الفصل الثامن

علم الاجتماع (سسيولوجيا)

«ليس خيرًا للإنسان أن يعيش وحده» ولا نعيم الجنة نفسه يلطف وحشة الوحدة، بل ومعيشة الإنسان وحده ضد طبيعته، وهو محتاج إلى بني جنسه لسد حاجاته الطبيعية، ومعاونته على ضروريات الحياة؛ ولهذا اجتمع معهم وتعارف بهم وحالفهم، وإنا إذا تتبعنا تاريخ الإنسان من أقدم عصوره لوجدناه في أي زمان ومكان يتجنب الوحدة ويألف الاجتماع، فيعيش في جملة جمعيات: في أسرة، وفي فصيلة، وفي عشيرة، وفي قبيلة أو أمة، ويشترك مع غيره في أنواع شتى من العمل.

وبعد، فما ظروف الأحوال التي اقتضت اجتماع الناس؟ وبأي شكل كان اجتماعهم؟ ما أنواع الأعمال التي يشترك فيها الإنسان مع غيره؟ كيف يؤثر الناس بعضهم في بعض؟ ما أنواع العلاقات التي بينهم؟ وأخيرًا ما القوانين التي بها ترقى الحياة الاجتماعية؟ هذه الأبحاث التي تفيد الإنسان أعظم فائدة — كما قال «كومت» — هي التي تسمى «علم الاجتماع»، ولئن كان من فروع الفلسفة ما يبحث في أصل الكائنات وعللها ومبادئها (كعلم ما بعد الطبيعة)، وما يبحث في الإنسان من حيث شخصه، فيبحث في أصله وعلاقته بسائر الحيوانات (كعلم الإنسان – الأنثربولوجيا)، وما يبحث في أعمال روح الإنسان من حيث هو كائن ذو شعور، وفي سعيه وراء معرفة نفسه (وهو علم الأخلاق والنفس)، فهناك ما يبحث في الإنسان من حيث علاقته بالمجتمع الذي فيه ولد، كما يبحث في الظواهر التي نشأت عنها المعيشة الاجتماعية (وهذا هو علم الاجتماع)، فهو ذلك النوع من البحث الذي يشمل علم الجمعية والاجتماع أو الإنسانية مجتمعة، وإن شئت فقل: الإنسانية موحدة أو مؤلفة من وحدات الأفراد الذين توثقت الرابطة بينهم على نحوٍ ما، وهو ينظر إلى مجموع النوع الإنساني على ما هو عليه، وكما كان، وكما سيكون، ويوضح أعمال الجمعية البشرية وتفاعل القوى الاجتماعية، وبعد أن يستكشف القوانين التي بها ترقى تلك القوى يجتهد في تنظيمهما لخير المستقبل، ويمكننا الآن أن نقول: إن علم الاجتماع يحاول استكشاف القوانين والمبادئ وسر الظواهر الاجتماعية، ويستخدم ذلك في خير الإنسان.

وأول من استعمل كلمة «سسيولوجيا» للدلالة على علم الاجتماع «أوجست كومت»، وهي مركبة من «سوسيس» كلمة لاتينية معناها الجمعية، و«لوجوس» كلمة يونانية معناها علم، وقد كان علم الاجتماع سابقًا على اسمه١ هذا، ولم يكن علم الاجتماع — كما هو الشأن في العلوم الأخرى في طورها الأول — علمًا نظريًّا محضًا، بل كان يبحث أيضًا في مسائل عمليةٍ عرفت باسم «علم السياسة»، وقد قيد أفلاطون آراءه في الحكومة وأشكالها، وأوضح المثال الأعلى٢ لها في كتابيه (القوانين) و(الجمهورية)، وحدد الغرض الأخلاقي للحكومة كما ارتآه، وجاء أرسطو فلم يعتقد بالمثل الأعلى للحكومة ولا بالعصر الذهبي الذي حلم به أفلاطون، واجتهد في كتابه (علم السياسة) أن يحلل أشكال الحكومة التي كانت في عهده، وقسمها من حيث عدد حكامها إلى ثلاثة أقسام: حكومة ملكية، وحكومة أرستقراطية، وحكومة شورية.٣ وتدرج أرسطو من القول بأن «الإنسان مدني بالطبع أو حيوان سياسي» — أعني أنه في طوري سذاجته ورقيه لا يستطيع أن يعيش وحده، بل لا بد له من الاجتماع — إلى القول بأن النظام الحكومي للأمة نتاج طبيعي، قال «كومت»: «إن ما فنَّد به أرسطو ما لأفلاطون ومقلديه من أوهام باطلة في موضوع الاشتراك في الملكية برهن على ما لأرسطو من سداد في الرأي وذكاء وقوة لا تسبق، وقلَّما تُبَارَى.»
ولم يزد فلاسفة الرومان شيئًا في النظريات السياسية عمَّا كان لليونان، وفي القرون الوسطى كان للدين على النفوس نفوذ عظيم، وشُغل الناس بالقضايا الدينية حتى لم يبق لهم زمن للنظر في الموضوعات الاجتماعية، إلى أن جاء زمن «النهضة» فكان للناس بعدُ عناية خاصة بالمسائل الاجتماعية (وبحثوا فيما وصل إليه مَن قبلَهم وزادوا عليه)؛ فمسائل «الحقوق الطبيعية» مثلًا بحث فيها قدماء الفلاسفة والمشرعين، ومما جاء في قول شيشرون — الخطيب الروماني: «إن السلوك العام هو قانون الطبيعة.» أي إن اتفاق كل الناس على شيء يجب أن يعد قانون طبيعة، وفرق «أُلبيان» المشرع الروماني مثلًا بين «الحق الطبيعي» و«الحق المكتسب من القانون»؛ قانون الأمة، فلما جاءت النهضة خَطَت هذه القضايا خطوة خرجت بها من دائرة النظر إلى السياسة العملية، وكان «هُوجُو جرُوتيس» أوَّل من بدأ بالبحث في «الحقوق الطبيعية والوضعية»؛٤ ولذلك يعد مؤسس «فلسفة القانون».

جاء بعده «توماس هوبز» وكان مما كتبه «رسالة في الجبر والاختيار» بحث فيها أبحاثًا أخلاقية، وأبحاثًا فيما وراء المادة، وقرر فيها أن الإنسان — كسائر المخلوقات — مجبور خاضع للقَدَر، وبعبارة أخرى لإرادة الله، وأن المصلحة أو الفائدة الشخصية أعلى قاضٍ يفصل في الأخلاق وفي أي شيء آخر، وقد طبق نظرياته هذه على السياسة، فعنده أن نظام الطبيعة نظام حرب عام، كل يحارب كُلًّا ليبقى، «والحق» «للقوة». ولمحافظة الإنسان على نفسه، ووضعِ حدٍّ لهذا النزاع، وتلطيف نظام الطبيعة بالاجتماع؛ تعاقد الناس فيما بينهم نوع تعاقد على إنشاء «حكومة»، وليس القصد منها إلا حماية حياة الأفراد وملكيتهم، فيجب على الأفراد أن يعدوا إرادة الحكومة أسمى قانون، ولا تستطيع الحكومة الوصول إلى تحقيق غرضها إلا بخضوع الرعية خضوعًا تامًّا، ومن أجل هذا يعد «هوبز» مؤسس نظرية «العَقْد».

وذهب «مونتسكيو» في كتابيه: (عظمة الرومان وانحطاطهم)، و(روح القانون) إلى أن الظواهر السياسية — كسائر الظواهر الطبيعية — خاضعة لقوانين لا تتغير، قال «كومت»: «إن مونتسكيو كان يرى أن الأبحاث والأعمال الاجتماعية مبنية على قوانين طبيعية، على حين أن غيره من كبار الرجال كانوا يرون أن في استطاعة المشرعين أن يعدلوا نظام الحكومة كما يريدون، وأن عندهم على ذلك قدرة مطلقة غير محدودة متى أعانتهم السلطة على ذلك.» ووافق «جان جاك روسو» في كتابه (العقد الاجتماعي) ما ذهب إليه «هوبز» من أن الحكومة نتيجة تعاقد الناس فيما بينهم.

هوامش

(١) كان «أوجست كومت» أول من بحث في الاجتماع في العصور الحديثة، وكان يسمى هذا النوع من البحث عند اليونان «الحكمة العملية»، وقد اعترض على «كومنت» معاصروه عند وضعه نظريات لهذا العلم بأنه لا يمكن وضع نظريات ثابتة له؛ لأن الإنسان ذو إرادة حرة لا تجري في أعمالها على قوانين معينةٍ، ثم ظهر بطلان هذا الاعتراض، ودوَّن للاجتماع قوانين برهن على صحتها (المعرِّب).
(٢) المثل الأعلى ترجمة لكلمة Ideal، ونعني بها أكمل صورة في ذهننا للشيء يراد احتذاؤها، فإذا قلنا: المثل الأعلى للأمة، فإنما نعني أكمل صورة في ذهننا للأمة نريد أن تكون عليها يومًا ما، وهكذا (المعرِّب).
(٣) عند أرسطو إذا كانت القوة المسيطرة على الأمة في يد فرد واحد تسمى الحكومة ملكية Monarchy، وإذا كانت في يد جماعة قليلين من الأشراف سميت الحكومة أرستقراطية Aristocracy، وإذا كانت في يد الشعب فالحكومة شورية Polity (المعرِّب).
(٤) يعنون بالحقوق الطبيعية: الحقوق التي منحها الناس من طبيعتهم وليس القانون الوضعي هو المانح لها، وبعبارة أخرى: الحقوق التي للإنسان لأنه إنسان، وكانت للإنسان قبل أن تكون قوانين، أما الحقوق القانونية أو الشرعية أو الوضعية؛ فالحقوق التي منحتها له القوانين الوضعية، فحق الإنسان في الحياة أو في الحرية حق طبيعي، وحقه في أن يملك بالشفعة وفي أن ينتخب إذا بلغ سنًّا معينة حق قانوني (المعرِّب).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤