علم الأخلاق
إذا كان علم النفس يبحث في الإنسان كما هو وفي أفكاره وأعماله كما هي، فعلم الأخلاق يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وماذا ينبغي أن يعمل، وبأي شكل يشكل حياته. مُنح الإنسان كثيرًا من القوى والملكات، وله ميول كثيرة ورغبات وحاجات عديدة، وهو ليس بمخلوق قد رُسم له نوع من العمل يعمل فيه باستمرار فحسب، بل هو مخلوق حر له السلطان التام على أعماله، ففي استطاعته أن يوجه إرادته وأعماله إلى أي جهة أراد، وأن يعامل بني نوعه كما يشاء؛ ينفعهم أو يضرهم، وفي حق نفسه يستطيع أن يكون مجدًّا أو كسولًا، عاملًا أو لاهيًا، وإرادة الإنسان وأعماله لا بد معها من مقصد، ويستحيل إرادة عمل من غير غرض أو مقصد يقصده بعمله، وعلم الأخلاق يبحث في المقصد والغرض الذي ينبغي أن يكون، والذي يحاول الإنسان أن يناله بأعماله، وإليه يوجه إرادته، وأن ما منحه الإنسان من قوة الفكر العجيبة — التي بها يستطيع أن يبحث في ماهية نفسه — يؤهله للنظر فيما هو الغرض من وجوده، ووضع قوانين وقواعد لسلوكه وأعماله، وعدِّ بعضها حسنًا والآخر قبيحًا، ولا بد له من إعمال الفكر لمعرفة تلك القواعد، ومجموع هذه الأفكار يسمى علم الأخلاق، فهو يبحث في مصدر الأعمال والباعث عليها والمقصد منها وقوانينها، يبحث في أعمال الإنسان الاختيارية ومصدرها، وفي الحكم الأخلاقي والعواطف ومظاهرها في الحياة.
ما البواعث التي تدفعنا إلى الإتيان بعمل معين في ظروف خاصة دون أن تدفعنا إلى غيره من الأعمال؟ من أين نعرف الخير والشر؟ وإلى أين توصلنا هذه المعرفة؟ تلك أسئلة يتكفل بالإجابة عنها علم الأخلاق.
وبعد أن جمع علم الأخلاق عادات الأمم وخصالها ورتبها وقسَّمها لم يقنع بحقائقها مجردة، بل أخذ يبحث في «من أين؟» و«لمَ؟» و«إلى أين؟»
لهذا كان علم الأخلاق يمتاز عن الفلسفة النظرية بأن بحثها مقصور على ما كان وما هو كائن وما سيكون، أما علم الأخلاق فيزيد على ذلك أنه فلسفة عملية، يجتهد في تقرير ما ينبغي أن يكون، فهو علم سلوك الإنسان وعاداته.
إن قليلًا من الخبرة يكفي في إرشادنا إلى أن الإنسان ليس مطالبًا بأن يعمل كما يشاء حينما يشاء، ولا أن يعمل كل ما يستطيع أن يعمل، بل هو على العكس من ذلك؛ فكثيرًا ما يُطالب أن يتجنب عمل ما يسرُّه، و«أن يخضع إرادته لإرادة غيره»، وأن ينظم إرادته ويشكلها على حسب ظروف الأحوال.
وتاريخ الأمم كذلك يرينا أن الناس اختلفوا — ولا يزالون مختلفين — فيما هو الحسن والسيِّئ، والأخلاقي وغيره، وأن العمل الواحد قد يكون في حالة حسنًا وفي حالة قبيحًا، ويكون أخلاقيًّا في مكان أو زمان، ومستهجنًا في مكان أو زمان آخرين؛ لذلك كان من عمل علم الأخلاق أن يحدد لنا الحسن والسيئ، ويبين لنا إن كانا يتغيران بتغير الأزمان أو هما ثابتان لا يتغيران مع تغير العصر والإنسان.
وعلى الجملة فعلم الأخلاق يوضح لنا الحياة الأخلاقية، ويعين الوسائل لامتحان الآراء الأخلاقية التي تظهر في شكل عرف وعادات، ويعيننا على معرفة الغاية الأخيرة للحياة، ويساعدنا على النظر في النُّظم لإبقاء ما يصحُّ منها للبقاء، وإصلاح الفاسد، ونبذ ما لا يصلح، ويبين المقياس الأخلاقي الذي به نحكم على الأعمال، وبه نهتدي في ميولنا وأفعالنا. وليس غرض هذا العلم مقصورًا على معرفة مجهودات الإنسان وأشكال المعاملات وتأثيرها في حياتنا، بل من غرضه أيضًا التأثير في إرادتنا وهدايتها، واستكشاف علة الحياة الأخلاقية، وتقويم الأشياء على قدر اعتمادها على إرادتنا وإرشادنا، إلى كيف نشكل حياتنا ونصبغ أعمالنا حتى نحقق المثل الأعلى للحياة، ونحصل خيرنا وكمالنا ومنفعة الناس وخيرهم. ويتذكر القارئ أنا ذكرنا في تمهيد الفصل الأول أن الحق الذي يكتسب من النظر الفلسفي ليس مقصورًا على التأمل العقيم، بل نهاية هذا التأمل أن يستخدم في الحياة العملية، ونزيد هنا ما قاله الأستاذ «بولسن» في كتابه (نظام علم الأخلاق): «إن المقصد الأخير الذي دفع الناس إلى التأمل في طبيعة العالم سيظل دائمًا هو الرغبة للوصول إلى نتائجَ ترتبط بمعنى حياتنا ومنبعها والغرض منها، فأصل الفلسفة كلها والغرض منها يجب أن يُتَطلَّبَ إذًا من علم الأخلاق.»
ابتدأت الفلسفة الأخلاقية عند اليونان بقولها: إن هناك خيرًا عظيمًا يجدُّ الإنسان للوصول إليه، ويقصد الحصول عليه لذاته لا لأنه وسيلة إلى شيء غيره، ويمكن تحصيل ذلك الخير بالعمل، ويجب أن تنظم أعمال الإنسان بملاحظة ذلك الخير، وهذا الخير هو السعادة، وهي الغاية القصوى لأعمالنا، وكل غاية غيرها تابعة لها، ولنُسَمِّ هذه النظرية «نظرية السعادة» وهي تقول: «إن السعادة أعظم خير للإنسان، والغاية الأخلاقية من سلوكه.» وبعد أن سُلم بهذه النظرية، أي إن أعظم سعادة للشخص هي أعظم الخير له، تساءل فلاسفة الأخلاق اليونانيون: ما أعظم سعادة للشخص؟ وما خير الوسائل التي عساها توصل إليها؟ على هذين السؤالين أجيبت أجوبة مختلفة: رأى سقراط — ذلك الفيلسوف الذي لم يشأ أن يشغل نفسه بالبحث في أصل العالم وتكوينه، بل وجه عنايته نحو الإنسان وما يتعلق به — أن أعظم سعادة هي معرفة الحق، وأن المعرفة هي الفضيلة، ويمكن أن تُكتسب بالبحث، وقرر أن لا أحد يعمل غير الحق بإرادته، أو يختار الباطل إذا هو عَلِمَ الحق، وعندما يرتكب الإنسان خطأً فإنما يكون ذلك لجهله بالخير له، والحكيم العارف هو وحده السعيد الفاضل، وافق الرأي العام والمأثور والعرف أو خالف؛ لأن المعرفة هي الغاية القصوى للإنسان، وهي بعينها الخير والفضيلة، أما العدل والفضيلة الناشئان عن محض الاعتياد والتربية — إذا لم يعتمدا على المعرفة والنظر — فتلمُّسٌ في الظلماء قد يؤدي عفوًا إلى الحق، ولكن ليس فيه مقنع، وإنما ما فيه المقنع أن تجدَّ في البحث للوصول إلى معرفة الخير وتحديده.
أما أرسططاليس — سيد المفكرين على الإطلاق كما لقبه بذلك «أوجست كومت» في أحد كتبه — فابتدأ بحثه في الأخلاق بما ابتدأ به أفلاطون، فبحث في «ما هو أعظم خير للإنسان؟» «وما غايته القصوى وما غرضه؟» وكان من تعاليمه أن الإنسان من بين سائر الموجودات هو الذي جمع إلى قوة الشعور والرغبة قوة العقل، وهو بحسه وإدراكه يشبه الحيوان، وبعقله يشبه الله، وباتحاد تلك القوتين فيه كان كائنًا أخلاقيًّا؛ فإن الأخلاقية هي الاتفاق بين عناصر الحيوان والعقل، واستعمال كل قوى الإنسان تحت سلطة العقل، وليس الذي يخضع لهذه الأخلاقية هو من يعيش في عالم الفكر فحسب، بل الذي يشغل بالعمل ويكون لرغبته وانفعالاته عليه سلطان، ولأجل أن يختار الإنسان طريق الحق وينهج النهج القويم يجب أن يستعمل قوة الحكم عنده قوة عقله، ويستخدم إرادته الحرة.
هذا الاتفاق بين إرادة الإنسان وعقله ينتج الفضائل الأخلاقية أو السعادة أو أعظم خير، وهذا هو غرض الإنسان في الحياة. وبينا سقراط يرى أن الفضيلة نتيجة العقل وحده، وليست نتيجة التربية ولا العادة، وإنما هي ثمرة الحكمة وبُعْد النظر الأخلاقي، إذ بأرسطو يرى أن التربية والمران والعادة ضرورية أيضًا في تكوين الفضيلة، ويحدد الفضيلة بأنها «عادة ثابتة مقررة ينتجها المران، ويُكوِّنها تغلُّب العقل وهدايته».
خلف من بعد هؤلاء الفلاسفة العظام خَلْف كان لهم أثر في ترقية ما قرره سلفهم، ولا بد أن نخص بالذكر منهم «الرواقيين» و«الأبيقوريين».
ولما لم يكن من طبيعة نفس الإنسان الاقتناع بالفلسفة طويلًا جاء الدين فحل محلها، وقام الأولياء والقديسون مقام الشعراء والفلاسفة اليونانيين، وأثارت النصرانية ثورة لم يشهد الإنسان قبلها مثلها، فغيرت الأفكار تغييرًا تامًّا حتى لم تستطع عقائد اليونان أن تقف أمام سلطانها، ونبذت أكثر التعاليم الأخلاقية التي وضعها قدماء الوثنيين، فكانت النصرانية كما قال «نيتشه»: «مقوِّمة للأشياء من جديد.»
وقد عممت النصرانية — إلى حد ما — تعاليم اليهودية، ونشرت في المغرب أصول الأخلاق التي وردت في التوراة، والأخلاق عند اليهود إلهية المنشأ، فالمبادئ الأساسية فيها دينية، وليست الأخلاقية إلا نتيجة أمر الله ومن فيضه، وبعبارة أخرى هي تنفيذ أمر الله. نعم، إن الإنسان محتاج إلى قواعد وقوانين تنظم سلوكه، ولكن لا يشرِّع هذه القوانين والقواعد إلا الله، وهم يرون أن الخير الأخلاقي وإرضاء الله لا ينفصلان، وأن فروض الله والقوانين الأخلاقية متلازمان، وليس الشيء أخلاقيًّا لأن الله أمر به، بل الله أمر به لأنه أخلاقي؛ فإن الأخلاقية هي المركز الأساسي ومطمح نظر العالم، قال «هِرمن لُوتز» الفيلسوف الألماني العصري في كتابه الشهير (العالَم الصغير): «إن العبرانيين — على ما يظهر لنا الآن — كانوا بين الأمم الشرقية المحكومة بحكومة دينية كالصاحي بين قوم دبت فيهم الكأس، ونال منهم الشراب، وإن كانوا في القديم قد عُدُّوا كالحالمين بين العاملين، وإن التعهدات والالتزامات الأخلاقية التي يُرَقِّي الشعورُ بها الأعمالَ الاجتماعية كانت في اليهودية تنحصر في إرادة الله، وإرادة الله يجب أن ينفذها الشخص ويمجدها في سره وجهره، بل كذلك الأمة — من حيث هي أمة — يجب أن تنفذها وتمجدها بخضوعها في حياتها لحكومة ونظم دينية.»
من أهم المبادئ حب الله وإطاعته، وحب الإنسان، وهي مبادئ تتطلب التحلي بفضائل كالعدل والإحسان، وبينا نرى علم الأخلاق عند اليونان يعد الغاية القصوى للإنسان كمال شخصه؛ باستعمال كل قواه وملكاته الطبيعية حتى يصل إلى السعادة، إذ نرى الأخلاق النصرانية تطلب من الإنسان السعي وراء طهارة النفس في الفكر والعمل، وتجعل للروح سلطة مطلقة على البدن وعلى الشهوات الطبيعية، وهذه الروحانية أدت إلى إنكار حقوق البدن، واعتزال هذا العالم، ونبذ الحياة الطبيعية واحتقارها، كما أدت إلى الزهد والتنسك والرهبانية، ومحالفة الفقر، وتحمل الآلام البدنية، وعلى الجملة فقد أدت إلى «حياة غير طبيعية»، وشيء آخر جديد وهو عقيدة «النجاة بالغفران»، وهي مبنية على أن الإنسان آثم بطبيعته، وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجِدِّه، وإنما ينال النجاة بالغفران، وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة، وبذلك انهارت أصول التعاليم والعقائد التي وضعها مؤسس المسيحية بالأغلاط التي ارتكبها أتباعه، وأصبحت الآن الرسوم والمظاهر الدينية في النصرانية واليهودية أهم بكثير من الأخلاق وطهارة الحياة في الفكر والعمل، وقد كان إنما يقصد من هذه الرسوم والمظاهر في الأصل أن تكون رمزًا.