الفصل الخامس

الأفلاطونية الجديدة

(٩٥) فيلون الإسكندري

(أ) في القرن الثاني قبل الميلاد نهضت الأفلاطونية في عدة مدن بين أهل الطبقة الراقية، وفي القرن التالي نهضت الفيثاغورية كمدرسة خلقية، واختلطت النزعتان عند كثير من المفكرين وتأثرتا بالديانات الشرقية، وفي القرنين الأول والثاني للميلاد زاد الإقبال على كتب أفلاطون ووضعت عليها الشروح وبالأخص على «ثيماوس»، وقام الجدل فيما يذكر هذا الكتاب عن أصل العالم فكانت الكثرة على أن العالم عند أفلاطون قديم، وكان اليهود والمسيحيون على أنه حادث مصنوع.

واتخذت الأفلاطونية شكلًا جديدًا ظاهرًا عند فيلون اليهودي الإسكندري، وكانت الإسكندرية قد خلفت أثينا كمركز للفلسفة واكتظت بالعلماء من مصريين ويهود ويونان ورومان، وكانت جاليتها اليهودية غنية زاهرة آخذة بحظ عظيم من الثقافة اليونانية حتى إنها لم تكن تقرأ التوراة إلا في الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية،١ وكانت تعتقد في معظمها أن الوحي الإلهي يشمل هذه الترجمة أيضًا، وكان فيلون كبير القدر في قومه، لم يُضبط تاريخه، فهو يوضع ما بين سنة ٤٠ قبل الميلاد وسنة ٤٠ بعده، ومما يذكر عنه أنه ذهب في أواخر أيامه في وفد إلى روما يشكو معاملة الحاكم الروماني على مصر لأهل ملته، ولم يكن يعرف العبرانية فقرأ التوراة باليونانية وشرحها بهذه اللغة، وغرضه أن يبين لليونان أن في التوراة فلسفة أقدم وأسمى من فلسفتهم، وكان يهود الإسكندرية يشرحونها شرحًا رمزيًّا كما كان اليونان قد ألفوا أن يشرحوا هوميروس منذ زمن طويل، فكانوا يصورون التوراة بالإجمال كأنها قصة النفس مع الله، تدنو منه تعالى أو تبتعد عنه بمقدار ابتعادها عن الجسر أو دنوها منه، وكانوا يُؤَوِّلون الفصل الأول من سفر التكوين مثلًا بأن الله خلق عقلًا خالصًا ثم صنع على مثال هذا العقل عقلًا أقرب إلى الأرض «آدم» وأعطاه الحس «حواء» معونة ضرورية له، فطاوع العقل الحس وانقاد للذة «الحية» وهكذا.

(ب) وفيلون يدمج في شرحه الضخم الآراء الفلسفية المعروفة في عصره مبعثرة من غير ترتيب، ولا يعنى بتلخيص آرائه وتحديد معاني ألفاظه، بل لا يحجم أحيانًا كثيرة عن الجمع بين آراء متنافرة، بحيث يتعذر تصوير فكره، ويستخلص من هذا المزيج بضعة أفكار: الفكرة الأساسية هي فكرة إله مفارق للعالم، خالق له، معني به ولكنه من البعد عن كل ما يدركه العقل بحيث لا نستطيع أن نعلم عنه شيئًا آخر، فكل ما ورد في التوراة من تشبيه يجب أن يُؤَوَّل بحسب هذا الاعتبار، وفكرة أخرى هي أن العناية ليست مباشرة ولكنها تتخذ وسطاء، وكذلك لا تبلغ النفس إلى الله إلا بوسطاء، والوسيط الأول هو «اللوغوس» أو الكلمة ابن الله نموذج العالم، ويليه الحكمة فرجل الله أو آدم الأول فالملائكة فنفس الله وأخيرًا «القوات» وهي كثيرة ملائكة وجن نارية أو هوائية تنفذ الأوامر الإلهية، وتطهير النفس بالزهد وعلى الأخص بالعبادة الباطنة يصعد بها من وسيط إلى وسيط حتى الوسيط الأعظم أي كلمة الله، ويبدأ التطهير والصعود والعودة إلى الله حين يعلم الإنسان بطلان المحسوسات وزوالها — وفيلون يدلل عليه بحجج أناسيداموس — وغاية النفس البلوغ إلى الله بالذات والاتحاد به لا الوقوف عند معرفة الله بواسطة العالم — وهذا حظ الأكثرين — أو معرفة الله بالوسيط — وهذه درجة أرقى — فإذا ما أردنا أن نتبين ماهية هؤلاء الوسطاء اعترضنا تعدد النصوص وتباينها: فاللوغوس هو تارة الوسيط الذي خلق الله العالم به كما يصنع الفنان بآلة والذي نعرف الله به والذي يشفع لنا عند الله، وهو طورًا ملاك الله المذكور في التوراة أنه ظهر للآباء وأعلن إليهم أوامر الله، وهو مرة قانون العالم وقدره على مذهب هرقليطس والرواقيين، ومرة أخرى هو المثال والنموذج الذي خلق الله العالم على حسبه كما يقول أفلاطون، وغير ذلك كثير، أما «القوات» فهو تارة يردها إلى المثل الأفلاطونية وطورًا يتصورها روابط تشد الأشياء وتوحدها على رأي الرواقيين، وحينًا هي درجات صعود النفس إلى الله وحينًا آخر هي صفات الله.

(٩٦) أفلوطين

(أ) من الإسكندرية أيضًا خرج أفلوطين أكبر مجددي الأفلاطونية، وُلد في ليقوبوليس من أعمال مصر الوسطى سنة ٢٠٥ ميلادية، وبقي بها إلى الثامنة والعشرين، ثم قصد إلى الإسكندرية وتتلمذ لأمونيوس الملقب بساكاس أي الحمال؛ لأنه كان حمالًا قبل أنْ يشتغل بالفلسفة، وأمونيوس هو المؤسس الحقيقي للأفلاطونية الجديدة كمذهب فلسفي، نشأ مسيحيًّا ثم ارتد إلى الوثنية اليونانية، ولسنا ندري عنه شيئًا كثيرًا فإنه لم يدون آراءه، ولم يصلنا تفصيلها، إنما يقال: إنه كان يوجه همه إلى خلق حياة روحية في تلاميذ قليلين مختارين، وظل أفلوطين يأخذ عنه إحدى عشرة سنة، ثم أراد أن يقف على الأفكار الفارسية والهندية، فالتحق بالجيش الروماني المجرد على فارس، ولكن هذا الجيش بعد أن طرد الفرس من سوريا انهزم في العراق، فلجأ أفلوطين إلى أنطاكية ثم رحل إلى روما سنة ٢٤٥ وأقام بها حتى مماته سنة ٢٧٠، وكان مجلسه بها حافلًا بالعلماء وكبار رجال المدينة حتى لقد تتلمذ له الإمبراطور والإمبراطورة؛ لسمو نفسه وعظيم حكمته في إرشاد مريديه في الحياة الروحية.

(ب) ولم يشرع في الكتابة إلا حوالي الخمسين، كان يكتب أو يملي على عجل ويدع لتلميذه وكاتب سره فورفوريوس مراجعة الأوراق، كتب أربعًا وخمسين رسالة هي صورة لتعليمه الشفوي، وكان تعليمه شرحًا على نص لأفلاطون أو لأرسطو أو لواحد من شراحهما، أو علي قضية رواقية أو على دعوى شكية أو جوابًا على سؤال أو ردًّا على اعتراض، فليست رسائله عرضًا منظمًا لمذهبه ولكنها سلسلة محاضرات لتوضيح نقط خاصة بالرجوع إلى مذهب أفلاطون، والموضوعات المأثورة هي أقوال أفلاطون في الخير والجمال والحب والجدل كما وردت في ثيماوس والمأدبة وفيدروس والمقالتين السادسة والسابعة من الجمهورية، والموضوع الرئيسي النجاة: نجاة النفس من سجنها المادي وانطلاقها من عالم الظواهر إلى موطنها الأصلي عالم الوجود والحقيقة، والمنهج تارة الجدل الصاعد من الظواهر إلى الوجود، وطورًا الجدل النازل من الوجود إلى الظواهر. وبعد وفاته جمع فورفوريوس الرسائل وقدم لها بترجمة لأفلوطين ووزعها على ستة أقسام في كل قسم تسع رسائل متابعة لاعتقاد الفيثاغوريين بمزايا الأعداد فسميت بالتاسوعات، ويمكن أن يقال: إن التاسوعة الأولى خاصة بالإنسان، والثانية والثالثة بمحيطه أي بالعالم المحسوس، والرابعة بالنفس، والخامسة بالعقل، والسادسة بالوجود.

(ﺟ) قبل عرض مذهب أفلوطين يجب أن نذكر أركان الوجود عند أفلاطون، وهي ترجع إلى أربعة: أولها «الواحد» الذي حل محل مثال الخير ومثال الجمال والصانع (٣٣–د) والذي ينطبق عليه من باب أولى أنه ليس بماهية وإنما هو شيء أسمى من الماهية لا يوصف، أو لا يوصف إلا سلبًا (٣٤–ب). والركن الثاني النموذج الحي بالذات الحاوي جميع المثل. الثالث النفس العالمية (٣٥–أ). والرابع المادة. فأفلوطين يضع كذلك «أقانيم أربعة» أي أربعة جواهر أولية: «الواحد» أو الأول ثم ثلاثة صادرة على النحو الآتي هي: العقل فالنفس فالمادة، وهو يبرهن على وجودها بالجدل الصاعد ويبين الصدور بالجدل النازل، فمن الوجه الأول يقول مع الرواقيين: إن تفاوت الموجودات في الوجود تابع لدرجة توترها واتحاد أجزائها، ولكنه ينكر قولهم: إن اتحاد أجزاء المادة يتم بمادة فإن من شأن المادة التفكك والتشتت، ويذهب إلى أنه يجب تصور وحدة الموجود على مثال وحدة العقل والعلم؛ فإن العلم واحد مع تألفه من قضايا كثيرة؛ لأن كل قضية فهي تحتوي على سائر القضايا بالقوة فأجزاء العلم متحدة غير منفصلة بفضل وحدة العقل الذي يدركها، فالنظر في معنى الموجود وفي ضرورة وحدته يؤدي بنا من الجسمي إلى اللاجسمي، والوجود الحقيقي هو التأمل والفكر الذي يرد الكثرة إلى الوحدة، وكل موجود لا يكون اتحاد أجزائه تامًّا فهو يقتضي فوقه اتحادًا أتم، وعلة الوحدة في الموجود الأدنى هي تأمله المبدأ الأعلى؛ فإن الحيوان والنبات وكل موجود إنما يحصل على صورته بحسب تأمله مثاله ونموذجه المعقول، والطبيعة كلها تتأمل النموذج الذي تحاول أن تحاكيه تأملًا صامتًا لا يقارنه شعور، وفوق الطبيعة النفس علة وحدة الطبيعة كما أن النفس الجزئية علة اتحاد أجزاء الجسم الحي، وفوق النفس الكلية العقل موضوع تأملها وعلة وحدتها، فإن المعقولات مترابطة متضامنة وتقتضي عقلًا كليًّا يحويها ويدرك ترابطها، وفوق العقل «الواحد» الذي لا كثرة فيه البتة والذي هو رباط الأشياء جميعًا.٢
(د) ومن الوجه الثاني أي بالجدل النازل٣ نبدأ بالواحد أو الأول وهو بسيط ليس فيه تنوع، ليس هو الوجود؛ «لأن الوجود معين أي ماهية محدودة ومعقولة»، وإنما هو مبدأ الوجود ووالده والوجود بمثابة ابنه البكر، فهو الأشياء جميعًا؛ «لأنه يحويها بالقوة» دون أن يكون واحدًا منها «من حيث أن ليس فيه تعيين أو تمييز وأنه يظل في ذاته؛ إذ يعطيها الوجود»، وهو كامل لا يفتقر إلى شيء، ولما كان كاملًا فهو فيَّاض، وفيضه يحدث شيئًا غيره، فيتوجه الشيء المحدث نحوه ليتأمله فيصير عقلًا «أي يصير الأقنوم الثاني الذي هو وجود وعقل وعالم معقول، فما هو غير معين في الأول يتعين في الثاني، والثاني حاوٍ المثل الكلية أي الأجناس والأنواع ومثل الجزئيات أيضًا وإلا لكان العالم المحسوس أغنى من العالم المعقول وهذا محال.» ولما كان العقل شبيهًا بالواحد فإنه يفيض قوته فيحدث صورة منه هي النفس الكلية، وتتوجه النفس نحو العقل الصادرة عنه وتفيض فيوضًا كثيرة «لا فيضًا واحدًا كالأول والعقل» فتلد نفوس الكواكب ونفوس البشر وسائر المحسوسات، فالأشياء جميعًا بمثابة حياة تمتد في خط مستقيم من أعلى إلى أسفل، وكل نقطة من نقط هذا الخط تختلف عن غيرها ولكن الخط كله متصل، «والعالم المحسوس حيوان كبير أو إنسان كبير، والنفس علة حركاته الكلية أي حركات الأجرام السماوية؛ لأن الحركة الدائرية تحاكي حركة النفس على ذاتها، والنفس الكلية وسط بين العالمين المعقول والمحسوس تتأمل الأول وتدبر الثاني، أو بعبارة أدق تدبر الثاني بتأمل الأول.» والمادة آخر مراتب الوجود قبل ظلمة العدم، وهي وجود مطلق «لا وجود ناقص له نسبة للصورة كما عند أرسطو»، وهي مع ذلك غير معينة، فلا يوجد اتحاد حقيقي بين المادة والصورة وإنما الشيء المحسوس عبارة عن انعكاس الصورة على المادة دون أن يؤثر هذا الانعكاس في المادة، كما أن الضوء لا يؤثر في الهواء، وهذا القصور عن قبول الصورة والاحتفاظ بها وعن الاتصاف بأي صفة هو الشر بالذات وهو أصل الشرور التي تلحق العالم المحسوس.
(ﻫ) واتصال النفس بالمادة هو كذلك أصل نقائصها وشرورها، فلا يكون التطهير بإخضاع المادة بل بالخلاص منها والعودة إلى حال النفس الأول، والفلسفة وسيلة النفس في صعودها حتى تصل إلى الأول الواحد، ولكنها لا تصل إليه بحدس عقلي من حيث إن المعين وحده هو الذي يمكن أن يكون موضوع إدراك، بل بنوع من «التماس» لا يوصف ولا يصدق عليه أنه معرفة ولا يميز فيه بين عارف ومعروف؛ لأنه عبارة عن اتحاد تام وغبطة بهذا الاتحاد، وليس يستطيع أن يبين عن هذه الحال إلا الذين ذاقوها وهم قليل وهي نادرة عندهم،٤ وهم لا يستطيعون التحدث عنها إلا بالرجوع للذاكرة؛ إذ إنهم في حال الاتحاد يفقدون كل شعور بأنفسهم، وهذا هو الانجذاب وهو أرفع من العقل والفكر،٥ وفي هذا يفترق أفلوطين عن أفلاطون — فيما يفترق — فإن أفلاطون بتوجهه إلى مثال الخير ومثال الجمال كان يرمي إلى إدراك أسمى المعقولات، أما أفلوطين فيريد أن يجاوز المعقول والإدراك إلى الاتصال والاتحاد بما لا مجال فيه لتعيين وتمييز، وهو بهذا يخرج على الفلسفة العقلية ويشايع الأفكار الهندية.

(و) على أنه بوضعه الواحد اللامعين في رأس الوجود ومحاولته استخراج الأشياء منه بالتدريج كان أمينًا لموقف قديم متصل في الفلسفة اليونانية: ألم يقل أنكسيمندريس باللامتناهي، وهرقليطس بالنار الإلهية، وبارمنيدس بالكرة التي هي وجود محض، وأنبادوقليس بالكرة الأصلية الإلهية، وأنكساغوراس بالمزاج الأول؟ فأفلوطين فهم مثلهم أن تفسير الوجود يقوم ببيان التدرج من اللامعين إلى المعين، وكانوا قد وضعوا لهذا الأصل قانونًا باطنًا أسماه بعضهم الضرورة، وأسماه البعض الآخر «اللوغوس» وربطوا الأشياء ربطًا محكمًا لصدورها عن أصل واحد، وأفلوطين أخذ بهذه الفكرة وذهب في تماسك العالم وتفاعل أجزائه إلى حد الاعتقاد بالتنجيم كالرواقيين وإضافة مفعولية ضرورية للصلوات والتعزيمات السحرية بمجرد أنها تؤدى على طقوس معينة، فمال إلى الشرق من هذه الناحية أيضًا وأدخل في مذهبه أحط العقائد القديمة إلى جانب التصوف العالي.

(٩٧) بعد أفلوطين

(أ) ملخوس السوري الملقب بفورفوريوس (٢٣٣–٣٠٥) أظهر تلاميذ أفلوطين، وُلد في صور وعرف أفلوطين في روما سنة ٢٦٣ فلزمه واتبع طريقته وجذب مرة واحدة في الثامنة والستين على ما يذكر هو، شرح محاورات أفلاطون الكبرى وشرح من كتب أرسطو المقولات والأخلاق والطبيعة والإلهيات، ووضع «المدخل إلى المعقولات» أجمل فيه الكلام على طبيعة النفس والعالم المعقول أخذًا عن التاسوعات، وكتابًا «في الامتناع عن اللحوم» نزع فيه منزع الفيثاغورية، وآخر «في أخبار الفلاسفة» مضى فيه لغاية أفلاطون، بقي منه أجزاء، ولكنه مشهور بكتاب «إيساغوجي» أي «المدخل إلى مقولات أرسطو» (٥٢–د)، وكتب أيضًا ضد النصرانية ودافع عن السحر والعرافة والتنجيم وكانت الكنيسة تحاربها، وهو وأفلوطين وأمونيوس ومن تبعهم يسمون الفرع الإسكندري للأفلاطونية الجديدة.

(ب) ولها فرع سوري رأسه يامبليخوس من خلقيس — سوريا — المتوفى حوالي سنة ٣٣٠، أخذ عن فورفوريوس وقال بصدور الموجودات بعضها عن بعض ولكنه أكثر من مراتب الوجود وجعل في كل مرتبة ثلاثة حدود. وللمدرسة أيضًا فرع أثيني أشهر رجاله أبروقلوس من القسطنطينية (٤١٠–٤٨٥) شرح عدة محاورات لأفلاطون و«مبادئ» إقليدس وفلك بطليموس، وله كتاب مطول في «الإلهيات الأفلاطونية» وآخر موجز في «مبادئ الإلهيات» مؤلف من قضايا مبرهنة على طريقة إقليدس، وقد غلا في مزج الرياضيات بالفلسفة.

(٩٨) خاتمة

وفي سنة ٥٢٩ أغلق الإمبراطور يوستنيانوس مدارس الفلسفة في أثينا وكانت قد أقفرت من التلاميذ وتناقص عدد العلماء فيها،٦ وكانت الإسكندرية قد فقدت مكانتها، فانتهت الفلسفة اليونانية بما هي يونانية، انتهت بعد حياة استطالت أحد عشر قرنًا وحفلت بأسمى وأبهى نتاج العقل، ولكنها بقيت بما هي فلسفة، تناولتها عقول جديدة في الشرق والغرب فاصطنعت منها ما اصطنعت وأنكرت ما أنكرت وهي على كل حال تعتبرها أصلًا وتنهج نهجها، فكان لأفلاطون بفضل نزعته الروحية حظ كبير عند المسيحيين في بلاد اليونان والرومان، ثم كان لأرسطو مثل هذا الحظ عند السريان، نقلوا كتبه إلى لغتهم ثم إلى العربية، ولكنهم نقلوها عن شراح كانوا قد أدخلوا عليها شيئًا من التأويل الشخصي، وأكابر هؤلاء الشراح إسكندر الإفروديسي (القرن الثالث للميلاد)، وفورفوريوس المذكور آنفًا، وثامسطيوس (القرن الرابع)، ويوحنا النحوي (القرن الخامس)، وسمبليقيوس (القرن السادس)، ونقل السريان أيضًا مختارات من التاسوعات الثلاث الأخيرة وأسموها «أوتولوجيا — إلهيات — أرسطوطاليس» ومختارات من «مبادئ الإلهيات» لأبروقلوس وأسموها «كتاب العلل» وأضافوها إلى أرسطو كذلك، فقبلها الإسلاميون بهذا الاعتبار،٧ وبدا لهم ما فيها من صوفية إشراقية تتمة طبيعية لكتب الحكمة الإنسانية، فجاءت فلسفتهم مزيجًا من الأرسطوطالية والأفلاطونية الجديدة وهم لا يدرون، عدا اقتباسات أخرى من سائر المدارس اليونانية، بحيث يتعين على الناظر في الفلسفة الإسلامية أن يرجع إلى كل هذه الأصول، ولما ترجمت الكتب العربية إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر ذاعت دراسة أرسطو في الغرب وبعثت فيه نهضة فكرية تطورت إلى الفلسفة الحديثة، فالسلسلة متصلة الحلقات، والفضل للسابق.
١  هي أقدم الترجمات وأشهرها، قام بها في القرن الثالث قبل الميلاد بناء على أمر بطليموس فيلادلف اثنان وسبعون عالمًا من يهود مصر، وهذا العدد هو أصل التسمية.
٢  انظر الرسالة الثامنة من التاسوعة الثالثة، والرسالتين الأولى والسادسة من التاسوعة الخامسة، والرسالتين الثامنة والتاسعة من التاسوعة السادسة، ومواضع أخرى كثيرة.
٣  انظر الرسالة الثانية من التاسوعة الخامسة وهي ملخص المذهب. أخذنا منها أهم القضايا ووضعنا لها شروحًا بين أقواس، وهذا الشرح مستمد من مجموع الرسائل.
٤  وأفلوطين نفسه لم يبلغ إليها سوى أربع مرات فيما يروي فورفوريوس نقلًا عنه في ف٢٣ من ترجمته له.
٥  انظر بالأخص الرسالة التاسعة من التاسوعة السادسة.
٦  فنزح بعض رجالها شرقًا وبلغ فريق منهم فارس فوجدوا أحسن رعاية في بلاط كسرى أنوشروان صديق الفلسفة، منهم سمبيلقيوس الشارح الشهير لكتب أرسطو.
٧  ما خلا ابن رشد فإنه أظهر أرسطو على حقيقته إلا بعض تأويلات خاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤