الفصل السادس

كتابة عصر النهضة من جديد

إن مصطلح «أدب عصر النهضة» لا يقل خداعًا وانطواءً على مفارقات تاريخية عن العبارات التي قابلناها مثل «الحركة الإنسانية في عصر النهضة» و«علم عصر النهضة». كان بيترارك ومكيافيلي ومور وبيكون ساسة ودبلوماسيين صُنِّفت كتاباتهم فيما بعد باسم «أدب عصر النهضة»، والآن تُدرس أعمالهم في الأقسام الأدبية في الجامعات حول العالم. ولم يتطور مفهوم الكاتب المحترف إلا قرب نهاية القرن السادس عشر، وذلك مع نمو المسرح في دول مثل إسبانيا وإنجلترا، ومع النجاح المالي للطباعة، الذي سمح للشعراء ومؤلفي الكتيبات في التفكير في الكتابة الإبداعية باعتبارها مهنة دائمة. فقد كانت الأنماط المختلفة من التعبير الأدبي — الشعر والدراما والنثر — تتجاوب مع هذه التغيرات الاجتماعية والسياسية بطرق متعددة تتمتع كلها بمظاهر محددة على المستوى الإقليمي. وما نطلق عليه اليوم أدب عصر النهضة، فقد كُتب أغلبه باللغات المحلية الأوروبية المتنوعة: مثل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية. وتتضمَّن قصة هذه التطورات الأدبية كتَّابًا كانوا يفضلون فصل أنفسهم عن اللغات العالمية الكلاسيكية التي تخاطب الصفوة (اليونانية والعربية، ولا سيما اللاتينية)، واختاروا الكتابة بلغاتهم العامية الخاصة. وبسبب صعوبة إنصاف هذه التقاليد العامية المحددة، فإن تأكيد هذا الفصل سيتركز على تطور الشِّعر والنثر والدراما فيما يتعلق باللغة الإنجليزية تحديدًا.

الشِّعر

كان ينظر إلى الشِّعر الغنائي والشعر الملحمي باعتبارهما ذروة الإبداع الأدبي في عصر النهضة. وقد أتاح ظهور ثقافة البلاط الملكي في إيطاليا وشمال أوروبا مجالًا للإحساس المرهف للشِّعر الغنائي، وذلك بتركيزه على العشيقة المحبوبة، بينما كان يكشف أيضًا الحالة الشخصية للشاعر الولهان. وكان من بين أبرز رواده الباحث الإنساني بيترارك؛ الذي استند في تأليف كتاب «الأغاني» — الذي يتكون من ٣٦٥ قصيدة كتبت بين عامي ١٣٢٧ و١٣٧٤ — على مجموعة دانتي الشِّعرية «الحياة الجديدة». وقد نقَّح بيترارك الشكل الغنائي الذي يطلق عليه السونيتة؛ وهي قصيدة ذات أسلوب خاص تتكون من ١٤ بيتًا، ومقسمة إلى قسمين (الأوكتاف: أي السطور الثمانية الأولى من القصيدة، والسِّسْتِت: أي السطور الستة الأخيرة)، وتتميز بتركيبة سجعية شديدة التحديد. وكانت سونيتات بيترارك تجعل من الأنثى موضوع القصيدة كائنًا مثاليًّا في الوقت نفسه الذي تستكشف فيه التعقيد العاطفي لهوية الشاعر. فقد اشتكى بيترارك في إحدى سونيتاته قائلًا: «يا سيدتي، إني في هذه الحالة بسببك أنتِ.» وقد أثَّر هذا الأسلوب الشِّعري الاستبطاني الموحي بالألفة والدفء — والذي مكَّن الشاعر من استكشاف حالته الأخلاقية فيما يتعلق بمحبوبته أو بدينه (وغالبًا ما كان الاثنان مندمجين) — على ثقافة وشِعر البلاط الملكي في عصر النهضة طوال القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

وقد تطور هذا التقليد في إيطاليا في شِعر الكاردينال بيمبو، وفي إسبانيا مع جارسيلاسو دي لا فيجا، وفي فرنسا مع يواكيم دو بيلاي، وبيير دي رونسار، وفي إنجلترا مع ترجمات السير توماس وايت في منتصف القرن السادس عشر لبيترارك إلى الإنجليزية. وقد وصل هذا التقليد الإنجليزي إلى ذروته في سلسلة سونيتات شكسبير (عام ١٦٠٠ تقريبًا) التي حاكت تقليد بيترارك بسطرها الشهير «عينا محبوبتي لا تشبهان الشمس في شيء» (سونيتة ١٣٠). وقد تخطَّى شكسبير في سونيتاته بيترارك، وذلك بإضافة بُعد ثالث إلى العلاقة بين الشاعر ومحبوبته: وهو المنافس. فكانت هذه العلاقة الثلاثية التي كان يُعبَّر عنها في لغة إنجليزية عامية مطواعة تتسم بالتورية، غير مسبوقة. فقد سمحت لشكسبير بمناقشة التنافس الذكوري، ومشكلات الرعاية الأدبية، والأعمال المنزلية، «توَّاقة إلى فنِّ هذا الرجل، وإلى النظرة الشاملة لذاك الرجل» (سونيتة ٢٩)، وكذلك استكشاف التأثيرات المزعجة للرغبة الجنسية «إهدار الروح في صحراء الخزي» (سونيتة ١٢٩).

وفي السونيتة ١٣٤، يعترف الشاعر أنه قد فقد محبوبته لصالح صديقه المنافس:

أعترفُ الآن أنه أصبح ملككِ أنتِ
وأنني أنا نفسي صرتُ رهن رغبتك
وأنا مستعد للتضحية بنفسي حتى تتركيه
ليعود إليَّ ويواسيني

يتمنى الشاعر على الأقل الاحتفاظ بصداقته مع منافسه، لكن القصيدة تنتهي بإفادة أن هذا مستحيل: «لقد فقدتُ صديقي؛ أما أنتِ فملكتِه هو وأنا/إنه يعطيكِ كل شيء، ولكني رغم ذلك لستُ حرًّا.» إن الشاعر «مرتهن» لعشيقته ويعرض «فقدان» نفسه للحفاظ على صديقه، ولكن في النهاية حتى الصديق يكون في قبضة العشيقة الجنسية. ويرجو الشاعر أن يسدد صديقه الدين أو يدفعه «كاملًا»، لكن هناك تورية في النص ترسم صورة جنسية تعبيرية تكشف قوة المرأة في «الإيقاع» بالرجلين. وتعتمد لغة السونيتة على التجربة الخاصة بالعصر الإليزابيثي المرتبط تحديدًا بالالتزام القانوني، والدَّين المادي. كما أن سياقها إنجليزي بصورة متميِّزة في سجعها وتوريتها. لقد ابتعد شكسبير كثيرًا عن التأثير اللاتيني والكلاسيكي لبيترارك. وشِعره يتنبأ بتطور الشعراء الإنجليز اللاحقين مثل الشعراء الميتافيزيقيين، ويشير إلى الابتعاد عن أسلوب عصر النهضة القائم على التعبير الشِّعري والاقتراب من التقاليد العامية القومية التي ميَّزت أواخر القرن السابع عشر.

خطف اللغة: ردُّ النساء

فيما كان شعر بيترارك يحتفي بالنساء كنماذج مثالية وصامتة عن الفضيلة العفيفة، كانت سونيتات شكسبير تعكس قلقًا متزايدًا عن مكانة النساء المتناقضة في ثقافة ذكورية. إلا أن بعض النساء استفدن من الطبيعة المتغيرة للتعليم الإنساني وظهور الطباعة لتقديم نسخة مختلفة عن الأنوثة. وتوحي كتاباتهن بأن الكثير من الافتراضات بخصوص العلاقات بين الجنسين موضع خلاف أكثر مما دفعتنا الأعمال الأدبية التي تسيطر عليها النزعة الذكورية للاعتقاد.

فعلى مدار القرن السادس عشر، خصصت مجموعة من الكاتبات التقاليد الأفلاطونية والبيتراركية للتشكيك في الافتراضات الذكورية عن النساء، ولمحاولة تحديد استقلاليتهن الشخصية والإبداعية. فقد استخدمت بيرنيت دو جييه في كتاب «القوافي» (الذي نُشر بعد وفاتها في ليون عام ١٥٤٥)، أفكار الأفلاطونية المحدثة والتقاليد البيتراركية لتأسيس المساواة الشعرية مع محبوبها؛ حيث تصرح في إحدى القصائد: «مثلما أنا لك/(وأريد أن أكون)، فأنت كلك لي.» وفي موضع آخر تهاجم تقلُّب العاطفة البيتراركية وافتقارها إلى المساواة، وتطمئن جمهورها النسائي قائلة: «دعونا لا نندهش/إذا ما تغيرت رغباتنا.» أما لويز لابيه فقد أخذت هذا الرفض للتقليد الشِّعري الذكري إلى آفاق أبعد، حيث نُشر كتابها الشعري «إيفر» في ليون أيضًا في ١٥٥٥؛ إذ استخدمت لابيه السونيتة البيتراركية لنقد تحويل أجساد النساء إلى أشياء حسية، حيث قلبت الموقف بطرح السؤال: «ما الطول الذي يجعل الرجل يستحق الإعجاب؟» وبدلًا من إعلان خنوعها لمحب خيالي، فإنها تتنافس معه، وتؤكد في تناقض آخر مع التقاليد البيتراركية: «سوف أستخدم قوة عينيَّ جيدًا … حتى يمكن أن أقهره تمامًا في لمح البصر.»

كانت هذه الصراحة الجنسية مصحوبة بتصميم على حق المرأة في التعليم والحرية الإبداعية. وفي كتابي «نسخة الخطاب» (١٥٦٧) و«باقة الزهر العطرة» (١٥٧٣)، أكدت إيزابيلا ويتني التي تنتمي إلى العصر الإليزابيثي على استقلال محدود عن قيود الحياة المنزلية، قائلة: «طالما أن شئون البيت تشغلني/فسوف أستعمل كتبي وقلمي.» واستكشفت ويتني شاعرة أخرى حررت نفسها من القيود المنزلية، وهي فيرونيكا فرانكو التي كانت في البلاط الملكي في فينيسيا. وقد أزالت مجموعتها الشعرية — التي كانت بعنوان: «السجع» ونشرت في عام ١٥٧٥ — غموض مثالية الحب البيتراركي من منظور إحدى المحظيات، فقالت: «عندما نكون نحن النساء أيضًا متسلحات بالعلم ومُدرَّبَات/فسيكون بإمكاننا مواجهة أي رجل.» ونظرًا لأن الكاتبات، مثل ويتني وفرانكو، كُنَّ يناضلن في علاقتهن بالاضطهاد الديني المتزايد والتغير السياسي الحاد في أوروبا في منتصف القرن السادس عشر، فقد هيأن التقاليد الأدبية الذكورية لتقديم منظور مختلف تمامًا حول طبيعة النساء.

القصص المطبوعة

استفاد الكُتَّاب أيضًا من وسيلة الطباعة الحديثة نسبيًّا في ترسيخ أساليبهم الأدبية المميزة. فقد غيَّرت الطباعة التعبير الأدبي؛ إذ إنها خلقت طلبًا بين جمهور من أبناء المدن ممن كانت ثقافتهم في ازدياد، وكانوا يبحثون عن أشكال جديدة لفهم عالمهم المتغير. وفي عام ١٥٥٤، نشر الراهب الدومينيكاني ماتيو بانديلو كتابه «قصة قصيرة»؛ وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة عن الحياة المعاصرة في المدينة، والتي — بحسب مؤلفها — «لا تتعامل مع التاريخ المترابط، بل كانت بالأحرى مزيجًا من الأحداث المتنوعة». أما جيامباتيستا جيرالدي — المشهور باسم سينثيو — فطبع مجموعة أخرى من القصص القصيرة في عام ١٥٦٥، والتي لا تقل تأثيرًا عن سابقتها. وتستلهم مقدمة كتابه «هيكاتوميثي» أحداث السلب والنهب الشديد الذي تعرضت له روما على يد الجنود اللوثريين في عام ١٥٢٧. وقد وصفت تلك الأحداث العنيفة في مصطلحات تذكرنا بكاتب الدراما التراجيدي الروماني سينيكا؛ كما أن قصص سينثيو وبانديلو ألهمت بعض أعظم التراجيديات وأكثرها دموية التي قُدمت على المسارح في عهدي إليزابيث وجيمس، بما فيها «التراجيديا الإسبانية» (١٥٨٧ تقريبًا) للكاتب توماس كيد، و«عطيل» (١٦٠٣) لشكسبير، و«الشيطان الأبيض» لجون وبستر (١٦١٣ تقريبًا). وعلى غرار كتابة النثر، كان تطور المسرح، ولا سيما في إنجلترا، معتمدًا بصورة متزايدة على الاستثمار والربح أكثر منه على رعاية البلاط الملكي أو الورع الديني، وهو ما سمح بتمثيلات متزايدة في التعقيد والارتباط بالمذهب الطبيعي للمجتمع والفرد.

كما سمحت مرونة عملية الطباعة لكُتَّاب مثل فرانسوا رابيليه بالردِّ على النقد الموجه لكتبه، وإدراج أحداث معاصرة في الطبعات اللاحقة من عمله. نشر رابيليه عمليه «بانتاجرول» (١٥٣٢) و«جارجانتوا» (١٥٣٤)، اللذين سردا المغامرات الكوميدية لعملاقين هما جارجانتوا وابنه بانتاجرول. وقد استخدم رابيليه مغامرات عملاقيه لهجاء والسخرية من كل شيء، من الكنيسة إلى التعليم الإنساني الحديث. وكان رابيليه يكتب بأسلوب «ثري» رائع يمزج ما بين اللغات المكتسبة مع الفرنسية العامية، ولذا جاء وصفه لبانتاجرول يجسِّد ما لديه من ثراء في الأساليب المختلفة. فقد وُلِدَ هذا العملاق الصغير لأم «ماتت أثناء الولادة؛ لأنه كان كبير الحجم بصورة مذهلة، وثقيلًا لدرجة أنه لم يستطع أن يأتي إلى العالم دون أن يخنقها»، وكان يأكل الخراف والدببة، وتسبب في إخافة أحد الباحثين بشدة، حتى إنه لوث ملابسه بغائطه، ويدرس المعارف الجديدة من خلال تنوع محير من الكتب المطبوعة الجديدة التي تتضمن «فن الضراط» و«تنظيف مداخن علم التنجيم». كما أن بانتاجرول يسوي نزاعًا قانونيًّا بين اللورد كيسمايارس واللورد ساكفارت؛ وفي محاكاة للاكتشاف البحري والإبداع العلمي، فإنه يبحر في النهاية إلى «ميناء يوتوبيا».

حققت الكتب الأربعة عن مغامرات جارجانتوا وبانتاجرول التي نُشرت أثناء حياة رابيليه نجاحًا مذهلًا. وفي مقدمة كتاب «بانتاجرول»، تفاخر رابيليه بأن «عدد النسخ التي باعتها المطابع من هذا الكتاب في شهرين، أكثر من النسخ التي يمكن بيعها من الكتاب المقدس في تسع سنوات». وبداية من عام ١٥٣٣ انتقم الفلاسفة السكولاستيون في السوربون بباريس الذين هجاهم رابيليه بلا رحمة، فأدانوا كل كتبه بصفتها إباحية وتجديفية؛ فمُنعت مطبوعاته لبقية حياته. ومع ذلك، فقد تبنى كُتَّاب آخرون أسلوبه المبتذل الوافر، ومن بينهم كاتب الهجاء الإنجليزي ومؤلف الكتيبات توماس ناش. ففي كتابه «المسافر التعيس» (١٥٩٤)، يسرد ناش التجولات التشردية لجاك ويلتون — غلام جوال — في أنحاء أوروبا في القرن السادس عشر، حيث يورط نفسه في الحرب والصراعات الدينية والقتل والاغتصاب والسجن. وعلى غرار رابيليه، يستخدم ناش النمط الحديث نسبيًّا المتمثل في كتابة النثر، وذلك لقلب تقاليد القصيدة الغنائية والملحمة رأسًا على عقب. فبدلًا من اتِّباع السرد الرومانسي للشعراء الملحميين، تستخدم «الرسالة الخيالية» لناش المذهب الشكوكي والبراعة اللفظية للإنسانيين الأوائل، مثل مور وإراسموس (اللذين يقدمهما في سياق السرد)، لتحدي القيود الأخلاقية للتقاليد الأدبية الأكثر تقليدية. وفيما يدمج صوت ناش الأنماط والأصوات بشكل مفعم بالحياة، فإنه يشترك في بعض الصلات مع عمل ميجيل دي ثربانتس «دون كيشوت» (١٦٠٤)، ويتنبَّأ بالتطور اللاحق للرواية الإنجليزية. وكان دانيال ديفو من بين الكثير من الروائيين الإنجليز الأوائل الذين أعجبوا بعمل ناش.

الملاحم

كان للشِّعر الملحمي تاريخ وإرث أكثر تميزًا بكثير من القصص النثرية الجديدة نسبيًّا والتجريبية التي قدمها بانديلو وسينثيو وناش. فأعمال هوميروس مثل «الإلياذة» و«الأوديسا» وعمل فيرجيل «الإنيادة»، قدمت لشعراء عصر النهضة أنماطًا كلاسيكية عن بناء الإمبراطورية، وأساطير ذات أصول وطنية، كانت تُنسج حول التجوالات البطولية لبطل العمل، وهو في حالة هوميروس أوديسيوس، وفي حالة فيرجيل إينياس. وقد جاءت نشأة دويلات المدن الإيطالية في القرن الخامس عشر، وما تبعه من محاولات البرتغاليين وأسرة هابسبورج والإنجليز فرض هيمنتهم العالمية، لتمنح الشعراء الملحميين الفرصة لإعادة صياغة الملحمة الكلاسيكية على مستوى عالمي معاصر أكثر.

وكان من بين أكثر كتاب الملحمة المؤثرين لودوفيكو أريوستو؛ وهو سفير عائلة إيستي فيرارا، إحدى أعظم الأسر الحاكمة الإيطالية في القرن الخامس عشر. ففي افتتاحية قصيدته الملحمية «أورلاندو فوريوزو» (١٥١٦) يصرِّح أريوستو: «إنني أتغنَّى في شعري عن الفرسان والسيدات، وعن الحب والحرب، وعن الفروسية في البلاط الملكي، وعن الأعمال الشجاعة، وكل شيء منذ الوقت الذي عبر فيه المغاربة البحر من أفريقيا، وعاثوا فسادًا في فرنسا.» كانت هذه القصيدة قصيدة فروسية تسرد عملًا من الماضي، وتدور حول صراع القرن الثامن بين فرسان الإمبراطور شارلمان المسيحيين والشرقيين. لم يكن أريوستو قادرًا على تقديم أعمال مواكبة للعصر، ويرجع ذلك تحديدًا إلى أن قوة إيستي كانت في طريقها إلى الفناء مع بداية القرن السادس عشر. ومن خلال قراءة قصيدة أريوستو والاستماع إليها، كان نبلاء إيستي يمكنهم تخيل الحلم بهزيمة الأتراك — الذين كانوا المعادل العصري للشرقيين — لكن كان ذلك محض خيال جمالي صرف. وبحلول القرن السادس عشر كانت القوة الإمبراطورية الحقيقية تقع خارج إيطاليا.

أما قصيدة لويس دي كامويس الملحمية «اللوسياد» (١٥٧٢) فقد تناولت ماضيًا أكثر قربًا؛ المجد الآخذ في الخبو لقوة أوروبية أخرى هي الإمبراطورية البرتغالية. كان كامويس جنديًّا وإداريًّا إمبراطوريًّا كتب قصيدته فيما كان يعمل في أفريقيا والهند وماكاو في منتصف القرن السادس عشر. وتنسج قصيدة «اللوسياد» أسطورة حول بزوغ فجر الإمبراطورية البرتغالية في القرن الخامس عشر، من خلال التركيز على رحلة فاسكو دا جاما إلى الهند في ١٤٩٧. وعلى غرار أريوستو، زعم كامويس أن ملحمته تفوقت على الملاحم القديمة؛ لأن مجالها البطولي والجغرافي — أي أعمال وبطولات البرتغاليين في أماكن لم يسبق أن اكتشفها اليونانيون أو الرومان على الإطلاق — تفوَّق على إنجازات العالم الكلاسيكي. فكان كامويس يتغنَّى «عن البرتغاليين المشهورين/الذين انحنى لهم الإلهين مارس ونبتون». وقد خلقت القصيدة قالبًا أدبيًّا للإمبريالية الأدبية، وتمت محاكاتها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اللذين شهدا الحركة الاستعمارية الأوروبية العالمية. ومع ذلك، بحلول سبعينيات القرن السادس عشر، عندما كتب كامويس ملحمته، كانت الإمبراطورية البرتغالية بدأت تتدهور بالفعل، وفي عام ١٥٨٠، ضمها الملك الإسباني فيليب الثاني جزءًا من إمبراطورية هابسبورج المتسعة. وكما هو الحال مع أريوستو، فقد كانت قصيدة كامويس تتغنى بأمجاد الماضي.

وفي إنجلترا، تبنَّى إدموند سبنسر والسير فيليب سيدني تقليد الملحمة، لكنهما أضفيا عليها حسًّا بروتستانتيًّا مميزًا. كان كلا الرجلين من أفراد الحاشية الملكية الطموحين في البلاط الإليزابيثي، ومتحمسين لتأمين مناصبهما السياسية بكتابة قصائد ملحمية تتوافق مع الأذواق السائدة لسلالة تيودور الحاكمة. مزجت قصيدة سيدني «أركاديا» (١٥٩٠) بين النثر السردي والشعر الرعوي الذي يستخدمه رعاة أركاديا، والأبطال الأرستقراطيون المتخفون؛ لمناقشة مجموعة من الموضوعات المحورية للحكومة الإليزابيثية بدءًا من الاستشارات السياسية، حتى الحاجة لممارسة ضبط النفس، والتحكم في الانفعالات في الشئون الرومانسية، وتحالفات الأسرة الحاكمة. كان إدموند سبنسر إداريًّا سياسيًّا مثل أريوستو وكامويس، لكن إبداع ملحمته كان يحتفي بإمبراطورية لم تكن موجودة من الأساس. كتبَ سبنسر «ملكة الجن» (١٥٩٠–١٥٩٦) أثناء قيامه باستعمار أيرلندا نيابةً عن الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى «الإلهة المتلألئة المبهجة/مرآة النعمة والجلالة السماوية/السيدة العظيمة للجزيرة العظمى».

استخدم سبنسر — متعمدًا — مصطلحات إنجليزية مهجورة أثناء تتبع مغامرات سلسلة من الأفراد الذين يجسدون القيم البروتستانتية تحديدًا؛ مثل الإيمان وضبط النفس. فهو يحوِّل إليزابيث إلى «ملكة الجن» ذات المجد، ويستعيد القديس جورج من أصوله الشرقية ليجعله القديس الراعي لإنجلترا. لكن لم يكن ذلك سوى أسطورة مجيدة أخرى. فعندما أكمل سبنسر قصيدته، كانت إليزابيث منعزلة سياسيًّا في أوروبا، وكان تراثها الاستعماري الوحيد الباقي هو أنها مهدت الطريق لقرون لاحقة من العنف الطائفي في أيرلندا. ومع ذلك، فمن خلال إبداع ملحمة عالمية باللغة العامية عن ميلاد الأمة الإنجليزية البروتستانتية، ابتعد سبنسر عن التقليد الأوروبي السائد، وأثَّر بقوة على عمل ميلتون «الفردوس المفقود».

المسرح

تصلح دراما شكسبير لاختتام هذا الاستعراض لعصر النهضة؛ إذ إن سيرة حياته المهنية تمثل انتقالًا حاسمًا من التقليد الكلاسيكي الإنساني، الذي كان يستمد قوته من تأثيرات جنوب أوروبا والبحر المتوسط إلى الانشغالات الفكرية الأكثر محلية وقومية التي أنبأت بنهاية عصر النهضة. وفي مسرحياته المبكرة ظلَّ شكسبير مدينًا بقوة لهذا التقليد الكلاسيكي. ففي مسرحيته «كوميديا الأخطاء» (١٥٩٤)، أعاد شكسبير كتابة المسرحية الكوميدية «مانيشمي» للكاتب المسرحي الروماني بلاوتوس، حيث جعل الأحداث تجري في مدينة أفسوس القديمة. أما غزوته الأولى إلى عالم التراجيديا التاريخية فكانت في مسرحية «تيتوس أندرونيكوس»، والتي كانت هي الأخرى مدينة للتاريخ الروماني. وتروي المسرحية قصة صراع الإمبراطورية في سنوات انهيارها من خلال شخصية تيتوس أندرونيكوس، الذي يشاهد القوطيين «الهمجيين» وهم يتسللون إلى القيم «المتحضرة» لروما تدريجيًّا ثم يسحقونها.

ورغم أن هاتين المسرحيتين المبكرتين توضحان أن شكسبير كان مدينًا للماضي الكلاسيكي، فإنهما تعكسان أيضًا مخاوف واهتمامات إليزابيثية معينة. فكوميديا أخطاء الهوية والفوضى المالية في «كوميديا الأخطاء» تجسد عدم الارتياح المتزايد من جانب الإنجليز بخصوص سيولة الأموال وتعقيدات التعاملات التجارية بعيدة المدى، في وقتٍ كانت إنجلترا تدخل فيه إلى الأسواق العالمية في البحر المتوسط الذي يسيطر عليه المسلمون. كما توضح مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» شكسبير وهو يكتب تاريخ انقضاء الماضي، ويحاول التأقلم مع اللقاءات الإنجليزية مع الثقافات المختلفة، التي جسدها في شخصية هارون المغربي الجذابة والمشئومة في الوقت نفسه، والتي كانت تمهيدًا لظهور شخصية عطيل.

أدت ثقة شكسبير المتنامية بالمصادر التاريخية إلى اهتمامٍ متزايد بالموضوعات الأكثر محلية، ولا سيما تلك المتعلقة بالعهد الإليزابيثي في مسرحياته اللاحقة الكوميدية والتاريخية. فسلسلة مسرحياته التاريخية، من «ريتشارد الثاني» حتى «هنري الخامس»، بدأت في الانتقال من التاريخ الزمني المستوحى من الدين إلى فهم أكثر غموضًا وأكثر انفتاحًا للاحتمالات لماضي إنجلترا القريب، وعلاقته مع الحاضر. ورغم أن هذه المسرحيات كان يُنظر لها — من الناحية التقليدية — على أنها تزود دولة تيودور بتبرير أيديولوجي لشرعيتها السياسية، فإنها كشفت أيضًا سلسلة من العنف الدموي واغتصاب السلطة الذي ارتكبه أسلاف الملكة إليزابيث. وهناك دليل على أن مسرحية «ريتشارد الثاني» قد قُدمت دعمًا لانقلاب غير ناجح ضد الملكة إليزابيث، وأن مسرحية «هنري الخامس» خضعت للرقابة؛ لأنها حملت إشارات حساسة إلى مشكلات سياسية في أيرلندا واسكتلندا.

تعكس المسرحيات الكوميدية الثقة اللغوية المتزايدة التي عبر عنها شكسبير في السونيتات. ففي مسرحية «الليلة الثانية عشرة»، المهرج فيست يخبر فيولا التي ترتدي ثيابًا ذكورية «إنما العبارات شيء يسهل التلاعب به بذكاء: فسرعان ما يمكن قلب الأمور بكل سهولة!» («الليلة الثانية عشرة»، ٣. ١). إن القدرة على التلاعب باللغة، والدفاع عن موقف معين — أو الوقوف ضده — كانا من إرث البلاغة الإنسانية، أما في المسرح التجاري في لندن في العصر الإليزابيثي، فكانت مثل تلك التقنيات تُستخدم لتمثيل وتقديم موضوعات لها صلة وثيقة بجمهور المسرحية، سواءٌ أكانوا أغنياء أم فقراء. وقد استندت أول مسرحية لشكسبير تعرض على مسرح جلوب الجديد — وهي مسرحية «يوليوس قيصر» — إلى الماضي الكلاسيكي في معالجتها الدرامية لسقوط الجمهورية الرومانية باغتيال يوليوس قيصر، لكنها استكشفت كذلك كيف شكلت البلاغة الأداء السياسي. وكان تراث النظام الجمهوري، الذي نوقش في خُطب العزاء المتباينة، التي قدمها كل من بروتس ومارك أنطونيو؛ موضوعًا قد يكون من الخطير مناقشته في إطار سياق الاستبدادية الإليزابيثية. ومع ذلك، وكما هو الحال مع الكثير من المسرحيات الكوميدية، فإن شكسبير كان أكثر اهتمامًا بكيف أن البلاغة تشكل وتقنع الجمهور أكثر من التصديق على أيديولوجية سياسية معينة. أما آمال ومخاوف المجتمع الزراعي الذي كان يناضل للتكيف مع اقتصاد الائتمان، والمخاوف المتعلقة بمكانة المرأة والعلاقات الأسرية المتغيرة، والمخاوف الدينية المستمرة فيما يتعلق بالسلطة السياسية والخلاص الشخصي؛ فكانت جميعها موضوعات متكررة شكلت المسار المهني الدرامي لشكسبير.

نعى بن جونسون منافسه اللدود شكسبير قائلًا: «لم يكن رجلًا لعصر بعينه، وإنما رجل لكل العصور.» واليوم يتفق كثيرون على أن أبطال شكسبير التراجيديين العظماء — هاملت وماكبث ولير وعطيل — إنما هم بالفعل إبداعات خالدة تتجاوز زمان ومكان إبداعها. ولكن يجب أن نتذكر أنه من السمات الحاسمة لعصر النهضة، قدرة فنانيها العظماء على صياغة اعتقاد ذاتي بخلود أعمالهم. فقدر ما كان هاملت رجلًا مستوحًى من قلب عصر النهضة، وشخصية معقدة متعددة الأوجه تبشر بالحداثة، وتصور مسبقًا الرؤى الثاقبة لماركس وفرويد، فإنه كان شخصية رُسمت ملامحها في خضم الضغوط والمخاوف التي سادت في عصر شكسبير. فمن السهل رؤية خطبه الاستبطانية عن الموت، وعجزه المحير عن الانتقام لمقتل أبيه؛ على أنها تعكس آمال ومخاوف كل مراهق حديث يشعر بالغربة. ولكن من المهم فهم أن تصرفاته تشكلت أيضًا من جانب الإدراك البروتستانتي الإصلاحي في إنجلترا، والمخاوف المتناغمة فيما يتعلق بالخلاص والحياة الآخرة، «البلد غير المكتشف الذي من حدوده/لا يعود مسافر». وبالمثل، بينما يبدو قتل عطيل لديدمونة كما لو أنه تفكر لا يعرف حدود الزمن في العواقب المزعجة — والتي قد تكون قاتلة — للغيرة، فإنه أيضًا استكشاف لعطيل بصفته غريبًا؛ «غريبًا متهورًا ومندفعًا/من هنا ومن كل مكان»، وهو مسلم تحول إلى المسيحية ويبدو مألوفًا لأولئك الإنجليز الذين يتاجرون علنًا مع المغرب والإمبراطورية العثمانية الإسلامية.

وتمثل مسرحية «العاصفة» ختامًا ملائمًا لحياة شكسبير المهنية، وكذلك لهذه الدراسة عن عصر النهضة. فمن الناحية التقليدية، كانت هذه المسرحية تُعد بمثابة تأمل في قوة الفن، وهي تمثل وداع شكسبير للمسرح. كما أنها تُعد واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير كلاسيكية. تدور أحداث المسرحية في يوم واحد على الجزيرة، وتعتمد أحداثها على عمل فيرجيل «الإنيادة»؛ إذ يبحر ألونسو — ملك نابولي — إلى الوطن من تونس حيث زوَّج ابنته كلاريبل. ولكن تتحطم سفينته على جزيرة بروسبيرو في مكانٍ ما في البحر المتوسط، ومن هنا تستلهم الرحلة رحلة إينياس من طروادة إلى روما عبر قرطاج. ومع ذلك، تحتوي المسرحية أيضًا على صلات قوية بالاستعمار الأوروبي لعالم أمريكا الجديد. فالمسرحية تنظر في الاتجاهين: شرقًا إلى البحر المتوسط حيث ذلك العالم الكلاسيكي، الذي أتاح مصدرًا شديد الثراء من الإلهام لمفكري وفناني عصر النهضة؛ وغربًا حيث عالم المحيط الأطلنطي، الذي سيشكل فيما بعد التفكير في عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فإذا كان هذا التحول في المنظور الأدبي والفكري والعالمي أنبأ بنهاية ما يُعرَف بعصر النهضة، فإنه قدم كذلك بداية فهم مختلف وحديث للثقافة والمجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤