الفصل الثالث

الطبيعة

(٥٤) العلم الطبيعي وأقسامه

(أ) الوجود الطبيعي هو الذي يتعلق بالمادة في الحقيقة وفي الذهن، فإنا مهما نحاول فلن نستطيع أن نتصور الإنسان إلا في لحم وعظم، وهكذا سائر الموجودات الطبيعية في المادة التي تلائمها، وكل ما هو مادي فهو متحرك، فموضوع العلم الطبيعي الوجود المتحرك حركة محسوسة، بالفعل أو بالقوة، والحركة على أنواع، ولأجل تعيين عدد هذه الأنواع يجب الرجوع إلى معنى أعم من الحركة هو التغير أو الصيرورة: كل تغير فهو من طرف إلى طرف ضده؛ وعلى ذلك فلا تغير من اللاوجود إلى اللاوجود؛ إذ ليس بينهما تضاد، وإنما التغير من اللاوجود إلى الوجود، ومن الوجود إلى اللاوجود، ومن الوجود إلى الوجود.

أما النوع الأول فليس حركة ولكنه «كون»؛ لأن الحركة تقتضي قبلها وجود المتحرك، والكلام هنا على كونه أي على وجوده بعد لا وجود، ثم إن للحركة وسطًا ولا وسط بين اللاوجود والوجود، وأما النوع الثاني فليس حركة كذلك ولكنه «فساد»؛ إذ لا وسط بين الوجود واللاوجود، والانتقال من الأول إلى الثاني فجائي، فلا يبقى إلا النوع الثالث وهو انتقال نفس الشيء من وجود إلى وجود هو حال لهذا الشيء، ويتحرك الشيء حركات مختلفة؛ لكن لا من حيث الجوهر؛ فإن الجوهر عرضة للكون والفساد ليس غير، ولا من حيث جميع المقولات الأخرى؛ بل من حيث بعضها، فإن الإضافة لا وجود لها بذاتها، وإنما توجد بطرفيها، فتغيرها تابع لتغيرهما، والفعل والانفعال هما تغير ولا تغير للتغير، والزمان مقياس الحركة فليس هو الذي يتحرك، يبقى أن الحركة تحدث في ثلاث مقولات هي: الكيفية، والكمية، والمكان: فالحركة التي في الكيفية «استحالة»، والتي في الكمية «نمو ونقصان»، والتي في المكان «نقلة»، وفي هذه المقولات فقط يتفق الانتقال من ضد إلى ضد، والنقلة شرط الحركتين الأخريين؛ إذ لا بد فيهما من تماس المحرك والمتحرك، ولا بد لتماسهما من تقاربهما، والنمو والنقصان حركة الجسم الحي، فهو يبدأ صغيرًا فيتحرك نحو الكمية المقتضاة له حسب طبيعته، ثم يعتريه الذبول والنقصان.١

(ب) وعلى ذلك ينقسم العلم الطبيعي إلى الكلام في الموجود الطبيعي بالإجمال وهذا موضوع كتاب السماع الطبيعي، ثم في الموجود الطبيعي بالتفصيل أي أولًا: في الموجود الطبيعي المتحرك بالنقلة وهذا موضوع كتاب السماء أي العالم، وثانيًا: في الموجود الطبيعي المتحرك بالاستحالة المنتهية إلى فساد جوهر وكون آخر وهذا موضوع كتاب الكون والفساد، وثالثًا: في الموجود الطبيعي المتحرك بالنمو والنقصان أي الجسم الحي وهذا موضوع كتاب النفس ولواحقه الطبيعيات الصغرى وكتب الحيوان. وسندرس في هذا الفصل الكتب الثلاثة الأولى ونخصص الفصل الآتي للكلام على النفس.

والأصل في اسم السماع الطبيعي على قول البعض أن أرسطو ألقاه دروسًا فدوَّنه التلاميذ، وعلى قول البعض الآخر أنه يتعذر فهمه من غير الاستماع إلى معلم، والكتاب في ثماني مقالات؛ الأولى: في تجوهر الأجسام الطبيعية أي تركيبها. والثانية: في العلية والاتفاق والضرورة والغائية. والثالثة: في تعريف الحركة وفي اللانهاية. والرابعة: في المكان والخلاء والزمان. وسنلخص هذه المقالات تلخيصًا وافيًا، وكان أرسطو يعتبرها قسمًا تامًّا يسميه «في المبادئ» — الطبيعية — ويعتبر الباقي قسمًا آخر يسميه «في الحركة» وسنهمل هذا الباقي هنا إلا مسألة واحدة منه، فإن المقالة الخامسة تدور على تفصيلات في الحركة لا نرى فائدة في تتبعها. والمقالة السادسة تبحث في اتصال الجسم والمكان والزمان، وأهم ما فيها وارد في الكلام على اللانهاية، والمقالة السابعة تعنى بتفصيلات أخرى في الحركة، وقد وردت في روايتين يظن أنهما لبعض التلاميذ، وقد أقحمتا على الكتاب. والمقالة الثامنة تدلل على قدم حركة العالم — وهذه هي المسألة التي سنذكرها — وتبرهن على وجود المحرك الأول، وهذا بحث سيعود إليه أرسطو في «ما بعد الطبيعة» فنرجئه نحن تفاديًا من التكرار ولأنه أدخل في هذا العلم الأخير. وبعد ذلك نقول كلمة في كتاب السماء وأخرى في كتاب الكون والفساد.

(٥٥) تجوهر الأجسام الطبيعية

(أ) العلم معرفة العلل والمبادئ والأصول، وقد تعددت الآراء في المبادئ الطبيعية، فمن الفلاسفة من وضع مبدأً واحدًا ثابتًا مثل بارمنيدس ومليسوس، ومنهم من وضع مبدأً واحدًا متحركًا ماءً أو هواءً أو نارًا وهم طاليس وأنكسيمانس وهرقليطس، ومنهم من قال بمبادئ عدة محدودة العدد مثل أنبادوقليس، ومنهم من قال بمبادئ عدة غير متناهية العدد وهم طائفتان: واحدة ذهبت إلى أن هذه المبادئ متفقة جنسًا مختلفة شكلًا مثل لوقيبوس وديموقريطس، وطائفة أخرى ذهبت إلى أن المبادئ متباينة مثل أنكسيمندريس وأنكساغورس.

(ب) أما رأي بارمنيدس فهو عبارة عن إنكار العلم الطبيعي؛ إذ إن الأجسام الطبيعية متمايزة ومتغيرة، وهو يجعل الطبيعة كلها واحدًا ساكنًا، فهو لم يفطن إلى أن الوجود يقال على أنحاء هي المقولات العشر لا على نحو واحد، وأن كل مقولة تقال كذلك على أنحاء فيقال جوهر للإنسان والفرس والنفس، ويقال كيفية للأبيض والحار وما أشبه، فعبارته: «كل ما خلا الوجود فهو لا وجود» غير صحيحة، فإن ما خلا الوجود من وجه أي من حيث الجوهر مثلًا أو من حيث جوهر معين فقد يكون وجودًا من وجه آخر أي عرضًا أو جوهرًا آخر، وإذن فليس يلزم أنه لا شيء، كذلك الواحد يؤخذ بمعاني مختلفة فيقال على المقدار وعلى غير المنقسم وعلى الماهية، فإن قيل على المقدار كان الواحد كثيرًا بالقوة؛ لأن المقدار ينقسم إلى أجزاء، وإن قيل على غير المنقسم بطلت الكمية ولم يعد الوجود متناهيًا كما يرى بارمنيدس، ولا لا متناهيًا كما يرى مليسوس، وإن قيل على الماهية فيجب أن يفهم قول: إن الوجود واحد؛ بمعنى أن كل موجود — أي كل ماهية — فهو واحد في ذاته، لا بمعنى أن الموجودات جميعًا واحد، وإلا وقعنا في مذهب هرقليطس فاستوى معنى الخير ومعنى الشر ومعنى الإنسان ومعنى الفرس ومعنى الكيفية ومعنى الكمية، وهذا خلف، ولاتجه القول إلى عدم الوجود لا إلى وحدة الوجود، وبارمنيدس يتحدث عن الوجود كأنه ماهية متحققة في الخارج على مثال تحققه في الذهن، ولما رأى أن الأشياء واحد على نحو ما من حيث إنها تدخل تحت معنى الوجود، توهم أن الأشياء واحد على نحو لا يتفق معه أن تكون موجودات متكثرة، والواقع أن في الخارج ماهيات مشاركة في الوجود، وأن معنى الوجود جرده العقل، وأنه يقال على كل موجود بحسب هذا الموجود من حيث هو جوهر «فيوجد في ذاته» أو عرض «فيوجد في غيره» أو ماهية معينة «فيوجد بحسب هذه الماهية».

(ﺟ) وأما آراء الطبيعيين فلا تثبت للنقد كذلك، فإن تركيب الأجسام الطبيعية من مادة واحدة معينة يبطل تمايزها تمايزًا جوهريًّا ويجعلها متمايزة بالعرض فقط من حيث الشكل والحجم؛ في حين أن الملاحظة تدل على أنها تتباين بالخصائص، وأن العقل يدل على أن الاختلاف في العرض لا يحدث اختلافًا في الجوهر، وتركيب الجسم الطبيعي من عدة مواد كلها معينة ومجتمعة بمقادير قد يعلل تميزه من غيره إلى حد ما، ولكنه يبطل وحدته؛ إذ إن ما هو مؤلف من عناصر معينة لا يمكن أن يكون واحدًا في ذاته ما لم نفرض مبدأ يرد العناصر إلى الوحدة، وتتبين قوة هذه الحجة بملاحظة الكائن الحي على الأقل، فإنه واحد من غير شك مع تعدد أجزائه ووظائفه، وإنما هو واحد بشيء آخر غير الأجزاء هي النفس؛ زد على ذلك أن مبادئ الأجسام الطبيعية لا يمكن أن تكون كلها معينة وإلا صارت التغيرات جميعًا عرضية، وانتفى التغير الجوهري وهو مشاهد على الأقل في الحي يتغير إلى غير الحي بالموت والانحلال، وفي غير الحي يتغير إلى الحي بالاغتذاء والتوليد.

(د) فلأجل تفسير الأجسام الطبيعية وتغيراتها يجب القول: إن المبادئ ثلاثة فقط، ويتبين ذلك من النظر في التغير، فإنه يقتضي أولًا موضوعًا يتم فيه، وثانيًا كون هذا الموضوع غير معين في نفسه وإلا لم يمكن أن يصير شيئًا آخر، وثالثًا ما يعين الموضوع بعد اللاتعيين: فالأول الهيولى أو المادة الأولى، والثاني العدم، والثالث الصورة، فقبل التغير الشيء المتغير واحد بالعدد ولكنه يحتوي على مبدأين؛ أحدهما: يبقى بالرغم من التغير، والآخر: يحل ضده محله، ولا بد من مبدأ ثالث لإمكان التغير هو عدم الضد لقبول الضد الآخر، وهي مبادئ بمعنى الكلمة؛ أي إنها أولية لا مكونة من أشياء أخرى، وأنها متضادة لا مكونة بعضها من بعض، إلا أن الهيولى والصورة مبدآ الماهية، أما العدم فمبدأ بالعرض؛ أي إنه نقطة نهاية صورة، وبداية صورة، وليس شيئًا ثالثًا محويًّا في الجسم؛ لأن الكائن إنما يكون بارتفاع العدم لا بوجوده. ولما كانت الهيولى موضوعًا غير معين في نفسه؛ فهي ليست ماهية، ولا كمية، ولا كيفية، ولا شيئًا داخلًا في المقولات التي هي أقسام الوجود، ولكنها قوة صرفة لا تدرك في ذاتها، وإنما نضطر لوضعها وندركها بالمماثلة كما ندرك الخط شيئًا بغير صورة؛ لأنه تارة يكون في صورة، وطورًا في أخرى، وأما الصورة فهي كمال أول لهذا الموضوع أو فعل أول لهذه القوة؛ أي إنها ما يعطي الهيولى الوجود بالفعل في ماهية معينة، فهي معقولة؛ لأنها فعل؛ بل هي ما نعقل من الشيء، وباتحاد هذين المبدأين اتحادًا جوهريًّا يتكوَّن كائن واحد؛ من حيث إن كلًّا منهما ناقص في ذاته مفتقر للآخر، متمم له؛ فهما يتميزان بالفكر، ولا ينفصلان في الحقيقة؛ فلا توجد الهيولى مفارقة ولكنها دائمًا متحدة بصورة، وكذلك لا تقوم الصورة الطبيعية مفارقة للمادة؛ اللهم إلا النفس الإنسانية قبل اتصالها بالبدن، وبعد انفصالها عنه بالموت (٦٣–ﺟ، د)، وهناك صورة مفارقة أصلًا هي الله والعقول محركة الكواكب (٦٨–د، ﻫ)، وما خلا هذه الصور فليست المعقولات قائمة بأنفسها كما ذهب إليه أفلاطون، ولكنها حالة في المادة حلول الفعل في القوة، وليست المادة متشبهة بالمعقولات أو مشاركة فيها من بعيد وبالعرض، ولكنها متقومة بها، وإذن فالجسم الطبيعي موجود حقيقي، وهو واحد بوحدة حقيقية.

(٥٦) العلية والاتفاق

(أ) أنزل أرسطو إذن المثال الأفلاطوني من السماء إلى الأرض وسماه صورة، وسماه أيضًا «طبيعة»؛ فإنه يقول: ونستطيع أن نبحث مسألة تجوهر الأجسام من وجهة أخرى فنلاحظ أن من الموجودات ما هو بالطبع، ومنها ما هو بالصناعة أو الفن، ومنها ما هو بالاتفاق أو المصادفة، والأجسام الطبيعية هي الحيوانات وأعضاؤها والنبات والعناصر، وهي تختلف اختلافًا بينًا عن التي ليست بالطبع؛ فإن الموجود الطبيعي حاصل في ذاته على مبدإ حركة وسكون بالإضافة إلى المكان، أو إلى النمو والذبول، أو إلى الاستحالة، أما المصنوعات كالسرير والرداء وما أشبه فإن اعتبرناها بما هي مصنوعات لم نجد فيها أي نزوع طبيعي للحركة؛ فإن تحركت فذلك إما بالمواد المركبة منها ومن هذا الوجه، وإما بفعل الصانع، والمبدأ الذاتي للحركة والسكون في الجسم نسميه بالطبيعة، «فالطبيعة مبدأ وعلة حركة وسكون للشيء القائمة فيه أولًا وبالذات لا بالعرض»، وقد عرفنا ما هي الحركة وسنعود إليها، أما السكون فهو غاية الحركة، فإن جميع الحركات الطبيعية — ما عدا حركات الأجرام السماوية — من نقلة العناصر الأرضية ومركباتها، ومن استحالة، ومن نمو النبات والحيوان، لها حد تنتهي إليه بالطبع وتسكن عنده؛ فلا يوجد كائن يفعل أي شيء كان، أو ينفعل بأي حال من أي كائن على ما يتفق، ولا يوجد كون هو كون أي موجود عن أي موجود، ولا يوجد فساد هو انحلال شيء إلى أي شيء، أما قولنا: «القائمة فيه أولًا وبالذات» فللتمييز بين الموجود الطبيعي وغيره مما يتحرك بالصناعة أو بالاتفاق، وأما قولنا: «لا بالعرض» فيتضح معناه من ملاحظة أن الطبيب الذي يداوي نفسه فيبرأ ليس علة للصحة من حيث هو مريض؛ بل عرض أن رجلًا بعينه طبيب وقابل للصحة؛ لذلك قد تفترق هاتان الكيفيتان، وهكذا الحال في جميع المصنوعات؛ فليس واحد منها حاصلًا على مبدإ صنعه وحركته، إنما مبدأ بعضها خارج عنها كالبيت، ومبدأ البعض الآخر داخل، ولكنها علل لأنفسها بالعرض لا بالذات كما تقدم. وليست الطبيعة نفسًا كما ظن أفلاطون؛ فإن الفرق بعيد بين حركة الحي الذي يتحرك ويسكن بذاته، وحركة الجماد الذي لا يستطيع أن يبدأ الحركة ولا أن يقفها، وإنما الطبيعة هي الصورة، والصورة طبيعة الشيء ما دام الشيء، فإنه هو هو، ويفعل كل ما يفعل بصورته، أما الهيولى فليست طبيعة؛ لأنها بالقوة وما هو بالقوة لا يقال له مصنوع ولا طبيعي حتى يخرج إلى الفعل؛ أي يتخذ صورة وماهية، ويفترق أرسطو عن أفلاطون في نقطة أخرى؛ فهو حين يطلق لفظ الطبيعة على العالم لا يقصد أن يدل على موجود واحد مركب من نفس وجسم؛ بل يريد مجموع الأجسام مرتبة في نظام واحد، وحين يضيف إليها خصائصَ وأفعالًا لا يشخص الطبيعة في قوة واحدة؛ بل يريد الطبائع الجزئية بالإجمال.

(ب) وتعريف الطبيعة يستتبع البحث فيما يتميز به العلم الطبيعي من العلم الرياضي؛ فإن السطوح والحجوم والخطوط والنقط التي هي موضوع الرياضي متحققة في الأجسام الطبيعية؛ فكيف يتميز العلمان؟ إنهما يتميزان بأن الرياضي يفحص عن موضوعاته مجردة عن الجسم الطبيعي وحركاته وكيفياته المحسوسة من ثقل وخفة وصلابة وليونة وحرارة وبرودة، ولا يحتمل هذا التجريد أي خطأ من حيث إن العقل يدرك أن التجريد فعله الخاص، وإنما الخطأ في محاولة أفلاطون أن يجرد عن المادة أشياء المادة داخلة فيها، وهي الأشياء الطبيعية مثل اللحم والعظم والإنسان والشجر، لا يمكن دراستها إلا في المادة، كما لا يمكن تصور الأفطس دون تصور الأنف، بينما المنحني مثلًا لا تدخل فيه مادة بالذات، فالعلم الرياضي يستبقي المادة المعقولة التي هي امتداد فحسب، ويصرف النظر عن المادة المحسوسة الواقعة في الحركة، والعلم الطبيعي ينظر في المادة والصورة جميعًا غير منفصلتين، أما الصور المفارقة فدراستها من شأن الفلسفة الأولى، أو ما بعد الطبيعة.

(ﺟ) الآن عرفنا الجسم الطبيعي على الوجه الذي يقتضيه العلم أي بالعلة، فإن الهيولى والصورة علتان ذاتيتان يتكون منهما الشيء ويعلم بهما كما يتكون التمثال من النحاس وصورة أبولون، على أن العلة تقال أيضًا على نحوين آخرين الواحد ما تصدر عنه بداية الحركة والسكون، والثاني الغاية التي تقصد إليها الحركة، فتكون العلل أربعًا: علة مادية، وصورية، وفاعلية، وغائية، يُعنى الطبيعي بها جميعًا من حيث إن غرضه تفسير الحركة، بينما الرياضي ينظر في صورة صرفة وماهية مجردة فلا يحتاج في معرفة موضوعه لأكثر من اعتباره في ذاته، وللحركة مبدأ محرك بالضرورة؛ لأن الشيء لا يتحرك بذاته من جهة ما هو قابل لأن يتحرك، وللحركة غاية تقصد إليها بالضرورة وإلا لم تكن حركة أصلًا، ونستطيع أن نرد العلتين الفاعلية والغائية إلى الصورة على نحو ما، فإن الفاعل إنما يفعل على حسب صورته، ويحرك الشيء على حسب صورة الشيء، فإذا ما قبل الشيء الحركة تحرك بصورته وعلى حسبها، أما الغاية فإنها مرتسمة في صورة المحرك يقصد إليها، وفي صورة المتحرك يوجه إليها، بحيث ننتهي إلى أن العلل طائفتان: العلة المادية، والعلل الثلاث الأخرى مختصرة في الصورة أو الطبيعة التي بها يكون الشيء ما هو ويتحرك ويسكن (انظر أيضًا ما بعد الطبيعة م٥ ف٢).

(د) على أنه يقال أيضًا: إن الاتفاق والبخت أو الحظ علة، والاتفاق والبخت واحد إلا أن البخت أخص يطلق على الأمور الإنسانية أي تلك التي تتعلق بالاختيار، ويطلق الاتفاق على الأمور الطبيعية أي تلك التي تصدر عن الجماد والحيوان والطفل وهم جميعًا عاطلون عن الاختيار، فلا يقال للحجارة التي يشيد بها الهيكل: إنها سعيدة الحظ؛ بالقياس إلى التي توطأ بالأقدام إلا مجازًا، ولا يقال لمجيء الفرس: بخت؛ إذا كان الفرس بهذا المجيء قد نجا من الهلاك دون قصد إلى النجاة ولكنه اتفاق، وبعد فما معنى العلية هنا؟ نلاحظ أولًا أن من الظواهر ما يقع دائمًا على نحو واحد، ومنها ما يقع في الأكثر، ومنها ما يقع استثناء، وأن هذا النوع الأخير وحده هو الذي يقال عنه: إنه يقع بالاتفاق، ونلاحظ ثانيًا أن الظواهر التي تقع دائمًا أو في الأكثر تقع لأجل غاية هي التي ينتهي إليها البعض بالاختيار والبعض بالطبع، فإن كل ما يحدث لأجل غاية إنما يحدث عن الفكر أو عن الطبيعة، بينما الظواهر الاتفاقية تقع لا لغاية أي إنها تنتهي عند غاية ليست مهيأة لها بالذات، فمثلًا لقاء المدين بالسوق والحصول على الدين أمر كان يمكن أن يكون غاية للدائن لو أنه علم أنه سيلقى مدينه هناك ولكنه ذهب من غير أن يعلم ولغير هذه الغاية، فعرض له؛ إذ جاء السوق أنه جاء لقبض دينه فكان هذا بختًا، أما إذا كان يعلم أو إذا كان من عادته أن يذهب للسوق؛ لاستيفاء أمواله فإن الأمر لا يعد حينئذ من قبيل البخت، وعلى ذلك فالاتفاق تقابل علل طبيعية أو إرادية تقابلًا بالعرض، من حيث إنها لم تفعل لأجل هذا التقابل، فهو داخل في العلة الفاعلية مع هذا الفارق وهو أنه لما كانت العلة الفاعلية إما فكرًا وإما طبيعة كان الاتفاق لاحقًا للفكر وللطبيعة لا سابقًا كما توهم بعض القدماء؛ لأنه علة عرضية لمعلولاتٍ الفكر والطبيعة يحدثانها بالذات، وما هو بالعرض فهو لاحق لما هو بالذات، هو إذن علة غير معينة محجوبة عن الإنسان معارضة للعقل؛ لأن العقل يعقل الأمور التي تقع دائمًا أو في الأكثر لا الأمور الاستثنائية؛ لذلك لا يحكم العقل بين نقيضين ممكنين (٤٩–ب).

(ﻫ) فالعلل أربع كما قلنا ولا يمكن قصر العلية على المادة والفاعل والقول إن الأشياء لازمة عن سوابقها المادية والفاعلية بالضرورة كما ارتأى كثير من القدماء، إن مثلهم مثل قائل: إن الحائط يحدث ضرورة؛ لأن الأجسام الثقيلة كالحجارة تسقط إلى أسفل فتؤلف الأساس، وتصعد الأجسام الأخف كالتراب فوق الحجارة، والأخف كالخشب إلى أعلى، نحن بالفن نراعي هذا الترتيب ونضع الأشياء هذا الوضع، ولكن ليس في الأشياء ما يجعلها تتألف من أنفسها على هذا الشكل، والفن يحاكي الطبيعة أو يصنع ما الطبيعة عاجزة عن تحقيقه، وهو في الحالين يصنع لغاية فكيف يعقل أن الطبيعة تصنع لا لغاية؟ لو كان البيت شيئًا يحدث بالطبيعة لكان يحدث كما يحدثه الفن، ولو كانت الأشياء الطبيعية تحدث أيضًا بالفن لأحدثها الفن كما تحدثها الطبيعة، فإن نفس النسبة لازمة بين السوابق واللواحق في المصنوعات والطبيعيات على السواء، والأمر أوضح في النبات والحيوان وكلاهما يفعل بالطبع من غير بحث ولا مشورة، فإذا كان السنونو يبني عشه بدافع طبيعي ولأجل غاية، وكان العنكبوت ينسج خيوطه، وكانت النمل والنحل تقوم بوظائفها المعروفة، وكان النبات ينتج ورقه لحماية ثمره، ويرسل جذوره لا إلى أعلى بل إلى أسفل لامتصاص الغذاء، فمن البين أن الغائية متحققة في الطبيعة، ولا يقدح فيها أن الطبيعة تنتج أحيانًا مسوخًا فتفوتها الغاية، فإن الحي الذي لا يحقق نوعه صادر عن مادة فاسدة غير مطاوعة أو عن فاعل عاجز، لا عن عدم اتجاه الطبيعة إلى الغاية.

وإنما يقال مسخ بالقياس إلى الأصل الذي تتوخاه الطبيعة كما يقال خطأ أو لحن بالقياس إلى القاعدة النحوية، فالغائية القاعدة، والمسوخ الأخطاء، وإذا تقرر ذلك كانت السوابق المادية شرطًا ضروريًّا للغاية، ولم تكن الغاية نتيجة ضرورية لها، فتنعكس الآية ويخرج لنا معنى للضرورة لا يتنافى مع الغائية بل يدخل فيها، هو ضرورة الشرط اللازم لتحقيق الغاية بحيث تكون الغاية متقدمة على المادة مع افتقارها لها، فبناء البيت من الضروري فيه ترتيب أجزائه على ما ذكر، والسبب هو الغاية منه أي الإيواء والصيانة، وكذلك إذا أردنا نشر الخشب وجب أن نصنع المنشار من حديد وعلى الصورة المعروفة وإلا لم تتحقق غايتنا، فالضرورة تقال عن المادة؛ لأنه من الضروري أن تكون المادة كذا وأن ترتب على نحو كذا، ولكن علة هذه الضرورة هي الغاية والصورة، بحيث إن المتحقق في العالم هي الضرورة الشرطية لا الضرورة المطلقة. هذا حل أرسطو للمسألة الطبيعية، يخضع المادة للعقل والآلية للغائية، ويكسر النطاق الضروري الذي كان قدماء الفلاسفة قد ضربوه حول العالم، ويفتح مجالًا للإمكان بنوعيه: الاتفاق والحرية.

(٥٧) الحركة ولواحقها

(أ) عرفنا الطبيعة بأنها مبدأ حركة، فدراسة الحركة داخلة في هذا العلم، وللحركة لواحق فإنها خاصة بالأجسام الطبيعية المتصلة، والمتصل إما أن يكون متناهيًا أو لا متناهيًا فيتعين النظر في ذلك، ثم إن الحركة ممتنعة بغير مكان وخلاء وزمان فيجب البحث في هذه الأمور أيضًا. نقول عن الحركة: لما كان الموجود إما بالقوة وإما بالفعل فإن الحركة «فعل ما هو بالقوة بما هو بالقوة» أي تدرج من القوة إلى الفعل ووسط بين القوة البحتة والفعل التام، فإن ما هو بالقوة أصلًا غير متحرك وما هو فعل تام غير متحرك كذلك من جهة ما هو بالفعل، فالحركة فعل ناقص يتجه إلى التمام، والفعل الناقص عسير الفهم ولكنه مقبول عند العقل، وينطبق هذا التعريف على جميع أقسام الحركة، ففي المستحيل من حيث هو قابل للاستحالة الفعل هو الاستحالة، وفي النامي من حيث هو قابل للزيادة والنقصان الفعل زيادة أو نقصان، وفيما هو قابل للكون والفساد الفعل كون أو فساد، وفيما هو قابل للحركة المكانية الفعل النقلة. وإذا نظرنا في المحرك والمتحرك خرجت لنا قضيتان؛ إحداهما: أن المحرك الطبيعي متحرك هو أيضًا من جهة ما هو بالقوة؛ لأنه إنما يؤثر في المتحرك بالتماس فينفعل هذا التماس في نفس الوقت، والقضية الأخرى: أن الحركة واحدة في المحرك والمتحرك إلا أنها تسمى فعلًا باعتبارها صادرة عن المحرك، وتسمى انفعالًا باعتبارها حاصلة في المتحرك، كما يقال: صعود ونزول؛ والطريق واحدة، فإن قيل: إن المقذوف يشذ عن هاتين القضيتين من حيث إنه يتحرك بعد انفصاله عن المحرك، أجاب أرسطو جوابًا غريبًا؛ هو أن هذه الحركة تفسر بانتقال الدفع الأصلي إلى الوسط — الهواء — الذي يجتازه المتحرك فيدفع هذا الوسط المقذوف من خلف ويضعف الدفع بالتدريج بسبب ثقل المتحرك ومقاومته حتى يسكن المتحرك، فكل وسط يعتبر محركًا يحرك بالتماس، غير أن هذا التفسير بمحركات كثيرة هي أجزاء الوسط الذي يجتازه المقذوف يبطل اتصال الحركة اتصالًا حقيقيًّا، فلم لا نقول: إن فعل المحرك ينبه في المتحرك قوة معادلة تخرج إلى الفعل تدريجًا بحيث يكون المقذوف بعد انفصاله محركًا ومتحركًا من جهتين مختلفتين؟

(ب) أما اللامتناهي فحده أنه ما يمكن الاستمرار في قسمته كالمقدار أو في الإضافة إليه كالعدد، والقسمة والإضافة ترجعان إلى واحد؛ إذ إن انقسام المقدار إلى غير نهاية يتضمن قبول العدد الزيادة إلى غير نهاية، وعلى ذلك وبهذا المعنى فلا يمكن أن يوجد اللامتناهي بالفعل سواء أكان جوهرًا مفارقًا أم جسمًا أم عددًا: فإن كان جوهرًا مفارقًا كان غير منقسم ومن ثَمة لم يكن لا متناهيًا، وإن كان جسمًا طبيعيًّا أو رياضيًّا كان متناهيًا؛ لأن الجسم يحده سطح بالضرورة، ولا عبرة بوهم الخيال؛ لأن الزيادة والنقصان يحصلان في التخيل لا في نفس الشيء، وإن كان عددًا كان قابلًا للعد وممكن العبور فلم يكن لا متناهيًا، وإنكار اللامتناهي بالفعل لا يبطل اعتبارات الرياضيين؛ إذ إنهم بغير حاجة إليه ولا هم يستعملونه ولكنهم يستعملون مقادير مهما يفرضون لها من عظم فهي متناهية.

على أن اللامتناهي إن لم يوجد بالفعل فهو موجود بالقوة، لا القوة التي تخرج كلها إلى الفعل بل التي تخرج إلى الفعل بحيث لا تقف عند نهاية أخيرة ليس وراءها مزيد، فلا ينبغي أخذ لفظ «بالقوة» كما يؤخذ في قولنا: «هذا تمثال بالقوة» أي سيكون تمثالًا، كأن هناك شيئًا لا متناهيًا سيتحقق بالفعل، كلا وإنما اللامتناهي بالقوة يبقى دائمًا بالقوة ويزيد باستمرار، فهو متناهٍ من غير شك مع اختلافه بلا انقطاع، وعلى ذلك فليس اللامتناهي ما قد قال القدماء من أنه ما لا شيء خارجه، ولكنه على العكس ما خارجه شيء دائمًا، فهو ضد التام والكامل أي المحدود، وهو لا مدرك بما هو لا متناه؛ لأنه مادة من غير صورة وقوة لا تنتهي إلى فعل، وبذلك يتضح بطلان حجج زينون (١٧–ب، ﺟ) فإنها قائمة على فرض المكان والزمان مؤلفين من أجزاء غير متناهية، والحقيقة أنهما متصلان متناهيان وقابلان للقسمة إلى أجزاء غير متناهية، فعدد أجزاء المكان والزمان متناهٍ ولا متناهٍ في آن واحد لكن لا من جهة واحدة: هو متناهٍ بالفعل لا متناهٍ بالقوة، بحيث إن المقدار المتصل هو غير المقسوم القابل للقسمة، وإذن فأخيل يلحق السلحفاة؛ لأن المسافة بينهما متناهية، والسهم متحرك؛ لأن المكان والزمان متصلان كما قلنا وليسا مؤلفين من أجزاء غير متناهية بالفعل، أما حجة «الملعب» فالغلط فيها ناشئ من توهم أن الجرمين المتساويين المتحركين بسرعة متساوية يقطع كلاهما في زمن متساوٍ طول المتحرك الآخر وطول الساكن على السواء.٢

(ﺟ) وأما المكان فنوعان: مكان مشترك يوجد فيه جسمان أو أكثر، ومكان خاص يوجد فيه كل جسم أولا، فمثلًا أنت الآن في السماء؛ لأنك في الهواء، والهواء في السماء، ثم أنت في الهواء؛ لأنك على الأرض، وأنت على الأرض؛ لأنك في هذا المكان الذي لا يحوي شيئًا غيرك، فإذا كان المكان الخاص هو الحاوي الأول للجسم، كان مفارقًا للجسم خارجًا عنه؛ لأن الجسم يتنقل ويتخذ له أمكنة على التوالي، وعلى ذلك يكون المكان الخاص سطح الجسم الحاوي أعني السطح الباطن المماس للمحوي، وقد يتحرك الجسم الحاوي فيبقى الجسم المحوي ساكنًا بذاته متحركًا بالعرض ويبقى مكانه ثابتًا، ويلزم مما تقدم أن للمكان طولًا وعرضًا دون عمق؛ لأنه سطح، ويلزم أيضًا أن الجسم يقال: إنه في مكان متى وجد جسم يحويه، أما إذا لم يوجد لم يكن في مكان إلا بالقوة، كالأرض فهي في الماء، والماء في الهواء، والهواء في الأثير، والأثير في العالم، والعالم ليس في شيء ولا في مكان، فقول زينون مردود (١٧–ب)؛ لأن سطح الجسم الحاوي — أي المكان — هو في الجسم الحاوي لا كأنه في مكان بل كالحد في الشيء المحدود، فليس صحيحًا أن كل ما هو موجود فهو في مكان، ويلزم أخيرًا أن من الأشياء ما هو في المكان بالذات مثل كل جسم جزئي، ومنها ما هو في المكان بالعرض مثل النفس التي ليست جسمًا ولكنها متعلقة بجسم.

(د) وثَمة مسألة متصلة بالسابقة هي مسألة الخلاء؛ فإن القائلين به يعتبرونه نوعًا من المكان؛ أي امتدادًا خلوًا من كل جسم حتى من الهواء، يصير ملاءً حين يحل فيه جسم، وعلى هذا يكون الخلاء والملاء والمكان شيئًا واحدًا يختلف بالتصور، هم يقولون: إن الملأ لا يقبل شيئًا، وإلا لأمكن أن يحل جسمان في مكان واحد ولأمكن ذلك لأي عدد من الأجسام فاحتوى الأصغر الأكبر وهذا خلف، فإذا سلمنا بذلك وجب التسليم بضرورة الخلاء للنقلة وتكاثف الجسم الطبيعي ونمو الجسم الحي؛ لأن النقلة حلول المتنقل في أمكنة متعاقبة، والتكاثف امتلاء الخلاء المتخلل الجسم، ويحصل النمو بحلول الغذاء في خلاء، وهم يؤيدون حجتهم هذه بالإناء الذي يقبل من الماء، وهو ممتلئ رمادًا، بقدر ما يقبل وهو خلو، ولو لم يكن في الرماد خلاء لكان ذلك ممتنعًا، ولكن هذه الأقاويل ليست ملزمة، فالخلاء غير ضروري للنقلة؛ إذ إن الأجسام تستطيع أن يحل بعضها محل الآخر دون فرض خلاء كما يدفع الماء بعضه بعضًا حين يلقى فيه حجر، أما التكاثف فليس يحدث بالانضغاط في الخلاء، بل بطرد الهواء أو أي جسم آخر يتخلل الجسم المتكاثف، وهذا هو الحال في الإناء المملوء رمادًا، فإن الماء المسكوب فيه يطرد الهواء المتخلل الرماد ويحل محله، والتكاثف والتخلخل انقباض المادة نفسها أو انبساطها بما لها من قوة باطنة ولا دخل للخلاء فيهما، وأما النمو فإن احتجاجهم به يرتد عليهم؛ إذ إن الجسم إنما ينمو في جميع أجزائه، فإما أن يكون في المكان الحال فيه الغذاء جسم وحينئذ يتداخل الجسمان وهذا باطل، وإما أن لا يكون جسم بل خلاء فيكون الحي كله خلاء وهذا باطل كذلك، وبعد أن بين أرسطو أن الخلاء غير ضروري على ما قدمنا شرع يدلل على أنه ممتنع، وأدلته كلها قائمة على العلم القديم تقتضي شروحًا طويلة، فنضرب عنها صفحًا، وننتقل إلى مسألة الزمان.

(ﻫ) يلوح أن الزمان غير موجود، أو أن ليس له سوى وجود ناقص غامض؛ لأن الماضي فات والمستقبل غيب والحاضر في نقص مستمر، هذا التقضي يوحي للفكر أن الزمان حركة، ولكن الحركة خاصية المتحرك غير منفكة عنه، والزمان مشترك بين الحركات جميعًا، ثم إن الحركة سريعة أو بطيئة والزمان راتب ليس له سرعة، على أن الزمان إن لم يكن حركة فهو يقوم بالحركة، ونحن حينما لا تتغير حالتنا النفسية أو حينما لا ندرك تغيرها، فليس يبدو لنا أن زمانًا قد تقضى، وهذا هو شعور الذين تقول عنهم الأسطورة: إنهم إذ ينامون في هيكل سردا — عاصمة ليديا — بجانب رفات الأبطال، ويستيقظون، يصلون لحظة يقظتهم بأول لحظة نومهم، كأن لم يكن بين اللحظتين زمان؛ لأن هذا الزمان خلو من الشعور، إذن بين الزمان والحركة علاقة، والواقع أن الزمان متصل؛ لأنه مشغول بحركة متصلة، والحركة متصلة؛ لأنها في مكان متصل، فالمكان هو المتصل الأول، ثم إنا نجد في الزمان متقدمًا ومتأخرًا لأنا نجدهما في الحركة، ولما كانت الحركة في المكان فهما يقالان بالاضافة إلى المكان أولًا، وإلى الحركة ثانيًا، وإلى الزمان ثالثًا، وعلى ذلك يحد الزمان بأنه «عدد الحركة بحسب المتقدم والمتأخر» أي إنه يقوم في مراحل متميزة بعضها من بعض لحصولها بعضها بعد بعض ومن ثمة معدودة، ولما كانت النفس الناطقة هي التي تعد فيمكن القول: إنه لولا النفس لما وجد زمان، بل وجد أصل الزمان أي الحركة غير معدودة، وإذن فاعتبار الزمان كلًّا مؤلفًا من ماضٍ ومستقبل هو من النفس، أما ماهيته فقائمة في «الآن» يتجدد باستمرار تبعًا لاستمرار الحركة، فالزمان متصل بواسطة الآن ومقسم بحسبه بالقوة؛ أي إن الآن يصل الماضي بالمستقبل، فإذا قسمنا الزمان بالوهم كان الآن بداية جزء ونهاية جزء، فالآن حد الزمان وليس جزءًا من الزمان، كما أن النقطة ليست جزء الخط بل إن خطين هما جزءا خط واحد؛ ذلك لأنه لا يوجد حد أصغر للزمان ولا للخط وهما متصلان وكل متصل فهو ينقسم، ويلزم من تعلق الزمان بالحركة أن الموجودات الدائمة ليست في الزمان؛ لأنها ليست متحركة وليس الوجود في الزمان مرادفًا للوجود مع الزمان، وإنما الموجودات المتحركة أو القابلة لأن تتحرك هي التي في الزمان يقيس حركتها وسكونها، والحركة التي يقيسها الزمان قد تكون الكون أو الفساد والنمو والاستحالة والنقلة، ولكن هذه أولى أنواع الحركة بأن تعد؛ لأنها الوحيدة التي تتقضى على نحو راتب، والصورة الأولى للنقلة هي النقلة الدائرية، ومن هنا نشأ التصور القديم الذي كان يجمع بين الزمان وحركة السماء، والتصور الذي يعتبر التغير والزمان بما في ذلك الشئون الإنسانية خاضعة للدور.

(٥٨) قدم العالم والحركة

(أ) كان أرسطو يعتقد بقدم العالم وقدم الحركة وله في ذلك حجة كلية وجيهة بعض الشيء وحجج أخرى جزئية تكلفها تكلفًا وهي في الواقع أغاليط إن لم نقل مغالطات، وحجته التي لها بعض الوجاهة منصبة على قدم الحركة ولكنها قائمة على مبدإ كلي فيجب تقديمها، وهي تلخص فيما يلي: العلة الأولى ثابتة (٦٨–ب) هي هي دائمًا لها نفس القدرة ومحدثة نفس المعلول، فلو فرضنا وقتًا لم يكن فيه حركة لزم عن هذا الفرض أن لا تكون حركة أبدًا، ولو فرضنا على العكس أن الحركة كانت قدمًا لزم أنها تبقى دائمًا، لقد ظن أنكساغورس أن العقل ظل ساكنًا زمنًا لا متناهيًا ثم حرك الأشياء، ولكن هذا الظن فضلًا عن أنه يضيف التغير للعلة الأولى — وهذا محال — فإنه لا يبين المرجح لتدخلها لا في نفسها ولا في وقت دون آخر من أوقات الزمان المتجانس، وقد تخيل أنبادوقليس العالم يمر بدور حركة يعقبه دور سكون يليه دور حركة وهكذا إلى غير نهاية، ولكن هذا التصور لا يقوم على أساس؛ فما دام مبدأ الحركة واحدًا ثابتًا فالحركة مطردة ليس فيها صعود ولا هبوط.٣ والرد على هذه الحجة أن القول بحدوث العالم لا يعني أن مرجحًا قد استجد — مهما يكن من تصور أنكساغورس وأنبادوقليس — وإنما هو يتفق تمامَ الاتفاقِ مع ثبات العلة الأولى ويعني أن إرادة قديمة تعلقت بأن يكون العالم في الزمان فلما كان العالم لم يحدث تغير في العلة من حيث إن الإرادة قديمة، وإن مفعولها هو المتعلق بالزمان، فقدم العلة لا يستتبع قدم المعلول إلا إذا كان المعلول من شأنه أن يصدر عن علته صدورًا ضروريًّا، ولا يكون هذا شأنه إلا إذا تكافأ مع العلة، وليس بين العالم المتغير والله الثابت تكافؤ، وليس العالم ضروريًّا لله، فليس من شأن الله أن يحرك — أو يخلق — بالضرورة.
(ب) والحجج الأخرى مركبة على نمط واحد حتى لتكاد تكون حجة واحدة في الحقيقة، هي طائفتان: طائفة خاصة بقدم العالم وأخرى خاصة بقدم الحركة، فعن قدم العالم يذهب أرسطو إلى أن الهيولى أزلية أبدية، ويقول: لو كانت الهيولى حادثة لحدثت عن موضوع (٥٥–د) ولكنها هي موضوع تحدث عنه الأشياء بحيث يلزم أن توجد قبل أن تحدث وهذا خلف، ولو كانت فاسدة لوجبت هيولى أخرى تبقى لتحدث عنها الأشياء بحيث تبقى الهيولى بعد أن تفسد وهذا خلف كذلك،٤ نقول: صحيح في التغيرات الجزئية أن الهيولى ليست حادثة؛ لأنها موضوع تحدث فيه الصورة، ولكن إذا وضعنا حدوث العالم فما الذي يمنع أن تحدث الهيولى؟ ونلاحظ على الشق الثاني — «لو كانت الهيولى فاسدة …» — أنه قائم على الاعتقاد بأبدية العالم وليست هذه الأبدية ضرورية شأنها شأن الأزلية سواء بسواء.
(ﺟ) يقول أرسطو:٥ وتتبين ضرورة القول بقدم الحركة من اعتبار المتحرك، والمحرك، والزمان: أما المتحرك فلا يخلو أن يكون إما قديمًا وإما حادثًا، فإن كان حادثًا وكان الحدوث أو الكون يقتضي الحركة (٥٤–أ) كان كونه تغيرًا اقتضى حركة سابقة على البداية المزعومة للحركة وهذا خلف، وإن كان قديمًا فهو متحرك لا ساكن؛ لأن السكون ما هو إلا عدم الحركة فهو متأخر عنها يقتضي إحداثه حركة أولى قبل الحركة وهذا خلف، وأما من جهة المحرك فإن عدم الحركة يعني أن المحرك والمتحرك بعيدان الواحد من الآخر، فلأجل أن تبدأ الحركة لا بد من حركة تقرب بينهما، وهذه الحركة تكون سابقة على بداية الحركة، وهذا خلف، وأما الزمان فهو مقياس الحركة أو هو نوع من الحركة؛ فإن كان قديمًا كانت الحركة قديمة، وقد أخطأ أفلاطون في معارضة قدم الزمان (٣٥–ﺟ)؛ فإن الزمان يقوم بالآن؛ والآن وسط بين مدتين؛ هو نهاية الماضي وبداية المستقبل، فليس للزمان بداية ولا نهاية، وإلا لزم أن لا يكون زمان قبله ولا بعده، ولكن قبل وبعد يتضمنان الزمان فهذا خلف. نقول عن الحجة الأولى الخاصة بالمتحرك: ليس الخلق كونًا شبيهًا بأنواع الكون المشاهدة في هذا العالم والتي تتم في موضوع بتأثير محرك مادي، ولكنه إحداث من لا شيء، فهو ليس حركة، ولا يقتضي الحركة كما ظن أرسطو، وعن الحجة الثانية الخاصة بالمحرك نقول: لما كان الخلق إبداع الشيء بمادته وصورته فلا يمكن أن يصور بأنه حركة من العلة نحو موضوع، ثم إن العلة الأولى عند أرسطو ليست محركة كعلة فاعلية بل كعلة غائية (٦٨–ﻫ) وليس يقتضي فعل الغاية تماسًّا واقترابًا فالحجة ساقطة من الجهتين، ونجيب عن الحجة الثالثة الخاصة بالزمان أن الآن وسط بين مدتين متى بدأ الزمان، أما عند بدايته فالآن الأول أول بالإطلاق، ولا يمكن وضع زمان قبل الزمان المحدث إلا بالوهم مثل المكان الوهمي الذي نتخيله خارج العالم سواء بسواء، وأرسطو نفسه يقول أنْ ليس خارج العالم خلاء فنقول كذلك ليس قبل الزمان زمان، وكما أن «خارج» يدل في قولنا «خارج العالم» على مكان بالقوة لا بالفعل فإن «قبل» يدل على زمان بالقوة لا بالفعل. هذه حجج أرسطو ركبها للتدليل على قدم الحركة وهي لا تستقيم إلا مع الاعتقاد بهذا القدم، فأولى بها أن تسمى مصادرات لا حججًا أو أدلة، ونظن أنه إنما تورط فيها؛ لاعتقاده أن ثبات العلة الأولى يستتبع بالضرورة دوام المعلول، وكان يكفيه أن يلحظ ما بينهما من تفاوت كما ذكرنا فيعلم أن هذا التفاوت يبطل أن يكون العالم ضروريًّا ويعلم أن فعل العلة الأولى غير ضروري كذلك وإنما هو فعل حر، ثم يرقى بالتنزيه فيتصور الحرية في الله بحيث لا تتنافى مع الثبات، ولكن هذه الخطوات لم يخطها العقل إلا في المسيحية بعد أرسطو بزمن طويل.

(د) وبعد أن دلل أرسطو على قدم الحركة قال: إنها أبدية أيضًا وعرض حجة ذات شقين؛ الأول: أنه لو وقفت الحركة لبقيت الأشياء القادرة على التحريك والتحرك فتستأنف الحركة، ولكن ما القول إذا فرضنا المحرك والمتحرك بعيدين الواحد من الآخر ومن أين تأتي الحركة التي تقرب بينهما لتستأنف الحركة؟ الشق الثاني: فالحركة لا تنتهي إلا بإعدام الموجودات المحركة والمتحركة، والعلة الثابتة مفعولها ثابت، فهذا الإعدام يعني أن علته حادثة فاسدة ولإعدام هذه العلة علة فاسدة، وهكذا إلى غير نهاية بحيث لا تقف الحركة أبدًا، ولكن العلة العاقلة المريدة تستطيع أن تعدم في لحظة إذا كانت إرادتها القديمة قد تعلقت بالإعدام بعد الإحداث، وهكذا تمكن معرضة كل حجة، ولعل أرسطو كان يدرك ذلك تمام الإدراك حين قال في كتاب الجدل (م١ ف٩): إن قدم العالم والحركة من المسائل الجدلية أي التي تحتمل قولين، ولقد كان لهذه المسألة شأن خطير في المسيحية والإسلام، ونظن القارئ قد تبين أن خطرها أهون مما يقدر معظم الناس، فإذا أضفنا إلى هذه المعارضة السلبية أن الزمان عدد الحركة، وأن العدد متناه — والقضيتان لأرسطو — وأن للزمان طرفًا أخيرًا هو الآن الحاضر، خرج لنا أن للزمان طرفًا أولًا بالضرورة وبدت قضية الحدوث راجحة على قضية القدم.

(٥٩) السماء

(أ) السماء بمعنى واسع مرادفة للعالم؛ لأنها تحوي الأشياء الطبيعية جميعًا أو هي مكانها المشترك، والكلام في كتاب السماء يدور على العالم بالإجمال من جهة ما هو متحرك بالنقلة، وهو يقع في أربع مقالات: الأولى والثانية تقرران صفات العالم وهي أنه محدود أو متناهٍ واحد منظم أزلي أبدي كري، ثم تبحثان في السماء بمعناها المتعارف وهو أنها مجموع الكواكب، وتبحث المقالتان الثالثة والرابعة في حركة العناصر الأرضية، والعالم عند أرسطو قسمان كبيران متفاوتان مقدارًا وكمالًا: ما فوق فلك القمر وما تحته، ونحن نجمل الكتاب في نقط ثلاث:
  • صفات العالم.

  • الأجرام السماوية.

  • العناصر الأرضية.

(ب) العالم متناه؛ لأنه جسم، والجسم يحده سطح بالضرورة (٥٧–ب) أما أن العالم واحد فله عليه دليل نؤخره إلى النقطة الثالثة؛ لأنه قائم على نظرية «الأمكنة الطبيعية» ودليل آخر في «ما بعد الطبيعة» (٦٨–د)، والعالم منظم، هو آية فنية، هو جميل وحسن بقدر ما تسمح المادة ومطاوعتها للصورة، وقد بينا ذلك بإسهاب، والعالم قديم بمادته وصورته وحركته وأنواع موجوداته، لا يكون ولا يفسد فيه سوى جزئيات الأنواع، والعالم كري؛ لأن الدائرة أكمل الأشكال، ولأنها الشكل الوحيد الذي يمكن معه للمجموع أن يتحرك حركة أزلية أبدية ومن غير خلاء خارجه، وإليك بضع قضايا توضح ما تقدم، وهي مأخوذة من كتاب السماء ومن السماع الطبيعي (م٨ ف٧–١٠): لكي تكون الحركة قديمة يجب أن تكون متصلة، ولكي تكون متصلة يجب أن تكون واحدة لا سلسلة حركات متمايزة متعاقبة، ولكي تكون واحدة يجب أن تكون في متحرك واحد وعن محرك واحد ثابت، هذه الحركة نقلة؛ لأن النقلة أولى أنواع الحركة وشرطها (٥٤–أ) وهي الحركة الوحيدة التي يمكن أن تكون متصلة، أما الاستحالة والنمو فلهما طرفان، وبين أنواع النقلة النوع الأول النقلة الدائرية وهي وحدها التي يمكن أن تكون واحدة متصلة لا متناهية، فإن الحركة اللامتناهية لا تتم على خط مستقيم ولا على خط منحنٍ مفتوح؛ لأن لكل منهما طرفين يحدان الحركة، وحتى لو فرضنا المتحرك يعود أدراجه ويستأنف نفس الحركة، فإن كل حركة متناهية، ومهما جمعنا المتناهيات فلن نبلغ إلى اللامتناهي، فلا بد للحركة الأزلية الأبدية من خط منحن مقفل لا يصادف المتحرك عليه طرفًا يقف حركته ويقسمها إلى أجزاء متناهية، وهذا الخط المنحني المقفل دائرة تامة الاستدارة؛ لأن العلة التي يرتسم بفعلها هذا الخط مساوية لنفسها دائمًا، فليس هناك من سبب يجعل الحركة تنحني في نقطة أكثر أو أقل منها في نقطة أخرى.

(ﺟ) دوام الأجرام السماوية ودوام حركتها دليل على أن مادتها تختلف عن مادة الأجسام الأرضية المتغيرة تغيرًا متصلًا، ومادتها الأثير أو العنصر الخامس جسم ليس له ضد فهو لذلك غير متغير، طبيعته أنه لا يتحرك بغير الحركة المكانية الدائرية، بينما العناصر الأربعة ومركباتها فاسدة متحركة حركة مستقيمة من أعلى إلى أسفل وبالعكس، وليس يعني هذا كما توهم بعض المؤلفين أن السماء تتحرك بالطبع، وأن الحركة الدائرية غير مفتقرة إلى محرك بخلاف ما ارتأى أفلاطون (٣٤–ب) فإن أرسطو يقول بمحرك أول كما سبق، وبمحركين آخرين كما سيجيء، ولكن المقصود أن تكون الحركة الدائرية، وهي أكمل الحركات، ممثلة في العالم بالطبع لا بالقسر، كما أن الحركة المستقيمة ممثلة بالطبع في العناصر الأربعة، والطبع قوة مفتقرة إلى محرك يخرجها إلى الفعل، والكواكب أجسام كرية، منها سبع يقال لها: السيارة، وهي من أعلى إلى أسفل: زحل فالمشتري فالمريخ فالشمس فالزهرة فعطارد فالقمر، والباقية يقال لها: ثابتة وهي وراء السبعة، ولكل كوكب من السيارة فلك يخصه أو أفلاك كما سنرى، والأفلاك أجسام كرية مشفة مجوفة، يضاف إليها فلك الكواكب الثابتة فالفلك المحيط وراءها جميعًا، مركبة بعضها في جوف بعض، والكواكب كلها ثابتة لا تتحرك حتى على نفسها، إنما الذي يدور هو الفلك الحامل للكوكب، ولما كانت حركة الأفلاك سريعة جدًّا فإنها تسخن بالحرارة وتصير مضيئة، الفلك المحيط أو السماء الأولى هو المتحرك الأول عن المحرك الأول وهو «غلاف العالم» موازٍ لخط الاستواء باقٍ دائمًا على مسافة واحدة من الأرض، وهو دائم الدوران يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحتها في كل يوم وليلة دورة واحدة، ولما كانت الأفلاك بعضها في جوف بعض فهي متسامتة ذات مركز واحد، قطبا كل منها مماسان لما فوقه وما تحته مباشرة بحيث إن كلًّا منها متحرك بما فوقه محرك لما تحته إلى أن ننتهي إلى فلك القمر المتحرك غير المحرك، وعلى ذلك فالفلك المحيط يدير سائر الأفلاك معه: النجوم الثابتة تدور معه دورة كاملة في ٢٤ ساعة وليس لها حركة خاصة، أما السيارة فلها حركات خاصة أي إنها تدور أيضًا في اتجاهات مختلفة عن اتجاه الفلك المحيط، ولكل حركة فلك، ولكل فلك محرك مفارق غير المحرك الأول وأدنى منه، والفلك المحيط علة دوران الشمس حول الأرض، فهو علة تعاقب الليل والنهار، وعلة الظواهر الحيوية المتصلة بهذا التعاقب على وجه الأرض، وهو علة حركتها السنوية على فلك البروج، وعلة ما ينشأ عن هذه الحركة من تعاقب الفصول وما ينشأ عن هذا التعاقب من كون وفساد بحسب اقتراب الشمس من الأرض وابتعادها؛ فإن ميل فلك البروج سبب الاختلاف في تولد الحركة والضوء على فصول السنة في مختلف مناطق الأرض، وهذا أصل الدور في الكون والفساد: تتحول العناصر بعضها إلى بعضٍ، وتتكون الأحياء وتنمو وتذبل بتفاعل القوتين الفاعليتين وهما الحار والبارد، والقوتين المنفعلتين وهما الرطب واليابس تحت تأثير فلك الثوابت، وهو بمثابة الصورة العليا، والأرض بمثابة المادة الدنيا،٦ أما الأرض فهي ساكنة في مركز العالم لأنها من تراب، والمكان الطبيعي للتراب هو أسفل، وهي كرية: ولأرسطو على ذلك أدلة نذكر منها اثنين، الواحد ما يقع في منظر دوران السماء من اختلاف باختلاف عروض البلدان، والآخر ظل الأرض المستدير على سطح القمر في خسوفه الجزئي، وفي عصر أرسطو كان علماء اليونان متفقين على كروية الأرض،٧ وهو يقدر محيطها بما يقرب من ٧٣٠٠٠ كيلومتر أي نحو ضعف طوله الحقيقي، وبهذه المناسبة يرتأى أن المسافة ليست بعيدة بين إسبانيا والهند عن طريق المحيط الغربي، وكان هذا الرأي أحد الأسباب الهامة التي حملت كولمبوس على سفرته المشهورة.
(د) وما دون فلك القمر أقل اتساعًا من السماء ويختلف عنها بسبب بعده من الحركة الأولى؛ فهو دار الكون والفساد، فيه موجودات جمادية وأحياء غير عاقلة، فيه الأمراض والمسوخ والخطأ والخطيئة والاتفاق، بينا السماء دائمة، والعناصر التي تكونه متضادة فيما بينها في حين أن الأثير لا ضد له، هي متضادة من حيث الثقل ومن حيث الكيف: فهي ثقيلة أو خفيفة بالذات، وهي حارة أو باردة أو رطبة أو يابسة، وهذا التضاد أصل ما نراه من تحول العناصر بعضها إلى بعض، وهبوطها وصعودها، بينما الأثير لا كيف له ولا ثقل ولا خفة، لا يتحول ولا يحيد عن مجراه، ولكل واحد من العناصر الأربعة مكان طبيعي وحركة طبيعية إلى هذا المكان على خط مستقيم إن لم يعترضه عائق: النار إلى أعلى فهي الخفيف المطلق، والتراب إلى أسفل فهو الثقيل المطلق، والهواء تحت النار فهو الخفيف بالإضافة، والماء تحت الهواء وفوق التراب فهو الثقيل بالإضافة، وأعلى وأسفل ويمين ويسار وأمام وخلف أجزاء وأنواع للمكان، وهي تسمى بأسمائها لا بالإضافة إلينا فقط، فإنها من هذا الوجه غير مطردة تختلف باختلاف اتجاهنا، بل بالإضافة إلى الطبيعة أولًا وبالإطلاق،٨ وإذا تقرر ذلك فالعالم واحد وليس يمكن أن يكون هناك غير هذا العالم؛ لأن الجهات التي تتحرك العناصر إليها وتستقر عندها هي الجهات المطلقة، فكل مادة — إن وجدت — يجب أن تتجه إليها أي تتحد بمادة هذا العالم، وكل أثير يجب أن يتحرك حول مركز هذا العالم.

(٦٠) الكون والفساد

(أ) هذا الكتاب تتمة المقالتين الثالثة والرابعة من كتاب السماء، وهو في مقالتين تبحثان في الأجسام التي تحت فلك القمر لا من جهة النقلة بل من جهة تأليفها من العناصر الأربعة، وبعد الذي قلناه في هذا الفصل نقتصر على إشارات وجيزة فيما لا بد منه فنقول: القدماء فريقان في الكون والفساد؛ الفريق القائل بمادة واحدة يعتبرها تغيرًا كيفيًّا في هذه المادة الواحدة، والفريق القائل بمواد عدة يعتبر الكون اجتماع الأجزاء المؤلفة للجسم والفساد افتراقها، والرأيان لا يفسران التغير الجوهري أي تحول الشيء بكليته من طبيعة إلى أخرى (٥٥–ﺟ) فيتعين الرجوع إلى المذهب المذكور في السماع الطبيعي، والقول بأن العلة المادية للكون والفساد هي الهيولى القابلة للصور على التوالي، ففساد جوهر هو كون جوهر آخر والعكس بالعكس، فليس الكون كونًا من لا شيء وليس الفساد عودًا إلى العدم ولكنهما وجهان لتحول واحد، على أن تحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى أحق باسم الكون، وتحول جوهر أعلى إلى جوهر أدنى أحق باسم الفساد، مثل حدوث النار عن التراب فإنه كون بالإطلاق؛ لأن الحار صورة والبرودة عدمها، ولزيادة التعريف بالكون ندل على ما يتميز به من سائر أنواع التغير: يتميز من الاستحالة وهي التغير بالكيفية، فإنها تتحقق عندما يبقى موضوع محسوس وتكون الكيفية الجديدة كيفية لهذا الموضوع الباقي، أما في الكون فالموضوع الباقي غير محسوس وهو الهيولى، وإن اتفق للكون أن كيفية ما لجوهر ما ظهرت في الجوهر المتحول عنه فليست هذه الكيفية متخلفة عن الأول ولكنها كيفية للثاني، ويتميز الكون من نمو الحي؛ فإن النمو تغير يتناول الحجم والمقدار أي إنه يتضمن تغيرًا مكانيًّا ليس هو نقلة ولا دورانًا ولكنه انتشار في المكان مع بقاء طبيعة النامي هي هي؛ فإن النامي ينمو في جميع أجزائه على السواء، أما الكون فتغير بتناول الجوهر، وتناول الاستحالة الكيفية.

(ب) كيف يحدث الكون؟ العناصر في ذاتها مركبات من هيولى وصورة، وبهذا المعنى ليست مبادئ كما زعم أنبادوقليس، غير أن الهيولى لا توجد مفارقة، وهي موجودة أولًا في هذه البسائط؛ فبالقياس إلى المركبات الطبيعية العناصر مبادئ وأصول لا تنحل إلى أبسط منها، ولكنها تتحول بعضها إلى بعض وهي الموضوع المباشر للكون، والمركب الطبيعي المتجانس طبيعة واحدة أي صورة في هيولى، ويسمى مزيجًا — كالماء عندنا الآن — وليس المزيج اجتماع أجزاء أحد الممتزجين إلى أجزاء الآخر؛ فإن مثل هذا الاجتماع يسمى خليطًا يبقى فيه كل من المختلطين قائمًا بالفعل وهو عبارة عن تجاورهما وتماسهما، بينما المزيج جسم متجانس كل واحد من أجزائه شبيه بالكل وبأي جزء آخر، فالكون بالإجمال يقتضي فعلًا وانفعالًا، ويقتضي الفعل والانفعال التماس، ويجب أن يكون الفاعل والمنفعل متفقين بالجنس مختلفين بالنوع؛ أي أنْ يكونا ضدين أو وسطين بين ضدين، وكان بعض القدماء يقول: يجب أن يكونا متباينين ليحصل تحول، وكان البعض الآخر يقول: بل يجب أن يكونا متشابهين ليمكن تأثير الواحد في الآخر، ولكن الحق في الموقف الوسط الذي ذكرناه؛ فإن الشيء لا يدخل أي تغيير على شبيهه ولا يؤثر فيما هو مباين له بالمرة، والكون تشبه المنفعل بالفاعل فليس يخرج أي شيء من أي شيء، وفي المزيج لا يبقى الممتزجان هما هما ولا يفسدان بالكلية، ولكنهما يتفاعلان فيفسد كل منهما صورة الآخر حتى يحيله طبيعة متوسطة بين طبيعتيهما الأصليتين، فتظهر الصورة الجديدة وتبقى الصورتان الأوليان بالقوة، وتعودان فتظهران بالتحليل كما نشاهد الآن بتركيب الأوكسيجين والهيدروجين ماء ثم بتحليل الماء إليهما، وبهذا يتم هدم المذهب الآلي الذي تضطره مبادئه إلى رد المزيج للاختلاط ومعارضة الظواهر المحسوسة، وبهذا يتم تفسير الأشياء بأنها طبائع وماهيات، ومن يدري؟ لعل الكيمياء ترجع إلى هذا التفسير يوم تفرغ الفلسفة الحديثة من الخضوع للآلية — والعلم تابع للفلسفة مهما ادعى الاستقلال عنها — فيكون لأرسطو فضل السبق في هذه النقطة كما في كثير غيرها.

١  السماع الطبيعي م١ ف٢ وم٥ ف٢.
٢  انظر أيضًا م٦ ف٢ و٩، وم٨ ف٨.
٣  السماع الطبيعي م٨ بداية ف١. وم٨ ف٦ ص٢٥٩ ع ب س٢٢. ص٢٦٠ ع ا س١–١١.
٤  السماع الطبيعي م١ ف٩ ص١٩٢ ع ا س٢٥–٣٤.
٥  السماع الطبيعي م٨ ف١ ص٢٥١ ع ا س٨–٢٥١ ع ب س٢٨.
٦  انظر أيضًا: السماع الطبيعي م٨ ف٧–٩ والكون والفساد م٢ ف١٠.
٧  انظر نلينو: علم الفلك تاريخه عند العرب ص٢٦١–٢٦٣.
٨  انظر السماع الطبيعي م٤ ف١ ص٢٠٨ ع ب س٨–٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤