الفصل الخامس

علم المنطق

جاء في إحدى روايات «موليير» أن أحد أغنياء التجار رأى أن ينزع عن جهله ويعود إلى التعلم، فما كان أعجبه حين علَّمه معلم اللغة أن الكلام إما نظم أو نثر، وأن كل ما ليس بشعر نثر، ودعاه العجب أن يسأل: فمن أي نوع أنا أتكلم؟ قال: إنك تتكلم نثرًا، قال: فأنا أتكلم نثرًا طول حياتي ولا أعرف! ثم ذهب إلى أهله وجمع عشيرته ليخبرهم بالاستكشاف الجديد. كذلك كثير من الناس يرعبون إذا ذكر اسم المنطق أو اقتُرح عليهم أن يقرءوا كتابًا في المنطق، ولو علموا أنهم في محادثتهم اليومية وما يدور بينهم من مناقشة وما يشرحون من معتقداتٍ ومسائلَ دينيةٍ وسياسيةٍ يسيرون على مقتضى المنطق لاعتراهم من الدهش ما اعترى ذلك التاجر.

إذا شرحت نظرية أو قيل قول أو ذُكر رأي؛ فإنا نصغي إليه ونفهمه، ولكنه لا ينطبع في عقولنا حتى يُبرهن عليه؛ فإن نحن حللناه وامتحناه وتبينت لنا صحته انطبعت في عقولنا نتائجُ لا نشك في صحتها، وإننا إن سرنا على هذه الطريقة قيل: إننا نفكر تفكيرًا منطقيًّا أو تفكيرًا صحيحًا؛ فالمنطق إذًا علم التفكير الصحيح، وهو يبحث في القوانين والشروط الضرورية للوصول إلى حكم صحيح يقبله كل مفكر عادي.

ما الشروط التي تجعل الحكم صحيحًا؟ كيف نمتحن الحكم ونتأكد من صحته؟ هذه مسائل يبحث عنها علم المنطق، وهو لا يعلمنا كيف نفكر أو ماذا يعمل عقلنا عند التفكير فحسب، بل يعلمنا أيضًا كيف ينبغي أن نفكر، فهو يحلل التفكير الصحيح، وما نعمله لنصل إلى نتيجة صحيحة، ويرينا خطأ الفكر عندما ينحرف عن القواعد. هذا وكثير من الناس يستخفون بالمنطق ويستهزئون به وما دروا أنهم مَنَاطِقَةٌ إلى درجة ما، تتبع عقولهم ما يرسمه المنطق وإن لم يعلموا، ويلاحظون قوانين التفكير الصحيح على غير علم منهم بها حتى ولا بوجودها.

إذا نحن امتحنا التفكير وجدناه يتركب من ثلاثة أعمال يعملها العقل: إحساس بالشيء أو المعنى، وتأثر العقل بهذا الشيء أو المعنى وإدراكه، وهذا هو الفهم في أبسط أحواله، بعد ذلك نبتدئ نؤلف بين فكرتين؛ فإما أن نقرن بعضهما ببعض، أو نفرق بينهما، أي إما أن نثبت وإمَّا أن ننفي، وبذلك يتكون الحكم على الأشياء، وهذه الأحكام يظهر لنا بعضها صحيحًا والبعض الآخر خطأ، وإذ كنا نحاول دائمًا الوصول إلى أحكام مقبولة عند غيرنا كما هي مقبولة عندنا، حاولنا أن نستكشف عللًا وأسبابًا تتبين منها وجوه خطأ الحكم وصحته، فقارنَّا الأحكام بعضها ببعض، ونظرنا في العلاقات التي بينها، وبحثنا فيما يقال مبتدئين من الجمل الأولى التي تسمى «المقدمات»، ومنتهين بما يسمى «بالنتيجة».

ولا حاجة بنا هنا إلى البحث فيما إذا كان الإدراك يمكن أن يقوم بنفسه من غير ألفاظ أو لا، وإذا كان فإلى أي حد يكون ذلك؟ فإن هذه المسألة كانت ولا تزال موضع بحث علماء النفس والمناطقة، فمنهم من يؤيد القول بأنه من الممكن التفكير بدون الاستعانة باللغة، ومنهم من يذهب إلى أن ذلك غير ممكن، وأن التفكير من غير ألفاظ ضرب من الوهم الكاذب، وقد قرر «مَكْس مُلَر» مرارًا أن الفكر واللغة حقيقة واحدة.

شبَّه ذلك بالنقد١ فقال: «ليس ما نسميه بالفكر إلا وجهًا من وجهي النقد، والوجه الآخر هو الصوت المسموع، والنقد شيء واحد لا يقسم، فليس ثَمَّ فكر ولا صوت، ولكن كلمات.» وقد نوقشت نظرياته وعورضت. ومهما يكن فإن من المسلم به أننا عندما نتعقل شيئًا أو نستنتجه نستعمل الألفاظ في الدلالة على عمليات العقل، ومن المتفق عليه أننا نشرح أفكارنا بالألفاظ والكلمات الخارجية؛ فقد وضعنا للشيء الذي في عقلنا اسمًا، ودللنا عليه بكلمة خاصة سميناها «اللفظ»، وبانضمام لفظين أو أكثر مع رابطة نستطيع أن نشرح رأيًا أو حُكْمًا، وهذا هو ما يسمى «القضية»؛ ولأجل أن نبرر أقوالنا ونبرهن على صحتها ونوضح وجه قبول قول أو رفضه نضع القضايا ونستنتج منها نتائجَ، وهذه الأدلة المكونة من القضايا تسمى «الأقيسة»، فالمنطق — وهو علم التفكير الصحيح — يبحث في الألفاظ والقضايا والأقيسة.

هذا ولا يخفى ما في تحديد معاني الألفاظ من الفائدة، فكثيرًا ما يثور الخلاف بيننا في مسألة ويشتد الجدال في موضوع، ويظهر أن المتجادلين على خلاف فيما بينهم، وهم في الواقع على اتفاق، ولو حددت ألفاظهم لتجلى لهم أنهم على رأي واحد، وليس منشأ الخطأ في الفهم إلا الغلط في تحديد الألفاظ أو غموضها وتعقيدها والتباسها؛ لذلك كان «فولتير» يبدأ المناقشة دائمًا بقوله: «حدِّد ألفاظك»؛ فالعلم بمعاني الألفاظ علمًا صحيحًا لا يُستغنى عنه للتفكير الصحيح ولا للحكم الصحيح.

وعندما نستخلص حقيقة من حقيقة أخرى نسمي ذلك «استنتاجًا»، وليكون الاستنتاج صحيحًا يجب أن نسير على مقتضى قوانين تعصمنا من الخطأ، وتمنعنا من الوصول إلى نتيجة باطلة.

والقوانين الأولية للفكر ثلاثة؛ وهي:
  • (١)

    قانون الذاتية: وهو أن كل شيء هو هو، وبعبارة أخرى: كل شيء هو نفسه.

  • (٢)

    قانون التناقض: وهو أن لا شيء يمكن أن يكون هو وليس هو.

  • (٣)

    قانون الامتناع: وهو أن الشيء إما أن يكون أو لا يكون، أو: الشيء إما أن يكون كذا أو غيره، وبعبارة أخرى: الشيء إمَّا أن يجاب عنه بنعم أو بلا.

وإذا نحن أهملنا قوانين الفكر الصحيح فلا بد من الوقوع في الخطأ مع عجزنا عن معرفة موقعه، ولا بد لنا غالبًا من الرجوع إلى القول من مبدئه لاستكشاف الموضع الذي انحرفنا فيه عن الصواب، والذي بسببه نصل إلى غير ما قصدنا، وتسمى هذه الأغلاط «بالمغالطات».

ونحن في بحثنا لا نقصد الوصول إلى نتيجة صحيحة فحسب، وإنما نقصد الوصول إليها من أقرب طرقها، وللوصول إلى ذلك نستعمل نُظُمًا متنوعة يظهر لنا أنها أنسب لغرضنا، وتسمى هذه النظم «بالطرق». ويستخدم المنطق في كل العلوم على اختلاف أنواعها.

وهذه الطرق متنوعة؛ فمنها:
  • (١)

    طريقة الاستقراء: وهي فحص أمثلة ومعلومات ثم محاولة الوصول منها إلى قاعدة عامة، وتسمى هذه الطريقة طريقة «التحليل» لأنها تحلل الكل إلى أجزاء.

  • (٢)

    طريقة الاستنتاج: وهي على العكس من الأولى، ففيها يُبتدأ بذكر قضايا عامة، ووضع بعضها بجانب بعض، واستنتاج النتائج منها، وتسمى «طريقة التركيب» لأن بها تُركَّب من الأجزاء قضايا عامة.

    ففي الطريقة الأولى — وقد تسمى أيضًا «الطريقة العكسية» — نبتدئ من الجزئيات ونستقريها، ثم نستنتج منها قضية عامة، وفي الثانية — وتسمى «الطريقة الطردية» — نبتدئ من القاعدة العامة ثم نطبقها على الجزئيات التي نعرفها من قبلُ بالاختبار.٢

هوامش

(١) النقد هنا أحد النقود كالجنيه والريال.
(٢) مثال الطريقة الأولى أن تقول: إن الماء يتمدد بالحرارة، والحديد يتمدد بالحرارة، وتستقري كثيرًا من الأجسام فتجدها كذلك، فتضع القاعدة العامة وهي: الأجسام تتمدد بالحرارة، ومثال الطريقة الثانية أن تضع القاعدة العامة أولًا، ثم تستنتج منها أن الفضة والذهب والحديد تتمدد بالحرارة (المعرِّب).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤