الفصل الثاني

أبيقوروس

(٨٣) حياته ومصنفاته

(أ) وُلد أبيقوروس في ساموس سنة ٣٤١ من أسرة أثينية، وكان أبوه معلمًا، وكانت أمه ساحرة تعزِّم في المنازل للتطبيب والتطهير، ولما بلغ الثامنة عشرة قصد إلى أثينا ولم تطل إقامته بها فرحل إلى آسيا الصغرى وعلَّم في بعض مدنها، ثم عاد إلى أثينا وافتتح مدرسة سنة ٣٠٦ فأقبل عليه التلاميذ رجالًا ونساءً يتعلمون منه «حياة اللذة السهلة»، وكان أكثر اجتماعهم في الحديقة لا في حجرات البناء، يتجاذبون أطراف الحديث في الأخلاق، فقيل لذلك: «حديقة أبيقوروس»، كان ضعيف البنية ولكنه كان قوي النفس شديد التجلد للمرض، وكان كثير الاعتداد بنفسه، يدعي أن مذهبه وليد فكره، ويأبى أن يعترف بفضل عليه لأحد ممن تقدمه وعاصره من الفلاسفة، فهجاهم جميعًا، نخص بالذكر ديموقريطس وأرسطو، ثم رجلين كان قد استمع إلى دروسهما، أحدهما أفلاطوني والآخر ديموقريطي، ولكنه كان طيب القلب مع أصدقائه وتلاميذه بارًّا بهم، أوقف عليهم البناء والحديقة وأوصاهم أن يعيشوا جماعة مؤتلفة متحابة، وكانوا هم يحبونه ويجلونه أكبر إجلال، وانتشرت تعاليمه فتأسست مراكز أبيقورية في بعض مدن إيونية وفي مصر «ثم في إيطاليا الرومانية بعد وفاته». ومرض بالحصوة ومات بها سنة ٢٧٠ بعد أن احتمل آلامها بشجاعة نادرة كانت مثلًا عاليًا لمريديه، ولفرط إعجابهم به في حياته ومماته اعتبروه إلهًا جاء العالم بوحي جديد، وكانوا يكرمون ذكراه تكريمًا دينيًّا.

(ب) وتذكر له كتابات كثيرة، منها كتاب «في الطبيعة» وآخر في المنطق اسمه «القانون» ورسائل إلى مريديه في الخارج، وكل ما بقي لنا ثلاث من هذه الرسائل: واحدة في الطبيعة، وأخرى في الآثار العلوية ربما كانت منحولة، والثالثة في الأخلاق، ثم «الأفكار الرئيسية» وهي عبارة عن ملخص المذهب في مائة وإحدى وعشرين فكرة، إحدى وثمانون منها اكتشفت سنة ١٨٨٨ وأربعون كانت معروفة من قبل.

(٨٤) المنطق

(أ) كان أبيقوروس يشبه سقراط والسقراطيين في الرغبة عن كل علم لا يتصل بالأخلاق ولا يعود بفائدة من هذه الجهة، فكانت الأخلاق عنده محور الفلسفة وغايتها، يخدمها «العلم القانوني» — أي المنطق — والعلم الطبيعي، وكان تعريفه الفلسفة أنها «الحكمة العملية التي توفر السعادة بالأدلة والأفكار.» وهي بهذا المعنى ميسورة لكل إنسان في كل سن، فكانت المدرسة مفتوحة لكل «طالب نجاة» ملم بالقراءة وكفى، وبهذا المعنى أيضًا كان أبيقوروس يباهي بأنه بدأ يتفلسف في الرابعة عشرة ويقول: «ألا لا يبطئن الشاب في التفلسف، ولا يكلَّن الشيخ من التفلسف، فإن كل سن ملائمة للعناية بالنفس، وإن القول بأن ساعة التفلسف لم تحن بعد أو أنها فاتت معناه أن ساعة طلب السعادة لم تحن بعد أو أنها فاتت.»

(ب) فهو إذا اشتغل بالمنطق لم يحفل بالمنطق العلمي، وإنما وجه همه لنقد المعرفة، والنظر في علامات الحقيقة، وفي الطريق إلى اليقين أو الطمأنينة العقلية التي تؤدي إلى السعادة، والمعرفة عنده أربعة أنواع: الانفعال والإحساس والمعنى الكلي والحدس الفكري، فالانفعال هو الشعور باللذة والألم، والإحساس الإدراك الظاهري، وكلاهما يظهرنا على علته الفاعلية أي التي تحدثه فينا؛ فإن الإحساسات صادقة على السواء أي إنها صور مطابقة للأشياء بخلاف ما ذهب إليه ديموقريطس من أن الكيفيات المحسوسة «اصطلاح»، أما خطأ الحواس فليس في الإدراك بل في الحكم الذي يضيفه العقل للإدراك؛ فنحن لا نخطئ إن قلنا عن برج بعيد: إنا نراه مستديرًا، ولكنا نخطئ إن اعتقدنا أنه مستدير بالفعل، وأنَّا سنراه كذلك إن اقتربنا منه، وأما تناقض الحواس فليس يقع بين الإحساسات؛ لأن لكل إحساس مجاله الخاص، وإنما هو يقع بين الأحكام التي تضاف إليها، فأبيقوروس يثق بالإحساس ويتهم إضافات العقل.

(ﺟ) ومتى تكرر الإحساس أحدث في الذهن معنى كليًّا ثبتناه في لفظ، ولما كان هذا المعنى الكلي صادرًا عن الإحساس فهو صورة حقيقية مثله، وبعد أن يتكون يبقى في الذهن «فكرة سابقة» نطبقها على الجزئيات كلما عرضت لنا في التجربة، فهو الذي يسمح لنا أن نسأل مثلًا: «هذا الحيوان الماشي أهو فرس أم ثور؟» وهو الذي يسمح لنا أن نصدر أحكامًا تجاوز التجربة الراهنة مثل قولنا: «هذا الشبح الذي أبصره هناك هو شجرة.» فإن الأسئلة والأحكام التي من هذا القبيل تعني أننا حاصلون على المعاني المذكورة فيها حصولًا سابقًا على الإحساس الذي حملنا على السؤال والحكم، على أن مثل هذه الأحكام لا تصير تصديقات إلا إذا أيدها الإحساس.

(د) والحدس الفكري استدلال، وله منهجان: فهو من ناحية يؤدي بنا إلى التصديق بأشياء ليست واقعة في التجربة تقتضيها كعلة أو شرط، أو لا تبطلها: مثل الجوهر الفرد فإن التجربة تقتضيه كما يتبين من العلم الطبيعي، ومثل الخلاء فإنه شرط الحركة من حيث إن الملاء لا يدع للجسم المتحرك مكانًا يتحرك فيه؛ والحركة ظاهرة محسوسة جلية فشرطها موجود، ومثل لا نهاية المادة فإن التجربة إن لم تؤيدها فهي لا تبطلها، هذه الأشياء يسميها أبيقوروس باللامحسوسات ولكنه لا يعني أنها لا ماديات كما هو واضح من الأمثلة المذكورة ومن أن مذهبه حسي، ومن ناحية أخرى الحدس الفكري استدلال يؤدي بنا إلى استخراج تفاصيل العالم من «نظرة إجمالية» مثل استخراج الظواهر الجوية من معرفة مفاعيل العناصر، وهذا منهج يسمح بإدراك اللامحسوسات في أنفسها لا في علاقاتها بالمحسوسات، وسنرى أمثلة على ذلك فيما يلي.

(٨٥) الطبيعة

(أ) اصطنع أبيقوروس مذهب ديموقريطس؛ ولكنه نظر إليه نظرة خاصة وأدخل عليه بعض التعديل، هذه النظرة وهذا التعديل هما عذره في ادعائه الابتكار وإنكاره فضل سلفه الكبير، أما التعديل فسوف نشير إليه في سياق الكلام؛ وأما النظرة الخاصة فهي أن ليس للعلم الطبيعي قيمة ذاتية ولا يعتبر مطابقًا لحقيقة الوجود، وإنما هو، مع استقلاله بقضاياه وبراهينه، مرتب لعلم الأخلاق؛ ذلك لأن الظاهرة الطبيعية قد تحدث عن أكثر من علة؛ فهي لذلك تحتمل أكثر من تفسير، فالعلم الطبيعي مجموعة تفسيرات ممكنة قد يستطاع وضع تفسيرات غيرها ممكنة، والغرض منه على كل حال «تخليص البشر من خوف الظواهر الجوية والموت»، فالتفسيرات سواء ما دامت تفي بهذا الغرض، مثال ذلك: قد تكون علة الكسوف توسط القمر، وقد تكون توسط جسم غير منظور، وقد تكون انطفاء الشمس وقتيًّا، ولا حاجة لإيثار تفسير على آخر فإن أي واحد منها يكفي لتبديد الخوف من الكسوف، وهذا هو المقصود، ولا حاجة كذلك لاستقصاء تفاصيل العالم فإن «نظرة إجمالية» تكفي؛ إذ ليس العلم الطبيعي مطلوبًا لذاته بل لعلم الأخلاق وبالقدر اللازم له فحسب. وهذا موقف له مثيله في العصر الحاضر مع تقدم العلوم واستكمال آلاتها؛ فإن كثيرين من فلاسفتنا وعلمائنا يرون القوانين العلمية نسبية أو «فروضًا نافعة» ويظنون أن هذه النسبية هي الطريقة الوحيدة لتخليص الإنسان من سيطرة الضرورة المطلقة وإقامة الأخلاق.

(ب) الجواهر الفردة موجودة ولو لم تكن منظورة، أليست قوة الريح والأصوات والروائح والتبخر والزيادة والنقصان البطيئان أمورًا حقيقية غير منظورة؟ «وهذا تطبيق لأحد منهجي الحدس الفكري» أما اتصال المادة الذي يلوح أن الحواس تشهد به فهو وهم يشبه رؤية قطيع الغنم من بعيد بقعة ثابتة، الجواهر الفردة موجودة إذن وهي في عدد غير متناهٍ تؤلف عوالم غير متناهية لكل عالم شكله وموجوداته وقتًا ما ثم يتبدل بانتقال الجواهر من عالم إلى آخر، وليست الجواهر متجانسة كما ارتأى ديموقريطس وليس يمكن تركيب أي شيء من أي الجواهر، فإن بقاء الأنواع يقتضي أن تكون الأجزاء التي تدخل في تركيب أفراد النوع حاصلة على مقدار وصورة لا يتغيران، ولو أنها لم تثبت في مركباتها إلا بعد محاولات عديدة، والجواهر متحركة أبدًا في خلاء لا متناه، وعلة الحركة باطنة فيها وهي الثقل، وكان ديموقريطس قد سلبها الثقل فترك الحركة من غير علة. بالثقل إذن تتحرك الجواهر في خط مستقيم من أعلى إلى أسفل — كما يشهد به سقوط الأجسام — وبسرعة واحدة مع اختلاف مقاديرها، فإن تفاوت السرعة إنما يتأتى عن تفاوت مقاومة الأوساط التي يجتازها الجسم المتحرك، والخلاء عديم المقاومة فالسرعة فيه متساوية، غير أن للجواهر انحرافًا عن خط سقوطها، تنحرف من تلقاء أنفسها مقدارًا صغيرًا للغاية فتلتقي وتؤلف المركبات، ولا يُحْتَجُّ بأن التجربة لا تظهرنا على هذا الانحراف، فلولاه لاستمرت الجواهر تسقط في الخلاء بلا انقطاع دون أن تلتقي أبدًا لتأليف الأشياء، والأشياء موجودة فيلزم أن شرط وجودها حقيقي من حيث إن الانحراف هو الفرض الوحيد الذي يفسر تلاقي الجواهر، هذا من جهة وتطبيقًا لأحد منهجي الحدس الفكري. ومن جهة أخرى وتطبيقًا للمنهج الثاني نقول: إنا نحس في أنفسنا الإرادة الحرة ومضادتها لحركة الجسم الطبيعية، والإرادة هي الانحراف في الإنسان، فإذا كان الانحراف متحققًا فينا فهو متحقق في الجواهر؛ إذ لا يمكن أن نعتبر الإنسان استثناء في الطبيعة ولا يمكن أن تخرج الحرية من اللاحرية، وهذه نقطة أخرى يفترق فيها أبيقوروس عن ديموقريطس فيخرج على الضرورة المطلقة، ويقول بالحرية شرطًا للأخلاق ولو أن هذه الحرية عنده انحراف آلي ليس غير.

(ﺟ) والأحياء أعقد المركبات نشأت اتفاقًا على ما قال أنبادوقليس وديموقريطس، وبقي الأصلح وثبت نوعه، والنفس الإنسانية جسم حار لطيف للغاية تتألف مع الجسم وتنحل بانحلاله، وهي اثنتان أو لها وظيفتان: إحداهما حيوية هي بث الحياة في الجسم، والأخرى وجدانية هي الشعور والفكر والإرادة، وتؤدي النفس الوظيفة الأولى بجواهرَ لطيفةٍ متحركة حارة منتشرة في الجسم كله، وتؤدي الوظيفة الثانية بجواهرَ ألطفَ محلها القلب، الأولى شرط الثانية والجسم شرط النفس كلها، فإن الجسم إذا انفصلت جواهره انطلقت النفس وتبددت جواهرها، والنفس الحيوية تتألم بألم الجسم، أما النفس المفكرة أو «نفس النفس» فإن لها من الاستقلال ما تستطيع معه أن تكون سعيدة مهما يكن من حال الجسم. ويفسر الإحساس بأن «قشورًا» رقيقة غاية الرقة تنبعث باستمرار من سطح الأشياء وتتحرك بسرعة في الهواء محتفظة بصور الأشياء المنبعثة عنها — فهي «أشباه» لها — حتى إذا ما صادفت الحواس وبلغت إلى القلب أحدثت الإحساس، وفي الهواء أشباه لا يحصيها العد متطايرة ليس فقط من الأشياء القريبة بل أيضًا من الأشياء البعيدة والماضية، وهذه أصل خيالات المنام واليقظة: فالمخيلة تجري على نسق الحس تمامًا، والخيالات إحساسات لا صور مستعادة، ولو توهمنا عكس ذلك من أننا نتخيل ما نشاء، فالحقيقة أن ألوفًا من الأشباه تزدحم على الفكر في كل وقت، فلا يتأثر الفكر إلا بالتي يوجه إليها انتباهه، فنظن أننا نستعيد صورًا ماضية، وهذه الأشباه عرضة لأن يختلط بعضها ببعض في مجاريها أو تلتوي أو تنقسم، وهذا أصل أخطاء الحواس كرؤية البرج المربع مستديرًا، وهذا أصل تصورنا في المنام الحيوانات الخرافية التي لم توجد قط، وإذن فلا موجب للخوف مما يبدو لنا في الأحلام ولا إلى اعتباره نذيرًا من لدن الآلهة.

(د) والآلهة موجودون، يدل على وجودهم أولًا: أنهم موضوع «فكرة سابقة» شائعة في الإنسانية جمعاء، والفكرة السابقة تتكون بتكرار الإحساس وكل إحساس فهو صادق، وأساس هذه الفكرة السابقة الخيالات التي تتراءى لنا في المنام وفي اليقظة، والتي لا بد أن تكون منبعثة عن الآلهة أنفسهم. ثانيًا: عندنا فكرة وجود دائم سعيد، والآلهة يقابلون هذه الفكرة. ثالثًا: لكل شيء ضده يحقق المعادلة في الوجود، فلا بد أن يقابل الوجود الفاني المتألم وجود دائم سعيد. ويجب أن نتصور الآلهة على حسب أحسن شيء فينا: أجسامهم لطيفة غاية اللطافة متحركة أبدًا بين العوالم بمعزل عنها، فلا ينالهم ما ينالها من دثور ولكنهم مخلدون، ولما كانوا سعداء بعيدين عن العوالم كما قلنا فهم لا يعنون بنا ولا يكدرون صفوهم بشئوننا ولا يعلنون عن إرادتهم بالنُّذُر كما تعتقد العامة، هذه المعتقدات وما يتفرع عليها من خرافات مثل تقديم القرابين للآلهة — وأحيانًا القرابين البشرية — لطلب مددهم ورضائهم، تناقض الفكرة السابقة عنهم؛ إذ يستحيل أن يكون الآلهة سعداء مطمئنين مع ما نضيفه إليهم من عواطفَ وشواغلَ، فعلينا أن نطمئن نحن من جهتهم وأن ننفي عن نفوسنا الخوف منهم. ولقد كان هذا الخوف عظيمًا في اليونان بما توارثوه من أساطيرَ عن القدر يعبث بالبشر عبثًا، وبما حشدت هذه الأساطير في العالم الآخر من حيوانات هائلة وعذاب أليم، فأراد أبيقوروس أن يرفع عنهم هذا الكابوس وكان في وسعه أن يحول أنظارهم إلى جنات أفلاطون فآثر أن يمحوَ الجنة والجحيم جميعًا بهذا المذهب المتهافت السخيف، ومع اعتقاده هذا في الآلهة فقد كان يختلف إلى المعابد ويشارك في الشعائر، ولعله كان يفعل ذلك؛ استرضاءً للعامة، وتفاديًا من الخصومة معهم، وهو فيلسوف الراحة والطمأنينة كما سنرى.

(٨٦) الأخلاق

(أ) في هذا المذهب السعادة هي اللذة الجسمية من حيث إنه لا يعترف بغير المادة، وفي الواقع يقرر أبيقورس أن غاية الحياة اللذة، ولكنه لا يتابع أرستبوس بل يعالج فكرة اللذة بحذق ومنطق حتى يحيلها نوعًا من السعادة الروحية ويستبقي الفضائل المعروفة ويستبعد الرذائل، مما يجعل لمذهبه الخلقي مكانًا خاصًّا بين المذاهب، يقول: تشهد التجربة أننا نطلب اللذة وأن الحيوان يطلبها مثلنا بدافع الطبيعة دون تفكير ولا تعليم، فالطبيعة هي التي تحكم بما يلائمها لا العقل الذي هو في الحقيقة عاجز عن تصور خير مجرد من كل عنصر حسي، وكيف يستطيع ذلك وجميع أفكارنا ترجع إلى إحساسات ومن ثَمة إلى لذات وآلام، وإذا نحن استبعدنا الحس من الإنسان فليس يبقى شيء. ومتى تقرر أن اللذة غاية لزم أن الوسيلة إليها فضيلة، وأن العقل والعلم والحكمة تقوم في تدبير الوسائل وتوجيهها إلى الغاية المنشودة، وهي الحياة اللذيذة السعيدة، فليس من الحق وصف اللذة بأنها جميلة أو قبيحة، شريفة أو خسيسة؛ فإن كل لذة خير وكل وسيلة إلى اللذة خير كذلك، بشرط أن تكون اللذة لذة وأن تكون الوسيلة مؤدية إلى لذة، ومعنى هذا الشرط أن للذة عواقبَ وقد لا تكون جميع عواقبها خيرًا؛ فإن الشره مثلًا يورث المرض، فيجب تعديل اللذة بالألم واجتناب اللذة التي تجر ألمًا واعتبارها وسيلة سيئة للسعادة، وللألم عواقب كذلك وقد لا تكون جميعها شرًّا فيجب تعديل الألم باللذة وتقبل الألم الذي يجر لذة أعظم، وبهذا يستحيل مذهب اللذة إلى مذهب المنفعة، لقد كان أرستبوس يرد كل لذة إلى اللذة الحاضرة؛ مخافةَ أن يفوتنا المستقبل وأن ينقلب حسبان العواقب قيدًا وعبودية، ولكن أليس في محاولة التحرر من المستقبل عبودية للحاضر؟ إن السعي لغاية بعينها طول الحياة يعود بحرية أوسع من حرية مجاراة الأهواء على ما يتفق، وإذن فما يجب طلبه هو أكبر مجموع ممكن من اللذات مدى الحياة.

(ب) ويستتبع هذا الموقف تصنيف اللذات، وقد كان أرستبوس يدعي أنها جميعًا سواء، وربما صح هذا إذا نظرنا إليها في أنفسها على أنها لذات، أما إذا اعتبرنا صلتها بالطبيعة وعواقبها في الحياة بأكملها وجدناها تتفاوت، وفي الواقع يمكن ردها إلى طوائف ثلاث؛ الأولى: لذات صادرة عن نزعات طبيعية وضرورية وهي تلك التي تسكن آلامًا طبيعية مثل لذة الطعام والشراب عند الجوع والعطش، والثانية: لذات صادرة عن نزعات طبيعية ولكنها غير ضرورية وهي تلك التي تنوِّع اللذة فقط ولا ترمي إلى تسكين ألم طبيعي مثل لذة الأغذية المترفة، والثالثة: لذات صادرة عن نزعات ليست طبيعية ولا ضرورية ولكنها تقوم في النفس بناءً على ظن باطل مثل لذة المال والكرامات الاجتماعية، فالحكيم يصغي دائمًا إلى نزعات الطائفة الأولى، وهي أبسط النزعات وألزمها تقوم بذاتها وتقوم النزعات الأخرى عليها، وإرضاؤها سهل ميسور، والحكيم يقهر نزعات الطائفة الثالثة ويرفض لذائذها بالكلية، أما نزعات الطائفة الثانية فينظر إن كان يرضيها أم يقمعها، ويرجع هذا النظر إلى الحكمة العملية فإن حكمت بقبولها أرضاها بتؤدة؛ خشية أن يحولها بالشغف إلى نزعات ضرورية فينقلب عبدًا لها.

(ﺟ) وإنما تنشأ النزعات من اختلال توازن الجسم فإذا استعاد الجسم توازنه زال ألمه فاطمأن وسكن، هذه الطمأنينة هي اللذة تنتهي ويعود الألم إذا عاد الجسم إلى الاختلال، فالنزوع وسط بين سكونين، هو حركة يريد بها الكائن الحي أن يدفع الألم عن نفسه؛ أي أنْ يستعيد توازنه وسكونه، وليس السكون فراغًا من اللذة أو حالة شبيهة بالنوم أو بالموت، فإن مثل هذه الحالة ليس سعادة، ولكنه هو اللذة بعينها، هو الاستمتاع بالتوازن، فإن اللذة تنشأ حالما يزول الألم، وإذا انتفى كل ألم فهناك اللذة العظمى، وإذن فغايتنا القصوى يجب أن تكون التوازن التام والطمأنينة التامة بمأمن من كل اختلال واضطراب، ولكن الجسم عرضة للألم دائمًا، فمن هذه الجهة تبدو غايتنا مستحيلة، غير أننا نستطيع دائمًا أن نوجد إلى جانب الألم الجسمي لذة عقلية نلطفه بها مهما اشتد ونحقق الطمأنينة؛ ذلك بأن النفس تلذ باللذة الحاضرة وبذكرى اللذة الماضية وبرجاء اللذة المستقبلة فتستطيع في الوقت الذي تألم فيه أن تذكر اللذة المضادة لألمها وأن ترجوها، وعلى ذلك تكون لذة اللذة مستقلة عن الظروف الخارجية مستطاعة للنفس دائمًا، فسعادتنا تتوقف على النفس ويجب أن يتوجه جهدنا إلى توفير الطمأنينة للنفس كما نحاول أن نوفر للجسم توازنه، وأول أسباب اضطراب النفس الجهل بالطبيعة وما يلزم عنه من خرافات، أما الحكيم فيعلم أن الأشياء متمشية على نظام ثابت فهو لا يخاف الظواهر الجوية ولا القدر ولا الآلهة، بل لا يخاف الموت فإن خوف الموت من فعل المخيلة؛ يتخيل الإنسان أن هذا الجسم الممدود هو هو ويضيف إليه حساسيته فيأخذه الرعب من ظلام القبر وتعفن الجسم، أما الحكيم فيعلم أن الموت فناء تام؛ هو يعلم أنه حين نوجد فليس يوجد الموت، وحين يوجد الموت ننعدم، لذلك يبطل خوفه منه، وهو يعلم أن الخلود مستحيل فلا يفكر فيه ولا يتحسر عليه، إن المهم في السعادة قوة اللذة لا مدتها؛ إذ إن المدة لا تزيد في اللذة، ولكن أبيقوروس كان قد قال عكس ذلك لما خالف أرستبوس وآثر اللذة المتصلة مدى الحياة، فإذا كانت اللذة هي الغاية وكان كل شيء ينتهي عند الموت فما هو الفيصل بين المذهبين؟ ولِمَ تفضُل الحياة الطويلة الخفيفة اللذة الحياة القصيرة القوية اللذة؟ وقال أبيقوروس عكس ذلك أيضًا لما عرف لرجاء اللذة أثره في النفس، فإذا كان هذا الرجاء لاذًّا إلى حد تلطيف ألم جسمي محسوس فإن رجاء استمرار اللذة يزيد فيها من غير شك، وإن توقع انقضاءها ينقصها ويلاشيها، ولقد كان أبيقوروس بارعًا في انتقاله من اللذة إلى المنفعة، ثم انتقاله من لذة الحواس إلى لذة النفس بواسطة الذاكرة والمخيلة دون أن يضع بين الحس والنفس فرقًا جوهريًّا، ودون أن يغير معنى اللذة، ولكن المذهب لا يكمل ولا يتوطد إلا بالانتقال من المنفعة إلى الخير وبالاعتراف للنفس بقيمة خاصة وحياة خالدة وإلا كانت الأخلاق لغوًا وكان الموقف المعقول أن نطلب اللذة ما وسعنا الطلب على قول أرستبوس، حتى إذا ما نالنا الإعياء وأصابنا المرض أو أدركتنا الشيخوخة انتحرنا على قول هجسياس.

(د) قلنا: إن أبيقوروس يستبقي الفضائل المعروفة، والحقيقة التي وضحت الآن أنه لا يستبقيها إلا في الظاهر وإلى الحد الذي يتفق مع المنفعة ويكفل الطمأنينة، فالعفة تقتصر على اللذات الطبيعية الضرورية وتقنع منها بمقدار خشية الاضطراب والألم، وترجع الشجاعة إلى تحمل الألم في سبيل اللذة والتسليم بما لا مفر منه، والصداقة نافعة لذيذة فالحكيم يتعدها كوسيلة للسعادة، ولكنه يتجنب الحب؛ لأنه مصدر اضطراب للنفس، كذلك لا يتزوج الحكيم في الأكثر لما يجره الزواج من شواغلَ متعددةٍ، وللسبب عينه ينبذ الحكيم المناصب الحكومية وينفض يديه من الشئون العامة، أما العدالة فموضوعها ألا يضر بعضنا بعضًا؛ مخافة رد الفعل، وهي في الأصل تعاقد قائم على المنفعة بحيث لو انتفى التعاقد أو تعارضت معه المنفعة أصبحنا في حل من هذه العدالة.

وبعبارة أخرى أننا نقبل القانون لنحتمي من العدوان لا أكثر، فإذا رأينا في الخروج على القانون منفعة لنا وأمكننا أن نخرج عليه دون أن ينالنا أذى فلنا ذلك ونحن بمأمن من حكم الضمير، ولنا أن نستوحي المنفعة من باب أولى حين لا يكون هناك عقد؛ إذ لا حق لمن لا يستطيع أو لا يريد التعاقد، فردًا كان أو شعبًا، فلا عدالة ولا ظلم، ولكننا في الغالب لا نأمن انتقام الغير، فالحكيم يرعى العدالة ليضمن لنفسه السلامة من الانتقام ومن خوف الانتقام وليحتفظ بالطمأنينة وهي خيره الأعظم، وكل هذا منطقي في المذهب الحسي، قال به السوفسطائيون قبل أبيقوروس، وقال به من بعده الحسيون المحدثون، وغاية ما فعله فيلسوفنا أنه احتال على مبادئه حتى طابق بينها وبين الطبيعة الإنسانية كما تفهمها فطرة العقل فاعترف بهذه الطبيعة من حيث لم يرد، غير أن هذه المطابقة ظاهرية فقط كما أسلفنا، فلم تقوَ طويلًا على منطق المبادئ، ولم يلبث الأبيقوريون أن شابهوا القورينائيين، حتى اتخذ العرف اسم أبيقوروس عنوانًا لمذهب اللذة والاستهتار فظلمه شخصيًّا، ولكنه أنصف مذهبه في جوهره وفي سيرة أتباعه وقد تعاقبوا أجيالًا إلى ما بعد المسيحية؛ يعيشون عيشة «اللذة السهلة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤