الفصل الخامس

ما بعد الطبيعة

(٦٤) وصف الكتاب

(أ) يشتمل الكتاب على أربع عشرة مقالة مرقومة بأحرف الهجاء اليونانية، غير أن ما فيها من تكرار كثير وما بينها من قلة التناسق يحمل على الاعتقاد أن أرسطو لم يقصد إلى جمعها كلها في مؤلف واحد وترتيبها على النحو الذي نراه؛ لذلك أسماها البعض «الكتب الميثافيزيقية» إلا أن بعضًا آخر يرفض هذه التسمية؛ استنادًا إلى أن المقالات يحيل بعضها إلى بعض؛ ويذهب إلى أنه يمكن تعيين ترتيب صحيح على ما يبدو من عدم ترتيب، فالمقالة الأولى تعرف الحكمة بأنها علم العلل الأولى وتعرض مذاهب الفلاسفة في هذه العلل، ثم تنقدها على مثل ما هو وارد في السماع الطبيعي بإضافة كلام في نظرية المثل الأفلاطونية.

والمقالة الثانية موسومة بالألف الصغرى، مما يدل على أنها أضيفت إلى الكتاب بعد أن تم جمعه، وكان الأقدمون يعزونها إلى أحد التلاميذ، ولكن إسكندر الإفروديسي يقرر أنها لأرسطو، وعلى كل حال فأسلوبها ومضمونها أرسطوطاليان، والغرض منها بيان إمكان هذا العلم بإبطال التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل، وإظهار وجوب الوقوف عند علل أولى.

والمقالة الثالثة تعرض مسائل هذا العلم وما يقوم من إشكالات بصدد كل منها، ولما كانت هذه المسائل ستعالج في المقالات التالية فإن هذه المقالة تبين وحدة الكتاب. والمقالة الرابعة في موضوع هذا العلم أي في الوجود بما هو وجود وفي المبادئ الأولى، وبالأخص في مبدأي عدم التناقض والثالت المرفوع والدفاع عنهما ضد هرقليطس وأقراطيلوس وبروتاغوراس. والمقالة الخامسة معجم فلسفي يعرِّف ثلاثين لفظًا أو أكثر، وهي بهذه الصفة لا تلتئم مع ترتيب الكتاب، ولكن أرسطو يحيل إليها في عدة مقالات منه وفي السماع الطبيعي وفي الكون والفساد، فهي بمثابة تمهيد لما بعد الطبيعة. والمقالة السادسة في تقسيم العلوم النظرية، وفي أنه لا يوجد علم بالعرض، وفي ماهية العرض، وفي الوجود المقول في الحكم أي في إضافة المحمول إلى موضوع. والمقالة السابعة في الوجود من حيث قسمته إلى جوهر وعرض، وفي الهيولى والصورة جزأي الجوهر المحسوس، وفي الرد على نظرية المثل أي إبطال كون الكليات جواهر. والمقالة الثامنة في الهيولى والصورة أيضًا من الوجهة الميتافيزيقية أي بالإضافة إلى الوجود لا بالإضافة إلى التغير كما في العلم الطبيعي. والمقالة التاسعة في القوة والفعل. والمقالة العاشرة في الواحد والكثير المقولين على الوجود. والمقالة الحادية عشرة قسمان: الأول (ف١–٧) تكرار الثالثة والرابعة والسادسة، والقسم الثاني (ف٨–١٢) تكرار لما في المقالتين الثالثة والرابعة من السماع الطبيعي عن الحركة والتغير اللامتناهي، والصلة بين القسمين ضعيفة فقد تكون هذه المقالة تلخيصًا حرره أحد التلاميذ. والمقالة الثانية عشرة في ضرورة محرك أول دائم، وفي ماهية المحرك الأول، وفي عقول الكواكب، فهي إذن تتمة المقالة الثامنة من السماع الطبيعي. والمقالتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة متصلتان بالأولى وبالثالثة، وموضوعهما عرض آراء أفلاطون الأخيرة في المثل والأعداد ونقد هذه الآراء، ولم يشرحهما ابن رشد، ولكنه يشير إليهما مرارًا، وفيهما صعوبات كبيرة، وفهمهما عسير جدًّا.

(ب) فإذا استبعدنا المقالة الثالثة؛ لأنها مجرد ذكر مسائل، والخامسة؛ لأنها معجم ألفاظ واردة في الكتاب، والحادية عشرة؛ لأنها تكرار، تبقى لنا إحدى عشرة مقالة، فإذا ضممنا الثالثة عشرة والرابعة عشرة إلى الأولى كان لنا منها مقدمة في العلم والمذاهب، ونحن نغفل المذاهب بعد الذي قلناه في فصل الطبيعة، ونرجئ نقد أرسطو لنظرية المثل إلى الكلام على الجوهر، وإذا ضممنا الثانية إلى الرابعة كان لنا منهما مقدمة في إمكان هذا العلم، وضممنا السادسة إلى السابعة والثامنة والعاشرة كان لنا منها بحث في الجوهر ولواحقه، ثم تجيء التاسعة في القوة والفعل، والثانية عشرة في الإلهيات، وهذا هو الترتيب الذي اعتمدناه في هذا الفصل.

(٦٥) ما بعد الطبيعة

(أ) كل الناس يشتهون المعرفة بالطبع: يدل على ذلك أن الإحساس يعجبهم لذاته بصرف النظر عن نفعه، وبالأخص في إحساس البصر؛ فنحن نؤثره على غيره ليس فقط حينما نقصد إلى العمل بل حينما لا نتوخى أي عمل، والسبب أن البصر أكثر الحواس اكتسابًا للمعارف واكتشافًا للفوارق، والحس طبيعي للحيوان، ولكنه يولد الذاكرة في بعضه دون بعض؛ لهذا كان الفريق الأول أذكى وأقدر على التعلم من الفريق الذي لا يذكر، والحيوان الأعجم مقصور على الخيال والذاكرة، أما الإنسان فإن ذكريات عدة متعلقة بشيء واحد تنتهي بأن تكوِّن عنده «تجربة»، وبواسطة التجربة يبلغ إلى الفن والعلم؛ فإن الفن يظهر حينما يُستخلص من معارفَ تجريبيةٍ عدة حكم كلي يطبق على جميع الحالات المتشابهة، فمثلًا الحكم بأن الدواء الفلاني شفى كالياس من المرض الفلاني ثم سقراط ثم آخرين كلًّا بمفرده فهو يرجع للتجربة، أما الحكم بأن الدواء الفلاني يشفي جميع المصابين بالمرض الفلاني فيرجع للفن، وتعددت الفنون؛ بعضها للضروريات، وبعضها للذة وزينة الحياة، ثم اكتشفت العلوم التي لا تتصل باللذات ولا بالضروريات، نشأت في البلاد التي توفر فيها الفراغ بفضل الحضارة، مثلما كانت مصر مهد الرياضيات لما كان متروكًا فيها للكهنة من فراغ كثير، وآخر مراحل العلم الفلسفة، وموضوعها العلل والمبادئ الأولى.

وهذا الترتيب التاريخي ترتيب من حيث القيمة أيضًا، فالتجربة أعلى من المعرفة الحسية البحتة، والفن أعلى من التجربة — مع تفاوت بين الفن العملي والفن الجميل — والعلوم النظرية أعلى من العلوم العملية؛١ وذلك لاعتبارات؛ منها: أولًا أن العلم بالعلة وبالكلي أعلى من العلم بالواقع فقط؛ لأن صاحبه يعلم بالقوة جميع الجزئيات المندرجة تحت الكلي، والكلي يتفاوت. ثانيًا أن الذي يعلم العلة أقدر على التعليم، وتتفاوت هذه القدرة أيضًا بتفاوت العلم بالعلة. ثالثًا أن معنى العلم أكثر تحققًا في طلب العلم لذاته لا لمنفعة أية كانت، فإن العجب هو الذي يدفع الناس إلى الهرب من الجهل؛ أي إلى طلب العلم للعلم، وهذه الخاصية أكثر تحققًا في الجزء النظري من الفلسفة فإنه هو الذي يبطل كل عجب.٢
(ب) وأعلى العلوم النظرية «الحكمة» للاعتبارات عينها، هي علم يدرس الوجود بما هو وجود ومحمولاته الجوهرية، بينا سائر العلوم يقتطع كل منها جزءًا من الوجود ويبحث في محمولات هذا الجزء فقط، ولما كنا نطلب المبادئ الأولى وأعلى العلل، فهناك بالضرورة موجود ترجع إليه بالذات هذه العلل والمبادئ؛٣ ذلك أن الوجود يؤخذ على عدة أنحاء، وفي كل نحو منها يؤخذ بالإضافة إلى طرف بعينه؛ أي إلى طبيعة واحدة، فمثلًا «صحي»، فهو راجع للصحة، ويقال على ما يحفظها وما يحدثها وما هو أثر لها وعلامة وما هو معد لقبولها، وكما أن علمًا واحدًا يبحث في كل ما هو صحي، وأن الحال كذلك في سائر الأشياء، فإن الفحص عن جميع الموجودات بما هي موجودات يرجع لعلم واحد، ولما كان الجوهر هو النحو الأول من أنحاء الوجود كان موضوع هذا العلم الفحص عن مبادئ الجوهر وعلله ولواحقه الكلية،٤ فإذا كانت الفلسفة حكمة فهذا العلم أحق أقسامها باسم الحكمة؛ لأنه ينظر في العلل الأولى بالإطلاق بينما الأقسام الأخرى تنظر في العلل التي هي الأولى في جنس ما، وهو الفلسفة الأولى لنفس السبب، يشبه أن يكون جنسًا لسائر العلوم، والفلسفة الثانية هي العلم الطبيعي، وموضوعها الجواهر المختلفة، وهو العلم الإلهي؛ لأنه يبحث في الله الموجود الأول والعلة الأولى، ولأن دراسة الله عبارة عن دراسة الموجود من حيث هو كذلك؛ إذ إن الطبيعة الحقة للوجود إنما تتجلى فيما هو دائم لا فيما هو حادث.٥
(ﺟ) ويرجع للفلسفة الأولى أيضًا النظر في المبادئ الكلية التي تعم جميع الموجودات، نعم إن الناس يستخدمونها ولكن بالقدر الذي يلائم موضوع … ولا يعرض أحد من أصحاب العلوم الجزئية للخوض في صدقها أو كذبها بعين هذا الخوض على الفيلسوف الذي يدرس الكلي والجوهر الأول، وأوكد هذه المبادئ يجب أن تتوفر فيه شروط: يجب أن يكون بحيث يمتنع الخطأ فيه «وإلا لم يبقَ شيء ثابتًا في العقل» وأن يكون أوليًّا بذاته أي غير صادر عن آخر أوليا بالاضافة إلينا أي حاصلًا لنا قبل كل اكتساب «وإلا لم يكن مبدأ وافتقر هو وافتقرنا نحن إلى مبدإ سابق عليه»، هذا المبدأ هو: «يمتنع أن يحصل نفس المحمول وأن لا يحصل في نفس الوقت لنفس الموضوع ومن نفس الجهة»٦ وهو حائز للشروط المذكورة؛ إذ ليس من الممكن البتة تصور أن شيئًا بعينه هو موجود وغير موجود كما يعتقد البعض أن هرقليطس قد قال، وقد يكون قال ولكن ليس من الضروري أن يعقل القائل كل ما يقول،٧ وهو الأعلى والأخير، إليه يستند كل برهان، ولم يطلب بعض الفلاسفة البرهان عليه إلا لجهلهم بالمنطق وعدم تمييزهم بين ما يفتقر إلى برهان وما لا يفتقر، هم يطلبون علة لما ليس له علة، ومن المستحيل البرهنة على كل قضية والتداعي إلى غير نهاية؛ فإن مبدأ البرهان ليس برهانًا، بل إن هناك حقائق لا يطلب عليها برهان، وهذا المبدأ أقلها اقتضاء للبرهان وكل ما نستطيعه بصدده هو أولًا: إقامة برهان الخلف ضد منكريه وبيان أنهم إذ ينكرونه يقرون بصدقه. وثانيًا: إدحاض الحجج التي يعرضونها لإنكاره، فمن الناحية الأولى نطلب إلى الخصم أن يقول شيئًا، فإن لم يقل كان من المضحك أن نبدي أسبابنا لمن لا يستطيع إبداء سبب أصلًا فأشبه النبات، ونحن لا نطلب إليه أن يقول: إن شيئًا ما هو موجود أو غير موجود «أي أن يلفظ قضيته تامة»؛ إذ قد يظن أن في هذا مصادرة على المطلوب، بل نكتفي منه بلفظ واحد له مفهوم عنده أو عند غيره وإلا كان عاجزًا عن التفكير والتفاهم فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين غيره، فليقل مثلًا: «إنسان» وحينئذ فهو يعني ماهية معينة يستحيل أن تكون «لا إنسانًا» فيقر ضمنًا أن ما هو إنسان ليس لا إنسانًا أي يقر بصدق المبدأ وبصدق الفوارق بين الأشياء، والواقع أن أحدًا من الناس لا ينكر ذلك، وإلا فلِمَ يتوجه فيلسوفنا إلى ميغاري بدل أن يفكر أنه متوجه إليها ويلزم داره؟ ولِمَ يحاذر السقوط في بئر تصادفه كأنه يعتقد أن السقوط ليس خيرًا وشرًّا على السواء؟٨
(د) أما الحجج التي يعرضها بروتاغوراس وأمثاله فهي إشكالات قامت في فكرهم بصدد العالم المحسوس:
  • (١)

    فقد رأوا الأضداد — كالحار والبارد — تتفق لشيء واحد فقالوا: إنها كانت فيه جميعًا؛ لأن من المحال أن يخرج وجود من لا وجود. نجيب على ذلك أن من الممكن أن يكون الشيء الواحد وجودًا ولا وجودًا في آنٍ واحد لكن لا من جهة واحدة، فمن جهة القوة من الممكن أن يكون الشيء الأضداد في آنٍ واحد أي قابلًا لها، وأما من جهة حصولها فيه بالفعل فلا.

  • (٢)
    ولاحظوا أن الشيء الواحد يبدو في آن واحد حلوًا للبعض مرًّا للبعض، أو يبدو لذات الشخص تارة حلوًا وتارة مرًّا، فقالوا أنْ ليس إحساس أصدق من إحساس؛ لأن الإحساس مجرد انفعال، ولأن كل إنسان يعتقد أن من لا يوافقه فهو مخطئ، وإذن فالإحساس الواحد والرأي الواحد صادق وكاذب في نفس الوقت، ونحن نقول: ليس بصحيح أن كل ما يبدو فهو حقيقي؛ إذ ما من شك في أن المقادير والألوان هي كما تبدو عن قرب لا عن بعد، وكما تبدو للأصحاء لا للمرضى، وأن الحقيقة ما نراه في اليقظة لا في المنام، وأن المستقبل يتحقق على ما يتوقع العالم لا الجاهل، وقد نبه إلى ذلك أفلاطون،٩ ثم إن شهادة الحس أوثق في موضوعه الخاص منها في موضوع مشترك، وليس يحدث أن حسًّا ما ينبئنا في وقت واحد وعن موضوع واحد أنه كذا وليس كذا.
  • (٣)
    واعتقدوا أن المحسوسات هي كل الموجودات، ولما كانوا يرون المحسوسات في حركة متصلة فقد ظنوا أنه يستحيل التعبير عن أية حقيقة بخصوصها، ومن هنا نشأ أبعد المذاهب تطرفًا بين أتباع هرقليطس وهو مذهب أقراطيلوس؛ فإن هذا الأخير انتهى إلى تحريم الكلام وكان يقتصر على تحريك أصبعه، ويلوم هرقليطس لقوله: إنه لا يمكن النزول في النهر الواحد مرتين، ويعلن أنه لا يمكن النزول فيه حتى مرة واحدة، ولكنهم وهموا في تصورهم هذا، فإن الأشياء لا تتغير من كل وجه بل تذهب الصورة وتبقى الهيولى تحل فيها صورة أخرى، وما دام الشيء دامت صورته وتغير من حيث العوارض فقط، ونحن إنما نعلم الأشياء بالصورة لا بالعوارض، ثم إن القول بالوجود واللاوجود في آن واحد يلزم عنه في الحقيقة أن الأشياء ساكنة لا أنها متحركة؛ إذ لا يبقى هناك شيء تتحول إليه ما دامت جميع المحمولات حاصلة لجميع الموضوعات،١٠ وهكذا ينتهي مذهب هرقليطس إلى مذهب بارمنيدس وكلاهما زائف، فالفلسفة الأولى ممكنة وإلا وجب العدول عن كل تفكير.

(٦٦) الجوهر

(أ) موضوع الفلسفة الأولى الوجود الثابت، غير أن الوجود قد يعني أيضًا الوجود العرضي والاتفاقي والوجود من حيث هو حق أي المعبر عنه بالرابطة في القضية، وكل هذه المعاني خارجة عن نطاق هذا العلم، فالوجود العرضي لا يصح أن يكون موضوع علم أيًّا كان؛ لأن العوارض عديدة لا تحصى وزائلة غير ثابتة، وكذلك يقال في الاتفاقي فهو معلول عرضي وليس يعني العلم إلا بالضروري، أما الوجود من حيث هو حق فلا يتعلق بالأشياء بل بالعقل فهو يرجع للمنطق، وإذا قلنا: «شيء صادق» وأردنا أنه موجود، وقلنا: «شيء كاذب» وأردنا أنه غير موجود، فهذا معنى آخر غير معنى الصدق والكذب بالذات، وإذا قلنا: «شيء كاذب» وعنينا شيئًا له مظهر شيء آخر «كقولنا: ذهب كاذب» ومثل الصورة أو الحلم فهذا يرجع لعلم النفس،١١ فموضوع هذا العلم الجوهر.
(ب) الجوهر أحق المقولات باسم الوجود، أما التسع الباقية فلا تسمى وجودات إلا بالتبعية؛ لأنها حالات للجوهر، وهو سابق عليها فإنها تتقوم به وهو يتقوم بذاته، وليس يعني أرسطو بقوله: «تتقوم به» أنها تنضاف إليه إضافة خارجية؛ كلا، بل إن الجوهر هو الشيء بمقولاته، ونحن إذا قلنا: «سقراط أبيض» إنما نعني أن البياض هو لشخص حاصل عليه وعلى غيره من المحمولات مؤتلفة فيه، فليس الجوهر «شيئًا مجهولًا» تحت المحمولات متمايزًا منها في الوجود كما يتخيل كثير من المحدثين، ولكنه الموضوع الذي يتصف بها، وقد يتصف بغيرها بعدها كما يدل عليه التغير؛ فإن التغير لا يفهم من غير هذا التمييز الميتافيزيقي بين الجوهر والعرض. ويقال: الجوهر على الهيولى موضوع الصورة، وعلى الصورة موضوع الخصائص والعوارض، وعلى المركب من الصورة والهيولى، ومبدأ تشخص الجوهر المادي الهيولى لا الصورة؛ فإن الهيولى هي التي تقبل الصورة وتقبضها في وجود جزئي وهي تختلف باختلاف الأفراد، ولما كانت غير معلومة بالذات فإن الأفراد لا يعلمون من حيث هم أفراد إلا بالحواس، ولا يقع الحد إلا على الصورة النوعية أو الماهية.١٢ وبناء على هذا القول ذهب الفلاسفة المسيحيون إلى أن المَلَكَ — وهو روح مفارق — نوع قائم برأسه أو صورة متشخصة بذاتها، وأن الملائكة جنس له أنواع هي في ذات الوقت أشخاص.
(ﺟ) أما الجواهر الثواني — الأجناس والأنواع — فهي معانٍ كلية وموجودات ذهنية لا أعيان قائمة بأنفسها كما ارتأى أفلاطون، ولقد أفاض أرسطو في نقد نظرية المثل،١٣ واشتد في الحملة عليها إلى حد التحامل والتعسف ومجانبة الحق أحيانًا، ونحن نقتصر هنا على حجج أربع؛ الأولى: يمتنع قيام مثل للجواهر المحسوسة فإن المادة جزء منها ولا يوجد الإنسان مثلًا إلا في لحم وعظم، فإذا فرضنا المثل مفارقة كانت معارضة لطبيعة الأشياء التي هي مثلها، وإذا فرضناها متحققة في مادة صارت متشخصة جزئية وفاتنا المقصود منها وهو أن تكون مجردة ضرورية.

الحجة الثانية: إن من المعاني الكلية ما ليس يدل على جوهر فلا يمكن أن يقابله مثال، وذلك مثل الماهيات الرياضية، والأجناس، والعوارض، والإضافات، فإن الشكل الرياضي حد المقدار ومتحقق في مادة طبعًا فحكمه حكم الجوهر المحسوس في الحجة السابقة وحكم العرض الذي لا يتقوم بذاته، والجنس كالحي والنبات والحيوان والمثلث لا يتقوم بنفسه؛ بل بأنواعه، والعرض متقوم بجوهر بالضرورة، والإضافة علاقة بين طرفين ليس لها وجود ذاتي. فإذا كانت كل هذه المعاني ذهنية صرفة فما الذي يمنع أن توجد المعاني جميعًا في العقل دون أن يقابلها مثل؟

الحجة الثالثة: إذا كان كل ما هو مشترك بين أشياء عدة يرفع إلى مقام مثال، فإن ما هو مشترك بين الإنسان المحسوس ومثال الإنسان يعتبر إنسانًا ثالثًا وما هو مشترك بين هذا الإنسان الثالث ومثال الإنسان والإنسان المحسوس يعتبر إنسانًا رابعًا وهكذا إلى غير نهاية.١٤

الحجة الرابعة: ليست النظرية مجدية شيئًا، فلم يبين أفلاطون نوع العلاقة بين المثل والجزئيات وكيفية مشاركة هذه في تلك، فلا يظهر أن للمثل أثرًا في إحداث المحسوسات ولا في استبقائها في الوجود ولا في تغيرها فإنها ثابتة وإن كانت فاعلة فيجب تبعًا لهذا الثبات أن يكون فعلها مطردًا على وتيرة واحدة، ولا يظهر أن للمثل أثرًا في علمنا بالمحسوسات فإنها مفارقة لها بعيدة منها؛ فالقول إنها مثلها وإن المحسوسات مشاركة فيها استعارة شعرية لا طائل تحتها، وكل ما فعله أفلاطون أنه أقام عالمًا خياليًّا فيه من المسميات بقدر ما في العالم الحقيقي، فكان الأول بمثابة «بطانة» للثاني عديمة الفائدة. ومع ذلك أليس كل حادث يستند إلى ضروري وكل صورة إلى نموذج؟ لقد أصاب أفلاطون في فكرته هذه وأخطأ في تشخيص المعاني، وأصاب أرسطو في بيان ما يلحق هذا التشخيص من محالات وأخطأ في نبذ الفكرة الأساسية، وسيقوم من المسيحيين من يقول: إن المعاني هي معاني الله وهي ثابتة دائمة مثله، والله خالق طبقًا لمعانيه، فيوفق بين الموقفين أحسن توفيق.

(٦٧) القوة والفعل

(أ) ينقسم الموجود إلى ما هو بالقوة وما هو بالفعل، والقوة فعلية وانفعالية: القوة الفعلية هي قدرة شيء على إحداث تغير في شيء آخر أو في نفسه من حيث هو آخر أي من حيث هو حاصل على مبدإ فاعل ومبدإ منفعل، كالرجل الذي يبرئ نفسه لا من حيث هو مريض بل من حيث هو طبيب، والقوة الانفعالية هي قدرة المنفعل على الانتقال من حال إلى حال بتأثير موجود آخر أو بتأثيره هو من حيث هو آخر،١٥ والطبيعة أيضًا مبدأ حركة لكن لا في موجود آخر بل في نفس الموجود من حيث هو هو فهي قوة بمعنى واسع،١٦ والقوى منها ما في المادة، ومنها ما في النفس الناطقة، فهي إذن نطقية وغير نطقية، لذلك كانت الفنون جميعًا قوى؛ لأنها مبادئ تغيير في آخر أو في الفنان نفسه من حيث هو آخر، والقوى النطقية قوى الأضداد، أما غير النطقية فمحدودة بالطبع إلى معلول واحد، مثل الحرارة فهي قوة التسخين ليس غير، في حين أن الطب قوة المرض والصحة جميعًا، والسبب في ذلك أن العلم علة الأشياء في العقل، ونفس العلة تفسر الشيء وعدمه، ولما كانت النفس مبدأ حركة فهي تحدث الضدين المتعلقين بعلة واحدة١٧ تحدث أحدهما أو الآخر باختيار الإرادة،١٨ ويؤخذ الفعل تارة كالحركة بالإضافة إلى القوة، وطورًا كالصورة بالإضافة إلى المادة، ولكن الحركة فعل ناقص، أما الفعل الكامل فمثل الإبصار والتفكر، وما بالقوة منه ما يخرج إلى الفعل مثل المبصر بالقوة إذا أبصر، ومنه ما لا يخرج خروجًا تامًّا مثل الخلاء وقسمة الجسم إلى غير نهاية،١٩ والقوة قريبة وبعيدة: القريبة هي التي لا تفتقر لغير فعل واحد للخروج إلى الفعل، والبعيدة هي التي تفتقر إلى تهيئة مثل البذرة فهي نبات بالقوة البعيدة، وتصير بالقوة القريبة متى تهيأت لأن تكون نباتًا.٢٠
(ب) ومن الفلاسفة من يدعي أن القوة لا توجد إلا متى وجد الفعل، وأن الذي لا يبني ليس له قوة البناء، ولكنها للذي يبني في الوقت الذي يبني، ولنا على هذا الادعاء أربعة ردود؛ الأول: إن فن البناء مكتسب وصاحبه يستطيع أن يبني بعد أن يكون قد انقطع عن البناء بخلاف الذي لم يتعلمه، فكيف اكتسب الفن وكيف استعاده؟ الثاني: إن الحال كذلك في القوى غير النطقية، فإن للمحسوس قوة التأثير في الحاس، وإلا وجب رد المحسوس إلى الحاس على مذهب بروتاغوراس. الثالث: إن إنكار القوة يلزم عنه وصف الإنسان الواحد بأنه أعمى وأصم مرات في اليوم أي كلما انقطع عن الرؤية والسمع، والحقيقة أنه راءٍ سامع؛ تارة بالقوة، وطورًا بالفعل. الرابع: إن ما لا قوة له فهو لا يفعل، وهؤلاء الفلاسفة ينتهون إلى إبطال الحركة والتغير من حيث أرادوا رفع التمييز بين القوة والفعل، والاقتصار على الفعل وحده.٢١
(ﺟ) وتمكن مقارنة القوة والفعل من حيث التقدم والتأخر، ومن حيث الحسن والقبح، فمن الوجه الأول نجد من ناحية أن الفعل متقدم بالطبع على القوة؛ لأنه يدخل في حدها؛ إذ إن القوة الفعلية إنما هي قوة؛ لأنها تستطيع أن تفعل، مثل قوة البناء هي في الذي يستطيع البناء، وقوة الإبصار في الذي يستطيع الإبصار، وهكذا الحال في القوة الانفعالية، بحيث إن معرفة الفعل سابقة بالضرورة على معرفة القوة؛ فالفعل معقول بذاته والقوة معقولة بالإضافة إليه، ونجد من ناحية أخرى أن الشيء الواحد الذي هو تارة بالقوة وتارة بالفعل القوة فيه متقدمة على الفعل تقدمًا زمانيًّا، ولكن الفعل متقدم على القوة بالإطلاق؛ لأن الشيء كان بالقوة قبل أنْ يكون وخرج منها إلى الفعل بتأثير شيء بالفعل،٢٢ ومن الوجه الثاني الفعل الحسن أحسن من القوة عليه؛ لأن القوة ليست شيئًا معينًا وإنما هي قوة الضدين، فالفعل الحسن تعيين وإبطال للضد، والفعل القبيح أقبح من القوة عليه والسبب واضح مما تقدم، وتقدم الفعل على القوة يقضي بإنكار مبدإ للشر في العالم قائم بذاته؛ لأن الشر يلزم عن القوة على ضدين أحدهما خير، فهو متأخر بالطبع عن القوة، وهو إذن في موجودات بالفعل تخالطها القوة وهي الموجودات الأرضية؛ أما الموجودات الدائمة فلما كانت خلوًا من القوة فهي خلو من الشر، فليس يوجد الشر بذاته،٢٣ وفي هذا رد على ثنائية زرادشت وأنبادوقليس وإبطال للقول بإله للشر أو مبدأ كله كراهية.

(٦٨) الإلهيات

(أ) موضوع هذا العلم الجوهر فيتعين علينا «أن نبين أنه يوجد بالضرورة جوهر دائم غير متحرك» فنقول: «الجواهر أوائل الموجودات، فلو كانت كلها فاسدة لكانت الموجودات كلها فاسدة» ولكن الحركة الدائرية والزمان أزليان أبديان (٥٨) والحركة عرض لجوهر والزمان مقياس الحركة؛ إذن توجد جواهر دائمة غير متحركة.٢٤ هكذا يفتتح أرسطو القول في إلهيات ما بعد الطبيعة، وهكذا يتكلم أيضًا في السماع الطبيعي،٢٥ ولنا على هذا النص ملاحظتان؛ الأولى: إنه يعلق دوام الجوهر الأول على دوام الحركة، وهذا دليل ساقط عندنا بعدما أثبتناه من أن الأدلة على أزلية الحركة وأبديتها غير منتجة، ثم إنه مفتقر لدليل آخر على أن كل ما يتحرك فهو يتحرك بغيره، وقد جاء أرسطو بهذا الدليل الآخر وبذل كل العناية في تأييده وهو الدليل المتين وسنذكره الآن. الملاحظة الثانية: إن أرسطو ينتقل من الجوهر بصيغة الفرد إلى الجواهر بصيغة الجمع، وسيجيء الكلام على هذه النقطة.
(ب) كل ما هو متحرك فهو متحرك بشيء آخر، والأمر بيِّن في الكائن الحي الذي وإن قلنا: إنه يتحرك بذاته إلا أن المحرك والمتحرك فيه يختلفان من حيث إنه مؤلف من نفس محركة وجسم متحرك، وللنفس قوى مختلفة يحرك بعضها بعضًا، وللجسم أعضاء تتأثر من الخارج فتسخن أو تبرد وترطب أو تيبس ويحدث فيه عن كل ذلك حركات، والحي العارف يدرك الأشياء فيحدث فيه عن هذا الإدراك نزوع وعن النزوع حركة في المكان، والأمر بين كذلك في غير الحي أو هو أبين؛ فإن غير الحي متصل متجانس فلا يمكن التمييز فيه بين محرك ومتحرك، فإن تحرك كانت حركته بمحرك خارجي هو علة كونه وصورته، أو رافع العائق له عن حركته الطبيعية الصادرة عن الصورة، وإذن فالقضية صادقة بالإطلاق،٢٦ ولكن قولنا: إن كل متحرك فهو متحرك بشيء آخر، قد يعني حركة مباشرة من المحرك إلى المتحرك، أو حركة غير مباشرة بتوسط متحرك محرك أو أكثر مثل الحجر المتحرك بالعصا، والعصا باليد، واليد بالإرادة، ففي هذه الحالة الثانية المحركات المتوسطة متناهية العدد بالضرورة، ويمتنع التداعي إلى غير نهاية في سلسلتها فنصل إلى المحرك الأول المطلوب؛ فإن كان متحركًا فهو متحرك بذاته، وتتضح ضرورة تناهي عدد المحركات المتوسطة إذا عكسنا السير وحاولنا التأدي من المحرك إلى المتحرك بدل التأدي من المتحرك إلى المحرك، فإنا نرى حينئذ امتناع البلوغ إلى المتحرك إذا لم تكن الوسائط متناهية، ولا يمكن أن يكون المحرك الأول متحركًا بذاته كما سلمنا جدلًا وإلا وجب أن ينقسم إلى جزء محرك وجزء متحرك؛ لأن شيئًا واحدًا بعينه لا يتحرك بنفس الحركة التي يحرك بها، كما أن الذي يعلِّم الهندسة لا يتعلمها في نفس الوقت؛ فإن وجد فيه جزء محرك فهذا الجزء هو المحرك الأول؛ أي إن المحرك الأول غير متحرك بالضرورة، وإن قيل: إن أجزاءه جميعًا محركة ومتحركة في آنٍ واحد؛ أي إنها تحرك بعضها بعضًا؛ أجبنا أن في هذا القول إنكارًا لبداية الحركة، ومن ثمة إنكارًا للحركة نفسها وهي واقعة، فالنتيجة أن لحركة العالم علة أولى ثابتة غير متحركة.٢٧
(ﺟ) فالجوهر الأول فعال لا كالمثل الأفلاطونية، بل إنه فعل محض لا تخالطه قوة، وإلا لم تتحق أزلية الحركة وأبديتها؛ إذ من الممكن أن ما هو حاصل على القوة لا يفعل، كما أن من الممكن أن ما هو بالقوة ينعدم من الوجود، ففعل التحريك هو ماهية الجوهر الأول، والفعل سابق على القوة إطلاقًا، وإذن فقد أخطأ اللاهوتيون الذين وضعوا في الأصل الليل (أي العدم) والسديم (أي الاختلاط والقوة) زمنًا غير متناهٍ، وأخطأ ديموقريطس وأنبادوقليس وأفلاطون الذين قالوا بحالة اتفاق وفوضى قبل حالة النظام؛ إذ لو صح قولهم لكانت القوة أولًا، ولما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ومن الفوضى إلى النظام، من حيث إن ما هو بالقوة إنما يخرج إلى الفعل بتأثير شيء هو بالفعل، فيجب القول بأن المبدأ ليس البذرة أي القوة، بل الموجود التام أي الفعل الذي تصدر عنه البذرة، وبأن نفس الأشياء — أي الأنواع — قد وجدت دائمًا.٢٨ وقد لاحظ القارئ من غير شك أن أرسطو في هذا النص ينتقل من سبق الفعل على القوة — وهذا مبدأ مسلم به — إلى قدم العالم، وهذا غير ضروري كما بينا آنفًا.
(د) لما كانت الحركة أزلية كان المحرك الأول أزليًّا، وإذا كان هناك حركات أزلية عدة وجب القول بمحركين أوائل أزليين على رأسهم أول هو مبدأ حركة سائر الأشياء،٢٩ والواقع أنه توجد إلى جانب الحركة الأولى الدائمة الواحدة الصادرة عن المحرك الأول، حركات أخرى خاصة للسيارات (٥٩–ﺟ) قد نصل في حسابها إلى ٥٥ أو ٤٧، فهناك مثل هذا العدد من الجواهر غير المتحركة، والعقيدة القديمة صادقة؛ إذ تقول: إن الكواكب آلهة، والكواكب إلهية حقًّا بشرط أن ننظر إليها في أنفسها، مجردة عما أضيف إليها فيما بعد من أساطير وتصاوير بشرية وحيوانية؛ لإقناع العامة وخدمة القوانين والمصالح المشتركة.٣٠ ولكن ما الفرق بين هؤلاء المحركين والمحرك الأول؟ يلوح من جهة أن المحرك الأول غير متحرك أصلًا لا بالذات ولا بالعرض وأن المحركين الآخرين متحركون بالعرض مع أفلاكهم كالنفس تنتقل بانتقال جسمها الذي تحركه،٣١ ويلوح من جهة أخرى أن المحرك الأول خارج العالم بينما الباقون في أفلاكهم دون أن يكون اتصالهم بها اتصال الصورة بالهيولى؛ لأنهم عقول مفارقة، ولكن هذين الفارقين عرضيان، وفكر أرسطو في هذه النقطة غامض قلق، ويزيدنا حيرة أنه بعدما تقدم يقرر أن العالم واحد ويبرهن على هذه الوحدانية بما يلي: لو كان هناك عوالم عدة لكان هناك مبادئ محركة عدة متفقة بالنوع مختلفة بالعدد، ولكن الموجود الأول بريء عن المادة فلا يمكن أن يتكثر من حيث إن المادة هي التي تكثر الصور، فالمحرك الأول واحد والعالم واحد،٣٢ ولكنا نسأل: ما القول إذن في المحركين الخمسة والخمسين أو السبعة والأربعين، وهم بريئون عن المادة كذلك؟ كيف أمكن أن يتكثروا مع كونهم أفعالًا محضة؟ لقد خالف أرسطو مبادئه في هذه المسألة الخطيرة وخرج على التوحيد اللازم من مذهبه؛ لنفس السبب الذي جعله يتشبث بقدم العالم وهو أن الله يفعل ضرورة لا اختيارًا وأن الفعل الضروري محدود إلى مفعول واحد، فكان مشركًا بأدق معنى لكلمة الشرك، لا كأفلاطون الذي يجعل آلهة الكواكب مصنوعين، ولا كالمخيلة العامة التي تضع بين الآلهة واحدًا أولًا وآخرين أدنين.
(ﻫ) نعود إلى المحرك الأول نتعرف ماهيته فنجد عند أرسطو ثلاث قضايا هي: أن المحرك الأول ليس جسميًّا، وأنه يحرك كغايةٍ، وأنه معقول ومعشوق. فلننظر في كل منها:
  • القضية الأولى: ليس المحرك الأول جسميًّا؛ لأنه إن كان جسمًا فلا يخلو أن يكون إما لا متناهيًا وإما متناهيًا، ولا يمكن أن يكون جسم لا متناهيًا (٥٧–ب) ولا يمكن أن يكون المحرك الأول جسمًا متناهيًا؛ لأنه يمتنع أن قوة متناهية تحرك حركة لا متناهية منذ الأزل وإلى الأبد،٣٣ ونحن نفضل على هذا الدليل دليلًا أعمق يذكره في موضع آخر هو أن المادة قوة ونحن نطلب جواهر دائمة لا تكون بالقوة بل تكون فعلًا ليس غير؛ فهي إذن مفارقة للمادة.٣٤
  • القضية الثانية: «المحرك الأول يحرك دون أن يتحرك، وهذا شأن المعشوق والمعقول» أي شأن العلة الغائية؛ لأن المحرك الطبيعي ينفعل طبيعيًّا (٥٧–أ)، والمحرك الإرادي ينفعل بالغاية وهي لا تنفعل به، «هو الخير بالذات فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المتعلقة به السماء والطبيعة»،٣٥ وبهذا القول يتفادى أرسطو صعوبة عاتية هي: كيف يمكن أن موجودًا غير مادي يبعث حركة مادية والتحريك عنده بالجذب أو بالدفع؟ وقد كان عرض لهذه المسألة غير مرة فارتأى مرة أن الله عند محيط العالم وأن التماسَّ ضروري ليحرك الله العالم كعلة فاعلية،٣٦ وما معنى هذا والله غير جسمي؟ وارتأى مرة أخرى أن الفاعل يماس المنفعل دائمًا ولكن العكس لا يصدق إذا كان الفاعل غير مادي، بحيث يكفي أن يماس الله العالم دون أن يماسه العالم،٣٧ وكيف يماس اللامادي المادي ويحركه حركة مادية؟ وقال في موضع آخر: إن المحرك الأول ليس في مكان،٣٨ وهذا لازم من أنه غير جسمي فيبقى أن القول بأن الله علة غائية لحركة العالم وأنه لذلك في غير حاجة لمقرٍّ معين ولا لفعل خاص يبذله، أقرب لمذهب أرسطو، ولكن هذا الموقف يثير صعوبات من نوع آخر: ففيم كان الإلحاح بأن المحرك فعال، وفيمَ كان التعريض بالمثل الأفلاطونية وهي نماذج وغايات؟ وكيف يدرك العالم الله وكيف يشتاق إليه وكيف يترجم هذا الشوق بالحركة المكانية؟ يقول أرسطو: إن السماوات تشتهي أن تحيا حياة شبيهة بحياة المحرك ما أمكن ولكنها لا تستطيع؛ لأنها مادية فتحاكيها بالتحرك حركة متصلة دائمة هي الحركة الدائرية،٣٩ وهذا كلام أدخل في باب الخيال والشعر من المشاركة الأفلاطونية، اضطر أرسطو إليه وإلى غيره مما مر بنا؛ لأنه استبعد فكرة الخلق وقصر فعل الله بالإضافة إلى العالم على التحريك فقط وجعل هذا التحريك فعلًا ضروريًّا لا حرًّا وفاته التمييز بين فعل الله أي إرادته القديمة وبين مفعوله في الخارج الذي يمكن أن يحدث وأن يتغير وأن يفسد بالإرادة القديمة دون أن يلحق الله من ذلك تغير ما.
  • القضية الثالثة: إن الله يحرك كمعقول ومعشوق، هو معقول؛ لأنه فعل محض وفعله التعقل فهو التعقل القائم بذاته، والتعقل بالذات تعقل الأحسن بالذات أي الخير الأعظم، والتعقل فيه عين المعقول، فحياته تحقق أعلى كمال ونحن لا نحياها إلا أوقاتًا قصارًا، أما هو فيحياها دائمًا أبدًا وعلى نحو أعظم بكثير مما يتفق لنا،٤٠ ومعقوله ذاته لا شيء آخر فإنه فعل محض لا يتأثر عن غيره، فإذا عقل غيره فقد عقل أقل من ذاته وانحطت قيمة فعله، فإن من الأشياء ما عدم رؤيته خير من رؤيته … فالعاقل فيه والمعقول والعقل واحد،٤١ كلام طيب ولكنه يستتبع في مذهب أرسطو أن الله لا يعلم العالم ولا يعنى به، ومع ذلك نرى الفيلسوف يلوم أنبادوقليس مرتين؛ لأنه أخرج من علم الله جزءًا من الوجود هو الكراهية ومفاعيلها فجعل الله أقل الموجودات حكمة؛٤٢ غير أنا نعتبر هذا النقد من باب الجدل فقط، ولم يكن أرسطو يتورع عن الجدل في مناقشة الفلاسفة؛ فإنه يذكر حجة أنبادوقليس وإذا هي تشبه حجته تمام المشابهة: ينزه أنبادوقليس الله عن العلم بالكراهية؛ لأنه محبة صرفة وسعيد غاية السعادة، وإذا جاز لنا أن نعتبر هذا النقد معبرًا عن فكر أرسطو استطعنا أن نُؤَوِّل كلامه هنا بأن الله لا يعلم الموجودات في أنفسها كموضوعات يتلقى عنها علمه، ولكنه يعلمها في ماهيته نموذج الوجود — والله أعلم — أما من جهة أن الله معشوق فهو «علة الخير في العالم فإنا نرى كل شيء منظمًا في ذاته ونرى الأشياء منظمة فيما بينها، وكما أن خير الجيش نظامه وأن القائد خيره أيضًا وبدرجة أعظم؛ لأنه علة النظام، فكذلك للعالم غاية ذاتية هي نظامه وغاية خارجية هي المحرك الأول علة النظام.»٤٣
    وهذا أيضًا كلام طيب كنا نود أن نختتم به هذا الفصل من غير تعليق، ولكن ما معناه في مذهب يقصر عليه الله على العلية الغائية، وإن هو أضاف إليه علية فاعلية قصرها على التحريك الدائري ليس غير، وترك العالم يدور على نفسه ويدير الشمس معه فتخرج الشمس الصور من «قوة المادة» أو تعيدها إليها بحسب موقعها على فلك البروج (٥٩–ﺟ) فتكون الأشياء وتفسد دون أن يريد الله لها ذلك أو يدري به، إن الله عند أرسطو يشبه قائدًا وقف كالتمثال اعتزازًا بكرامته، وكان هناك عساكر من خشب أخذت تحاكيه على قدر استطاعتها فتنظمت جيشًا حقيقيًّا! الحق أن اتجاه المذهب هو لناحية إله فعال، وأن تطبيق التمييز بين القوة والفعل تطبيقًا دقيقًا شاملًا يرينا أن العالم المركب من قوة وفعل مفتقر ليس فقط لمحرك بل أيضًا لموجد ترجع إليه كل أنواع التغيير وتفسر به الغائية في الطبيعة، تلك الغائية التي دافع عنها أرسطو أحرَّ دفاع ثم تركها معلقة، ولكن أرسطو هو الذي قال: إن الحقيقة الكاملة عسيرة المنال لا تنال إلا بتعاون الجهود،٤٤ وسبحان العليم الحكيم.
١  م١ ف١.
٢  م١ ف٢.
٣  م٤ ف١.
٤  م٤ ف٢.
٥  م٦ ف١.
٦  يلاحظ أن أرسطو لم يقل: «يمتنع إيجاب نفس المحمول …» لأن الامتناع المنطقي قائم على امتناع حصول الضدين معا في الوجود، فالمبدأ وجودي أولًا منطقي ثانيا، لا منطقي فقط كما يدعي معظم المحدثين.
٧  م٤ ف٣.
٨  م٤ ف٤.
٩  في «تيتياتوس» ص١٧٨ (ج د ﻫ).
١٠  م٤ ف٥. وفي الأصل يورد أرسطو الحجة الأولى ويرد عليها، ثم الثانية فالثالثة فالرد على هذه فالرد على تلك، وقد آثرنا أن نتبع كل حجة بردها. وبعد فراغه من هذا البحث يعقد فصلًا للدفاع عن مبدأ الثالث المرفوع — «الوجود إما موجود وإما غير موجود» أو «لا وسط بين نقيضين» — ولا يخرج هذا الفصل عما تقدم؛ لأن مبدأ الثالث المرفوع ما هو إلا مبدأ عدم التناقض في صيغة شرطية.
١١  م٦ ف٢–٤.
١٢  م٧ ف١ و٣.
١٣  م١ ف٩، وفي هذا الموضع يقول غير مرة: «نحن الأفلاطونيون» مما يدل على أنه كتب هذا النقد وهو ما يزال في الأكاديمية، وأن ما نقلناه (في ٣٢–ﻫ) عن محاورة «بارمنيدس» إنما يشير إليه. انظر أيضًا م٧ وم١٣ في مواضع متفرقة.
١٤  هذه الحجة مشهورة باسم «حجة الإنسان الثالث»، وهي واهية لاستحالة التداعي إلى غير نهاية كما يقرر أرسطو نفسه، ولعدم الحاجة لهذا التداعي فإن المثال طرف أول ثابت ترجع إليه الجزئيات الزائلة.
١٥  م٩ ف١.
١٦  م٩ ف٨.
١٧  م٩ ف٢.
١٨  م٩ ف٥.
١٩  م٩ ف٦.
٢٠  م٩ ف٧.
٢١  م٩ ف٣.
٢٢  م٩ ف٨.
٢٣  م٩ ف٩.
٢٤  م١٢ بداية ف٦.
٢٥  م٨ ف٦ ص٢٥٩ ع ا س١٣–٢٠، وفي مواضع أخرى.
٢٦  السماع الطبيعي م٨ ف٤.
٢٧  المرجع المذكور ف٥.
٢٨  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٦.
٢٩  نفس القول في السماع الطبيعي م ٨ ف٦ ص٢٥٨ ع ب س١٠ وما بعده.
٣٠  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٨ بأكمله.
٣١  السماع الطبيعي م٨ ف٦ س٢٥٩ ع ا س٢٠ وما بعده.
٣٢  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٨ ص١٠٧٤ ع ا س٣١ إلى نهاية الصفحة.
٣٣  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٧ ص١٠٧٣ ع ا س٥–١٢، والسماع الطبيعي م٨ ف١٠ ص٢٦٧ ع ب س١٩ إلى نهاية الفصل.
٣٤  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٦ ص١٠٧١ ع ب س٢٠–٢٢.
٣٥  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٧ ص١٠٧٢ ع ا س٢٦–١٠٧٢ ع ب س١–١٥.
٣٦  السماع الطبيعي م٣ ف٢ ص٢٠٢ ع ا س٧ وم ٨ ف١٠ ص٢٦٦ ع ب س٢٨.
٣٧  الكون والفساد م١ ف٦ ص٣٢٣ ع ا س٣١–٣٣ وف٧ ص١٠٢٤ ع ب س١٣.
٣٨  كتاب السماء ص٢٧٩ ع ا س١٨–٢٢.
٣٩  السماع الطبيعي ص٢٦٥ ع ب س١.
٤٠  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٧ ص١٠٧٢ ع ب س١٥–٣٠.
٤١  ما بعد الطبيعة م١٢ ف٩ ص١٠٧٤ ع ب س٢٠ وما بعده.
٤٢  ما بعد الطبيعة م٣ ف٤ ص١٠٠٠ ع ب س٢ وكتاب النفس م١ ف٥ ص٤١٠ ع ب س٤.
٤٣  ما بعد الطبيعة م١٢ بداية ف١٠.
٤٤  ما بعد الطبيعة م٢ بداية ف١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤