الفصل الثالث

الفلسفة الطبيعية

إن موضوع بحث الإنسان إما أن يكون هو الطبيعة بأضيق معانيها، ونعني بها مجموعة الأشياء المرئية المدلول عليها بكلمة «العالَم»، وإما «العقل» ونعني به القوة التي بها ندرك ونعلم ونتأمل ذلك العالم، وقد شوهد أن ما تقع عليه حواسنا أكثر استرعاءً لنظرنا من المدركات العقلية المجردة؛ فإن الأخيرة نتيجة تأمل ناضج لا يكون إلا متى كان للعقل قدرة على التأمل في نفسه، فالطفل أول ما يتذكر إنما يتذكر أسماء الأشياء التي تتميز بلونها أو ثقلها أو صوتها أو نحو ذلك؛ وعلى الجملة فهو إنما يتذكر ما يسترعي حواسه، وما أشبه الأمم في أول حالتها العقلية بالطفل، فإنه يتدرج فكرها في الرقي كما يتدرج فكر الفرد في النمو، ودليلنا على ذلك اللغة، فاللغة تضع أسماء وحدودًا لما تدركه حواسنا، وما تدركه قوانا العاقلة، وقد أثبت علم اللغة أن أسماء الجوامد التي تدرك بالحواس أسبق في الوجود من الألفاظ الدالة على عمل الحواس نفسها من نظر وسمع ونحوهما، لهذا كانت المباحث الفلسفية الأولى تدور حول المرئيات؛ أعني مجموعة الأشياء التي نسميها «العالم»، فكانت أهم مسائلهم البحث عن كل المظاهر التي تقع عليها حواسنا، والتي يطرأ عليها التغير الكثير، وعن العنصر أو مادة الشيء التي تبقى مع ما يطرأ عليها من التغيرات، تلك المسائل هي موضوع ما يسمى «فلسفة الطبيعة» ويقابلها «فلسفة العقل».

وقد دوَّن أفلاطون آراءه في هذا الموضوع في رسالة سميت «تيمايس»، وأوضح الفرق بين الطبيعيات وما وراء الطبيعة بأن الطبيعة «معرض التغير»، وأما ما وراءها «فمعرض الثبات»، وجمع أرسططاليس آراءه في الطبيعة وفلسفته فيها في كتابه «علم الطبيعة». وفي العصور الحديثة سمي هذا الجزء من الفلسفة قسمولوجيا — علم الكون — وجعل علم الطبيعة فرعًا منها، وقد وجَّه العقل البشري نظره في طور نشوئه الأول — أي قبل أن يفكر في نفسه — نحو العالم الخارجي؛ أعني نحو الطبيعة ودراستها، والطبيعة وحدة تتجلى في أشكالٍ متعددة. وقد ظل الإنسان من أيام نشأته يجدُّ في البحث وراء معرفة القانون الثابت للتغير المستمر، ويريد أن يعرف ذلك العنصر الذي تنتابه التغيرات وتجري عليه الظواهر المتنوعة، وذلك ما ترمي إليه فلسفة الطبيعة، وكان ممن بحث في هذا الموضوع فلاسفة اليونان الأولون مثل «طاليس» و«أنكسيمندر» و«انسكيمينيز»، وقد ذهب بعضهم إلى أن ذلك العنصر الأساسي الذي تجري عليه التغيرات هو الماء، وآخرون أنه الهواء، ومن أجل هذا سمي فلاسفة اليونان الأولون «الفلاسفة الطبيعيين»، أي الذين بحثوا في المادة — ما ظهر منها للحواس وما خفي — وهم أول من تكبدوا مشاق السير للوصول إلى الحقيقة، وقد كان سيرهم بالطبع بطيئًا يصحبه التردد والحيرة، وحاولوا إيضاح الظواهر المتعددة ليدركوا منها وحدة العالم، وليشرفوا على ما شاع من غلط الحواس. وقد نشأ علم ما بعد الطبيعة عند الفلاسفة الأيونيين من الطبيعيات كما نشأ هو (علم ما بعد الطبيعة) عند الفيثاغوريين من العلوم الرياضية؛ فالأولون كان يهمهم البحث في الهيولي (المادة) وحركتها الأبدية، والآخرون (الفيثاغوريون) في النظام الذي يسود العالم — في الوحدة والنسبة، وتوافق المتضادات، والعلاقات الرياضية الكامنة في كل الأشياء — ذاهبين إلى أن كل شيء في علم الهندسة والهيئة والموسيقى مآله العدد، وأن العدد أساس العالم وروحه، وأن الأشياء ليست إلا أعدادًا محسوسة، وكما أن العدد روح الأشياء فالوحدة روح العدد.١ وقد أهمل البحث في الطبيعة في العصور الوسطى، تلك العصور التي سادت فيها الكثلكة، وغلب على الناس التدين الأعمى والخضوع المطلق، فلم يفكروا إلا في أنفسهم وعلاقتها بالله، بل كانوا يستخفون بهذه المباحث، فقلَّ النظر فيها حتى جاءت البروتستانتية فحررت العقول من أغلالها، فهبت من رقدتها للبحث، وساعد على نهضتها استكشاف ممالك لم تكن تعرف، فانبعثت الفلسفة القديمة، ووجه الفلاسفة مثال «جاليليو» و«كبلر» و«برنو» وغيرهم أنظارهم نحو العالم والكون، فأداهم النظر إلى استكشافات كبرى (وتبين أن ذلك الكوكب الذي نعيش فيه ليس إلا هَنَةً تدور حول شمس من شموس عديدة انتثرت في الفضاء نثر الرمال في الصحراء)، ولم يكن العلم الطبيعي (الفلسفة الطبيعية) متميزًا عن فلسفة الطبيعة حتى في أيام الفلاسفة «ديكارت» و«ولف» و«نيوتن» إلى أن ظهر سنة ١٧٧٠م الكتاب المشهور المسمى «نظام الطبيعة» لمؤلفه «بارون هُلباخ» وإن كان الكتاب ظهر باسم «ميرابو»، وجاء «كَانت» و«شلنج» فأوضحا الفرق بين فلسفة الطبيعة والفلسفة الطبيعية، ومن ثم سارت العلوم الطبيعية شوطًا بعيدًا، وقد حصرت فلسفة الطبيعة في مسائل (ما وراء المادة) أو ما بعد الطبيعة، وفي البحث في أشياءَ كانت سببًا في استكشاف العلوم الطبيعية، فيبحث في: القوة والهيولي والحركة والحياة ونحوها مما هو موضوع العلوم الطبيعية.

هوامش

(١) ليس من الثابت تاريخيًّا نسبة النظريات الفيثاغورية إلى فيثاغورس الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد؛ فإن كل ما يعرف من حياته أنه أسس مذهبًا دينيًّا، وكان ذا قدرة وكفاية في السياسة والأخلاق، ولم يذكر أرسطو ولا أفلاطون شيئًا عن تعاليم فيثاغورس نفسه، بل كل ما ذكراه إنما عن الفيثاغوريين لا عن فيثاغورس (المؤلف).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤