الفصل العاشر

فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية

يقول معرِّب هذا الكتاب: لم يذكر المؤلف كلمة واحدة عن الفلسفة الإسلامية، وبعبارة أخرى «الفلسفة عند العرب»، كأنهم لم يشتغلوا بالفلسفة ولم يعنوا بها! ولعل عذره في ذلك أنه إنما ألف كتابًا مختصرًا لمبتدئين أوروبيين لا يهمهم كثيرًا إلا فلسفة بلادهم، وإذ كنا قد نقلنا كتابه إلى العربية رأينا من تمام الفائدة أن نزيد كلمة إجمالية عن الفلسفة العربية وتاريخها؛ حتى نكون قد أتممنا للقارئ العربي الصورة التي ينبغي أن يرسمها فصل «تاريخ الفلسفة» فنقول:

كانت العرب في جاهليتها أمة أمية ندر فيهم القارئ والكاتب، ولم يعرف عنهم أنهم بحثوا في علم ودونوه، وهذا طبيعي في الأمم المتبدية، وإنما كانت لهم معارف أرشدتهم إليها التجارب والنظر ونوع المعيشة؛ فمعيشة كثير منهم مثلًا في الصحراء؛ حيث السماء صافية، والجو مفتوح، وحاجتهم إلى الأمطار وهبوب الرياح، لفت نظرهم إلى السماء فعرفوا شيئًا عن النجوم، وربطوا بها كثيرًا من ظواهر الجو؛ يدل على ذلك ما وضعوا من أسماء النجوم والمنازل والأنواء، ولكنهم لم يبحثوا في ذلك بحثًا علميًّا ولا دونوه كما تدون العلوم، ولم يكن لهم بالضرورة فلاسفة يدعون إلى مذاهب معينةٍ، ولا يضعون مبادئ للسير عليها في الحياة كالذي رأيناه عند اليونان؛ ذلك لأن العلم والفلسفة لا يكونان إلا حيث تعظم المدنية، فيسهل تحصيل المعاش وتتوافر أسباب العلم، إنما كان عند العرب حكماء وشعراء قاموا فيهم مقام الفلاسفة في الأمم المتحضرة؛ يفوهون بالحكم وتعد أقوالهم أمثالًا تؤثر في نمط الحياة، كالذي حكي عن لقمان الحكيم وأكثم بن صيفي وزهير بن أبي سُلمى، وقد أثر في حياتهم وعقولهم ما وصل إليهم من تعاليم الأديان السابقة ولا سيما دين إبراهيم — عليه السلام — واليهودية والنصرانية. فشت اليهودية في حمير وبني كنانة وكندة، وفشت النصرانية في ربيعة وغسان، وكذلك كان له الأثر فيهم ما نقلوه عن الفرس والروم والهند من القصص المشتملة على المواعظ والحكم، وقد كانت التجارة واسطة النقل، وكان العرب يكثرون التردد إلى بلاد هؤلاء للتجارة.

ثم جاء الإسلام ٦١٠م فوحد دينهم ولغتهم وأميالهم وقد كانت متعددة، وملك الدين عليهم نفوسهم، فكانت الحياة حياة دينية، وسياسة الحكومة سياسة دينية، والتشريع تشريعًا دينيًّا؛ لذلك كان البحث في عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية إلى سنة ١٣٢ﻫ إنما كان بحثًا في الأمور الدينية أو ما يتعلق بها، والسبب في ذلك:
  • (١)

    أن المسلمين رأوا ما صارت إليه دولة الإسلام من العز وكثرة الفتوح، وهم يعلمون أن لا سبب لذلك إلا دينهم الجديد، فزادهم ذلك اتجاهًا نحوه.

  • (٢)

    أن كثرة الفتوح واتساع المملكة يستدعي حدوث أمور لم تكن في عهد المشروع، وليس لهم أن يحكموا فيها بمجرد الرأي، بل يعتقدون وجوب الاستعانة بقواعد الدين، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا اشتغلوا بالدين.

  • (٣)

    أن القرآن ملك عليهم نفوسهم من نواحي كثيرة: من ناحية البلاغة، وحسن القصص، ولفت النظر، فدعاهم ذلك إلى الانكباب عليه.

من أجل هذا كله كان مدار البحث في هذا العصر هو الدين، ومن نقل خبرهم من علماء هذا العصر هم علماء دين إلا قومًا ترجم لهم صاحب كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، والظاهر أن هؤلاء كانوا يمارسون الطب على أنه صناعة لا علم، وإلا ما حكاه ابن خلِّكان في ترجمة خالد بن يزيد — توفي سنة ٨٥ﻫ — من أن له كلامًا في الكيمياء والطب ورسائل دالة على معرفته وبراعته، وفي ترجمة جعفر الصادق ٨٠–١٤٨ أن له كلامًا في صناعة الكيمياء. والكيمياء التي اشتغل بها جعفر — إن سلم أنها علم كان يشتغل به — لا يطعن فيما نقول من أن العلم الشائع لهذا العصر هو علم الدين.

وفي آخر الدولة الأموية كانت لهم أبحاث دينية مما هو من أبحاث علم الكلام أو ما بعد الطبيعة، فبحثوا في حرية الإرادة وأن الإنسان مجبور أو مختار، وفي مرتكب الكبائر أمؤمن أم كافر، وفي خلق القرآن ونحو ذلك، وانحاز المسلمون إلى فِرَق وتجادلوا وكلٌّ يُدْلِي بالحجة، وبحثوا كذلك بحثًا سياسيًّا مصبوغًا بالصبغة الدينية فيمن يكون خليفة المسلمين، وما ينبغي أن يستوفيه من الشروط، وكان للخوارج الفضل في إثارة الأذهان للبحث في هذه المسائل السياسية، ولكن شيئًا من ذلك لم يدوَّن كأنه علم.

فلما جاءت الدولة العباسية ١٣٢–٦٥٦ﻫ عظمت حضارة المسلمين، وهضموا ما أخذوه بالفتح عن الفرس والروم والهند، ونقلوا علوم الأمم التي سبقتهم في المدنية ولا سيما الهند واليونان، وفي زمن أبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون ومن بعدهم — ولا سيما المأمون — توسع الناس — وخاصة السريانيين — في ترجمة علوم اليونان على اختلاف أنواعها: من طب وهندسة وهيئة وتقويم بلدان، وفلسفة بفروعها المختلفة من طبيعيات وإلهيات ومنطق ونفس وسياسة وأخلاق — إلى اللغة العربية، فترجموا في القرن الثاني والثالث للهجرة كتب أفلاطون وأرسطو وإقليدس وبطليموس وجالينوس وغيرهم، وبحثوا فيها وتداولوها يشرحونها مرة ويختصرونها أخرى، وخصص كثير من المسلمين حياتهم لدراسة الفلسفة وتفهمها؛ فكانوا بعدُ فلاسفةً.

وكان أغلب مؤسسي الفلسفة عند العرب ومؤيديها أطباء وعلماء في الطبيعيات أكثر منهم رجال دين، وعلى العكس من ذلك فلاسفة الغرب في القرون الوسطى، فقد كان أكثرهم قساوسة؛ ولهذا لم يقصر المسلمون نظرهم على الإلهيات، بل كان البحث في الطب القديم والعلوم الطبيعية عندهم يسير جنبًا لجنب مع البحث في الإلهيات وما وراء الطبيعة، وترجموا كلام جالينوس في الطب وإقليدس في الهندسة كما ترجموا كلام أرسطو في الإلهيات.١

غير أنه يظهر أن ما ابتكروه من عند أنفسهم قليل إذا قيس بما نقلوه من اليونان، نعم إنهم في بعض فروع العلم كالكيمياء وعلم المعادن والطب وعلم وظائف الأعضاء كان لهم أثر ظاهر، واستكشفوا من القوانين ما لم يصل إليها اليونان قبلهم، ولكنهم في غير ذلك من فروع العلم كالمنطق والنفس والأخلاق كانوا نقلة أكثر منهم مبتكرين، وكانوا في طريقتهم العلمية ونظامهم في البحث، وأنظارهم إلى العالم، وترتيب فلسفتهم وقواعدهم متأثرين تأثرًا عظيمًا بفلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة.

ولهم الفضل على الغرب بكل ما نقلوا أو ابتكروا، فكثير من كتب اليونان وأبحاثهم ما كان يصل إليها الغربيون لولا حفظ العرب لها ودراستهم إيَّاها، كما أن كثيرًا من مبتكراتهم واختراعاتهم تعد — بحق — من أسس المدنية الغربية.

ابتدأ المسلمون لأول عهدهم بالفلسفة يدرسون الفلسفة «الأفلاطونية الحديثة» (وهي مذهب مزيج من الفلسفة والدين، ظهر في أواخر القرن الثاني للميلاد، وكان مقره الأصلي الإسكندرية، حاول مؤسسوه التأليف بين الدين المسيحي والمذاهب الشرقية ومذاهب اليونان ولا سيما أفلاطون، وأطلق عليه «فلسفة أفلاطون الحديثة»، من أشهر دعاته أفلوطين، ولد في مصر سنة ٢٠٤م، قيل: إنه رحل إلى فارس ودرس الفلسفة الشرقية وعلَّم في رومة من سنة ٢٤٤م، ومات نحو سنة ٢٦٤م، وكانت تعاليمه مزيجًا من الفلسفة العلمية والتصوف الديني)، والذي دعا المسلمين إلى اعتناقهم هذا الضرب من الفلسفة أنها كانت فاشية لعهدهم في الشام، وأنها مصبوغة بالصبغة الدينية، ثم ارتقوا منها إلى النظر في فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكن كانت قد غلبت عليهم فلسفة أفلاطون الحديثة، فلما أن نظروا بعدُ في فلسفة أفلاطون وأرسطو نظروا إليها بعيون متأثرة بالأفلاطونية الحديثة.

وأول من اشتهر من المسلمين بالفلسفة يعقوب الكندي، ويلقب «بفيلسوف العرب» لأنه عربي صميم تبحر في الفلسفة، وقد كان تابعًا للأفلاطونية الحديثة وتعاليم أرسطو أكثر منه فيلسوفًا مستقلًّا، وأكثر ما له من الفضل جاء ما ناحية الترجمة والنقل، وقد ظهر له في عهد المأمون والمعتصم كتب كثيرة بعضها ترجمة، وبعضها تأليف، وصل إلينا من أسمائها نحو ٢٥٦ كتابًا عدها صاحب أخبار الحكماء وفهرست ابن النديم، ومات نحو سنة ٢٦٠ﻫ.

وجاء بعده أبو نصر الفارابي المتوفى سنة ٣٣٤ﻫ، عاش تحت كنف سيف الدولة بن حمدان، وكان يعرف لغات كثيرة، وبرز في الموسيقى والرياضيات وعلم اللغة والفلسفة، درس فلسفة اليونان ومهر فيها، وقد كان كالكندي تابعًا للأفلاطونية الحديثة (وإن لم يعرف هو هذا الاسم) وتعاليم أرسطو، وكان معشوقه من فلاسفة اليونان أرسطو حتى قيل: إنه وُجد «كتاب النفس» لأرسطو وعليه بخط الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة!» وقد لقب بالمعلم الثاني — والمعلم الأول هو أرسطو — لحله معميات الفلسفة اليونانية، وكان الفارابي كسائر فلاسفة المسلمين يرون أن الإسلام من قرآن وسنة حق، وأن الفلسفة حق، والحق لا يتعدد، فوجب أن تكون الفلسفة والإسلام متفقين! غير أنه يؤخذ على فلاسفة الإسلام أنهم لم ينظروا إلى الفلسفة اليونانية كما كان ينبغي أن ينظروا إليها؛ من أنها مجموعة أقوالٍ ومذاهبَ قد يناقض بعضها بعضًا، وأن ما يذهب إليه أرسطو في مسألة قد يكون مناقضًا لما يذهب إليه أفلاطون فيها، بل نظروا إليها كأنها حقيقة واحدة ملتئمة، وقالوا: إن أفلاطون قد يختلف مع أرسطو في طريقة البحث أو التعبير عن المقصد، ولكن آراءهما في الفلسفة واحدة.٢ وصلت إليها تعاليم أفلاطون كما حكاها فورفريوس — وهو من أصحاب مذهب الأفلاطونية الحديثة — وتعاليم أرسطو كما حكاها متأخرو المشائين، ودخل عليهم فيما نقل إليهم من فلسفة اليونان ولا سيما فلسفة أرسطو خلطٌ وتشويش، يدل على ذلك أنه في زمن المعتصم ترجم أحد نصارى لبنان جزءًا من أنيدة٣ أفلوطين إلى العربية وسماه «لاهوت أرسطو»! وتلقى المسلمون كلَّ ذلك بالقبول، وعدوا أقوال الفلاسفة المختلفة شرحًا لحقيقة واحدة، فبذلوا جهدًا عظيمًا في التوفيق بين أقوال أفلاطون وأرسطو، وزاد عليهما المتدينون «القرآن»، وهذا ما فعل الفارابي؛ فقد كان مؤمنًا بأقوال أرسطو وأفلاطون مُنزِّهًا للقرآن عن الخطأ، فمزج اللوح والقلم والكرسي والعرش والملائكة والسموات السبع بتعاليم اليونانيين الوثنيين مع ما بين أجزائها من التناقض، ومحاولة ذلك تستدعي ذكاءً نادرًا وتصوفًا و«كشفًا» وغموضًا وسَبْحًا في الخيال.
وبحث الفارابي كذلك في السياسة في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة)، واختار من أشكال الحكومة الملكية الدينية، ومزج في هذا الكتاب بين آراء أفلاطون في «الجمهورية» وبين أقوال الشيعة في الإمام المعصوم؛ إذ كان سيف الدولة بن حمدان مُقرِّب الفارابي وحاميه شيعيًّا.٤
وممن لهم أثر كبير في الفلسفة الإسلامية جمعية شبه سرية تسمى «إخوان الصفا» اجتمعت في البصرة نحو منتصف القرن الرابع للهجرة، ودعاهم إلى جعلها سرية كره عامة الناس وعامة المتدينين للفلسفة ومن اشتغل بها، ومحاولتهم إيقاع الأذى بالفلاسفة، وقد عدَّ القفطي في أخبار الحكماء أسماء خمسة من أعضائها، وكان قصدهم نشر المعارف بين المتعلمين في جميع الأقطار الإسلامية، وتغيير أفكارهم الدينية والعلمية، قالوا: «إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية»، «وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.»٥ فألفوا إحدى وخمسين رسالة ضمنوها خلاصة أنواع العلوم المعروفة لعهدهم، فهي «دائرة معارف» تشتمل على معارف العرب إذ ذاك باختصار، قالوا في أول هذه الرسائل: «إن الحكماء والفلاسفة الذين كانوا قبل الإسلام تكلموا في علم النفس، ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن قد فهم معانيها؛ حرَّفها وغيَّرها حتى انغلق على الناظر فيها فهم معانيها، ونحن قد أخذنا لب معانيها، وأقصى أغراضهم فيها، وأوردناها بأوجز ما يمكن من الألفاظ وبالاختصار في إحدى وخمسين رسالة.» ا.ﻫ.
وكانت تعاليمهم فيها كذلك مزيجًا من أبحاث «الأفلاطونية الحديثة» والتصوف وما قاله أرسطو في العلوم الطبيعية وما قاله الفيثاغوريون في العدد «الرياضة»، وقد كان لها أثر كبير في العقول بانتشارها بين الناس، ولكن فيها من الخلط والتشويش ما ذكر قبل، وقد ظن بعض الباحثين أن هذه الجمعية جمعية باطنية «إسماعيلية» لما بين ما يجيء فيها أحيانًا وبين تعاليم الباطنية من التطابق، وقد عثر المغول عند فتحهم قلعة «ألموت» — وكانت في يد الإسماعيلية — على كثير من نسخ الكتاب.٦
وكان لأبي علي بن سينا البخاري ٣٧٠–٤٢٨ﻫ شهرة فائقة في الفلسفة، وفلسفته تقرب من الفلسفة الأرسطاطاليسية الصرفة، وربما كانت أقرب فلسفات المسلمين إليها، وكتابه (القانون) كان العمدة في الطب في القرون الوسطى عند الشرقيين والغربيين معًا،٧ وله فضل كبير في نشر الفلسفة بين الناس بمؤلفاته العديدة ولا سيما الإلهيات والمنطق، هذا إلى كثير من أمثال هؤلاء الفلاسفة؛ كالبيروني، وابن مسكويه، وابن الهيثم.

وقد كان انتشار الفلسفة بين المسلمين في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة سببًا في حركة جديدة قام بها المتكلمون — علماء الكلام — يريدون بها مقاومة تعاليم أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة المتعلقة بالإلهيات، أو الرد عليها ودحضها، فنشأ من ذلك أبحاث كلامية كثيرة، فبحثوا في العلة والمعلول والزمان والمكان والحركة والسكون، والجوهر الفرد والدور والتسلل ونحوها، ولم تكن ردودهم موجهة إلى الفلاسفة فحسب، بل إلى كل من خالف سنتهم من معتزلة وزنادقة وفلاسفة وظاهرية وحنابلة، ومن أعلام هذه الطريقة: أبو الحسن الأشعري، وإمام الحرمين، والباقلاني، ولكن أحدًا منهم لم يخص الفلسفة بالطعن ولا رد عليها من جميع جهاتها حتى جاء الغزالي ٤٥٠–٥٠٥ﻫ، فدرس الفلسفة اليونانية درسًا دقيقًا — كما حدَّث هو نفسه — ثم حمل عليها حملة شديدة من جميع جهاتها، وألف في ذلك كتابه المشهور (تهافت الفلاسفة)، وكفَّر الفلاسفة لبعض تعاليمهم، وأظهر منافاة الفلسفة لتعاليم الدين، ودعا الناس إلى الرجوع إلى دينهم الصحيح الخالي من الفلسفة، ورغَّب في التصوف، وأبان أنه الطريق الحق إلى الله، وكان بليغًا في قوله، مخلصًا في حديثه، سهل العبارة، قوي الحجة، فأثر ذلك في المسلمين أثرًا كبيرًا، وكان من آثاره أن حول الناس عن الاشتغال بالفلسفة، ورجعهم إلى الكتاب والسنة، وأعلى شأن التصوف والصوفية وحبب ذلك إلى الناس، وسار على طريقة الغزالي كثيرون من بعده.

هذا مجمل حال الفلسفة في الشرق، أما في المغرب — أعني في الأندلس وشمالي إفريقية — فقد أزهرت الفلسفة حينًا أكثر من إزهارها في الشرق، وكان فلاسفة الأندلس والمغرب أكثر ابتكارًا من فلاسفة المشرق، وكان يندر بين مسلمي الأندلس الخلاف في العقائد والمذاهب كالذي كان عند المشارقة، فكلهم — إلا القليل — مالكيٌّ سُنِّيٌّ، أخذوا الفلسفة عن أهل المشرق؛ فقد كان منهم رُحَّل إليه، رحلوا عن طريق القاهرة وأمعنوا في الرحلة حتى إلى فارس وانتفعوا بعلومهم، وجاء الحَكَم الثاني ٣٥٠–٣٦٦ﻫ فبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالًا من التجار، فجمعوا إليه كتبًا جمَّة، فاشتغل الأندلسيون بالرياضة والعلوم الطبيعية والتنجيم والطب بعد أن نقلت إليهم كتب الفارابي ورسائل إخوان الصفا وطب ابن سينا. وقد تعاون المسلمون واليهود معًا على الاشتغال بالفلسفة في الأندلس، ولم يلبث أن نبغ منهم كثيرون، مع مقاومة العامة وأشياعهم مقاومة أشد من مقاومة المشارقة.

ومن أشهرهم:
  • (١)

    ابن بَاجَة، وقد اتبع تعاليم الفارابي.

  • (٢)
    وأبو بكر بن طُفَيْل، مات سنة ٥٣١ﻫ، وصل إلينا من تآليفه رواية (حَي بن يقظان)، وكان بطلها «حي» يعيش في جزيرة لا يسكنها أحد من الناس، وليس له علاقة بأحد من أهل الجزائر الأخرى، بحث بعقله بحثًا منطقيًّا متدرجًا من البسيط إلى المركب حتى وصل إلى الاعتقاد بالله، وغرضه فيها أن يبين أن الشرع يتفق مع العقل. وقد ترجمت إلى اللاتينية وظهرت سنة ١٦٧١م وسنة ١٧٠٠، ولم يمض على ظهورها عشرون سنة حتى ظهرت رواية روبنصن كروسو.٨
  • (٣)

    ابن رشد، وهو أشهر فلاسفة الأندلس على الإطلاق ٥٢٠–٥٩٥ﻫ، كان يعد أرسطو أكبر الفلاسفة، وقد شرح تعاليمه حسبما وصلت إليه، ودافع عن الفلسفة وألف كتابه (تهافت التهافت) ردًّا على الغزالي في طعنه على الفلسفة، وأبان في كتب أخرى أن الفلسفة لا تناقض الدين، وألف في ذلك كتابًا صغيرًا سماه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، وأكثر مؤلفاته لا توجد بالعربية، وإنما موجود ترجمتها، من ذلك شرح أقوال أرسطو مع الرد على الغزالي، رتبت وطبعت باللاتينية في البندقية سنة ١٥٦٠م، في أحد عشر مجلدًا، وتُرجم له كتاب في الطب طبع كذلك في البندقية، وله كثير من المؤلفات مترجم إلى اللغة العبرانية، وكان لفلسفته شهرة في الكنائس والمدارس الأوروبية منذ القرن الثالث عشر الميلادي — السابع الهجري.

وبانتهاء القرن السادس الهجري تقريبًا وقف المسلمون عن البحث الفلسفي والنظر في العلوم الكونية، ولم يكن العلم إلا نقلًا، فالمؤلف ينقل عمَّن قبله فحسب، حتى لا تكاد تجد في كتاب جملة ذات معنًى جديد، والمعلِّم إنما يعلِّم ما سمع من أساتذته، والاختلاف الذي يظهر بينهم إنما هو اختلاف في الشكل لا في الجوهر — وليس ثمة مجال للبحث في أسباب ذلك — ولم ينبغ منهم نابغ مبتكر ذو شخصية ظاهرة إلا ابن خلدون المتوفى سنة ٨٠٨ﻫ؛ فإنه بإجماع الشرقيين وكثير من الغربيين مخترع فلسفة التاريخ أو علم الاجتماع، وأكبر الباحثين فيه في الشرق والغرب إلى القرن التاسع عشر الميلادي، فبحث في «أحوال العمران»؛ في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية، وكما قال هو في مقدمة كتابه: «إن كثيرًا قبله حَوَّموا على الغرض ولم يصادفوه ولا تحققوا قصده ولا استوفوا مسائله.» وأمَّل ممن يأتي بعده أن يستمروا في البحث ويضعوا ما فاته من المسائل، وقد تحققت أغراض ابن خلدون، ولكن لم يكن الذي حققها هم المسلمون، بل أوجست كومت وسبنسر وأمثالهما، «وكما كان ابن خلدون في هذا الموضوع هو السابق، فلم يكن له بين المسلمين لاحق.»٩

وأما مَن عداه فداروا في دائرة ضيقة كانت عنايتهم بالمسائل اللفظية تفوق العقلية، قصروا نظرهم على كتب للمتأخرين محدودة لا تبعث شوقًا إلى علم، ولا تهيج العقل إلى بحث، قد ألغزوا في معانيها وركزوا ألفاظها، فوجه المتعلمون أعظم جهدهم إلى حل معمياتها وتفسير أغراضها، وقليلًا من الجهد — إن كان — إلى نفس الموضوع.

وكان العلم والفلسفة قد صار شوطًا بعيدًا في الغرب، والشرق جامد في مكانه، وبدأ الشرق يغالب النومَ والنومُ يغلبه، ويصارع الكسلَ والكسلُ يصرعه، حتى أزعجته الحوادث، وأقلقت راحته ضوضاء احتكاك الشرق بالغرب، فانتبه متأخرًا وأحس بتأخره ونقصان علمه وضرورة التعلم حتى يستطيع مشاركة غيره في شئون الحياة، وما أحوجه اليوم إلى هداة يضيئون له السبيل، ويأخذون بيده في هذا المعترك اللجب، وينقلون إليه زبدة ما وصل إليه الغرب فيمعن النظر فيها ويهضمها بعقله الشرقي، ويكوِّن له مدنية وعلمًا تتفق مع ذوقه وجوِّه ودينه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

هوامش

(١) انظر: فندلبند صفحة ٣١٦.
(٢) انظر Boer ص١١١ وMackdonald ص١٦٢.
(٣) لأفلوطين ٥٤ كتابًا ذكرها تلميذه فورفريوس ويطلق عليها اسم أنيدة Enneads.
(٤) انظر Mackdonald ص١٦٥.
(٥) أخبار الحكماء.
(٦) Mackdonald ص١٦٩.
(٧) فندلبند.
(٨) فندلبند، ورواية روبنصن كروسو إحدى الروايات الإنجليزية الشهيرة لمؤلفها «ديفو»، فرض فيها بطل الرواية قد عاش في جزيرة وحده بعد أن كسرت مركبه، وأمكن أن يصل بعقله إلى كثير من الأمور.
(٩) انظر: Boer ص٢٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤