الفصل السابع

السياسة

(٧٥) الأسرة

(أ) كتاب السياسة من الكتب المطولة وهو يقع في ثماني مقالات يرجع ترتيبها المألوف إلى القرن الأول قبل الميلاد على أقل تقدير، ولكن هذا الترتيب موضع نقاش بين العلماء، ويبدو الكتاب كأنه مجموعة رسائل خمس تتفاوت طولًا:
  • (١)

    المقالة الأولى في تدبير المنزل، وهي مقدمة لدراسة الدولة.

  • (٢)

    المقالة الثانية في الحكومات المقترحة على أنها مثلى وفي أكثر الدساتير اعتبارًا.

  • (٣)

    المقالة الثالثة في الدولة والمواطن وفي تصنيف الدساتير.

  • (٤)

    المقالات الرابعة والخامسة والسادسة في الدساتير الوضعية.

  • (٥)

    المقالتان السابعة والثامنة في الدولة المثلى.

وجميع هذه المقالات ما خلا الثانية ناقصة أو مشوهة وفيها تكرار كثير وتفصيلات طويلة في كل شكل من أشكال الحكم، ونحن نقتصر هنا على بعض النقط الهامة.

(ب) كيف تتكون الجماعة السياسية؟ أما من حيث الزمان فإن أول جماعة هي الأسرة والغرض منها القيام بالحاجات اليومية، وتليها القرية وهي اجتماع عدة أسر لتوفير شيء أكثر من الحاجات اليومية، ولا يذكر أرسطو هذا الشيء، ويمكن القول: إن القرية تسمح أكثر من الأسرة بتقسيم العمل وبإرضاء حاجات أكثر تنوعًا وبحماية أتم من غارة الإنسان والحيوان، والدور الثالث اجتماع عدة قرى في هيئة تامة هي المدينة أرقى الجماعات تكفي نفسها بنفسها وتضمن للأفراد ليس فقط المعاش بل أيضًا المعاش الحسن، وهذا هو فصلها النوعي، فمهمة المدينة توفير الأسباب لكي يبلغ أفرادها سعادتهم، وهذه الأسباب مادية وأدبية، والأولى خاضعة للثانية؛ لأن سعادة الإنسان خلقية عقلية، فالمعاش الحسن يشمل شيئين: العمل الخلقي والعمل العقلي، من الوجهة الأولى تعاون المدينة الأفراد على اكتساب الفضائل وتقدم لهم فرصًا أكثر لمزاولة هذه الفضائل في العلاقات الاجتماعية المتعددة، ومن الوجهة الثانية تنشط المدينة العمل العقلي بما تسمح به من تقسيم أكثر واتصال العقول بعضها ببعض، والحالة التي يزدهر فيها العملان الخلقي والعقلي هي حالة السلم والرخاء والفراغ، وما الحرب إلا وسيلة للدفاع عن الحق أو للحصول عليه، ولا تبرر بحق الفتح إلا إذا شهرت على شعوب وضيعة متأخرة تعود عليها السيطرة الأجنبية بالخير، فلا تطلب المدينة الحرب لذاتها فتكون حربية كاسبرطة، ولا الغنى لذاته فتكون تجارية تبني السفن وتغزو البلاد، إن قيمة المدينة تقاس بقيمة أفرادها من حيث العلم والخلق ليس غير.

ويتبين مما سبق أن المدينة وإن كانت آخر الجماعات من حيث الزمان إلا أنها الأولى من حيث الطبيعة والحقيقة؛ كما أن الكل أول بالإضافة إلى الأجزاء؛ لأنه علتها الغائية وشرط تحققها على أكمل وجه، وقد رأينا أن المدينة شرط ترقي الفرد وتحقيق جميع قواه، فإذا كانت الهيئات الأولية طبيعية كانت المدينة طبيعية كذلك؛ لأنها غايتها جميعًا، ويلزم من هذا أن الإنسان حيوان مدني بالطبع، «والذي لا يستطيع أن يعيش في جماعة أو ليست له حاجات اجتماعية؛ لأنه يكفي نفسه بنفسه فهو إما بهيمة وإما إله»، وإذن فليست المدينة وليدة العرف كما يدعي السوفسطائيون، ولكنها قائمة على الطبيعة الإنسانية النازعة إلى كمالها، وليس القانون حدًّا عرفيًّا للحرية، ولكنه وسيلة توفير الحرية، فيه نجاة الأفراد من الفوضى والفناء.١
(ﺟ) وتتألف الأسرة من الزوج والزوجة والبنين والعبيد، الرجل رأس الأسرة؛ لأن الطبيعة حَبَتْهُ العقل الكامل فإليه تعود أمور المنزل والمدينة، أما المرأة فأقل عقلًا وليس بصحيح أن الطبيعة هيأتها للمشاركة في الجندية والسياسة وإنما وظيفتها العناية بالأولاد وبالمنزل تحت إشراف الرجل، ويرجع إلى العبيد تحصيل الثروة الضرورية لقوام الأسرة، ويعتبر أرسطو الرق نظامًا طبيعيًّا ويحد العبد بأنه «آلة حية» و«آلة للحياة» ضرورية لضرورة الأعمال الآلية المنافية لكرامة المواطن الحر، والعبد آلة «منزلية» أي إنه يعاون على تدبير الحياة داخل المنزل ولا يعمل في الحقل أو في المصنع: من هو العبد؟ الطبيعة هي التي تعيِّنه: إن تقابل الأعلى والأدنى مشاهد في الطبيعة بأكملها، وهو مشاهد بين النفس والجسم، بين العقل والنزوع، بين الإنسان والحيوان، بين الذكر والأنثى، وكلما وجد هذا التقابل كان من خير المتقابلين أن يسيطر الأعلى على الأدنى، والطبيعة تميل إلى إيجاد مثل هذا التمايز بين البشر بأن تجعل بعضهم قليلي الذكاء أقوياء البنية، وبعضهم أكفاء للحياة السياسية، وعلى ذلك فمن الناس من هم أحرار طبعًا، ومن هم عبيد طبعًا: «إن شعوب الشمال الجليدي وأوروبا شجعان؛ لهذا لا يكدر أحدٌ عليهم صفوَ حريتهم، ولكنهم عاطلون من الذكاء والمهارة والأنظمة السياسية الصالحة، لهذا هم عاجزون عن التسلط على جيرانهم، أما الشرقيون فيمتازون بالذكاء والمهارة، ولكنهم خلو من الشجاعة؛ لهذا هم مغلوبون ومستعبدون إلى الأبد، وأما الشعب اليوناني فيجمع بين الميزتين: الشجاعة والذكاء؛ كما أن بلده متوسط الموقع، لهذا هو يحتفظ بالحرية، ولو أتيحت له الوحدة لتسلط على الجميع.» إذن فاليوناني سيد حر، والأجنبي — البربري — عبد له، ولا يستعبد اليوناني أخاه بأي حال.٢

هذه فكرة «الشعب المختار» ظنها أرسطو أولية كلية ضرورية، ولم يستطع أن يسموَ فوق عرف عصره فيفطن إلى أن الدهر قلب، وأن المزايا تفقد وتكتسب، وأن الأنظمة تتحول، بل لم يستمسك بمذهبه هو أن الماهية واحدة ثابتة وأن العوارض لا تحدث بين جزئياتها مثل هذه الهوة، إن العبد إنسان وهذه الصفة تتعارض مع اعتباره مجرد آلة حية، وتفاوت الناس خَلقًا وذكاءً لا يخلق أنواعًا جديدة ولا يخرج جزءًا من الأجزاء عن نوعه وطبيعته، على أن هناك اعتبارات تشفع لأرسطو؛ منها: قوله: إن التمايز بين الحر والعبد ليس واضحًا دائمًا، وإن ابن العبد بالطبع لا يرث بالضرورة انحطاط أبيه، فإن لم يرثه لم يكن عبدًا بالطبع وانفتح أمامه باب العتق، وأرسطو نفسه لما حضرته الوفاة أوصى فيما أوصى بعتق عبيده. اعتبار آخر: هو أنه لا يقر الاستعباد بالفتح؛ لأن هذا الاستعباد قائم على القوة لا على الطبيعة، وليست القوة مرادفة دائمًا للتفوق الأدبي ولا تستطيع القوة أن تقلب وضع الطبيعة؛ فالحر حر رغم القوة، وإذا افترضنا الغلبة ناتجة عن مزايا ذاتية فقد لا تكون الحرب عادلة فيسقط حق الاستعباد، ولما كان الرق ناشئًا في معظمه من الحرب فهو ممقوت طبعًا. اعتبار ثالث: هو أن أرسطو يرى مصالح السيد والعبد واحدة، ويوجب على السيد أن يحسن استعمال سلطانه وأن يتفاهم مع العبد قبل أنْ يأمره، بل أنْ يكون صديقًا له بقدر ما تسمح الحال. اعتبار رابع وأخير: أن الرق عند اليونان كان في الأكثر بريئًا من الفظائع التي شانته عند الرومان وفي العصر الحديث، فلم يكن لأرسطو أن ينفر منه مثل نفورنا.

(د) والأسرة بحاجة للثروة، وتحصل الثروة على نحوين: الواحد طبيعي هو جمع النتاج الطبيعي اللازم للحياة، وينقسم إلى ثلاثة أنواع: تربية الحيوان والقنص والزراعة، والقنص مأخوذ هنا بأوسع معانيه بحيث يشمل القرصنة — أي صيد الرقيق — وقطع الطريق وصيد السمك والطير وسائر الحيوان، والنحو الآخر صناعي هو المبادلة وينقسم كذلك إلى ثلاثة أنواع: النجارة برية وبحرية والقرض والأجر، وتنشأ المبادلة من قلة الإنتاج في أشياء وزيادته في أشياء فتضطر الحال إلى الاستيراد والإصدار ومن هنا تمس الحاجة للنقد وسيلة ورمزًا للمبادلة، ولكن الناس لا يلبثون أن يتخذوا النقد غاية فيصير الإنتاج غاية كذلك لا وسيلة لإرضاء الحاجات الطبيعية، فتضطرب الحياة الاجتماعية؛ إذ تبطل غايتها أن تكون السعادة بالفضيلة وتنقلب الغاية اللذة ويصبح من المستحيل — وقد تحولت الوسائل غايات — تعيين غاية قصوى للوسائل وتعيين حد لتحصيل الثروة، تبعًا لهذا النظر يقول أرسطو: إن مبادلة أشياء بأشياء طبيعية ما دامت الغاية إرضاء حاجات الحياة، أما مبادلة الأشياء بالمال أي التجارة فهي غير طبيعية؛ لأنها تجاوز للحد الضروري للحياة وطلب للثروة إلى غير حد، وأما الربا فهو أبشع الوسائل غير الطبيعية لتحصيل الثروة؛ لأنه مبادلة المال — وهو اختراع غير طبيعي — لا بالأشياء — وهي طبيعية — بل بالمال نفسه، إن «الفائدة» تنتج من حقل أو من ماشية، أما المعدن فلا يمكن أن ينتج أو أن يلد، والربا نقد ناتج أو مولود من نقد هو في الحقيقة عقيم وهذا مخالف للطبيعة.٣ ولكن أرسطو لم يكن يقصد من غير شك القرض للصناعة بل القرض المنفَق في غير سبيل الإنتاج، وهو على كل حال يبين فيما تقدم عن نفوره من الطمع في اكتساب الثروة وعن إيثاره معيشة قدماء اليونان القائمة على الملكية العقارية؛ لأنها أقرب إلى الطبيعة وأدعى لاحتفاظ المدينة بالأخلاق الفاضلة وأنفى لأسباب النزاع في الداخل والحرب في الخارج.

(٧٦) المدينة

(أ) في المقالة الثانية يستعرض أرسطو ما تصوره المفكرون من حكومات مثلى، وما عُرف من الدساتير والشرائع الممتازة؛ ليستخلص أحسن الآراء على حسب عادته، ويبدأ بنقد جمهورية أفلاطون فينكر أن الدولة يجب أن تكون متحدة أعظم اتحاد إلى حد أن يضحى في سبيلها بالأسرة والملكية، إن الوحدة الحقيقية هي للفرد أما الدولة فكثرة، وكثرة منوعة تتحقق وحدتها بالتربية لا بالوسائل التي أشار بها أفلاطون، وإن الأسرة والملكية صادرتان عن الطبيعة لا عن الوضع والعرف، فإلغاؤهما معارض لميل الطبيعة ولخير الدولة جميعًا ومستحيل التنفيذ، وليست المرأة مساوية للرجل، وما قياسها بأنثى الحيوان تقوم بجميع أعمال الذكر إلا قياس مع الفارق، فإن للإنسان منزلًا وليس للحيوان منزل، وشيوعية النساء تؤدي إلى شيوعية الأولاد، وهذه تؤدي إلى تزاوج الأقارب، وإلى انتفاء المحبة والاحترام فإن الولد الذي هو ولد الجميع ليس ولد أحد، ولن يجد أحدًا يشعر نحوه بعواطف الأب أو الأم، ولن يشعر هو بعواطف الابن، هذا إن أمكن أن تظل القرابة خافية ولم يعمل أحد على كشفها، ولم يدل عليها تشابه الأولاد والوالدين فتنتفي الشيوعية، أما الملكية الخاصة فلا ينكر أن لها مساوئ، ولكن الملكية المشتركة والمعيشة المشتركة مصدر خلافات كثيرة أيضًا، وهما تقتلان الرغبة في العمل، فإن الإنسان لا يعنى عادة بغير نفسه وأهله ويتواكل فيما يختص بالصالح العام، ثم إن الشعور بالملكية مصدر لذة؛ لأنه نوع من حب الذات، واستخدام الملكية لمساعدة الأصدقاء والمعارف وللضيافة، مصدر آخر للذة وفرصة لفعل الفضيلة كالسخاء والعفة، فإن المعدم لا يستطيع أن يسخو ولا أن يسمي حرمانه المكره عفة، وليست تنشأ الخلافات من الملكية الخاصة؛ لأنها خاصة بل لفساد الناس، ولو أنصفوا لأشرك بعضهم بعضًا في نتاجها فعوَّض من عنده أكثر على من عنده أقل، فتلتقي حسنات الملكية والشيوعية وتبقى المدينة في مستوى المعيشة الحسنة لا تعدوه إلى الإثراء للإثراء.

(ب) أما الحكومة فتختلف أشكالها باختلاف الغاية التي ترمي إليها وعدد الحكام، فمن الوجهة الأولى الحكومة صالحة متى كانت غايتها خير المجموع، وفاسدة متى توخى الحكام مصالحهم الخاصة، فيخرج لنا جنسان تحتهما أنواع تتعين من الوجهة الثانية أي بعدد الحكام:

الحكومات الصالحة الحكومات الفاسدة
(١) الملكية (١) الطغيان
(٢) الأرستقراطية (٢) الأوليغركية
(٣) الديمقراطية (٣) الديماغوغية
فالملكية حكومة الفرد الفاضل العادل، والأرستقراطية حكومة الأقلية الفاضلة العادلة، والديمقراطية حكومة الأغلبية الفقيرة تمتاز بالحرية والمساواة واتباع دستور، أما الطغيان فهو حكومة الفرد الظالم، والأوليغركية حكومة الأغنياء والأعيان، والديماغوغية حكومة العامة تتبع أهواءها المتقلبة. وتبدو الملكية لأول نظرة أنها الحكم الأمثل، ولكن الفرد الممتاز بالفضل لا يوجد إلا نادرًا، أو لا يوجد أصلًا، والملك يرغب طبعًا في أن ينتقل سلطانه إلى أعقابه، وليس هناك ما يضمن أن يكون هؤلاء جديرين بالحكم، والسلطة المطلقة تميل بالطبع إلى الإسراف، وللملك حرس خاص، فمن السهل عليه أن يستبد؛ اعتمادًا على قواته، ثم إن الفرد لا يستطيع أن يرى كل شيء بعينيه فهو مفتقر دائمًا لمعاونين يشاركونه في مباشرة الحكم، وإذن فلمَ لا توضع هذه المشاركة من الأصل بدل أن تترك لإرادة فرد واحد؟ والواقع أن حكم الجماعة الفاضلة خير من حكم فرد لا يفوقهم فضلًا، ولكن الأرستقراطية غير ممكنة التحقق كذلك،٤ أما الديمقراطية فليست تصلح إلا إذا قصرت سلطة الشعب على انتخاب الحكام، فزاول هؤلاء الحكام بإشراف الشعب، ولكن كثيرًا من المخاطر تتهدد هذا النظام، وهنا يردد أرسطو نقد أفلاطون.٥

(ﺟ) كيف تكون إذن الحكومة المثلى؟ الحق أن كل شكل من الأشكال المذكورة يقوم على مبدأ صحيح بعض الصحة لا كلها، لذلك لا يمكن إيثار أحدها واعتباره كاملًا، فيجب أن نطبق هنا المبدأ الذي اعتمدناه في الأخلاق وهو «أن خير الأمور الوسط» وأن نجد طبقة من الشعب هي مزاج من ضدين ووسط بين طرفين: هذه الطبقة هي الوسطى، ويسميها أرسطو «بوليتية» أي الدستورية، وهي مؤلفة من أصحاب الثروة العقارية المتوسطة يعيشون من عملهم ولا يملكون فراغًا من الوقت، فلا يعقدون إلا الجلسات الضرورية ويخضعون للدستور، فحكومتهم مزاج من الأوليغركية والديمقراطية مع ميل إلى هذه، وكلما كثر عددهم استطاعوا مقاومة الأحزاب المتطرفة وصيانة الدستور، ولا خوف أن يتحد خصومهم عليهم فإنهم لما كانوا وسطًا كانت المسافة بينهم وبين كل ضد على حدة أقرب منها بين ضد وآخر، لذلك يثق بهم كل فريق أكثر مما يثق بأضداده. هذا مع اعتراف أرسطو أن تقرير الحكومة الصالحة لشعب ما يجب أن يقوم على اعتبار طبيعة هذا الشعب، فهو لا يبني دولة نظرية ولكنه يستخدم طائفة كبيرة من الملاحظات والتجارب لتعيين الشروط الكفيلة بتحقيق الغاية من الاجتماع، وهو يأخذ على الذين عالجوا هذه المسألة قبله أنهم توهموا أشكال الحكومة أنواعًا ثابتة، والواقع أن لكل نوع أصنافًا تبعًا للظروف وليس هناك ديمقراطية أوليغركية واحدة بعينها، بل ديمقراطيات وأوليغركيات بحسب ما تكون كثرة الشعب زراعًا — وهم أميل إلى الاعتدال — أو صناعًا — وهم أميل إلى التطرف — أو تجارًا … وبحسب ما تكون الأقلية ممتازة بالثروة المكتسبة أو الموروثة أو بالحسب، فهؤلاء الفلاسفة يردون التنوع الحقيقي إلى وحدة مجردة، لذلك نراهم يبحثون عن الأحسن بالإطلاق لا عن أحسن ما يمكن بالإضافة إلى الأحوال، ونجدهم يشرعون بالإطلاق لا بالإضافة إلى شكل الحكومة فإن القوانين تختلف حتمًا باختلافه.

(د) والشروط الكفيلة بصلاح المدينة ترجع إلى الثلاثة الآتية:
  • الأول: خاص بعدد الأهالي وقد كان أرسطو يرى كأفلاطون أن المدينة أرقى صور الحياة السياسية وأن كل مجموعة أوسع — كالإمبراطورية الفارسية أو المقدونية — فهي مركب غير متجانس، وأن الغاية من الاجتماع الحياة الفاضلة لا الإثراء والغلبة بكثرة العدد، فيجب ألا ينقص العدد عن الحد الأدنى الضروري لكفاية المدينة نفسها، وألا يعدو حدًّا أقصى نستطيع أن نقدره بمائة ألف مع المبالغة، وإلا تعذر الحكم الصالح واختل النظام؛ فإن المواطنين لكي يحسنوا تدبير الشئون وتوزيع المناصب حسب الكفاية يجب أن يعرف بعضهم بعضًا حق المعرفة، أما إذا تعاظم عددهم فإن الأمور تجري اتفاقًا، ولاستبقاء عدد الأهالي في المستوى الملائم يقول أرسطو بالإجهاض قبل أنْ يصير الجنين حاسًّا وبإعدام الأطفال المشوهين، مع أن الإيمان بالنفس كان خليقًا أن يعدل به عن هذين القولين فإن الجنين إنسان بالقوة، وللنفس قيمة تفوق القيم الدنيوية جميعًا، فالحيلولة دون تكامل الجنين منع لخير هو أعظم مما قد ينتج من ضرر مزعوم؛ ثم إن للطفل المشوه نفسًا فحياته جديرة بالاحترام.
  • الشرط الثاني: خاص بمساحة المدينة فإنها يجب أن تكون بحيث تقوم بحاجات الأهلين وتوفر لهم حياة سهلة دون أن يتجاوز ذلك إلى الترف، ويجب أن تكون منيعة ضد الأعادي سهلة الصلة بالبحر لتسهيل التموين، ويجب أن تقسم بين المواطنين بحيث يكون لكل منهم حصتان واحدة قريبة من المدينة وأخرى قريبة من الحدود مع مراعاة العدالة في القسمة فتكون لجميع المواطنين مصلحة في الدفاع عن المدينة كلها، ومع أن أرسطو يعارض الاشتراكية فإنه ينصح بجعل جزء من الأرض ملكًا للدولة تنفق منه على الهياكل والمآدب المشتركة فتقرب بهما بين المواطنين وتستبقي وحدة الدولة.
  • الشرط الثالث: خاص بوظائف الدولة أو طوائف المدينة وهي ثمان: الزراع والصناع والتجار والجند — للحرب الدفاعية — والطبقة الغنية والكهنة والحكام والموظفون، لكل منهم استعداد خاص لعمله وكفاية خاصة بحيث لا يقوم بعضهم مقام بعض، وليسوا جميعًا «مواطنين» فإن المواطن هو الرجل الممتاز من بين الرجال الأحرار المشارك في سياسة الدولة مشاركة فعلية، هو جندي في شبابه حاكم في كهولته كاهن في شيخوخته، فهو متفرغ طول حياته لخدمة الدولة، لا يزاول عملًا يدويًّا أصلًا، فإن العمل اليدوي فضلًا عن أنه يصرفه عن سياسة الدولة لا يليق بالرجل الحر؛ إذ إنه يشوه هيئة الجسم ويجعل صاحبه خاضعًا له ولما يعود عليه من أجر أو منفعة فيحط من قدر النفس ويسلبها الكفاية لإتيان أفعال فاضلة جميلة مستنيرة؛ حتى الفنون الجميلة من حيث اقتضائها أفعالًا جسمية: أليس العزف بالناي يفسد تناسب الوجه؟ وحتى العمل العقلي إذا كان صادرًا عن طلب المال — كما هو حال السوفسطائيين — فإنه يحرم صاحبه الفراغ وحرية التفكير، وجملة القول: المواطنون طبقة مختارة تحاول أن تحقق المثل الأعلى للإنسان كما رسمته «الأخلاق»، وهم عماد الدولة، وعلى الدولة أن تعنى بهم خاصة فلا تترك أمرهم للوالدين بل تتعهدهم بتربية واحدة تعدهم لوظائفهم المستقبلة،٦ فكأن أرسطو يعود إلى فكرة «الحراس» عند أفلاطون بعد تنقيحها وجعلها أقرب إلى التنفيذ، والفيلسوفان متشبعان بفكرة الترتيب والنظام ومقتنعان بأن العقل مصدر النظام، والرأس في كل شيء.

(٧٧) خاتمة الباب الثالث

(أ) «من العدل أن نعترف أن الحقيقة الكاملة عسيرة المنال، وأنها لا تنال إلا تدريجًا بتعاون الجهود؛ بحيث إن إنتاج كل واحد من الفلاسفة يكاد لا يذكر، ولكن مجموع جهودهم يؤتي نتائج خصبة، ومن العدل أن نحمد ليس فقط للمفكرين الذين نشاطرهم آراءهم بل كذلك للذين عرضوا تفسيرات سطحية؛ لأنهم هم أيضًا شاركوا في إقامة العلم وساعدوا على تنمية قوتنا الفكرية.»٧ فكم يجب أن نحمد لأرسطو مجهوده العظيم في إقامة العلم ومساعدته التي لا تدانيها مساعدة على تنمية قوتنا الفكرية أجيالًا متطاولة! كل من عانى التفكير يعلم مقدار صعوبة الحد والتعريف والبلوغ إلى الحقيقة، وقد أعطانا أرسطو حدودًا وتعاريفَ لا تحصى في جميع فروع المعرفة وهدانا إلى حقائقَ لا تقدر: صنف العلوم واشتغل بها علمًا علمًا، فكان المعلم الأول في كل علم منها، وخلف لنا كتبًا كانت ولا تزال أصولًا لا غنى عنها ولن تزال مرجع المفكرين.
(ب) ولم يكن لمدرسته في الزمن الأول نفوذ يذكر، وكانت متهمة بالميل إلى مقدونية ومضطهدة حتى اضطر ثاوفراسطوس إلى الرحيل عن أثينا بعد أن ترأس المدرسة من سنة ٣٢٢ إلى ٢٨٧؛ إذ كان قد بلغ الخامسة والثمانين، وكان أكثر اشتغاله واشتغال إخوانه بالعلوم الطبيعية وتاريخها بوحي أرسطو وإشرافه؛ فمما يذكر من كتب ثاوفراسطوس «آراء الطبيعيين» و«تاريخ النبات» وأبحاث في العرق والتعب والدوار والإغماء والشلل، والرياح وعلامات الجو والأحجار والنار وغيرها لم يصل إلينا غير عنواناتها، ورسائل في المنطق وعلى الخصوص في القضايا الموجهة والأقيسة الشرطية، ورسائل في الفلسفة الطبيعية والإلهية وفي السياسة والخطابة، وله كتاب مشهور في الآداب العالمية هو كتاب «الأخلاق»؛ أي وصف أخلاق الناس من الوجهة النفسية، وكتابات أدبية كانت موضع إعجاب المتقدمين، ومن إخوانه «أوديموس» مؤسس فرع المدرسة في رودس وضع كتابًا في تاريخ الهندسة والحساب والفلك بقيت منه صحف هامة جدًّا لتاريخ هذه العلوم، و«مينون» أرخ الطب، و«فانياس» أرخ الشعر والمدارس السقراطية، و«ديقايرخوس» أرخ المدنية اليونانية، ووضع كتابًا في الجغرافية اسمه «سياحة في الأرض»، و«أرسطوقسانس» كتب في تاريخ الموسيقى، وفي الآلات الموسيقية، وفي مبادئ الألحان، وأشهر رجال الجيل الثاني استراتون اللمبساقي خليفة ثاوفراسطوس على المدرسة مدة ثماني عشرة سنة — توفي حوالي ٢٧٠ — وكان قد قضى زمنًا في الإسكندرية ببلاط بطليموس سوتر — من سنة ٣٠٠ إلى ٢٩٤ — يؤدب ابنه فيلادلف، ذهب في بعض المسائل الطبيعية مذهبًا هو أقرب إلى ديموقريطس منه إلى أرسطو فقال بالخلاء وأنكر الأمكنة الطبيعية وقال: إن النفس هواء ونقد حجج أفلاطون في خلودها وفسر الفكر بأنه إحساس ضعيف.٨
١  م١ ف١-٢.
٢  م١ ف٣–٧.
٣  م١ ف٨–١١.
٤  م٣ ف٦ إلى آخر المقالة.
٥  م٤ بأكملها.
٦  م٧ ف٤–١٢.
٧  ما بعد الطبيعة م٢ ف١.
٨  وكانت للمدرسة نهضة في القرن الثاني للميلاد، وظهرت شروح على كتب أرسطو كان لها أثر كبير في إذاعة فلسفته (٩٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤