مقدمة المترجم للطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أتى على العرب حينٌ من الدهر كانت لغتهم تكفي لحاجتهم؛ فلهم منها أسماء ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون وما يفكرون، فإن لم يجدوا نقلوا عن غيرهم أو خلقوا خلقًا جديدًا، ساروا مع زمانهم في تشريعهم وفي علومهم وفي لسانهم وفي نظمهم؛ إن أحسوا أن أمة سبقتهم في علم أنفوا أن يروا لغتهم عاطلة من حُليِّه، فأسرعوا في ترجمته، وسدوا نقصًا شعروا به، وإن رأوا معنى جديدًا أو مخترعًا جديدًا وضعوا له لفظًا جديدًا، وأدخلوه في معاجمهم، وذكره العلماء في كتبهم، وإن أنتجت حالتهم الاجتماعية أنواعًا من المعاملات جديدة، وأنماطًا من الجرائم لم يكونوا يعرفونها شرعوا لها تشريعًا جديدًا يتفق مع الحوادث، وقالوا كما قال عمر بن عبد العزيز: «يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.» وكما قال زياد: «وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة.» فكانوا والزمان فرسي رهان يعدوان جنبًا لجنب؛ علمًا منهم بأن لا نجاح لأمة في الحياة ما لم تعدل حياتها على وفق ما يحيط بها.

ثم وقفوا واستمر الزمن يعدو، وكلما طال وقوفهم زاد البعد وبعدت مسافة الخلف، وقفوا سبعة قرون أو تزيد، تغير فيها مفهوم الكلمات، وزادت المعاني والمخترعات، ولا تزال معاجم لغتهم مما وضع منذ قرون أمثال قاموس «الفيروزآبادي» و«لسان العرب» مما أُلِّف لزمن غير زمانهم، في موقف غير موقفهم، والأمم الحية لا ترضى أن يكون لها في نصف قرنها الحالي معجم أُلِّف في نصف قرنها الماضي!

اختلفت أنواع المعيشة وأصبح بعض ما كان يعد حسنًا قبيحًا والعكس، وتغيرت أشكال المعاملات وهم أمام ذلك جامدون، اخترعت علوم جديدة وأبطلت نظريات قديمة، واستكشفت قضايا وقوانين غيرت وجه العلم وحوَّلت مجرى الحياة وهم يأبون إلا أن تكون الكتب كتب الأقدمين، والنظريات نظريات الأقدمين، والرأي رأي الأقدمين! نعم، ينبغي أن ننظر في القديم، ولكن ليس إلا لنتخذ منه دعامة للجديد.

فما أحوجنا إلى نهضة تنبهنا من سباتنا العميق، وتغير مجرى حياتنا، وتفتح عيوننا للبحث والنظر، وتطلق الفكر من عنانه، فيبحث ويعتقد ما يراه الحق، وتمدنا بما وصل إليه الغرب فنستأنس ببحثه، ونستعين به على وضع ما يتفق مع بيئتنا وديننا ونظمنا الاجتماعية وحالتنا العقلية.

وقد عثرت على كتاب في «مبادئ الفلسفة» قسمه المؤلف إلى قسمين: أبان في القسم الأول منه موضع الفلسفة وفروعها، وذكر كلمة عن كل فرع، وختمه بفصل في تاريخ الفلسفة؛ مبدأ نشأتها إلى الآن، وذكر في القسم الثاني النظريات الفلسفية المعروضة على بساط البحث، وحكى باختصار المذاهب المختلفة.

والكتاب يقدم للقارئ صورة مصغرة للآراء الفلسفية؛ قديمها والحديث، ويحدد معنى الفلسفة وموضوعها — تلك الكلمة التي يكاد يتخلف الناس عندنا في فهم معانيها بقدر عدد رءوسهم — ولم يَأْلُ جهدًا في تبسيط الموضوع والتغلب على صعوباته؛ ليكون سهل التناول لجمهور المتعلمين.

رأيت أن أنقله إلى العربية، وأغراني على ذلك صغرُ حجمِه، وطرافة موضوعه عند قراء العربية، وبذل المؤلف جهده لتسهيل الموضوع، حتى إذا بدأت في ترجمته أحسست بصعوبته، وقد لا يعلم قدر ما لاقيت من عناء إلا من حاول ترجمة كتاب كهذا في موضوع دقيق مليء بالاصطلاحات الفنية لا يجد لها مقابلًا في العربية.

راعيت الأمانة في النقل المستطاع، فحافظت على ترتيب المؤلف ومعانيه وتسلسلها، ولم أتصرف إلا عند الضرورة القصوى، وقد استعملت في الترجمة الاصطلاحات العربية ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، فإن لم أعثر بعد البحث على اصطلاح عربي يقابل الاصطلاح الإنجليزي وضعت كلمة من عندي رأيت أنها أقرب للدلالة على المعنى.

ولست أنكر أن في بعض ما ترجمت غموضًا — وأرجو ألا يكون كثيرًا — وسبب ذلك إما صعوبة الموضوع وغموض الأصل، أو التغالي في المحافظة على معاني المؤلف، أو أن الاصطلاحات التي استعملتها لم تُؤلف إلْفها في لغة الأصل.

وقد رأيت أن المؤلف لم يذكر كلمة ما عن الفلسفة العربية وتاريخها، فرأيت — إتمامًا للفائدة — أن أذكر كلمة في ذلك أقرنها بما كتبه المؤلف عن تاريخ الفلسفة، ووضعت على ما كتب المؤلف كلمات في ذيل الصحيفة قد أشرح بها غامضًا أو أُبين مصطلحًا.

وذيلت الكتاب بترجمة صغيرة لأشهر من ورد ذكرهم في الكتاب؛ أبين فيها جنسه وتاريخ حياته، وربما ذكرت بعض مبادئه، وختمت ذلك بقائمة للألفاظ الإنجليزية وما يقابلها من العربية.

وهنا أتقدم بالشكر للجنتنا المباركة «لجنة التأليف والترجمة والنشر» على ما بذلت من المساعدة في إخراج الكتاب، وأخص بالذكر صديقي أمين مرسي قنديل، وعبد الحميد أفندي العبادي، فإليهما يرجع الفضل في مراجعة الكتاب وتنقيحه، وإرشادي إلى ما غمض من معانيه.

وإني أشكر كل من يتنبه لخطأ في الكتاب فيرشدني إليه، واللهَ أسألُ أن ينفع به، ويجعله طليعة كتب واسعة تظهر في هذا الموضوع النافع.

أحمد أمين
مايو سنة ١٩١٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤