الفصل الثالث

الرواقية

(٨٧) مؤسسو الرواقية

(أ) الرواقية معاصرة للأبيقورية ومعارضة لها، وضع أصولها زينون وكملها تابعان من بعده، وثلاثتهم آسيويون، ولد زينون في كتيوم من أعمال قبرص سنة ٣٣٦، وكان أبوه فيما يروى تاجرًا قبرصيًّا يختلف إلى أثينا للتجارة ويحمل منها كتب السقراطيين، فقرأها ابنه ورغب في الاتصال بأصحابها، قدم أثينا حوالي سنة ٣١٢ بعد أن اشتغل هو أيضًا بالتجارة، فاستمع إلى ثاوفراسطس وإلى أقراطيس تلميذ ديوجانس الكلبي وإلى أستلبون الميغاري وإلى رجال الأكاديمية، ثم أنشأ مدرسة في رواق — «ستُوي» باليونانية — كان فيما سلف محل اجتماع الشعراء، فدعي وأصحابه بالرواقيين، وكان مستمعوه كثيرين معجبين بسمو أخلاقه، وتوفي سنة ٢٦٤.

(ب) وخلفه أقلاينتوس (٣٣١-٢٣٢)، جاء من أسوس وانضم إلى المدرسة ثم ترأسها من وفاة زينون إلى وفاته، وكان مصارعًا قبل أنْ يتوفر على الفلسفة، وامتاز بقوة إيمانه بالمذهب وشدة تعصبه له، ولكنه كان قليل الحظ من المقدرة الجدلية، قليل التوفيق في مناقشاته مع الأبيقوريين فتقهقرت المدرسة في أيامه، ولكنها عادت فازدهرت بزعامة أقريسيبوس: ولد سنة ٢٨٢ في سولس من أعمال قبرص؛ حيث كان أبواه قد هاجرا من طرسوس من أعمال كيليكية، ودخل المدرسة فرفع من شأنها بتعليمه القوي وكتبه الكثيرة، واستحق لقب المؤسس الثاني للرواقية، وتوفي سنة ٢٠٩، ولم يبقَ لنا من كتبهم على كثرتها سوى بعض العناوين والشذرات، لذلك يصعب تصوير مذهبهم بشيء من الدقة، وأصعب منه تعيين نصيب كل منهم في مجموعه كما أمكن تركيبه.

(٨٨) المنطق

(أ) إذا أردنا أن نجمل الرواقية القديمة في عبارة واحدة قلنا: إنها مذهب هرقليطس أفاد من تقدم الفكر في ثلاثة قرون، فهي تقول بالنار الحية وباللوغوس أو العقل منبثًّا في العالم وتسميه الله وترتب عليه الغائية والضرورة المطلقة وتقيم الأخلاق على الواجب، فتعارض الأبيقورية التي تقول بالآلية والاتفاق والحرية وتقصي الآلهة خارج العوالم وتقيم الأخلاق على اللذة، ووجه إفادة الرواقية من تقدم الفكر أنها اشتغلت بالمنطق أكثر وأحسن مما اشتغل أبيقوروس وأتباعه واصطنعت آراء أفلاطونية وفصلت القول في الأخلاق، والفلسفة عندها «محبة الحكمة ومزاولتها» والحكمة «علم الأشياء الإلهية والإنسانية» تنقسم إلى ثلاثة أقسام: العلم الطبيعي والجدل — أي المنطق — والأخلاق، ولكن هذا التقسيم اعتباري فقط، فإن العلم الطبيعي يعلمنا وحدة الوجود، فالعقل الذي يعلم هذا ويربط المعلولات بالعلل في الطبيعة هو الذي يربط التالي بالمقدم في المنطق، وهو الذي يطابق بين أفعاله وبين قوانين الوجود في الأخلاق، وبعبارة أخرى المنطق صورة الطبيعة في العقل، والأخلاق خضوع العقل للطبيعة، بحيث إن الرجل الفاضل طبيعي وجدلي، وإن الطبيعي جدلي وفاضل بالضرورة، وبحيث إن «الحكمة تشبه حقلًا أرضه الخصبة العلم الطبيعي، وسياجه الجدل، وثماره الأخلاق» وسيتضح ذلك من مجمل هذا الفصل.

(ب) الرواقيون ماديون، فكل معرفة هي عندهم معرفة حسية أو ترجع إلى الحس، والأصل في المعرفة أن الشيء يطبع صورته في الحس بفعل مباشر لا بواسطة «أشباه» كما يقول الأبيقوريون، والمعرفة التي من هذا القبيل «فكرة حقيقية» يقينية تمتاز بالقوة والدقة والوضوح، تحمل معها الشهادة بحقيقة موضوعها ويستحيل الخلط بينها وبين فكرة أخرى، والأفكار الحقيقية هي الدرجة الأولى من درجات المعرفة، يشبهها زينون باليد المبسوطة. والدرجة الثانية يشبهها باليد المقبوضة قبضًا خفيفًا ويعني بها التصديق الذي يقوم في النفس مجاوبة على التأثير الخارجي، وهذا التصديق متعلق بالإرادة ولو أنه يصدر عفوًا كلما تصورت النفس فكرة حقيقية. والدرجة الثالثة الفهم يشبه اليد المقبوضة تمامًا. والدرجة الرابعة والأخيرة العلم يشبه اليد مقبوضة بقوة ومضغوطًا عليها باليد الأخرى. والعلم تنظيم المعرفة الحسية أي جمع الإدراكات الجزئية وسلكها في مجموعة متسقة تصور وحدة الوجود فتكتسب بهذا الاتساق يقينًا كاملًا ثابتًا أقوى من اليقين الأولي المصاحب للإحساس المفرد، ولكن العلم لا يخرج عن دائرة المحسوس، وليست معانيه الكلية إلا آثار الإحساسات تحدث عفوًا في كل إنسان دون قصد ولا تفكير، فهي غريزية فطرية بهذا المعنى، فالعلم إذن مجموع القضايا المتعلقة بالأشياء، وإذا اعتبرنا القضايا والحجج التي نركبها نحن بمناسبة الأشياء وصرفنا النظر عن الأشياء أنفسها كان لنا علم المنطق.

(ﺟ) وكون الموجود جسميًّا والمعرفة حسية يستتبع أن موضوع القضية جزئي، وقد يكون معينًا يشار إليه بالبنان مثل قولنا: «هذا»، أو غير معين مثل قولنا: «بعض»، أو نصف معين مثل قولنا: «سقراط» دون إشارة بالبنان إلى شخص المسمى، والمحمول فعل صادر عن الموضوع أو حدث عارض له مثل «سقراط يتكلم» بحيث تترجم القضية عن فعل جسم في جسم أو انفعال جسم بجسم، فإن لكل شيء في كل ظرف صورة واحدة بعينها هي موضوع التصديق، والجزئيات متميزة بعضها من بعض في وجودها وتفاصيل تكوينها مهما تشابهت وإلا امتنع تمييز شيء من شيء، فالقضية هي العبارة الدالة على صدور فعل عن فاعل، وليست وضع نسبة بين معنيين كما هو الحال عند أفلاطون وأرسطو، ولما كان العالم مجموعة جزئيات مترابطة متفاعلة كان أهم القضايا وأصدقها تعبيرًا عن الوجود وأولاها بالعناية هي التي تتضمن نسبة بين شيئين أي بين قضيتين للترجمة عن النسب الحقيقية بين الأشياء، وبعبارة أخرى هي القضايا المركبة، وبهذه النظرية يظن الرواقيون أنهم يتفادون الصعوبة التي كان قد أثارها السوفسطائيون والسقراطيون في إمكان إسناد ماهية إلى أخرى، وهم يهملون المفهوم والماصدق وما يترتب عليهما من عكس القضايا وقواعد القياس.

(د) ولذلك لم يعنوا بغير القياس الاستثنائي، وهو الذي يستخرج النتيجة من قضية مركبة فيها نسبة بين حدثين أو أكثر معبر عن كل حدث بقضية حملية، والقضايا المركبة عندهم خمس؛ فالأقيسة خمسة:
  • (١)

    قياس مقدمته الكبرى شرطية متصلة مثل: إذا كان النهار طالعًا فالشمس ساطعة، والنهار طالع، إذن فالشمس ساطعة.

  • (٢)

    قياس مقدمته الكبرى شرطية منفصلة مثل: إما النهار طالع وإما الليل مخيم، والليل مخيم، إذن فليس النهار طالعًا، أو: والنهار طالع، إذن فليس الليل مخيمًا.

  • (٣)

    قياس مقدمته الكبرى فيها تقابل بالتضاد أو بالتناقض مثل: ليس بصحيح أن يكون أفلاطون قد مات وأن يكون حيًّا، ولكن أفلاطون قد مات، إذن ليس أفلاطون حيًّا، أو: ولكن أفلاطون حي، إذن ليس بصحيح أن أفلاطون مات.

  • (٤)

    قياس قضيته الكبرى سببية مثل: من حيث إن الشمس ساطعة فالنهار موجود.

  • (٥)

    قضيته الكبرى فيها مفاضلة مثل: زيد أعلم أو أقل علمًا من عمرو.

وبالجملة هذه الأقيسة تربط حدثين أو تفرق بينهما، والقياس الأول أهم؛ لأنه يعبر عن نسبة ضرورية أي متضمنة منذ البدء في نظام العالم، وليس التالي فيه معلولًا للمقدم، ولكنهما جميعًا معلولان لهذا النظام العام، ويعادله القياس الذي مقدمته الكبرى تتضمن تقابلًا بالتناقض، وإذا ألفت أمثال هذه المقدمات في مجموعة كانت أصول علم أو فن كالطب والتنجيم والعرافة … إلخ. والمنطق الرواقي استقرائي يقوم على أن العالم مؤلف من ظواهر مرتبطة بعضها ببعض، لا كالمنطق الأرسطوطالي القائم على ارتباط الماهيات، وهو يشبه منطق الأطباء والمنجمين الذين يستدلون على الأمراض أو الطوالع بعلاماتها كما يتبين من القضية الكبرى في الأقيسة المركبة، غير أن العلاقة بين الظواهر ولو أنها مدركة بالحواس إلا أنها قائمة على العلية المنطقية التي تربط بينها بحيث يكون القياس في الحقيقة استدلالًا على الشيء بالشيء نفسه؛ إذ إن النهار وسطوع الشمس واحد، والمرض وعلته واحد، والجرح وأثره واحد وهكذا.

(٨٩) الطبيعة

(أ) قلنا: إن الرواقيين ماديون فقد كانوا كالأبيقوريين يعتقدون أن كل موجود فهو جسمي حتى العقل وفعله، فإن تحدثوا عن لا جسميات أو معقولات أرادوا بها أفعال الأجسام، ومنها أفكار العقل، وأيضًا المكان والخلاء والزمان باعتبارها أوساطًا فارغة تقبل ما يملؤها وليس لها ما للأجسام من فعل وانفعال، ولكنهم خالفوا الأبيقوريين في تصور المادة، فلم يقفوا عند أجزاء لا تتجزأ هي الجواهر الفردة، بل ذهبوا إلى أن المادة متجزئة بالفعل إلى غير نهاية، مفتقرة إلى ما يردها للوحدة في كل جسم، فكان الجسم عندهم مركبًا من مبدأين هما مادة ونَفَس حار يتحد بالمادة ويتوتر فيستبقي أجزاءها متماسكة، وانقسام المادة إلى غير نهاية يسمح للنفَس الحار أن يتحد بها تمامَ الاتحاد؛ أي أنْ ينتشر فيها كلها انتشارَ البخورِ في الهواء والخمر في الماء بحيث يؤلفان «مزيجًا كليًّا» فيوجدان معًا في كل جزء من مكانهما دون أن يفقدا شيئًا من جوهرهما وخواصهما، هما بمثابة الهيولى والصورة عند أرسطو، إلا أن الصورة بسيطة والنفَس شيء جسمي يوجد في المكان بالذات، وبتفاوت التوتر يتفاوت التماسك وتتفاوت الشخصية أو الفردية في الأجسام، والنفَس الحار هو في الحيوان والإنسان نفْس أي مبدأ الحركة الذاتية الصادرة عن نزوع حركة تصور، فبهذا المعنى ليس للنبات نفْس؛ إذ ليس له تصور ولا حركة ذاتية من هذا القبيل، والحركة النزوعية في الحيوان تصدر عن التصور بالذات، أما في الإنسان فإن للنفْس أن تتدبرها، إن قبلتها صدرت وإن رفضتها بطلت، والقبول والرفض ميسران للإنسان بفضل العقل، والإنسان عاقل من دون الحيوان.

(ب) وحكم العالم بأجمعه حكم أي جسم، فالعالم حي له نفَس حار هو نفس عاقلة تربط أجزاءه وتؤلف منها كلًّا متماسكًا، فالحرارة أو النار هي المبدأ الفاعل، والمادة المبدأ المنفعل، كانت النار في الخلاء اللامتناهي ولم يكن عداها شيء، وتوترت فتحوَّلت هواءً، وتوتر الهواء فتحول ماءً، وتوتر الماء فتحول ترابًا، وانتشر في الماء نفَس حار ولَّد فيه «بذرة مركزية» هي قانون العالم «لوغوس» بمعنى أنها تحوي جميع الأجسام وجميع بذور الأحياء منطوية بعضها على بعض أو كامنة بعضها في بعض بحيث إن كل حي فهو «مزيج كلي» من ذريته جمعاء، فانتظم العالم بجميع أجزائه دفعة واحدة وأخذت الموجودات تخرج من كمونها شيئًا فشيئًا وما تزال تخرج بقانون ضروري أو «قدر» ليس فيه مجال للاتفاق، وإن نظام الطبيعة ليدل على أنها ليست وليدة الاتفاق ولا الضرورة العمياء بل الضرورة العاقلة، فكل ما يحدث فهو مطابق للطبيعة الكلية، ونحن إذ نتحدث عن أشياء مخالفة للطبيعة إنما ننظر إلى طبيعة موجود معين ونفصله عن المجموع، ولكن النار تعود فتخلص بالتدريج من العناصر الأخرى فلا تأتي «السنة الكبرى» حتى يكون قد تم الاحتراق العام، ثم يعود الدور على نفس النسق بنفس الموجودات ونفس الأحداث، وهكذا إلى غير نهاية.

(ﺟ) فالعالم قديم ولكن نظامه حادث «خلافًا لما ذهب إليه أرسطو» فإن الملاحظة تدل على أن سطح الأرض يتساوى باستمرار والبحر ينحسر باستمرار، فلو كان نظام العالم قديمًا لكانت الأرض قد صارت مسطحة ولكان البحر قد نضب، ثم إنَّا نرى جميع جزئيات العالم تفسد فكيف لا يفسد مجموعه؟ وثالثًا إن كثيرًا من الفنون والصناعات الضرورية للإنسان والتي وُجدت معه في وقت واحد لضرورتها ما تزال في أوائلها فلا يمكن أن يرتقي النوع الإنساني إلى عهد بعيد. والعالم جسم كامل كري كله وجود أي ملاء، وخارجه إلى ما لا نهاية اللاوجود أي الخلاء، أما أجزاؤه فليست كاملة؛ لأنها لا توجد بذاتها ولذاتها، ولكنها تتعلق بالكل. والعالم واحد بوحدة القوة المحالة فيه، يحده فلك الثوابت وتزينه الكواكب وهي أحياء عاقلة تدور بالإرادة، والهواء مأهول بأحياء غير منظورة هي الآلهة والجن، والأرض ثابتة في المركز إما لأن الهواء يضغطها من كل جانب فتثبت كما تثبت حبة الذرة في وسط الأنبوبة المنفوخة، وإما لأن ثقلها على صغرها يوازي ثقل بقية العالم ويوازنه، ولما كان العالم واحدًا كانت جميع أجزائه مترابطة متضامنة تنتقل الحركات بينها رغم المسافات كما تنتقل الحركة في الحيوان من جزء إلى آخر، والتأثيرات السماوية علة الأحداث الأرضية تتناول المعلولات الكلية، وهي فصول السنة، والمعلولات الجزئية بالتفصيل على ما يبين علم التنجيم، وكان هذا العلم قد انتشر منذ القرن الثالث، فاشتغل به الرواقيون واشتغلوا بالعرافة وتعبير الأحلام.

(د) والعالم إلهي بالنار التي هي العلة الأولى والوحيدة، وبما فيها من عقل وقانون وضرورة وقدر، وكل أولئك مترادفات يراد بها المعقولية التامة في الأشياء، وهذه المعقولية تقتضي القول بالعلل الغائية، وقد قال بها الرواقيون وحشدوا لها الأمثلة الكثيرة من الجماد والنبات والحيوان، وأسرفوا في ذلك فاخترعوا الغايات، وكذلك ظنوا أن هذه المعقولية تقضي بإنكار القوة المقابلة للفعل، وهي في الواقع غير معقولة بذاتها ولا تعقل إلا بالإضافة إلى الفعل، فأنكروها، ورفضوا حد أرسطو للحركة وقالوا: إن المتحرك هو ما هو في كل آن أي إنه في كل آن بالفعل لا بالقوة، وما نظريتهم في كمون الأشياء بعضها في بعض وخروجها بعضها من بعض خروجًا آليًّا سوى نتيجة لإنكار القوة، إذن العالم إلهي معقول تمامًا، وهم يذكرون الله ويتوجهون إليه بالصلاة، ويقصدون النار وقانونها أو ذلك «العقل الكلي الذي وقعت بموجبه الأحداث الماضية وتقع الأحداث الحاضرة وستقع الأحداث المستقبلة»، وهم يذكرون الآلهة بأسمائهم الميثولوجية، فيجارون الديانة الشعبية في الظاهر ويعنون في الحقيقة ما ترمز له هذه الأسماء من الكواكب والعناصر والأحداث الكونية، وهم يذكرون العناية الإلهية ويريدون بها تلك الضرورة العاقلة التي تتناول الكليات والجزئيات، ويبرئونها من الشر بقولهم: إن لكل شيء ضده، فالشر ضروري للعالم كضد الخير، وإن الله يريد الخير طبعًا ولكن تحقيق الخير قد يستلزم وسائل لا تكون خيرًا من كل وجه، أما الشر الخلقي أو الخطيئة فيعزونها إلى حرية الإنسان ويحاولون التوفيق بين هذه الحرية وبين القدر والضرورة بقولهم: إن الظروف الخارجية أي مناسبات أفعالنا محتومة ولكنها ليست محتِّمة بذاتها، فإن أفرادًا مختلفين خلقًا إن وجدوا في نفس الظروف لم يأتوا نفس الأفعال، فالظروف تحرك الإنسان وخلقه يعين سيرته، أجل؛ إن الخلق من فعل القدر، وكل ما نأتيه متضمن في القدر، ولكن القدر لا يستتبع القعود والتواكل، فنحن من جهة نعلم أن الظروف الخارجية غير محتمة للفعل ومن جهة أخرى نحن نجهل العلة التي تحتم الفعل، فالفعل بالإضافة إلينا غير محتوم ولنا أن نعمل كأننا أحرار.

(٩٠) الأخلاق

(أ) تتجه الطبيعة إلى غاياتها عفوًا دون تصور ولا شعور في الجماد والنبات، وبالغريزة مع تصور وشعور في الحيوان وتتخذ في الإنسان طريقًا آخر هو العقل أكمل الطرق لتحقيق أسمى الغايات، فوظيفة الإنسان أن يستكشف في نفسه العقل الطبيعي وأن يترجم عنه بأفعاله؛ أي أنْ يحيا وفق الطبيعة والعقل، وقد وهبتنا الطبيعة حب البقاء ميلًا أساسيًّا يهدينا إلى التمييز بين ما هو موافق لها وما هو مضاد، فنحن نطلب ما ينفعنا ونجتنب ما يضرنا بالطبع عملًا بهذا الميل الأولي، ومن الخطأ القول مع الأبيقوريين: إن الميل الأولي منصرف إلى اللذة؛ فما اللذة إلا عرض ينشأ حين يحصل الكائن على ما يوافق طبيعته ويستبقي كيانه، وإلى جانب هذا الميل العام وهبتنا الطبيعة ميولًا خاصة كلها طيبة وموضوعاتها موافقة للطبيعة، وبالعقل يدرك الإنسان الحكيم أنه جزء من الطبيعة الكلية، وأن حبه للبقاء متصل بإرادة الطبيعة الكلية أن تبقي وتابع لها، فيضع الحكمة والخير بمعنى الكلمة في مطابقة إرادته للإرادة الكلية، ويعتبر الموضوعات الخارجية منافع وأضدادها مضار، ولا يراها جديرة بأن تسمى خيراتٍ وشرورًا، فإن هاته الموضوعات أشياء جزئية متعلقة بالطبيعة الجزئية التي تشتهيها ونسبية إليها، أما الإرادة الصالحة فشيء مطلق كالإرادة الكلية ومدرك بالعقل، وهاتان صفتان تميزان الخير مما عداه، والخير مغاير بالكيف للموضوعات الجزئية لا بالكم فلا ينال بجمع بعضها إلى بعض أو بزيادتها إلى نهاياتها القصوى، وهو ممدوح لذاته، وهي لا تمدح مستقلة عنه، وقد تعرض للحكيم ظروف تصرفه عنها دون أن تجعله مذمومًا، والخير الفضيلة، فليس للفضيلة موضوع خارجي تتوجه إليه، ولكنها تنتهي عند نفسها وتقوم في إدارة المطابقة مع الطبيعة، وليست تقاس قيمتها بغاية تحققها ولكنها هي الغاية تشتهى لذاتها، فهي كاملة منذ البداية، تامة في جميع أجزائها، وما هذه الأجزاء سوى وجهات لها مختلفة باختلاف الأحوال: الشجاعة هي الحكمة فيما يجب احتماله، والعفة هي الحكمة في اختيار الأشياء، والعدالة هي الحكمة في توزيع الحقوق، فالحكيم أو الإنسان الكامل هو الذي يعلم أن كل شيء في الطبيعة إنما يقع بالعقل الكلي أو بالإرادة الإلهية أو بالقدر، فيعتبر ميوله وظائف لتحقيق هذه الإرادة الكلية، ويقبل مفاعيل القدر طوعًا. ولكن أليس القول بالقدر من ناحية وحصر الخير في الإرادة من ناحية أخرى يزهدان الإنسان في كل عمل وينتهيان به إلى الجمود؛ إذ تتساوى عنده الأشياء فلا يقوم لديه سبب لاختيار بعضها دون بعض؟ كلا فإن القدر مغيب عنا كما أسلفنا، والموضوعات الخارجية، وإن لم تكن خيراتٍ وشرورًا بالذات، إلا أنها مادة الإرادة، ولولاها لبقيت الإرادة قوة صرفة ولم تخرج إلى الفعل ولم تحقق الخير، وهي إنما تفعل بالاختيار بينها، فالإنسان الكامل يعتبر الموضوعات المطابقة للطبيعة جديرة بالاختيار، والموضوعات المضادة لها منبوذة، دون أن يتعلق بموضوع دون آخر، ودون أن يريد موضوعًا ما كما يريد الخير، فإذا ابتلي بمرض أو أصابته مصيبة آثر ذلك لعلمه أنه مقدر عليه، فيتوفر له الخير الحقيقي في كل حال، اللهم إلا إذا نزلت به فوادحُ لا تطاق، فله حينئذ أن ينتحر ويتخلص من حياة لم يعد فيها شيء مطابقًا للطبيعة، وفيما خلا هذه الشدائد فإنه يصمد للدهر لا يخاف ولا يرجو ولا يأسف ولا يندم، بل يرتفع بنفسه فوق كل شيء ويحتفظ بحريته وينعم بفضيلته.

(ب) وأدنى من الإنسان الكامل مرتبة إنسان ناقص يعلم وظائفه وحدودها ولكنه لا يرتقي بعقله وإرادته إلى الطبيعة الكلية، فلا يرى في الوظائف توابع لإرادته بل يعتبرها واجبات مفروضة ويؤديها على هذا الاعتبار واحدة بعد أخرى متفرقة لا تجمعها فكرة الطبيعة الكلية، فتظل أفعاله من جنس موضوعاتها لا خيرًا ولا شرًّا، ينقصها لكي تصير خيرًا وفضيلة أن تصدر عن العقل المطابق للعقل الكلي ولأجل هذه المطابقة، والنقصان على درجات: درجة دنيا الإنسان فيها بريء من معظم النقائص لا منها جميعًا، ودرجة تالية الإنسان فيها بريء من جميع الأهواء ولكنه عرضة للسقوط فيها، ودرجة ثالثة وأخيرة الإنسان فيها آمنٌ خطر السقوط ولا يفتقر ليكون حكيمًا لغير الشعور بالحكمة، ولكنه ناقص ما دام لم يبلغ إلى هذا الشعور وفي أية درجة كان، مثله مثل الغريق فإنه مختنق سواء أكان في قاع الماء أو قريبًا من السطح، أو مثل الرامي فإنه مخطئ سواء أجاء سهمه قريبًا من الهدف أو بعيدًا منه؛ ذلك بأن الحكمة شيء غير منقسم لا يحتمل التدرج، هي استقامة الإرادة إما أن توجد أو لا توجد كما أن الخط إما مستقيم أو منحن ولا وسط.

(ﺟ) ويليه الإنسان الشرير أو الضال غابت عنه فكرة الطبيعة الكلية وانحرفت ميوله عن استقامتها الأولى فاتخذ نفسه مركزًا للوجود وعارض الخير الكلي بأشباح من الخيرات الجزئية أو المنافع وحصر سعادته فيها فتعرض لشتى الهموم والآلام، أفعاله مناقضة للحكمة كل المناقضة، كلها عصيان للعقل وللطبيعة فكلها متساوية ليس بينها خفيف وثقيل إلا من جهة أن منها ما يتضمن معاصي أكثر من غيره فيعد أثقل، كقتل الأب مثلًا فإنه يتضمن إزهاق النفس والغدر ونكران الجميل، وتتفاوت العقوبات بهذا الاعتبار، وتنحرف الميول باتخاذ اللذة الناشئة عن إرضائها غرضًا وغاية، وتساعد البيئة على ذلك بما تفرض على الأطفال من عادات لاتقاء البرد والجوع والألم على أنواعه فتقنعهم بأن كل ألم شر، وبإشادتها طوال مدة تربيتهم باللذة والمال والكرامة بلسان الأهل والمرضعات والمعلمين والشعراء والفنانين، فتنقلب الميول انفعالات وأهواء أي ميولًا مسرفة مضادة للعقل تزعج النفس وتحول دون الفضيلة والسعادة، وليس الانفعال أو الهوى الإحساس اللاذ أو المؤلم الحادث في النفس عن الأشياء، ولكنه قبول النفس لهذا الإحساس، والفرق بينهما كالفرق بين الألم والحزن أو بين اللذة والغبطة؛ فإن الحزن والغبطة موقفان للإنسان بما هو عاقل بإزاء الألم واللذة اللذان هما حالان له بما هو حاس، فالانفعال صادر عن رضا النفس أو نفورها بإزاء إحساس ما أو حدث ما؛ أي إنه حكم: مثال ذلك ليس حكمنا بأن «موت الصديق مصيبة» هو الذي يحرك النفس بل الحكم بأنه «من اللازم أو اللائق أن نحزن لهذه المصيبة» بحيث إذا أردنا أن نستبعد الحزن وجب أن نستبعد هذا الحكم لا الحكم الأول، وقِسْ على ذلك سائر الانفعالات، فالانفعالات مخالفة للطبيعة وللعقل من هذه الناحية ومن ناحية المبالغة فيها واضطراب النفس بها، وهي جميعًا رديئة يجب استئصالها، وهي أمعن في عدم المعقولية فإن زيادتها ونقصانها مستقلان عن الحكم إلى حد ما؛ إذ نرى الحزن مثلًا أشد عند قرب العهد بالحكم منه بعد تقادمه، وقد ينمو الانفعال ويرسخ فيصير مرضًا في النفس يتعذر علاجه وهذه أدنى الدركات.

فالرواقيون يعودون إلى رأي سقراط أن الفضيلة علم والرذيلة جهل، ويقولون: إن الانفعال صادر عن قوة غير عاقلة أو إنه العقل يصير غير عاقل بتراخي النفس وجريها مع الميل المسرف والحكم الكاذب، ولكن كيف يمكن مثل هذا الحكم وكل ما في الطبيعة صادر من العقل الكلي صدورًا ضروريًّا؟

(د) إذا انحصر الخير في الإرادة وكانت الأشياء لا خيرًا ولا شرًّا نتج أن الأخلاق والقوانين المختلفة بين الشعوب عرفية بحتة كما كان يقول السوفسطائيون والكلبيون، أما الاجتماع في حد ذاته فمطابق للطبيعة صادر عن الأسرة، وهي جماعة طبيعية، بامتداد التعاطف إلى خارج نطاقها خلافًا لما يقول أبيقوروس، ولا ينبغي أن يقف هذا التعاطف عند حد، ولا أن يتفرق الناس مدنًا وشعوبًا لكل منها عصبيته وقانونه، فإنهم جميعًا إخوة ليس بينهم أسياد وعبيد، وهم جميعًا مواطنون من حيث إنهم متفقون في الماهية وموجودون في طبيعة واحدة هي أمهم وقانونهم، فوطن الحكيم الدنيا بأسرها — وما أبعدنا عن أفلاطون وأرسطو — ويقوم الحكيم بجميع وظائف المواطن، بخلاف ما يريده الأبيقوريون، فيؤسس أسرة ويعنى بالسياسة، ولكنه لا يثور على النظام القائم ولا يحاول تحقيق مدينة مثلى، بل يعتبر النظم السياسية سواء ويجتهد في حسن التصرف بها.

(ﻫ) ولقد كانت الرواقية مدرسة فضيلة وشمم وشجاعة وإن لم يخلُ أصحابها من العُجب وحب الظهور يذهبان ببعضهم أحيانًا إلى حد الانتحار؛ إظهارًا لشجاعتهم وفضيلتهم، مع أن مبادئهم تستوجب إنكار الانتحار واعتباره مناقضًا لحب البقاء وثورة على الطبيعة الكلية التي وهبتنا ذلك الميل الأساسي، وعرفت المدرسة عصرًا ثانيًا هو «الرواقية المتوسطة» في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد أهم رجاله آسيويون كذلك من طرسوس وسلوقية وصيدا، خالف بعضهم الزعماء الأولين في مسائل ثانوية، ثم عصرًا أخيرًا رومانيًّا هو «الرواقية الجديدة» في أيام القياصرة، أشهر أسمائه سنيكا وأبيقتاتوس والإمبراطور مرقس أوراليوس، وهم الرواقيون الوحيدون الذين وصلت كتبهم إلينا كاملة، وهي متأخرة أربعة قرون على تأسيس المدرسة، وبعد ذلك لم تعدم المدرسة أتباعًا متفرقين، ونحن نجد في رسائل إخوان الصفا كثيرًا من الآراء الرواقية في وحدة الطبيعة وفي القدر والحرية والأخلاق والتنجيم، ونحن نرى أن مذهب أسبينوزا ما هو إلا المذهب الرواقي في ثوب ديكارتي، وأن الأخلاق عند كَنْط هي الأخلاق الرواقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤