الفصل الثاني

الفيثاغوريون

(١١) النحلة الأرفية

(أ) كان من جراء وقوف اليونان على الأفكار الشرقية أن تبدلت أفكارهم الدينية واصطنعوا إلى جانب الديانة الأهلية ديانات سرية متوخين غاية جديدة هي الاتصال بالآلهة والمشاركة في سعادتهم متخذين سبيلًا إلى تحقيقها ممارسة طقوس معينة يعتقد فيها الصلاحية لذلك على مثل ما هو معروف في السحر، وأهم هاته الديانات «الأرفية»؛ نسبة لشاعر من أهل تراقيا اسمه أرفيوس يستحيل علينا معرفة حياته وآرائه ومنشأ نحلته؛ لكثرة ما روي عنه من الأخبار المتضاربة، وأضيف إليه من الكتب المتناقضة، ولكن التاريخ عرف الأرفية أول ما عرفها في القرن السادس ذائعة ذيوعًا قويًّا؛ وبالأخص في إيطاليا الجنوبية وصقلية، والمذهب قائم على أسطورة مؤداها أن تزوس وهب ديونيسوس — إله الحب، وهو ابنه من ابنته بِرْسِفون — السلطان على العالم، وهو ما يزال طفلًا فغارت منه هيرا زوجة تزوس وألبت عليه طائفة من الآلهة الأشداء هم «الطيطان» فكان ديونيسوس يستحيل صورًا مختلفة ويردهم عنه إلى أن انقلب ثورًا فقتلوه وقطعوه وأكلوه، إلا أن الإلهة بلَّاس — مينرفا — استطاعت أن تختطف قلبه فبعث من هذا القلب ديونيسوس الجديد، وصعق تزوس الطيطان وخرج البشر من رمادهم.

فالإنسان مركب من عنصرين متعارضين: من العنصر الطيطاني وهو مبدأ الشر، ومن دم ديونيسوس وهو مبدأ الخير، ويجب عليه أن يتطهر من الشر وهذا أمر عسير لا تكفي له حياة أرضية واحدة، بل لا بد من سلسلة ولادات تطيل مدة التطهير والتكفير إلى آلاف السنين، ورتبوا على هذه العقيدة طقوسًا كانوا يقيمونها ليلًا؛ منها: التطهير بالاستحمام باللبن أو بالماء تضاف إليه مادة تلونه بلون اللبن، وتقدمة القرابين غير الدموية، وتمثيل قصة ديونيسوس، بما في ذلك تقطيع ثور وأكل لحمه نيئًا، وتلاوة صلوات بينها وبين كتاب الموتى المعروف عن المصريين مشابهات كثيرة، وقد اكتشفت مقابر في إيطاليا الجنوبية وجدت فيها صفائح من ذهب عليها إرشادات للنفس عما يجب أن تسلك بعد الموت من طرق وتتلو من صلوات، فكانت هذه الصفائح دليلًا قاطعًا على أنهم عرفوا كتاب الموتى وأخذوا عنه كما أنهم أخذوا فكرة الولادات المتعاقبة عن الهنود — مباشرة أو بواسطة الفرس — وتمتاز الأرفية بالإيمان الراسخ بالعدالة الإلهية وبالسعي وراء الطهارة، بينا باقي «الأسرار» كانت تستبيح بعض المخازي وتدمجها في الشعائر، وتتصور العالم الآخر تصورًا ماديًّا، والطهارة في الأرفية خلاص النفس من البدن وهو لها بمثابة القبر، وهو عدوها اللدود يجري معها على خصام دائم تتأجج ناره في صدر الإنسان، كذلك تمتاز الأرفية بأن إلههم عديم النظير بين آلهة اليونان؛ فهم يمجدون فيه العذاب غير المستحق والفوز النهائي للضعيف صاحب الحق، وتمتاز أخيرًا بأنها شيعة الطبقى الوسطى المثقفة، وقد نبغ فيها رجال اعتمدوا على التفكير الشخصي في حل مسألة نشوء العالم، فلم يقبلوا الأساطير اليونانية على علاتها، بل هذبوها واستعانوا بأساطير الشرقيين وعلومهم، فكانوا طبقة وسطى بين اللاهوتيين الأولين وبين الفلاسفة — مع بقائهم في دائرة الأسطورة — وظلت الأرفية حية إلى أوائل المسيحية، وكان لها أثر فعال في الشعراء والمفكرين من نشأتها إلى اندثارها، بل يمكن القول: إنها هي التي وجهت الفلسفة وجهتها العقلية الروحية على أيدي فيثاغورس — كما سنرى الآن — وأكسانوفان وسقراط وأفلاطون وأصحاب الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة، فسنجد عندهم جميعًا عقائدها وتعابيرها كأصول يحاولون ترجمتها ترجمة عقلية والبرهنة عليها.

(١٢) فيثاغورس وفرقته

(أ) نشأ فيثاغورس في ساموس، وكانت جزيرة أيونية مشهورة ببحريتها وتجارتها، وتقدم الفنون فيها، طَوَّفَ في أنحاء الشرق، ولما ناهز الأربعين قصد إلى إيطاليا الجنوبية، وكان المهاجرون اليونان قد بلغوا فيها درجة عالية من المدنية والثقافة، ونزل ثغر أقروطونا؛ حيث كانت مدرسة طبية شهيرة، وما لبث أن عرف بالعلم والفضل، فطلب إليه مجلس الشيوخ فيما يذكر أن يعظَ الشعبَ ففعل فذاع اسمه وأقبل عليه المريدون من مختلف مدن إيطاليا وصقلية، وحتى من روما؛ فأنشأ فرقة دينية علمية تشبه الأرفية، أو هي أخذت عنها، ثم أثرت فيها، وكانت فرقته مفتوحة للرجال وللنساء من اليونان والأجانب على السواء؛ يعيش أعضاؤها في عفة وبساطة بموجب قانون ينص على الملبس، والمأكل، والصلاة، والترتيل، والدرس، والرياضة البدنية؛ فكانوا منظمين تنظيمًا دقيقًا يصدعون بما يؤمرون غير ناظرين إلا إلى «أن المعلم قد قال»، وكان المعلم متشبعًا بعاطفة دينية قوية ومقتنعًا بفكرة جليلة هي أن العلم وسيلة فعالة لتهذيب الأخلاق وتقديس النفس؛ فجعل من العلم رياضة دينية إلى جانب الشعائر، ووجه تلاميذه هذه الوجهة؛ فاشتغلوا بالرياضيات، والفلك، والموسيقى، والطب، وشرح هوميروس وهزيود.

(ب) وكان طبيعيًّا من هذه الجماعة المثقفة المتضامنة الرامية إلى الإصلاح في بلد حديث خلو من التقاليد، كثير التقلبات الديموقراطية، أن تفكر في السياسة وتميل إلى نظام أرستقراطي يقر الأمور في نصابها فتؤثر من هذه الناحية أيضًا فيمن ينتمي إليها من الحكام والأهلين؛ بل تتحول إلى هيئة سياسية وتتولى الحكم بنفسها، وهذا ما حدث في أقروطونا وغيرها من المدن الإيطالية في ظروف لم تصل إلينا أخبارها؛ غير أن الشعب والأعيان المبعدين عن الحكم لم يرضوا عن هذا الانقلاب، وما زال المعارضون يعملون في الخفاء حتى تألبوا ذات يوم على الدار التي كان زعماء الفرقة مجتمعين فيها فأحرقوها؛ ولم ينجُ من الفيثاغوريين سوى اثنين، أما فيثاغورس فقد قيل: إن حملات أعدائه اضطرته للهجرة فاعتزل في ميتابونتس ومات هناك قبل الثورة، وقيل: بل كان في أقروطونا ولكنه كان متغيبًا عن مركز الجمعية يوم الحريق فاستطاع أن ينجو بنفسه، وذهب إلى لوقريس ثم إلى ترنتا، وأخيرًا إلى ميتابونتس وقضى فيها بعد أن صام أربعين يومًا، وشبت الثورات على أنصاره في مختلف المدن فثبتوا لها في مدينتي رچيوم وترنتا، وعبر البحر إلى القارة اليونانية من خذل منهم؛ فقصد فريق إلى طيبة، وآخر إلى فليونتس، ولما تعاظم شأن أثينا قدمها نفر منهم، فكان لهم أثر خطير في الفلسفة والعلوم، ثم تلاشت الجمعية في عهد أفلاطون — حوالي سنة ٣٥٠ — ولم يبقَ منها سوى أفراد تناقلوا تعاليمها فكانوا حلقة الاتصال بين هذا العصر وعصر ثانٍ بدأ في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، واستمر إلى القرن الرابع بعده.

(ﺟ) هذا ما يقال بالإجمال عن فيثاغورس وفرقته، وليس من المستطاع زيادة البيان دون الاستهداف للخطأ؛ فإن آثار رجال العصر الأول قد فقدت جميعًا، وكل ما ينسب لفيثاغورس من «أشعار ذهبية» ومن «كتب ثلاثة» — المهذب والسياسي والطبيعي — فهو منحول يرجع إلى العصر الثاني، كذلك الكتب المعزوة لتلاميذه الأولين — وأشهرهم فيلولاوس — منحولة أو مشكوك فيها إلى حد كبير، أما أقوال الفيثاغورية الجديدة عن المدرسة القديمة فيجب أن تقابل بغاية الحذر لما فيها من ميل ظاهر إلى الغريب الشاذ ومن تأويل شخصي، يزاد على ذلك أنها تضيف للفيثاغورية الأولى أفكارًا وأمورًا لم تعرف إلا بعدها؛ منها: الأفلاطوني، والرواقي، بل البوذي، وحتى هيرودوت — وقد عاش في الأوساط الفيثاغورية في إيطاليا الجنوبية وصقلية بعد وفاة فيثاغورس بنصف قرن — فإنه يخلط في كلامه عنه وعن جمعيته؛ ذلك أن مخيلة الأتباع والأنصار كانت قد تناولت فيثاغورس ونسجت حوله الأساطير فقالوا: إنه ابن أبولون أو هرمس ورووا عنه من الخوارق كل عجيب غريب، أما الجمعية فيروى عنها أشياء كثيرة: أشهرها أنها كانت تحرم أكل الحيوانات وبعض النبات، ويقال: إن هذا التحريم لم يكن مطلقًا، ويذكر أنها كانت سرية يتعارف أفرادها بإشارات خاصة، ويتعهدون بكتمان تعاليمها الديني منها والعلمي، وأنهم أعدموا واحدًا منهم غرقًا؛ لإفشائه سرًّا هندسيًّا وليس ما يمنع من التصديق بهذه السرية، لا سيما أن أرسطو نفسه، إذ يتحدث عن المذهب لا يميز بين ما كان لفيثاغورس فيه من نصيب وما كان لتلاميذه، بل يذكرهم جملة بقوله: «الذين يدعون بالفيثاغوريين» أو «المدرسة الإيطالية» مما يدل على أن الجمعية كانت وحدة توارت وراءها شخصيات أفرادها، حتى تسربت آراؤهم ومكتشفاتهم إلى الخارج فاندمجت في الثقافة اليونانية خالصة من كل شخصية.

(١٣) مذهبهم

(أ) يذكر أن فيثاغورس هو الذي وضع لفظ «فلسفة»؛ إذ قال: «لست حكيمًا؛ فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف» أي محب للحكمة وقد كان رياضيًّا بارعًا، ولعل أهم آثاره في هذا الباب أنه برهن على أن قوة الأصوات تابعة لطول الموجات الصوتية، فبين أن الأنغام تقوم خصائصها بنسب عددية ويترجم عنها بالأرقام؛ فوضع الموسيقى علمًا بمعنى الكلمة بإدخال الحساب عليها، ولا شك أن دراسة الفيثاغوريين الأعداد والأشكال والحركات والأصوات وما بينها من تقابل عجيب، وما لها من قوانين ثابتة، صرفت عقولهم إلى ما في العالم من نظام وتناسب «فرأوا أن هذا العالم أشبه بعالم الأعداد منه بالماء أو النار أو التراب، وقالوا: إن مبادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، أو إن الموجودات أعداد، وإن العالم عدد ونغم.»١ وقالوا أيضًا: «إن الأعداد نماذج تحاكيها الموجودات دون أن تكون هذه النماذج مفارقة لصورها»٢ إلا في الذهن، والقولان يرجعان إلى واحد مؤداه التوحيد بين عالم الموجودات وعالم الأعداد، وساعد على هذا التصور أنهم لم يكونوا يتمثلون العدد مجموعًا حسابيًّا بل مقدارًا وشكلًا، ولم يكونوا يرمزون له بالأرقام، بل كانوا يصورونه بنقط على قدر ما فيه من آحاد، ويرتبون هذه النقط في شكل هندسي، فالواحد النقطة، والاثنان الخط، والثلاثة المثلث، والأربعة المربع، وهكذا، وكانوا من ثمة يصفون الأعداد بالأشكال فيقولون: الأعداد المثلثة والمربعة والمستطيلة؛ أي التي تصور بنقط مرتبة بشكل مخصوص، فخلطوا بين الحساب والهندسة ومددوا في المكان ما لا امتداد له، وحولوا العدد أو الكمية المنفصلة إلى المقدار أو الكمية المتصلة، ثم لم يُجدهم ذلك شيئًا في تفسير الطبيعة؛ لأنهم إنما «أصابوا خصائص الجسم الرياضي لا خصائص الجسم الطبيعي، ولم يفسروا الحركة والكون والفساد، وهي أمور بادية في العالم المحسوس، ولم يبينوا علة ثقب التراب والماء وخفة النار وسائر الخصائص في الأجسام المحسوسة، ولكنهم ركبوا الأجسام الطبيعية من الأعداد؛ أي إنهم ركبوا أشياء حاصلة على الثقل والخفة من أشياء ليس لها ثقل ولا خفة.»٣
(ب) وهذا هو السبب في أنهم لم يضعوا في العلم الطبيعي رأيًا جديدًا، بل نقلوا عن أنكسيمندريس وبالأخص عن أنكسيمانس فتصوروا العالم كائنًا حيًّا — حيوانًا كبيرًا — يستوعب بالتنفس خلاء لا متناهيًا فما وراء العالم هو عبارة عن هواء غاية في اللطافة، ضروري للفصل بين الأشياء وتمييزها بعضها من بعض، ومنعها من أن تتصل فتكوِّن شيئًا واحدًا،٤ وقالوا بعوالم كثيرة ولكن في عدد متناه، وجعلوا الأشياء تحدث بالتكاثف والتخلخل لا بتحول بعضها إلى بعض؛ لأن الأعداد نظام ثابت متجانس، وقالوا بالدور وعودة الأشياء هي بأنفسها في آجال طويلة — «السنة الكبرى» — إلى غير نهاية، ويروى في هذا الصدد أن أوديموس تلميذ أرسطو قال مخاطبًا تلاميذه: «إذا صدقنا الفيثاغوريين فسيجيء يوم نجتمع ثانية في هذا المكان فتجلسون كما أنتم لتسمعوا إليَّ وأتحدث أنا إليكم كما أفعل الآن.»
(ﺟ) أما النفس فقد وصلت إلينا عنهم أقوال متباينة فيها، فنحن نجد عند أفلاطون رأيًا لبعضهم يقول: إن النفس نوع من النغم، ومعنى ذلك أن الحي مركب من كيفيات متضادة — الحار والبارد واليابس والرطب — والنغم توافق الأضداد وتناسبها بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه،٥ وهذه من غير شك نظرية أطباء الفرقة — أو نفر منهم — صدروا فيها عن فكرتهم العامة — «العالم عدد ونغم» — وخالفوا أمورًا جوهرية في مذهبهم؛ فإن النغم نتيجة توافق الأضداد، فإذا كانت النفس نغمًا لزم من جهة أن ليس لها وجود ذاتي — والفيثاغورية تؤمن بالخلود — ولزم من جهة أخرى أن ليس لها وجود سابق على عناصر البدن — والفيثاغورية تؤمن بالتناسخ٦ — على أن أرسطو إذ يذكر هذه النظرية لا يعزوها للفيثاغوريين،٧ ولكنه يضيف إليهم صراحة قولين: يذهب الواحد إلى أن النفس هي هذه الذرات المتطايرة في الهواء، والتي تدق عن إدراك الحواس فلا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائمًا حتى عند سكون الهواء، فكأن أصحاب هذا الرأي أرادوا أن يفسروا الحركة الذاتية في الحيوان فافتكروا أن هذه الذرات المتحركة دائمًا تدخل جسمه وتحركه، ولعلهم ظنوا أن هذا التصور يفسر أيضًا كيف أن المولود يجد ساعة ميلاده نفسًا تحل فيه، وهم على كل حال يتابعون معاصريهم فيتصوَّرون النفس مادية وإن جعلوها مادة لطيفة جدًّا، ويذهب القول الآخر إلى أن النفس هي المبدأ الذي تتحرك به هذه الذرات،٨ وهو قول يخيل إلينا أنه رأيهم الحق، وهو أرقى من القولين السابقين وجامع لهما بحيث تكون النفس عندهم مبدأ أو علة توافق الأضداد في البدن وعلة حركته جميعًا.

(د) وبعد الموت تهبط النفس إلى «الجحيم» تتطهر بالعذاب ثم تعود إلى الأرض تتقمص جسمًا بشريًّا أو حيوانيًّا أو نباتيًّا ولا تزال مترددة بين الأرض والجحيم حتى يتم تطهيرها، وفيثاغورس أول من قال بالتقمص أو التناسخ في اليونان، والعقيدة هندية، وقد رأينا أن الأرفية كانت تقول بولادات متعاقبة، ويروى أنه كان يدعي أنه متجسد للمرة الخامسة، وأنه يذكر حيواته السابقة، وعند الفيثاغوريين أن أزمنة التقمص قد حددها الآلهة ونحن مِلكهم، فليس لنا أن نخالف النظام الذي وضعوه بالانتحار أو بإهلاك الحيوان فيما عدا التضحية، وقد يلوح أن نظرية التناسخ متمشية مع نظرية الدور تؤيدها وتفسرها فيما يختص بالأحياء، ولكن الغاية من التناسخ الطهارة التامة والسعادة الدائمة؛ فكيف نوفق بين هذا الدوام وبين الدور؟

(ﻫ) ولم تصل إلينا نصوص صريحة عن عقيدتهم في الألوهية، أما ما يذكر من أنهم كانوا يضعون «الواحد» فوق الأعداد والموجودات ويجعلونه مصدرها جميعًا فتأويل أفلاطوني، وكل ما يمكن أن يقال: إنهم طهروا الشرك الشعبي من أدرانه، ونزهوا الآلهة عما ألحقت بهم المخيلة العامة من نقائص.

(١٤) علومهم

(أ) وإذا انتقلنا من تصورهم للمسائل الكلية إلى آرائهم في العلوم الجزئية وجدنا فكرتهم الأساسية مسيطرة عليها كذلك، وقد مرت بنا الإشارة إلى أطبائهم فنقول الآن: إنهم أثروا أكبر تأثير في مدرسة أقروطونا وحولوها إلى مذهبهم، بنوا الطب على تناسب الأضداد فقالوا: إن مبدأ الحياة الحار ملطفًا بالبارد أي بالهواء الخارجي يجذب بالشهيق ويدفع بالزفير فإذا اختلت النسبة بينهما كان المرض، وإذا زاد الاختلال كان الموت، فالحياة والصحة تناسبٌ وتناسقٌ، والمرض والموت اختلال التناسب أي إفراط أو تفريط بالإضافة إلى الحد الملائم، والتطبيب حفظ التناسب أو إعادته، وطبقوا هذا الرأي تطبيقًا عامًّا فقالوا مثلًا: إن المناخ الأحسن هو مناخ المنطقة المعتدلة؛ أي المتوسطة بين الحار والبارد، وهكذا، ومن نوابغهم في هذا الفن القميون زعيم مدرسة أقروطونا، ومما يذكر له قوله: ليست النفس في القلب — وكان هذا اعتقاد القدماء — وإنما في الدماغ، والدماغ هو مركز التفكير تصل إليه بواسطة قنوات دقيقة التأثيرات الواقعة على أعضاء الحواس، ويقال: إنه أثبت رأيه بالتجربة فبيَّن بالتشريح أن كل اضطراب في المخ يفسد الوظائف الحاسة.

(ب) وامتازوا في علم الفلك وصدروا فيه أيضًا عن اعتباراتهم الرياضية؛ فمضوا يصورون العالم كما شاءت لهم غير حافلين بالواقع، كأنما مهمتهم تكوين العالم لا تمثيله وتفسيره، فقالوا مثلًا: «إن العدد الكامل هو العشرة؛ لأنه مؤلف من الأعداد جميعًا، وحاصل على خصائصها جميعًا، فيلزم أن الأجرام السماوية المتحركة عشرة؛ «لأن العالم كامل وحاصل على خصائص الكامل»، ولكن لما كان المعروف المنظور منها تسعة فقط (٥٩–ﺟ) فقد وضعوا أرضًا غير منظورة مقابلة لأرضنا إلى أسفل؛ ليكملوا العدد عشرة.»٩ كذلك ذهبوا إلى أن مركز العالم يجب أن يكون مضيئًا بذاته؛ لأن الضوء خير من الظلمة، ويجب أن يكون ساكنًا؛ لأن السكون خير من الحركة فليست الأرض مركز العالم وهي مظلمة وفيها نقائص كثيرة، ولكنه «نار مركزية» غير منظورة؛ لأنها واقعة هي أيضًا إلى أسفل أرضنا والمأهول من الأرض في اعتقادهم نصفها الأعلى، ولم يفتهم أن يعينوا لكل من النار المركزية والأرض الأخرى شأنًا في نظام العالم: النار المركزية تمد الشمس بحرارتها فتعكس الشمس الحرارة على الأرضَيْن وعلى القمر، والأرض الأخرى تفسر الكسوف والخسوف بتوسطها بين النار المركزية وبين القمر أو الشمس.١٠ ومهما يكن من قيمة استدلالهم فإن تنحيتهم الأرض عن مركز العالم كان ثورة على التصور القديم، وثمة ثورة أخرى هي قولهم بكروية الأرض، ولم يبلغ إلينا سبب هذا القول، وقد يكون أن الدائرة خير الأشكال؛ لكمال انتظام جميع أجزائها بالنسبة للمركز على ما هو معروف عنهم، وبديهي أن الخيال والعاطفة الدينية كانا يجدان غذاء في التصورات التي يوحيانها، فالفيثاغوريون؛ إذ اخترعوا النار المركزية ووضعوها في وسط العالم مجدوها وأسموها أم الآلهة، وقلعة تزوس والهيكل وموقد العالم والمصدر الأول لكل حياة وكل حركة، على أن المتأخرين منهم لم يترددوا في العدول عن النار المركزية والأرض الأخرى بعد أن بلغ الإسكندر الهند، ولم تظهر لا هذه ولا تلك، وقام واحد منهم هو أرسطرخوس من علماء القرن الثالث، فاستبدل الشمس بالنار المركزية فتم له الرأي المعول عليه الآن، ولكنه لم يصادف قبولًا عند أهل زمانه، فبقي في بطون الكتب إلى أن قرأه كوبرنيكوس في شيشرون فوضع نظريته.
(ﺟ) ومن المأثور عنهم قولهم: إن لحركات الأفلاك نغمات،١١ وحجتهم في ذلك أن الجسم إذا تحرك بشيء من السرعة أحدث صوتًا هو صوت اهتزاز الهواء أو الأثير، فلا بد أن يكون لحركات الأفلاك في الأثير العلوي أصوات، وتتفاوت سرعة الأفلاك بتفاوت مسافتها كما تتفاوت في العود سرعة الاهتزازات بتفاوت طول الأوتار، فلا بد أن يكون في السماء ألحان كألحان العود، وإن كنا لا نشعر بها فإنما ذلك لأنا نحسها باتصال، والصوت لا يشعر به إلا بالإضافة إلى السكوت، ولا يبعد أنهم كانوا يخرجون من هذا القول إلى مثل ما خرج إليه إخوان الصفاء حيث قالوا: «إذا تفكر ذو اللب تبين له أن في نغمات تلك الحركات لذة وسرورًا مثل ما في نغمات أوتار العيدان في هذا العالم، فعند ذلك تشوقت نفسه إلى الصعود إلى هناك والاستماع لها والنظر إليها، فاجتهد يا أخي في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وعبودية الشهوات الجسمانية، فإن هذه هي المانعة لها من الصعود إلى هناك بعد الموت.»١٢

(د) فالفيثاغورية نهضة عظيمة متعددة الوجهات، هي نحلة دينية كانت أصدق نظرًا في الدين من الأرفية، وهي مذهب فلسفي يعد أول محاولة للارتفاع عن المادة التي وقف عندها فلاسفة أيونية وفهم العالم بقوانين واضحة وأعداد معينة، وهي مدرسة علمية عنيت بالرياضة والموسيقى والفلك والطب، وعرفت بضع قضايا حسابية وهندسية، ووضعت في الهندسة ألفاظًا اصطلاحية، وهي هيئة سياسية ترمي إلى إقرار النظام في هذه الحياة الدنيا.

١  أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٥ ع ب س٢٣–٣٥ وص٩٨٦ ع ا س١–٥.
٢  المرجع المذكور م١ ف٦ ص٩٨٧ ع ب س١٠–١٢ و٢٤–٣٠.
٣  المرجع المذكور م١ ف٨ ص٩٨٩ ع ب س٣٠، ٩٩٠ ع ا س١٦.
٤  أرسطو: السماع الطبيعي م٤ ف٦ ص٢١٣ ع ب س٢٢–٣٠.
٥  فيدون: ص٨٥ (ﻫ)–٨٦ (د).
٦  فيدون: ص٩٢ (أ ب ج).
٧  كتاب النفس: م١ ف٤ ص٤٠٧ ع ب س٣٠–٣٢.
٨  كتاب النفس: م١ ف٢ ص٤٠٤ ع ا س١٦–٢٠.
٩  أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ا س٥–١٢، وكتاب السماء م٢ ف١٣.
١٠  أرسطو: كتاب السماء م٢ ف١٣.
١١  أرسطو: كتاب السماء م٢ ف٩.
١٢  الجزء الأول ص١٥٨ وص١٦٨ باختصار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤