الفصل الرابع

الأخلاق

(٣٧) القانون الخلقي والطبيعة

(أ) لما كان أفلاطون قد ميز بين العقل والحس والنفس والجسم؛ فقد ميز في الأخلاق بين اللذة والألم من جهة، والفضيلة والرذيلة من جهة أخرى، وكما أنه حارب الحسيين في المعرفة، والآليين في الطبيعة؛ فقد أعلن الحرب على السوفسطائيين وتلاميذهم القائلين باللذة، عرض نظريتهم في أقوى صورها وأبعد نتائجها ثم فندها تفنيدًا،١ قالوا: إن القانون الخلقي الذي يخشاه الناس إنما هو من وضع الناس كالقانون المدني لا من وضع الطبيعة، بل إن الطبيعة تعارضه وتأباه: فبحسب الطبيعة الأمر الأقبح هو الأخسر، والأخسر تحمل الظلم، وبحسب القانون ارتكاب الظلم هو الأخسر الأقبح، ولقد نشأ هذا التباين من أن القانون سنه الضعفاء والسواد الأعظم بالإضافة إلى مصلحتهم الخاصة، فقصدوا إلى تخويف الأقوياء وصدهم عن التفوق عليهم، وذهبوا إلى أن الظلم يقوم بالذات في إرادة التسامي على الآخرين، ولكن الطبيعة تقدم الدليل على أن العدالة الصحيحة تقضي بأن يتفوق الأحسن الأقدر، فترينا أن هذا هو الواقع في كل موطن: في الحيوان والإنسان، في الأسر والمدن، وأن علامة العدالة سيادة القوي على الضعيف، وإذعان الضعيف لهذه السيادة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الكل يطلب السعادة، فكيف يستطيع أن يعيش سعيدًا من يخضع لأي شيء كان قانونًا أم إنسانًا؟ ألا إن العدالة والفضيلة والسعادة على حسب الطبيعة أن يتعهد الإنسان في نفسه أقوى الشهوات ثم يستخدم ذكاءه وشجاعته لإرضائها مهما تبلغ من قوة، مع تظاهره بالصلاح لإسكات العامة والانتفاع بحسن الصيت، ولا يتسنى هذا لغير الرجل القوي؛ لذلك ترى العامة تعنف الذين تعجز عن مجاراتهم لتخفي بهذا التعنيف ضعفها وخجلها من هذا الضعف، وتعلن أن الإسراف عيب محاولة أن تستعبد من ميزته الطبيعة من الرجال، وتشيد بالعفة لقصورها عن إرضاء شهواتها الإرضاء التام، وبالعدالة لجبنها وقعودها عن عظائم الأمور، ولو صح ما تقول من أن السعادة في الخلو من الحاجات والرغائب لوجب أن ندعو الأحجار والأموات سعداء.

(ب) هذي دعاوى السوفسطائيين، فلنسألهم أولًا: أليس يتفق مع الطبيعة أن الكثرة أقدر من الفرد؟ فإن كانت الكثرة هي التي فرضت القانون فهي الأحسن من حيث إنها الأقدر وقوانينها حسنة حسب الطبيعة؛ لأنها قوانين الأقدر، وإن كانت ترى أن العدالة تقوم بالمساواة وأن الظلم أقبح من الانظلام فرأيها مطابق للطبيعة، وإذن فلا تعارض بين الطبيعة والقانون. ولنسألهم ثانيًا: من هو الأحسن الأقدر الذي يتمدحون به؟ وهل هاتان الصفتان متلازمتان أم يمكن أن يكون إنسان حسنًا ضعيفًا معًا، قويًّا رديئًا معًا؟! مهما نقلب المسألة فلا محيص من التسليم بأن الأحسن هو الأحكم في عمله، أيًّا كان هذا العمل، وأن الحكيم بالإجمال هو الملتزم جادة القصد والاعتدال، والحكيم في السياسة على الخصوص هو الذي يحقق في نفسه هذا الاعتدال ويضبط شهواته قبل أنْ يحكم الآخرين، وإلا ساءت حاله وحالهم جميعًا، ولنتصور رجلهم الأقوى الذي يقيمونه مثلًا أعلى وقد بلغ إلى قمة السلطان فصار طاغية لا يردعه رادع من ضميره ولا من الناس ولا تشتهي نفسه شيئًا حتى تنال من اللذات أصنافًا، هل هو سعيد؟ كلا، بل إن حياته مخيفة تعسة فإن جزء النفس الذي تقوم فيه الشهوة لا يعرف القصد ولكنه يميل بالطبع إلى الإسراف، ولما كان الاشتهاء ألمًا من الحرمان كان إنماء الشهوات لأجل إرضائها عبارة عن تعهد آلام في النفس لا تهدأ، وكانت حياة الشهوة موتًا متكررًا، مثلها مثل الدن المثقوب تصب فيه فلا يمتلئ، أو مثل الأجرب لا يفتأ يحس حاجته لحك جلده فيحك بقوة فتزيد حاجته ويقضي حياته في هذا العذاب، أو مثل مدينة رعاعها هائجة مائجة، أو مثل مسخ متعدد الرءوس، وسبع جائع تمزقه الشهوات وتتغذى بلحمه ودمه وهو لا يملك فكاكًا بعد أن ارتمى بين أيديها عبدًا وضحية، هذا المخلوق لا يمكن أن يحبه الناس ولا ترضى الآلهة عنه، بل لا تمكن معاشرته فلا يذوق لذة الصداقة، فهو شقي للغاية، والدولة التي يحكمها أشقى الدول.

(ﺟ) فلا تقل: إن السعادة تقوم في الشهوة القوية وفي اللذة بالإطلاق، ولكن قل: إن الإنسان أسعد في النظام منه في الإسراف، ولو اتبعنا حساب أصحاب اللذة بشرط أن نضبط الحساب لوجدنا أن الحياة الفاضلة هي أيضًا ألذ حياة، تمتاز بخفة الانفعال وضعف اللذة والألم، ولكن اللذة فيها أغلب وأدوم، في حين أن الألم أغلب وأدوم في حياة الرذيلة، فالقائلون باللذة لا يقدرون مرمى قولهم ولا يدرون ما يريدون: يطلبون السعادة وفق الطبيعة، فتنكل بهم الطبيعة شرَّ تنكيل، وتؤيد القانون الذي يسخرون منه، وما ذلك إلا لأن القانون مستخرج من الطبيعة مفهومة على حقيقتها، وهي تضطر الناظر في السيرة الإنسانية أن يعدل عن اللذة إلى المنفعة، وأن يحكم على الأولى بالثانية، فيقر أن من اللذات ما هو حسن أي نافع، وما هو رديء أي ضار، وأن من الآلام ما هو حسن نافع كتعاطي الدواء وتحمل العلاج، وما هو رديء ضار، وأن اللذات والآلام الحسنة هي التي تطلب، واللذات والآلام الرديئة هي التي تجتنب، وأن النافع ما يجلب الخير، والضار ما يجلب الشر، والمنفعة التي توسم بالخير هي التي تكمل الشيء وفق حقيقة هذا الشيء، والضرر الذي يوسم بالشر هو الذي ينتقص الشيء أو يقضي عليه، فإن كل شيء إنما يقوم بالنظام والتناسب فإذا اختل النظام فقد الشيء قيمته وفضيلته، إن الذين نسميهم أخيارًا وأشرارًا يحسون اللذة والألم على السواء فليس الأخيار أخيارًا باللذة بل بالخير، وليس الأشرار أشرارًا بالألم بل بالشر، وكما أن الكيفية التي تحدث في الجسم عن النظام والتناسب تدعى الصحة والقوة، فإن النظام والتناسب في النفس يسميان القانون والفضيلة.

(٣٨) الفضيلة

(أ) الفضائل ثلاث تدبر قوى النفس الثلاث: الحكمة فضيلة العقل تكمله بالحق، والعفة فضيلة القوة الشهوانية تلطف الأهواء فتترك النفس هادئة والعقل حرًّا، ويتوسط هذين الطرفين الشجاعة وهي فضيلة القوة الغضبية تساعد العقل على الشهوانية فتقاوم إغراء اللذة ومخافة الألم، والحكمة أولى الفضائل ومبدؤها؛ فلولا الحكمة لجرت الشهوانية على خليقتها، وانقادت لها الغضبية، ولو لم تكن العفة والشجاعة شرطين للحكمة تمهدان لها السبيل وتتشرفان بخدمتها لما خرجتا من دائرة المنفعة إلى دائرة الفضيلة؛ إذ «ما الهرب من لذة لنيل أعظم سوى عفة مصدرها الشره، وما خوض الخطر لاجتناب خطر آخر سوى شجاعة مصدرها الخوف، ليست الفضيلة هذه الحسبة النفعية التي تستبدل لذاتٍ بلذاتٍ وأحزانًا بأحزانٍ ومخاوفَ بمخاوفَ كما تستبدل قطعة من النقد بأخرى؛ فإن النقد الجيد الوحيد الذي يجب أن يستبدل بسائر الأشياء هو الحكمة، بها نشتري كل شيء ونحصل على كل الفضائل، أما الفضيلة الخالية من الحكمة والناشئة عن التوفيق بين الشهوات فهي فضيلة عبدة.»٢ فالفضيلة إذن من جنس العقل والنفس ولا يسوغ أن نذكرها إلا بالإضافة إليهما، والحياة الفاضلة لا تستمد قيمتها من لذتها أو منفعتها بل من هذه الإضافة، ويستحيل على من ينكر النفس والعقل أن يبلغ إلى معنى الفضيلة.
(ب) وإذا ما حصلت هذه الفضائل الثلاث للنفس فخضعت الشهوانية للغضبية، والغضبية للعقل، تحقق في النفس النظام والتناسب، ويسمي أفلاطون حالة التناسب هذه بالعدالة باعتبار أن العدالة بوجه عام إعطاء كل شيء حقه، فليست العدالة عنده فضيلة خاصة ولكنها حال الصلاح والبر الناشئة عن اجتماع الحكمة والشجاعة والعفة، أما العدالة الاجتماعية فهي تحقيق مثل هذا النظام في علاقات الأفراد، فإن الرجل الصالح في نفسه صالح بالضرورة في معاملاته والعكس بالعكس، بل إن العدالة تستتبع الإحسان تامًّا شاملًا، فلا نحدها بأنها الإحسان إلى الأصدقاء والإساءة إلى الأعداء؛ لأن الإساءة إساءة للنفس أولًا، فالذي يقابل الشر بالشر يفقد عدالته ويزيد الشرير شرًّا فتنتج هذه العدالة المزعومة ضدها من الناحيتين وهذا خلف، استمع إلى سقراط يتحدى السوفسطائيين، ويقلب آيتهم رأسًا على عقب؛ حيث يقول: «أنا لا أبتغي ارتكاب الظلم ولا تحمله، ولكن إذا وجب الاختيار فانا أختار الثاني.» ويقول: «أنا أنكر أن يكون منتهى العار أن أصفع ظلمًا أو أن تقطع أعضائي أو أن أسلب مالي، وأدعي أن العار يلحق المعتدي وأن الظلم أقبح وأخسر لصاحبه منه لضحيته.»٣

(ﺟ) وتستتبع العدالة السعادة مهما يكن من حال الجسم وشئون هذه الحياة؛ لأن العدالة خير النفس، والنفس أسمى وأبقى من الدنيويات جميعًا؛ فقد تنزل بالعادل المصائب ويتهم كذبًا ويجلد ويعذب ويوثق بالأغلال وتكوى عيناه ويعلق على صليب وهو سعيد بعدالته، أما الطاغية الذي ينكل بالناس، وأما السياسي الذي يوقع بخصومه فكلاهما شقي حقيق بالرثاء؛ لأن الظلم أعظم الشرور، وليست المسألة بيننا وبين السوفسطائيين إن كان الظالم منتصرًا دائمًا أم غير منتصر ولكن إن كان سعيدًا أم شقيًّا، وقد أوردنا لها حلًّا أولًا لما خاطبناهم بلغتهم وجادلناهم من وجهتهم فبينا أنه تعس معذب في جسمه وشعوره، والآن وقد عرفنا النفس والفضيلة نستطيع أن نسلم لهم جدلًا بأنه موفق هانئ في ظلمه ونؤكد مع ذلك أنه شقي غاية الشقاء؛ لأنه ظالم، وأن العادل سعيد؛ لأنه عادل، بل نتحداهم مرة أخرى ونذهب إلى أن الظالم أشقى إن لم يكفر عن آثامه، ومعنى التكفير تحمل القصاص العادل، وكل ما هو عادل فهو جميل فتحمل القصاص جميل، وهو خير يستقيم به النظام وتخلص به النفس من شرها الذي هو أعظم الشرور؛ لأنه شر النفس، وكما أن علاج الطبيب مفيد ولم يكن مستحبًّا وأن السعادة الكبرى للجسم أن لا يمرض أبدًا ويليها أن يشفيه الطب إذا مرض، فإن أسعد الناس البريء من الشر ويليه الذي يشفى من شره، أما الذي يحتفظ بشره فأشقى الناس لا يدري أن مصاحبة الجسم المريض لا تعد شيئًا مذكورًا بالقياس إلى مصاحبة النفس المريضة، وكما أن المريض يسعى إلى الطبيب ويتحمل الكي والشق، كذلك يجب على الخاطئ أن يسعى إلى القاضي بنفسه فيعترف بخطيئته ولا يكتمها في صدره، ويطلب العقاب ولا يتهرب منه، فإن استحق الجلد قدم جسمه للسوط أو استحق الغرامة أداها أو النفي رحل عن وطنه أو الموت تجرعه، فإن التكفير أفضل الخيرات بعد البر.

«هذي حقائق قائمة على أدلة من حديد وماس» من يعلمها بأدلتها ومراميها يأتِ الخير حتمًا من حيث إن الإنسان يطلب الخير بالضرورة ويستحيل عليه أن يؤثر الشر مع علمه بالخير علمًا صحيحًا، أما الذي يعلم الخير ويأتي الشر فعلمه ناقص وحقيقته أنه «ظن» قلق عار من الأصول والنتائج لا يقوى على إغراء اللذة والمنفعة،٤ فالفضيلة علم والفاضل هو الحاصل على العلم بالخير يعرف ما يجب أن يُفعل في كل حالة؛ لأن نظره شاخص دائمًا إلى الخير المطلق، فالفاضل دليل يجب الاسترشاد بفكره كما يسترشد بالقيثاري لتعلم العزف على القيثارة، أما الرذيلة فجهل بالخير الحقيقي واغترار بالخير الزائف.٥

(٣٩) الأخلاق والجدل الصاعد

(أ) كل هذا الحوار وكل هذا الجهد في إقامة الأخلاق اضطر إليهما أفلاطون لمحاربة جهل السوفسطائيين، ولكنه سلك طريقًا آخر معبدًا هينًا هو طريق الجدل: فإن للإرادة جدلها كما أن للعقل جدله، طريقان متوازيان يقطعان نفس المراحل ويتقابلان عند نفس الغاية في اللانهاية … غاية تتلاشى دونها الغايات وتسقط الاعتراضات وتستقر عندها النفس في غبطة ليس بعدها غبطة، فلنسرْ إذن وراء أفلاطون نرَ أن الحياة الحكيمة هي المطلب الحقيقي للنفس، وأن الجهل هو علة الإعراض عنها والامتناع عليها؛ ذلك أنا إذا تأملنا النفس وجدنا فيها قوة عظمى تحركها أبدًا هي الحب، والحب اشتهاء صادر عن الحرمان؛ إذ ما من أحد يشتهي ما هو حاصل له، هو قلق دائم وشوق إلى الخير أي إلى ما شأنه أن يعوض من الحرمان وجودًا فيملأ فراغ النفس، فالحب مبدؤه الخير وغايته الخير هو وجود ناقص ووسط متحرك من الحرمان إلى الوجود الذي لا يفنى، هو اشتهاء الحصول على الخير حصولًا دائمًا، هو جهد الكائن الفاني في سبيل الخلود، فإن اشتهاء الخلود متحد باشتهاء الخير وليس يعقل أن يطلب الخير إلى أجل.

(ب) ويتجه الحب أول ما يتجه إلى جمال الأجسام والأشكال، عند هذا الجمال يقف الأكثرون ظانين أنه الغاية، ولكن النفس الحكيمة تدرك أنه زائف زائل لا يبرد شوقها ولا ينضب معين حبها، فتجاوز هذا الوهم، وتدرك أن الجمال المتحقق في جسم هو أخ للجمال المتحقق في سائر الأجسام، وأن الجمالات الجسمية أشباه بعيدة لجمال واحد بعينه يحويها في وحدته هو مثال الجمال المحسوس فتخلص النفس من التعلق بواحد وتمد إعجابها ومحبتها إلى الجمال الحسي أينما تألق لعينيها، ثم تدرك أن ما تحب في الأجسام إنما هي صفاتها، وأن هذه الصفات فائضة عليها من النفس مصدر حياتها، فترتفع من المعلول إلى العلة وتنفذ إلى النفس، تنفذ إليها مهما كان غلافها دميمًا لعلمها أن النفس جميلة في ذاتها فتتعلق بها، ثم تعلم أن النفوس مشتركة في جمال واحد هو الجمال المعنوي، فتصعد من جمال النفوس إلى جمال الفنون، فإلى جمال العلوم النظرية، ولا تزال تصعد من علم إلى علم حتى تبلغ إلى الجمال كله، فتقف متأملة وتتهيأ بهذا التأمل إلى مشاهدة الجمال المطلق غير المخلوق وغير الفاني، لا يزيد ولا ينقص ولا يتغير بحال، الجمال بالذات الذي يحب لذاته، من يشاهده يتعلق به ويخلد فيه، إن ما يعطي قيمة لهذه الحياة إنما هي مشاهدة الجمال السرمدي نقيًّا لا تشوبه شائبة، بسيطًا لا تغطيه أشكال وألوان مصيرها إلى الفناء. هذي مراحل الحب يقطعها في البحث عن ضالته وشفاء لغليله فهو واسطة ومساعد يحفز النفس إلى الكمال، ويهيج فيها الذكرى القديمة: ذكرى المثل والحياة السماوية الأولى، ذكرى الفردوس المفقود تحن إليه بكل جوارحها، فالمحب الحقيقي الكامل — الأفلاطوني — هو الفيلسوف يزدري الجمال الزائل الذي يملأ النفس جنونًا؛ ليتعلق بالجمال الدائم.٦
(ﺟ) انظر الآن إلى أفلاطون يصور هذا المحب الكامل والحكيم العادل رجلًا حيًّا يشعر ويعقل ويتكلم: هذا الرجل هو سقراط في سجنه وقد دنا أجله، ليس يكفي القول في وصف حاله أنه لا يخشى الموت أو أنه ينتظره بشجاعة فهو مغتبط به أشد اغتباط، هو يعلم أننا ملك الآلهة وأن الانتحار انتقاض على إرادتهم، ولكنه يرحب بالموت يأتي على يد غيره؛ لأن الفيلسوف يحس الشوق إلى الإلهيات، ويحس ثقل الجسم يعوقه عن اللحاق بها، فالموت خلاص النفس وبداية حياة جديدة مع الآلهة، والفيلسوف الحق يجتهد ساعة فساعة أن يعيش في هذه الدنيا العيشة الروحية التي يشتهيها، وأن يتعجل الحياة الأخرى بممارسة العفة بمعناها الأسمى، وهو الرغبة عن اللذة والتجرد من الجسم والمران على الموت، فيبلي جسمه ويصفيه من المادة بقدر الاستطاعة؛ لأنه يعلم أن سعادته في التشبه بالله!٧
١  انظر في «غورغياس» القسم الثالث بأكمله، وفي «الجمهورية» م١ و٢ و٩.
٢  «فيدون» ص٦٨-٦٩ باختصار.
٣  «غورغياس» ص٥٠٦–٥٠٨ وغيرها.
٤  بهذا التمييز بين العلم والظن أراد أفلاطون أن يصحح موقف سقراط (٢٦–ﺟ).
٥  «غورغياس» والجمهورية م١ و٢ في مواضع مختلفة.
٦  «المأدبة» ص٢٠١، (ﻫ)، ٢١٢ (ﺟ).
٧  «فيدون» ص٦١ (ﺟ)، ٦٨ (ﺟ). وقد رسم أفلاطون في «فيلابوس» — وهي متأخرة عن المحاورات التي ذكرناها في هذا الفصل — صورة لحياة «معتدلة» يقول بعض مؤرخي الفلسفة: إنه ترفق فيها وعرف للذة حقها، فنسخ بهذه الصورة تلك الحياة «العلوية» التي وصفناها. وعندنا أن هذا التعارض ظاهر يرفع باعتبار الحياة العلوية مثلا أعلى يطمح إليه ويهتدي به إلى أن يتحقق، واعتبار الحياة المعتدلة ضرورة راهنة خاضعة لأختها. فإن اللذة في «فيلابوس» مأخوذة بمعنى واسع يشمل الاغتباط بالحكمة وبالفضيلة، أما اللذة الحسية فموصوفة بأنها خداعة تمني النفس بأكثر مما تعطيها، من يجر وراءها يحيا حياة كئيبة، وليست اللذة شيئًًا معينًا، ولكنها حركة في النفس تتعين بموضوعها، فإن كان الموضوع خيرًا يكمل النفس كانت هي خيرًا، ولكنها خير بالإضافة وأدنى الخيرات جميعًا. لذلك يؤلف أفلاطون مزاج الحياة المعتدلة أولا من كل ما هو حكمة: الجدل فالعلوم فالفنون فالظنون الصادقة في الحياة العملية. وثانيًا من اللذات التي تصاحب الفضيلة. فهو باقٍ على عهده أمين لنظرية المثل، أراد أن يرضي نزوعه إلى التوفيق وتأليف الأمزجة ولم يغير شيئًا من مذهبه، والتشبه بالله ما يزال الغاية في «القوانين»، يؤكدها بكل قوة (ص٧١٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤