النموذج الذي استخدمته رحلات التجارة والاكتشاف في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي بدأت في تشكيل الصورة الحديثة عن الكرة الأرضية، وهي تشكِّل أساس هذا الفصل.

بالنسبة للحاكم أو التاجر في أواخر القرن الخامس عشر، كانت طبعة مدينة أولم لكتاب بطليموس تقدم تمثيلًا دقيقًا بدرجة معقولة عن عالم ذلك الزمان. فيمكن تمييز أوروبا والبحر المتوسط وأفريقيا وآسيا في الخريطة. أما ما يبدو خاطئًا بالنسبة لنا اليوم فهو إغفال الخريطة للأمريكتين وأستراليا والمحيط الهادئ وكتلة المحيط الأطلنطي، والرأس الجنوبي لأفريقيا (الذي بدونه يُمثِّل المحيط الهندي كبحيرة عملاقة). ويرتكز عالم بطليموس على شرق البحر المتوسط ووسط آسيا، وعلى مدن مثل القسطنطينية وبغداد والإسكندرية. وكانت هذه المواضع تمثل الواقع الدولي السائد لدى الأشخاص المتعلِّمين من القرن الثاني وحتى قرب نهاية القرن الخامس عشر.
fig12
شكل ٤-١: خريطة العالم لبطليموس من إحدى الطبعات الجديدة لكتابه الكلاسيكي «الجغرافيا»، وقد نُشرت في مدينة أولم في عام ١٤٨٢.1

كان كتاب «الجغرافيا» يملكه الأمراء ورجال الدين والباحثون والتجار المتحمسون لإظهار وعيهم الشخصي بالجغرافيا والسفر من خلال امتلاك نسخ مخطوطات باهظة الثمن لبطليموس. ومع ذلك، تُبيِّن الخرائط التي لا تزال باقية من القرن الرابع عشر التقاليد الثقافية المتنوعة التي شكَّلت عالم عصر النهضة. فخريطة المغرب التي لا يُعرف اسم واضعها، والتي يعود تاريخها إلى عام ١٣٣٠ تقريبًا، هي مثال عملي للخرائط التي كان يطلق عليها «بورتولان» التي استخدمها التجار والملاحون لعبور البحر المتوسط. وكانت خطوط الاتجاهات الثابتة التي تجتاز الخريطة تساعد اتجاهات البوصلة وتسمح للملاحين بالإبحار في مسارات دقيقة بدرجة معقولة. ونظرًا لأنها كانت تُنتج إما في غرناطة أو المغرب، فإنها تُبيِّن تداول المعرفة الجغرافية، ومهارات الملاحة، والتجارة بين المجتمعات المسيحية والإسلامية. ومن بين أسماء الأماكن البالغ عددها ٢٠٢ مكان، التي تظهر في تلك الخريطة، فإن ٤٨ مكانًا من أصل عربي والبقية من أصل كتالوني أو إسباني أو إيطالي. وبالاستناد إلى خبرة الملاحين والدارسين العرب واليهود والمسيحيين، كانت الخرائط العملية مثل هذه الخريطة هي التي جعلت أولى الرحلات البحرية التجريبية فيما وراء حدود أوروبا ممكنة.

الدوران حول الرأس

في عام ١٤١٥، استولى البرتغاليون على مدينة سبتة الإسلامية في المغرب. وقد منح هذا الانتصار البرتغال نقطة انطلاق للتوسع في الساحل الأفريقي الغربي. وباستغلال موقعها الجغرافي المواجه للمحيط الأطلنطي، سعى التاج البرتغالي للتوغل في الطرق التجارية عبر الصحراء الكبرى؛ وذلك هربًا من دفع الرسوم الجمركية المجحفة التي كانت تمثل عبئًا على السفر عبر طرق التجارة البرية والبحرية عبر شمال أفريقيا وصولًا إلى جنوب أوروبا. وعندما فاز التاج البرتغالي بجزر ماديرا (١٤٢٠)، وجزر الأزور (١٤٣٩)، وجزر كاب فيردي (في ستينيات القرن الخامس عشر)، أصبحت التجارة في المواد الأساسية مثل الأخشاب والسكر والسمك والقمح أكثر أهمية من البحث عن الذهب. وقد أدى هذا إلى إعادة تعريف أهداف الاسكتشاف البحري والاستيطان من جانب التاج البرتغالي.
fig13
شكل ٤-٢: هذه الخريطة البحرية أو «بورتلان» التي تعرف باسم «خريطة المغرب»، رُسمت في شمال أفريقيا في عام ١٣٣٠ تقريبًا، وتوضح كيف أن المعرفة المشتركة شكَّلت وجه الملاحة في البحر المتوسط.2

وبمجرد أن استقر البرتغاليون على جزر الأزور، بدءوا يبحرون جنوبًا إلى أقاليم لا تقع على أي خريطة، أو ما كان يُطلق عليه في خريطة بطليموس «الأقاليم المجهولة». وعندما بلغ البرتغاليون حدود تقاليد الملاحة ورسم الخرائط في منطقة البحر المتوسط، استعانوا بخدمات العلماء اليهود لوضع جداول شمسية، وخرائط نجمية، وأسطرلابات، وأدوات الربعية، وعصي الملاحة لحساب دوائر العرض حسب موقع الشمس والقمر والنجوم. وبحلول ثمانينيات القرن الخامس عشر، كانت هذه التطورات العلمية ناجحة لدرجة أن البرتغاليين أبحروا حول سيراليون، وأسسوا مواقع تجارية على طول ساحل غينيا.

أما المواجهات التجارية التي نشأت عن تلك التطورات فكان لها تأثير ملحوظ على ثقافة واقتصاد المجتمعات في غرب أفريقيا والبرتغال وبقية أراضي أوروبا. فاختلاط الناس أدى إلى خلق مجتمعات مستقلة مختلطة الأجناس في غرب أفريقيا، والتي كان يُشار إليها باسم «لانسادو». وكان يجري مقايضة النحاس والخيول والقماش مقابل الذهب والفلفل والعاج والأبنوس. وبنهاية القرن الخامس عشر، تمكنت البرتغال — بفضل الذهب الذي يُشحن إلى لشبونة — من إصدار عملتها الذهبية القومية الأولى: الكروسادو، كما شرعت في تنفيذ برنامج بناء عام طموح كان يدمج العناصر الأساسية الكلاسيكية والمغولية والفارسية، والتي يمكن رؤيتها حتى اليوم على امتداد لشبونة وجوا وماكاو.

وفي ديسمبر من عام ١٤٨٨، عاد بارثولوميو دياز إلى لشبونة ليعلن أنه قد أبحر حول الطرف الجنوبي الأقصى من أفريقيا. وسجل عالِم جغرافي برتغالي معاصر أن دياز كان يدرك أن «الساحل في هذه النقطة كان يتجه إلى الشمال والشمال الشرقي تجاه إثيوبيا تحت مصر ونحو الخليج العربي، مقدمًا بذلك أملًا عظيمًا لاكتشاف الهند». ونتيجة ذلك، فإن دياز أطلق على ذلك الجزء: «رأس الرجاء الصالح». وبهذا الخبر أصبحت الخرائط المطبوعة التي كانت لا تزال تعيد إنتاج رؤية بطليموس عن العالم قديمة ومهجورة بصورة متزايدة. فمنذ تلك اللحظة وصاعدًا، كان الرحالة الأوروبيون يبحرون بالفعل إلى «الأقاليم المجهولة»؛ إلى عالم جديد بالكامل حيث لا يمكنهم الاعتماد على السلطة التقليدية.

الشرق هو الشرق

من بين المراقبين الذين كانوا منبهرين بشدة بهذه الاكتشافات، ملَّاح من مدينة جنوا يطلق عليه كريستوفر كولومبس، كان حاضرًا في البلاط البرتغالي عندما عاد دياز بخبر الإبحار حول الرأس الأفريقي. وقادت متابعة كولومبس للإنجازات العملية للملاحين البرتغاليين، وانشغاله بالجغرافيا الكلاسيكية؛ إلى قيامه باتخاذ قرار مصيري. كان كولومبس يتقبل مغالاة بطليموس وماركو بولو في تقدير حجم آسيا. لكنه كان يدرك أيضًا أنه لو كان تقدير بطليموس بخصوص محيط العالم صحيحًا، فإن الرحلة المتجهة إلى آسيا المبحرة غربًا من أوروبا ستكون أقصر من المسار الجنوبي الشرقي الذي كان يسلكه البرتغاليون. لقد حسب كولومبس أن المسافة المتجهة غربًا بين اليابان وجزر الأزور تساوي ثلاثة آلاف ميل، لكنها كانت في الواقع أكثر من عشرة آلاف ميل؛ فقد كانت حسابات بطليموس بخصوص حجم آسيا وحجم الكرة الأرضية خاطئة، ولو كان كولومبس يعرف هذا لما كان انطلق في رحلته عام ١٤٩٢.

اقترح كولومبس الفكرة في البداية على البلاط البرتغالي في عام ١٤٨٥، لكن خطته رُفضت بسبب نجاح لشبونة في اتخاذ المسار البحري إلى الشرق عبر جنوب أفريقيا. وبالتالي نقل كولومبس اقتراحه إلى التاج القشتالي. كانت قشتالة تعاني مأزقًا ماليًّا بسبب صراعها المتواصل مع المسلمين الأيبيريين، لكن احتمالية احتكار السوق في التوابل والذهب من الشرق فرصة لا يمكن أن تفوتها، ومن ثم فقد عرضت على كولومبس الدعم المالي. وفي الثاني من أغسطس ١٤٩٢، انطلق كولومبس أخيرًا في رحلته من بالوس في جنوب إسبانيا على رأس فريق من البحارة قوامه ٩٠ رجلًا في ثلاث سفن.

بعد حوالي شهرين من الإبحار في اتجاه الغرب عبر المحيط الأطلنطي، وفي يوم الخميس الموافق ١٠ أكتوبر، شاهد كولومبس جزر الباهاما، حيث هبط إلى اليابسة وقابل السكان المحليين الذين «كانوا جميعًا أقوياء البنية بأجساد ضخمة جدًّا ووجوه وسيمة»، كما تم تصويرهم باعتبارهم «خدم طيبين ويتمتعون بالذكاء الحاد». وكان كولومبس لا يطيق صبرًا «للمغادرة إلى جزيرة أخرى ضخمة، والتي أعتقد أنها لا بدَّ أن تكون سيبانجو [اليابان]، وفقًا للعلامات التي يقدمها هؤلاء الهنود الذين معي؛ فهم يدعونها كولبا». كان كولومبس مقتنعًا بأنه على مشارف الوصول لليابان. لكن «كولبا» اتضح أنها كانت كوبا. التف كولومبس حول ساحل كوبا وهايتي قبل تحطم السفينة الرئيسية، والعودة إلى الوطن بقليل من الذهب، والعديد من «الهنود» المختطفين.

أثارت عودة كولومبس إلى أوروبا عاصفة دبلوماسية. لم يكن السبب هو أنه اكتشف «عالمًا جديدًا»، فقد كان لا يزال يتمسك باعتقاد أنه وصل إلى الشرق من خلال الإبحار غربًا. فقد اعترضت البرتغال على أن البعثة المدعومة من جانب قشتالة نقضت بنود اتفاقية سابقة كانت تضمن احتكار البرتغال لجميع الاكتشافات «فيما وراء غينيا». لكن غموض هذه العبارة، وتوسط بابا إسباني متعاطف، منحا قشتالة الحق في الاكتشافات الجديدة بحسب بنود معاهدة تورديسيلاس (١٤٩٤). كما نصت المعاهدة على رسم خريطة بها خط تقسيم يحدد مناطق مصالح الإمبراطوريتين. اتفقت الوفود على «تحديد ورسم حدٍّ أو خط مستقيم» عبر المحيط الأطلنطي «على بعد مسافة ثلاثمائة وسبعين فرسخًا غرب جزر كاب فيردي». وكان كل ما يقع غرب هذا الخط يخص قشتالة، وكل ما يقع شرقه (وجنوبه) يخص البرتغال. فحصلت قشتالة على ما كانت تعتقد أنه طريق جديد إلى الشرق، بينما حمى البرتغاليون ممتلكاتهم الأفريقية والطريق إلى الشرق من خلال رأس الرجاء الصالح.

جوهرة التاج

كان «اكتشاف» كولومبس المبدئي لأمريكا يُنظر إليه باعتباره عملًا فاشلًا. فقد بدا أنه قد اكتشف عقبة إقليمية جديدة تعترض الطريق أمام مسار أقصرَ مربحٍ تجاريًّا إلى الشرق. أما البرتغاليون، فبعد أن تأخروا في محاولتهم للاستفادة من اكتشاف دياز لرأس الرجاء الصالح من خلال رحلة كولومبس والنزاع الدبلوماسي التالي، أرسلوا بعثة أخرى حول الرأس وأعلنوا صراحة أن هدفها هو الوصول إلى الهند. وفي يوليو ١٤٩٧، غادر فاسكو دا جاما لشبونة ومعه ١٧٠ رجلًا في أسطول مكوَّن من أربع سفن ضخمة، تحمل كلٌّ منها ٢٠ مدفعًا ومختلف البضائع التجارية. وبينما كان دا جاما يبحر حول الرأس، وجد نفسه في مياه لا تذكرها أية خريطة على الإطلاق. والأسوأ من ذلك، أن الوسائل الملاحية البرتغالية المستندة على الحسابات الفلكية، كانت غير ذات فائدة تحت سماء المحيط الهندي غير المألوفة.

وعندما رسا دا جاما في ماليندي، استأجر ملاحًا فلكيًّا عربيًّا معروفًا بكونه أحد أمهر الربابنة في زمانه:

وبعد مناقشة الربان العربي، شعر فاسكو دا جاما بالرضا الكبير لما لمسه فيه من معرفة، لا سيما عندما عرض له الرُبَّان خريطة لساحل الهند بأكمله مرسومة بأسلوب المغاربة الذي يتسم بخطوط الطول والمتوازيات … وعندما عرض عليه دا جاما أسطرلابًا كبيرًا من الخشب كان لديه، وأسطرلابات أخرى معدنية كان يقيس بها ارتفاع الشمس، لم تبد الدهشة على الرُبَّان الذي قال إن بعض الملاحين في البحر الأحمر كانوا يستخدمون أدوات نحاسية مثلثة الشكل، وربعيات يقيسون بها ارتفاع الشمس، وارتفاع النجم القطبي الذي كانوا يستخدمونه بدرجة شائعة في الملاحة.

كانت هذه التقنيات مجهولة تمامًا بالنسبة للملاحين الأوروبيين. لقد أخذت الخبرة الفلكية اليهودية البرتغاليين حتى حدود الرأس، ثم ساعدتهم المهارة الملاحية الإسلامية في نهاية المطاف على الوصول إلى الهند.

لم يزود الرُبَّان العربي دا جاما بالخبرة الملاحية المطلوبة للإبحار عبر المحيط الهندي فحسب، بل كشف له دون قصد منه عن مدى اتساع تطور العلم والفلك العربي. فكما أن نصوص بطليموس الكلاسيكية عن الجغرافيا والفلك انتقلت من الإسكندرية إلى القسطنطينية وإيطاليا وألمانيا والبرتغال، فقد انتشرت كذلك شرقًا عبر دمشق وبغداد وسمرقند. ومثَّلت رعاية محمد الفاتح لكتاب بطليموس «الجغرافيا» أحد أبعاد التقليد القوي للفلك والجغرافيا الإسلامية. ففي عام ١٥١٣، أصدر القائد البحري العثماني المعروف باسم «بيري رئيس» خريطةً للعالم، زعم أنها «تستند بالأساس إلى عشرين رسمًا وخريطة للعالم إحداها مرسومة في عصر الإسكندر الأكبر ومعروفة باسم «دجا جرافي». كانت هذه الخريطة تعتمد على كتاب بطليموس «الجغرافيا». كما استعان بيري رئيس كذلك «بخرائط جديدة للبِحار الصينية والإيطالية»، علاوة على «خريطة عربية للهند، وأربع خرائط برتغالية جديدة مرسومة وفقًا للطرق الهندسية المتعلقة بالهند والصين، وأيضًا خريطة الأراضي الغربية التي وضعها كولومبس». وكان من الواضح أن البلاط العثماني في إسطنبول يراقب عن كثب التطورات في المحيط الأطلنطي الغربي.

لم يتبق من خريطة بيري رئيس سوى الجزء الغربي، لكن تفصيلات هذا الجزء توحي بأن تمثيل المحيط الهندي كان شاملًا بالدرجة نفسها، من خلال الاستعانة بالخرائط البرتغالية الجديدة ودمجها مع الخبرة الفلكية والملاحية للربابنة والدارسين المسلمين والهندوس والصينيين. وتؤكد تعليقات بيري رئيس على المستوى الواسع للتبادل الثقافي ورواج المعرفة اللذين شكَّلا أساس عصر الاكتشافات. كان المسلمون والهندوس والمسيحيون يتبادلون المعلومات والأفكار في محاولة لانتزاع زمام المبادرة السياسية والتجارية.
fig14
شكل ٤-٣: توضح خريطة العالم التي رسمها بيري رئيس (١٥١٣) مدى انتقال المعلومات الجغرافية بين الشرق والغرب.3

من الناحية الملاحية، كان دا جاما وأفراد بعثته يعتقدون أنهم يبحرون إلى عالم جديد. وسرعان ما اكتشفوا أنهم — على المستوى الثقافي — كانوا يدخلون عالمًا مألوفًا بصورة مدهشة، حيث كان يُنظر إليهم فيه على أنهم أناس قذرون وعنيفون ومتخلفون من الناحية التقنية. وصل دا جاما إلى كاليكوت التي تقع على الساحل الجنوبي من الهند في مايو ١٤٩٨، لكن الهدايا التي أحضرها معه كانت ملائمة للتجارة في غينيا أكثر من تقديمها كهدايا في مراسم رسمية إلى البلاط الملكي الأنيق لملك كاليكوت سامورين. وعندما شاهد التجار المحليون عرض دا جاما المتنافر من القماش والمرجان والسكر والزيت والعسل، «سخروا منه قائلين إنه لا يليق تقديم مثل تلك الأشياء إلى ملك، وإن أفقر تاجر من مكة، أو من أي بقعة أخرى من الهند يمكنه أن يقدم أكثر من ذلك». تسبَّب هذا العجز عن تقديم هدايا ملائمة في توترات سياسية، وحصر البرتغاليين في إطار مقايضة محدودة. ومع ذلك، فإن الحمولة الصغيرة، ولكن الثمينة، من القرفة والقرنفل والزنجبيل وجوزة الطيب والفلفل والعقاقير والأحجار الكريمة والأخشاب، التي قدمها دا جاما لدى عودته إلى لشبونة في سبتمبر ١٤٩٩؛ أقنعت البلاط الملكي البرتغالي بأنهم دخلوا أخيرًا إلى عالم تجارة التوابل.

لم يكن دخول البرتغال إلى السوق التجارية في المحيط الهندي أكثر من مجرد قطرة في محيط. فأنماط التجارة التقليدية للمنطقة والتبادل التجاري وضخامة وتنوع بضائعه قزَّمت العرض والطلب للأساطيل البرتغالية الأولى. وقد استجاب البرتغاليون بالتكيف مع الوضع والقبول البراجماتي بالطرق المختلفة للتبادل التجاري، واستغلال الاختلافات السياسية بين المجتمعات الهندوسية والإسلامية، واستخدام البارود في تأسيس مواقع تجارية محدودة عبر أرجاء المنطقة. ومع ذلك، فقد سجلت الخرائط والكتب والمقايضات الدبلوماسية في أوروبا أن رحلة دا جاما رسخت احتكار البرتغال لتجارة التوابل الآسيوية.

تمثل تأثير رحلة البحار البرتغالي في تغيير الخريطة السياسية للعالم في عصر النهضة. فقد حاولت فينيسيا على الفور تقويض مناقشات كانت تدور مع تجار توابل هنود كانوا قد وصلوا إلى لشبونة لمناقشة دور البرتغال في التجارة، ودخلت في محادثات مفتوحة مع العثمانيين والمماليك المصريين بهدف استخدام القوة الدبلوماسية والعسكرية للدفاع عن مصالحهم التجارية. وردَّت البرتغال في عام ١٥١١، بالتفاوض مع الحاكم الفارسي الشاه إسماعيل لشن هجوم عسكري مشترك على مصر، من شأنه أن يقضي على إمدادات فينيسيا بالتوابل، ويساعد إسماعيل في حربه ضد العثمانيين. وكما كان معتادًا في عصر النهضة، فعندما تكون التجارة والثروة معرضة للخطر، تتبدد الخلافات الدينية والأيديولوجية.

مغامرات عالمية

بحلول عام ١٥٠٢، وصلت المرحلة الكبرى الأولى من السفر البحري إلى ذروتها. فقد تحطَّمت صورة بطليموس عن العالم، وبدأت صورة حديثة متميزة عن العالم في الظهور. فقد دار البرتغاليون حول أفريقيا، ووصلوا إلى الهند، واكتشفوا البرازيل بالصدفة في الطريق إلى الشرق (١٥٠٠)، وكانوا يتقدمون إلى ملقة بإندونيسيا (١٥١١)، وهرمز (١٥١٣)، والصين (١٥١٤)، واليابان (١٥٤٣). وباتجاه الغرب، رسخت رحلات كولومبس الثلاث إلى الأمريكتين تجارة مزدهرة في الذهب والفضة والعبيد. وفي أربع رحلات ما بين عامي ١٤٩٧ و١٥٠٢، أثبت أمريجو فيسبوتشي أن كولومبس قد اكتشف قارة جديدة. ونظرًا لأن فيسبوتشي قام بنشر اكتشافاته عبر آلة الطباعة، فقد ارتبط اسمه هو وليس اسم كولومبس بتلك القارة الجديدة — أمريكا — في الفكر الأوروبي. وهكذا أصبحت قشتالة تملك قارة منفصلة تدعي ملكيتها، وإمبراطورية عليها بناؤها من شأنها أن تتنافس مع جارتها الأيبيرية.

وقد صاحب مراجعة الفكر الجغرافي الأوروبي تحول في نسيج الحياة اليومية. فالتوابل التي تدفقت إلى أوروبا أثرت على نوعية وكيفية الطعام الذي يأكله الناس، كما فعل تأثير تدفق جوز الهند والبرتقال واليام والموز (من الشرق)، والأناناس والفول السوداني والببايا والبطاطس (من الأمريكتين). وكان مصطلح «التوابل» يمكن أن يشير أيضًا إلى مجموعة محيرة من العقاقير (بما فيها الأفيون والكافور والقنب)، ومستحضرات التجميل والسكر والشموع. أما الحرير والقطن والمخمل فغيرت ما كان الناس يرتدونه، وغيَّر المسك والزباد رائحتهم. كما جعلت الأصباغ مثل الأزرق والقرمزي وأصماغ اللكِّ والزعفران والشبِّ، من أوروبا مكانًا أكثر إشراقًا، بينما غير الخزف الصيني والكهرمان والأبنوس وخشب الصندل والعاج والخيزران والأخشاب المطلية؛ مداخلَ البيوت العامة والخاصة للأثرياء. وكان الخزامى والببغاوات ووحيد القرن وألواح الشطرنج والأدوات الجنسية والتبغ؛ قلة قليلة من البضائع الخاصة الثمينة التي وصلت إلى أوروبا من الشرق والغرب. وتغيرت لشبونة نفسها إلى واحدة من أثرى المدن الأوروبية، حيث كان من الممكن شراء أي شيء تقريبًا. وكان الأمراء يتباهون بعرض الجواهر والدروع والتماثيل واللوحات وأحجار البازهر، وحتى الببغاوات والقرود والخيول؛ في خزائن الغرائب، وذكر ألبريشت دورر بحماسة حصوله على ملَّاحات أفريقية وخزف صيني وخشب الصندل وببغاوات وجوز الهند وريش.

في عام ١٥١٣، وصل البرتغاليون أخيرًا إلى جزر الملوك، وهي مجموعة صغيرة من الجزر في الأرخبيل الإندونيسي كانت بمثابة المورِّد الوحيد للقرنفل. وأثار هذا الاكتشاف أزمة سياسية حادة. فمنذ معاهدة تورديسيلاس، كانت البرتغال تتعقب مصالحها التجارية إلى الشرق بينما كانت قشتالة تركز على التوسع إلى الغرب. وكان هذا الأمر لا بأس به عند رسمه على خريطة مسطحة من النوع الذي استخدم بوضوح وفق بنود معاهدة تورديسيلاس، لكن اكتشاف جزر الملوك أثار سؤال أين يقع مثل هذا الخط في نصف الكرة الشرقي، لو رُسم حول العالم على الكرة الأرضية.

ثم دخل اسم الرُبَّان البرتغالي فيرنو دي ماجالهايس — المشهور اليوم باسم فرديناند ماجلان — في المنافسة. فقد كان يشك في أن ممرًّا غربيًّا إلى جزر الملوك سيكون أقصر من المسار البرتغالي عبر رأس الرجاء الصالح. إلا أنه واجه مشكلة المعارضة البرتغالية لهذه الخطة؛ لذا أعاد إحياء فكرة كولومبس الأصلية المرتبطة بالوصول إلى الشرق من خلال الإبحار غربًا، وعرض الخطة على ملك قشتالة وإمبراطور هابسبورج المرتقب تشارلز الخامس. كان ذلك مقترحًا تجاريًّا طموحًا يتطلب الاستثمار في رحلة طويلة، وهو مثال نموذجي على الدافع وراء الكثير من رحلات «الاستكشاف» في عصر النهضة. لم يكن هدف ماجلان هو الإبحار حول الكرة الأرضية؛ فقد كان يقترح القيام برحلة تبحر غربًا إلى جزر الملوك ثم تعود عبر أمريكا الجنوبية. وكان هذا من شأنه أن يجعل جزر الملوك ملكية لقشتالة على أساس حادثة سياسية وجغرافية سابقة، ويقطع إمدادات البرتغال من التوابل فائقة الجودة، ويحول ثروة لشبونة إلى قشتالة. لقد كان اختيار ماجلان الناجح للدعم المالي قائمًا على تفكير عالمي. فوصل إلى إشبيلية في عام ١٥١٩، ومعه «نموذج جغرافي واضح للكرة الأرضية يوضح العالم بأسره، وقد خطَّ عليه المسار الذي اعتزم أن يسلكه». لقد كانت الكرات الجغرافية وليست الخرائط هي التي تأسر انتباه الجغرافيا السياسية والتجارية بمنتهى الدقة في العالم في القرن السادس عشر.

وسرعان ما أقنع ماجلان قشتالة، وبدأ رحلته البحرية في سبتمبر ١٥١٩. وبينما كان يبحر عبر ساحل أمريكا الجنوبية، كان على ماجلان أن يقمع تمردًا، كما أنه فقد سفينتين بينما كان يبحث عن طريق عبر المضيق الذي يحمل اسمه الآن في طرف أمريكا الجنوبية. وقد أمضى ماجلان أسابيع يبحر عبر المحيط الهادئ الذي كان أكبر مما توحي خرائطه، وفي النهاية وصل الأسطول إلى جزيرة سامار في الفلبين في أبريل ١٥٢١، حيث تورط ماجلان في صراع محلي تافه وقُتِلَ مع أربعين من رجاله. وأبحرت بقايا الأسطول مرة أخرى ووصلت أخيرًا إلى جزر الملوك، حيث حُملَت بالقرنفل والفلفل والزنجبيل وجوزة الطيب وخشب الصندل. وفيما كان طاقم الرحلة غير قادر على مواجهة رحلة العودة المخططة عبر مضيق ماجلان، اتفقوا على العودة عبر رأس الرجاء الصالح، معرِّضين بذلك أنفسهم لمخاطرة الأسر من جانب سفن الدوريات البرتغالية. مثل قرارهم هذا حدثًا تاريخيًّا عالميًّا. وفي الثامن من سبتمبر عام ١٥٢٢، وصل ١٨ شخصًا من بين الطاقم الأصلي المكوَّن من ٢٤٠ بحارًا عائدًا إلى إشبيلية، وقد أكملوا أول إبحار مسجَّل حول الكرة الأرضية.

تسبَّب خبر رحلة ماجلان في اضطراب دبلوماسي. فتشارلز الخامس فسَّر الرحلة على الفور بصفتها تبريرًا للزعم بأن جزر الملوك تقع في إطار نصف الكرة الأرضية الذي يخصه. وبدأ مستشاروه في صياغة قضية دبلوماسية وجغرافية لملكية الجزر. وقد استخدم القشتاليون بمهارة المرجع التقليدي لدعم زعمهم، وكان تقدير بطليموس المبالغ فيه بخصوص حجم آسيا في صالحهم. فمن خلال تكرار العرض غير الدقيق لآسيا في خرائطهم، دفعت قشتالة جزر الملوك إلى مسافة أبعد ناحية الشرق، وبالتالي إلى النصف الخاص بهم من الكرة الأرضية. قدم القشتاليون الخرائط والكرات الجغرافية التي «يتوافق فيها وصف ورسم بطليموس، والوصف والنموذج المكتشفان مؤخرًا على يد العائدين من أقاليم التوابل … وبالتالي فإن سومطرة ومالاكا وجزر الملوك تقع في إطار حدودنا».

فيما جلس التاجان في محاولتهما الأخيرة لحلِّ النزاع في ساراجوسا في عام ١٥٢٩، استعانت قشتالة برسام الخرائط البرتغالي ديوجو ريبيرو لعمل سلسلة من الخرائط والكرات الجغرافية، التي تضع جزر الملوك ضمن النصف القشتالي من الكرة الأرضية. كانت تلك هي اللحظة التي أصبح عصر النهضة فيها عالميًّا بالمعنى الحديث. أما عواقب رحلة ماجلان فكان معناها أن الكرات الأرضية الجغرافية صارت تمثيلًا أكثر إقناعًا لشكل ونطاق العالم.

وبينما لم تبق هذه الكرات الجغرافية، فإن خريطة ريبيرو التي تعود إلى عام ١٥٢٩ لا تزال شاهدة على التلاعب بالواقع الجغرافي الذي كان سمة لهذا النزاع. لقد وضع ريبيرو جزر الملوك على مسافة ١٧٢ درجة ونصف غرب الخط الذي رسمته معاهدة تورديسيلاس؛ أي سبع درجات ونصف فقط داخل نطاق نصيب قشتالة. وقد منحت الخريطة تشارلز الخامس قوة التفاوض التي كان بحاجة إليها. وقد باع حقوقه في الجزيرة إلى البرتغاليين قليلي الحيلة؛ إذ كان تشارلز قد أدرك في الواقع أن المال النقدي قصير الأجل أفضل من الاستثمار التجاري طويل الأجل؛ وذلك بسبب التكلفة الهائلة والإمدادات الضخمة التي يتطلبها إنشاء طريق للتجارة الغربية إلى جزر الملوك. أما ريبيرو، فقد بنى مكانته باعتباره رسام الخرائط الأكثر تقديرًا واحترامًا لدى قشتالة، ظنًّا منه أن تلك الحركة من خفة اليد الجغرافية لن تُكتشف على الإطلاق؛ لأنه من دون طريقة دقيقة لحساب خط الطول سيكون من المستحيل تصحيح الوضع الدقيق لجزر الملوك.

عوالم جديدة وقصص قديمة

بعد اكتشاف كولومبس لأمريكا، أدى تدفق الذهب والفضة إلى صناديق إمبراطورية هابسبورج الخاصة بتشارلز إلى تقزيم عائدات تجارة التوابل الشرقية. وبينما أسست البرتغال مواقع تجارية في الشرق — والتي كانت تحتاج إلى آليات جديدة من التجارة والتبادل — استخدمت إسبانيا قوتها العسكرية لتحويل أمريكا إلى مستعمرة ضخمة للعبيد والتعدين.

وفي عام ١٥٢١، وصل هرناندو كورتز إلى تينوتشتيتلان (مكسيكو سيتي اليوم) عاصمة إمبراطورية الأزتك، فقام بتدميرها بصورة منظمة، وقتل معظم سكانها أثناء ذلك بمن فيهم إمبراطورها مونتزوما. وفي عام ١٥٣٣، قاد المغامر فرانثيسكو بيثارو مجموعة من الفاتحين والخيالة لاحتلال كوزكو (بيرو اليوم)، عاصمة إمبراطورية الإنكا. لم يكن لدى السكان الأصليين قوة تجارية أو عسكرية كافية لمقاومة الاجتياح العنيف والسلب والنهب من قبل الإسبان، الذين فرضوا تدابير شبه إقطاعية على الأقاليم التي غزوها تُعرف باسم «إنكومياندا». وقد تضمَّن هذا تقسيم مجتمعات محلية صغيرة بين المراقبين الإسبان، الذين كانوا يقدمون «مصدر رزق» استغلالي بصورة وحشية (كان في الواقع عملًا شاقًّا بلا مقابل) وتعليمًا مسيحيًّا.
fig15
شكل ٤-٤: تلاعبت خريطة ديوجو ريبيرو لنصف الكرة الأرضية التي تعود إلى عام ١٥٢٩ بالمعرفة الجغرافية؛ من أجل وضع جزر الملوك في نصف الكرة الأرضية التابع لهابسبورج.4

تشير التقديرات المتحفظة إلى أنه من بين سكان العالم البالغ عددهم نحو ٤٠٠ مليون عام ١٥٠٠، كان حوالي ٨٠ مليونًا يسكنون الأمريكتين. وبحلول عام ١٥٥٠، كان عدد سكان الأمريكتين ١٠ ملايين فقط. وفي بداية القرن السادس عشر، قُدِّر عدد سكان المكسيك بحوالي ٢٥ مليون نسمة. وفي عام ١٦٠٠، انخفض العدد إلى مليون نسمة فقط؛ فقد قضت الأمراض الأوروبية، مثل الجدري والحصبة، على معظم السكان الأصليين، كما كانت الحرب والقتل والمعاملة البشعة مسئولة كذلك عن الكثير من القتلى. وسرعان ما تحولت القصة الشاعرية حول اكتشاف أكوام من الذهب والفضة إلى عمل قذر قاتل من التعدين والاستعباد.

كان استغلال الإسبان للأمريكتين ذا تأثير مباشر على اقتصاد أوروبا. فبصورة مبدئية، تدفق الذهب على أوروبا من هسبانيولا وأمريكا الوسطى. ولكن سرعان ما قلب غزو المكسيك وبيرو التوازن لصالح تعدين الفضة. وبين عامي ١٥٤٣ و١٥٤٨ وُجدت مستودعات الفضة في زاكاتيكاس وجواناخواتو شمال مكسيكو سيتي؛ وفي عام ١٥٤٣، اكتشف الإسبان جبل الفضة المخروطي رديء السمعة في بوتوسي في بوليفيا. ولكن جاءت الطفرة الحاسمة في عام ١٥٥٥، باكتشاف عملية دمج الزئبق بمعادن أخرى؛ مما سمح بابتكار فضة أكثر نقاءً من خلال صهر خام الفضة بالزئبق. وكانت النتيجة تدفق هائل للفضة إلى أوروبا. وبنهاية القرن السادس عشر، كان أكثر من ٢٧٠ ألف كيلوجرام من الفضة، وتقريبًا ألفا كيلوجرام من الذهب، يصل إلى أوروبا كل عام؛ مما تسبب في ارتفاع التضخم، وبالتالي أسهم فيما أطلق عليه المؤرخون الاقتصاديون «ثورة الأسعار»؛ حيث قفزت الأجور وتكلفة المعيشة، مما خلق الإطار للتطور طويل الأجل للرأسمالية الأوروبية.

كانت المناجم والمزارع الأمريكية بحاجة للعمال، ولكن سرعان ما تبين أن هلاك السكان المحليين معناه أن الإسبان كانوا بحاجة إلى مصدر آخر للعمالة. وكان الحل الذي توصلوا إليه هو العبيد. وفي عام ١٥١٠، صرح الملك فرديناند ملك قشتالة بتصدير ٥٠ عبدًا أفريقيًّا إلى مناجم هسبانيولا. وقد كتب ألونسو سوازو من هناك إلى تشارلز الخامس في عام ١٥١٨، معبرًا عن قلقه من معدل العمل لدى الهنود، ونصح «باستيراد الزنوج، فهم مثاليون للعمل هنا، على خلاف السكان الأصليين الضعفاء، لدرجة أنهم ملائمون فقط للعمل الخفيف». وبين عامي ١٥٢٩ و١٥٣٧، أصدر التاج القشتالي ٣٦٠ رخصة لنقل العبيد من أفريقيا إلى العالم الجديد، وهكذا بدأت واحدة من أكثر الخصائص الشائنة لعصر النهضة، حيث كان العبيد الأفارقة — الذين كانوا يُختطفون أو يشترون مقابل ٥٠ بيزو للعبد الواحد من قبل «التجار» البرتغاليين في غرب أفريقيا — يُحشرون في مراكب ويُشحنون إلى العالم الجديد. وهناك كانوا يباعون بضعف ثمن شرائهم، ويبدءون العمل في المناجم والمزارع. وبين عامي ١٥٢٥ و١٥٥٠، شُحن حوالي ٤٠ ألف عبد من أفريقيا إلى الأمريكتين، مما أدى إلى إثراء أوروبا وتدمير المجتمعات الأفريقية.

لم يكن كل الإسبان يؤيدون المذابح والقمع اللذين كانا يحدثان في الأمريكتين. فكان الفرنسيسكاني فراي موتولينيا يؤمن أنه «لو سأل أي إنسان عن سبب وجود الكثير من الشرور فسأجيبه: الجشع»، وبنفس المنطق قال بارتولومي دي لاس كاساس: «أنا لا أقول إنهم يريدون أن يقتلوهم [أي الهنود] مباشرةً بدافع الكراهية التي يحملونها تجاههم؛ لكنهم يقتلونهم لأنهم يريدون أن يكونوا أغنياء، ويحصلوا على الكثير من الذهب.» ومن الناحية الفلسفية، غيَّر اكتشاف عالم جديد من الفهم الأوروبي لسيادتها الثقافية. ففي قسم «عن آكلي لحوم البشر» من كتاب «المقالات» في عام ١٥٨٠، زعم الإنساني ميشيل دي مونتين أنه تحدث بالتفصيل مع العديد من الهنود البرازيليين، واستنتج قائلًا: «هذه الشعوب لا تتصف بالهمجية أو البربرية، لكن كل شخص يدعو أي شيء غير معتاد عليه بربريًّا.» وقد كون مونتين نهجًا شديدة الشكوكية والنسبية بخصوص مفاهيم «الحضارة» و«البربرية»، مؤكدًا: «يمكننا بالفعل أن نصف أولئك القوم بالبربرية حسب قواعد العقل، ولكن ليس مقارنةً بأنفسنا، فنحن نفوقهم في كل صنف من صنوف البربرية.»

لقد أحدثَ اكتشاف أمريكا ثورة في صورة أوروبا عن العالم في عصر النهضة. فقد دحض المعتقدات الفلسفية والدينية الكلاسيكية المترسِّخة بعمق؛ تلك المعتقدات التي لم تستطع أن تتواءم بسهولة مع وجود الأنظمة الثقافية والعقائدية ولغات السكان الأصليين. كما أن هذا الاكتشاف كان مسئولًا — بصفة جزئية — عن تحديد انتقال أوروبا من عالم العصور الوسطى إلى عالم حديث بصورة واضحة. ومن ناحية أخرى، فإن اكتشاف أمريكا ربط بين الخوف من كل ما هو جديد ومجهول؛ والرغبة في الثراء غير المحدود، الذي تجاهل المعاناة الهائلة والقمع الرهيب الذي نزل على رءوس السكان الأصليين والعبيد في الأمريكتين. ويمكن رؤية ميراثه في فقر معظم دول أمريكا الجنوبية اليوم وعدم استقرارها سياسيًّا، وكذلك في التفاوت في توزيع الثروات والفرص الذي يميز جانبًا كبيرًا من اقتصاد العالم الحديث.

هوامش

(1) By permission of the British Library.
(2) Bibilioteca Ambrosiana, Milan.
(3) Topkapi Saray Museum, Istanbul.
(4) Vatican Library, Rome.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤