جمهورية أفلاطون

يتسم الأدب الإغريقي بشيئين: المجازفة، والحرية؛ ولهذا السبب كان الإغريق ولا يزالون للآن مبعث الوحي لكل نهضة أو تجديد في الأدب؛ لأن المجدد أو الناهض لا يكون كذلك إلا إذا تخلص من القيود العديدة، سواء أكان مصدرها الشرائع أو التقاليد، ثم هو لن يكون مجددًا إلا إذا كان إحساسه بالحرية أكثر من إحساس غيره بها، فما يعده غيره فيه مخاطرة يراها هو نفسه رياضة فكرية ليس فيها شيء من المجازفة، فإذا قرأ الإغريق وأشرب روحهم صار مثلهم؛ يجري على نسقهم في حرية التفكير والجراءة في الاستنتاج حتى تصير هذه الجراءة طبيعية فيه قد اكتسبها بالألفة مع هؤلاء الإغريق.

والحق أنه من عجائب التاريخ أن تقوم نهضة أوروبا في القرن الخامس عشر على درس أناس مضى عليهم ألف عام، إذ إننا ننتظر من المجدد أن يترك القديم في بلاه، وينظر في الحاضر ويتطلع إلى المستقبل، ولكن الإغريق على قدمهم وبلاهم لا يزال في آثارهم.

الفكرية ما ينبه أذهاننا ويضطرنا إلى النظر في أي موضوع نعالجه من زاوية غير تلك التي ألفناها في البحث، وليس في معلومات الإغريق أو معارفهم ما نحتاج إلى معرفته، ولكن نزعة الحرية والمجازفة في البحث هي التي تحتاج إليها في كل نهضة أو حركة تجديدية؛ ومن هنا كانت الروح الإغريقية على الدوام مبعث النهضات الفكرية في الأدب والفلسفة.

ولنضرب بعض الأمثلة على جرأة الإغريق في تفكيرهم …

فقد كان «أرسطوطاليس» يقرر أن الآلهة على الرغم من قدرتها لا تستطيع أن تبدل النواميس الطبيعية؛ فكان بذلك لا يقر لها بمعجزات، وكان «توقيد» ينعى على الناس زواجهم جزافًا من غير انتقاء، ويقول: إننا نعنى بتأصيل الخراف والخيول أكثر مما نعنى بالإنسان، وإن كرام الناس أقل من كرام الخيل؛ لأن لكل أحد من الناس الحق في التناسل.

وكان «أرسطوطاليس» أيضًا يعد الجمال شرطًا من شروط السعادة.

وكان «أفلاطون»١ يبحث في شيوعية النساء.

ففي مثل هذا الوسط الحر نشأ أدب نزيه، خلو من القيود، لا يزال إلى الآن كما قلنا يوحي إلى الكتَّاب والأدباء روح التفكير النزيه الحر الجريء.

ولذلك يجدر بنا أن نبحث حلم أفلاطون في أول ما نبحث من أحلام الفلاسفة؛ لنرى أي مدينة فاضلة تخيلها لضمان سعادة الناس وراحتهم؛ فإن جميع من عالجوا هذا الموضوع بعده قد ساروا على طريق حاول هو من قبلهم أن يعده لهم، فما من واحد منهم كتب في «المدينة الفاضلة» إلا وكانت «جمهورية أفلاطون» وراء ذهنه تلهمه وتجرئه وتسدده.

ولا شك في أن المدينة الفاضلة كما توهمها «الفارابي» ترجع إلى أفلاطون في الإيحاء، بل في بعض الترسيم أيضًا، ولكن الفارابي جريًا وراء النزعة التي كانت سائدة في عصره اعتمد على «إلهيات» أفلاطون وبحثها وشرحها أكثر مما اعتمد على ترسيم الجمهورية الإنساني، حتى ليكاد يفقد الإنسان الصلة بين «المدينة الفاضلة» للفارابي و«الجمهورية» لأفلاطون.

•••

تعلم أفلاطون وهو صبي في إحدى مدارس أثينا، وكان أهم ما في التعليم وقتئذٍ أن يستظهر أكبر مقدار من قصائد هوميروس وسائر الشعراء، ثم تعلم بعد ذلك الموسيقى والعزف على القيثارة، وأكب على العلوم الرياضية فبرع فيها، وكان طوال صباه وشبابه لا يفتر عن ممارسة الألعاب الرياضية، وقد فاز فيها بجوائز.

وكانت أول شهواته الذهنية أن يكون شاعرًا، وقد ألف درامة شعرية للمسرح، ولكنه بتقدمه في السن صار يهجر الشعر إلى الفلسفة، إلى أن التقى بسقراط، وكان عمره عندئذٍ عشرين سنة، فقر قراره على البت في هذا الموضوع، وعمد إلى جميع قصائده فأحرقها وأرصد نفسه من ذلك الوقت للفلسفة، وبقي يلازم سقراط ٦ سنوات، ورآه وهو يتناول السم سنة ٣٩٩ق.م. وقد ترك هذا الحادث أثرًا مؤلمًا في ذهنه؛ فإنه توجس شرًّا بعد ذلك من الجماهير وحكومات الشعب.

ورأى أفلاطون أن «أثينا» لم تعد ذلك المكان المأمون الذي يستطيع أن يعيش فيه؛ فتركها وقضى بضع سنوات في رحلة طويلة زار فيها مصر وإيطاليا، ودرس عادات الأمم التي حول البحر المتوسط ونظمها السياسية وأديانها، وانتفع بكل ذلك عندما شرع يؤلف «طوباه» أو مثله الأعلى في كتابه «الجمهورية».

وعاد أفلاطون إلى أثينا وقد بلغ الأربعين، فقصد إلى ضيعة صغيرة ورثها عن أبيه، قريبًا من أثينا فأقام فيها، وصار الشبان يهرعون إليه للتعلم على يديه، وكان يلقي أحاديثه أو محاضراته في منزله أو على حائش من الزيتون بالقرب من ضريح لأحد الأبطال يدعى أكاديموس؛ ومن هنا سميت مدرسته أكاديمي وهي اللفظة التي تطلق إلى الآن على المجامع العلمية، وربما كانت الأكاديمية التي أنشأها أفلاطون أولى الجامعات في العالم، فقد انتظم فيها التعليم على النسق الحديث، ولم يكن أفلاطون يجزم بشيء، وإنما يناقش ويحتكم إلى العقل، وكان يفرض على جميع الطلبة أن يدرسوا الرياضيات قبل أن يشرعوا في درس الفلسفة.

وكان أفلاطون — لتربيته الأدبية الأولى، ثم لثقافته العلمية الثابتة — يتكلم بلغة الأديب ويفكر تفكير العالم؛ ولذلك كان يستهوي الطلبة ببيانه، ولقد تخرج على يديه أرسطوطاليس وتعلم منه قيمة البيان في الكتابة حتى الكتابة العلمية، وقد قيل فيه: لو كانت الآلهة تتكلم باللغة الإغريقية لنطقت بها كما ينطق أفلاطون.

وكان العصر، بين سنة ٦٠٠ وبين سنة ٣٠٠ قبل الميلاد، عصر بناء المدن في بلاد الإغريق، فلم تكن الدولة كما نعرفها الآن تؤلف من عدة مدن وقرى ومستعمرات خارجة عنها أو بعيدة منها معروفة عند الإغريق في بلادهم، وإن كانوا قد سمعوا عنها عند الفرس والمصريين، فكانوا إذا تصوروا حكومة، لم يتجسم في أذهانهم سوى المدينة، أما القصر فلم تكن له شخصية قانونية عندهم، ولم يكن أفلاطون هو الوحيد الذي تخيل حلم المثل الأعلى للحكومات والمجتمع، فقد ذكر أرسطوطاليس أن من يدعى «فالياس» قد تخيل مثل هذا الخيال، وقال بوجوب المساواة في حقوق الامتلاك وأن «هبودامس» أيضًا قد وضع كتابًا في تخطيط المدينة الفاضلة.

ولكن جمهورية أفلاطون هي الأثر الباقي من تلك الأحلام، وقد تخيلها عقب تلك الحرب الرائعة التي نشبت بين أسبارطة وبين أثينا، وطالت مدتها وامتد لهيبها إلى جملة بلاد فخربتها ونشرت الفوضى في مجتمعاتها، والخراب والدمار والفوضى التي تحدثها الحروب تجرئ الناس على التفكير والترسيم، وتحوجهم إلى الإقرار بسوء النظم القديمة وضرورة اختطاط الخطط الجديدة، وكما فر الرئيس ولسون في إيجاد عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى، فكر أفلاطون أيضًا عقب حروب أسبارطة وأثينا في إيجاد نظام جديد يضمن للناس السعادة والرخاء.

لم تكن الدول في عهد أفلاطون قطرًا بل كانت مدينة؛ لذلك قصر حلمه على المدينة لا على القطر، بل هو يجعل مدينته صغيرة بحيث يمكن اجتماع جميع سكانها لخطيب واحد، أو يمكنهم أن يشتركوا في لعبة واحدة، ويمكنهم التعارف والمصادقة فلا يكون أحدهم غريبًا عن الآخر.

ولنذكر أن وسائل الاشتراك في الرأي والتعارف الموجودة بيننا الآن لم تكن موجودة في زمنه؛ فنحن نتعارف إلى حد كبير بالصحف والتلغراف والتليفون والبريد، ثم إن وسائل المواصلات نفسها تقرب البعيد من المسافات، وتجعل الاجتماع ممكنًا على الرغم من بعد الشقة بين المجتمعين، ولكن الحال لم تكن كذلك في زمن أفلاطون؛ ولذلك جعل مدينته صغيرة يبلغ عدد سكانها خمسة آلاف نفس فقط.

فجمهورية أفلاطون هي قرية متمدينة حولها حقول خاصة بها للزراعة، وأهلها في حال وسط بين الترف وبين الفاقة؛ فلا الترف يكسبهم الرخاوة التي تبلد الجسم والحواس، ولا الفاقة تضعف أجسامهم وتكدهم في العمل الشاق، ثم إن الفاقة والترف كليهما يعود بأسوأ العواقب على الفنون، ولا يمكن إغريقيًّا أن يفكر في مثل أعلى لا يعنى الناس فيه بالفنون، فجمهوريته خالية من الغنى ومن الفقر؛ لأن الأول يلد الترف والرخاوة، والثاني يلد الدناءة والرذيلة، وكلاهما يحدث الاستياء.

والناس في الجمهورية سواء فيما يملكون، ويحصلون على ما يحتاجون إليه عن حاجة حقيقية، ولا ينالون ما لا يحتاجون إليه، وكانت غاية أفلاطون توفير السعادة للناس، ولكن هذه السعادة لا تنال بما تملك من عرض الدنيا، بل بما في أنفسنا من خصوبة وزكاوة؛ فسعادته ليست سعادة النهم الذي يلذ له التهام الطعام، بل سعادة الراقص أو العازف الذي تلذ له حركاته وما فيها من خفة ورشاقة؛ فهو لذلك يساوي بين الناس فيما يملكون؛ لأنه لا يرى أن الامتلاك يميز شخصًا على آخر من حيث السعادة.

والهيئة الاجتماعية في هذه الجمهورية مؤلفة بالطبع من أفراد، ولكن اجتماع هؤلاء الأفراد ليس اجتماعًا اعتباطيًّا؛ إذ هو مؤتلف ائتلاف أعضاء جسم الإنسان في شخصه.

فكل إنسان في هذه الهيئة يخدمها وفق كفايته وقدرته كما يخدم العضو الجسم، وإنما يحدث السلام والوفاق بين أعضاء هذه الهيئة إذا اختص كل عضو بوظيفته لا يتعداها إلى غيرها، فالعدل في هذه الجمهورية هو «إيجاد مكان لكل إنسان، وأن يكون كل إنسان في مكانه» على نحو ما نرى في الجوقة الموسيقية، فإن الخلل يصيب الجوقة جميعها إذا خرج أي إنسان منها من مكانه، والوفاق بين نغماتها يزول إذا قام واحد منها بتبديل ما كلف به من النغم لإيجاد اللحن العام للجوقة جميعها.

ولكن كيف يمكن أفلاطون أن يضمن بقاء كل إنسان في صناعته ومكانه لا يتخطاهما إلى غيرهما؟

هنا احتاج أفلاطون إلى إيجاد نظام الطبقات؛ فطبقة تختص بدرس الحكمة وتدبير شئون الجمهورية السياسية والحكومية وهذه هي طبقة الأوصياء، وطبقة تختص بالجندية لحماية المدينة، فهذه طبقة المقاتلة، وطبقة تختص بالزراعة والصناعة وهذه هي طبقة العمال.

وعناية أفلاطون هي بالطبع بالطبقتين الأوليين، أما الطبقة الثالثة فلا يبالي بها كثيرًا؛ إذ هي رعية حكومية فوقها طبقة الأوصياء يأمرون وينهون، ودونها طبقة المقاتلة تنفذ أوامرهم، وليست هذه الطبقات جامدة لا تمكِّن أحدًا أن يرتقي من طبقة إلى طبقة إذا ظهرت منه كفايته وهو بعدُ صغير يمكن تربيته.

وقد ألغى حقوق امتلاك الأشياء وحقوق امتلاك الزوجات بين طبقة الأوصياء وطبقة المقاتلة، ولكنه أبقاهما بين طبقة العمال، وهو إنما ألغى الزواج والامتلاك بين هاتين الطبقتين عناية بهما؛ لأنه يريد أن يخضع أفرادهما لنظام خاص حتى ينشأ أفراد كل طبقة على صبغة خاصة.

أما الابتداء في تقسيم الطبقات فمن الصعوبة بمكان؛ فإنه ينبني بالطبع على الانتخاب، يُختار الصبي الذكي لكي يكون وصيًّا فيربى تربية خاصة، ثم يُختار صبي آخر يميل إلى الرياضة البدنية وتبدو عليه دلائل القوة فيُختار لطبقة المقاتلة.

ولننظر في الوسائل التي يتخذها أفلاطون لتخليد هذا النظام ودوام بقائه، فهذه الوسائل تتلخص في ثلاثة أشياء، وهي: التوليد ثم التربية ثم الرياضة اليومية.

فأما في طبقة العمال الذين يزرعون ويصنعون، فليس هناك توليد مقصود بينهم؛ فهم يتزوجون وينسلون، أما تربية أولادهم فهي التربية الشائعة بين الزراع والصناع، يتتلمذ الصبي عند زارع أو صانع فيتعلم منه حرفته ويتخرج عليه، ويحترف هذه الحرفة وليس له رياضة يومية خاصة.

أما طبقة المقاتلة فيعيشون في ثكنة خاصة، فلا يملكون ولا يتزوجون وإنما يتعارفون إلى النساء فإذا حملن منهم لم ينتسب الابن إلى أب معروف — بل ينشأ مقاتلًا — يتربى تربية الطبقة، ولا يعرف ولاءً لغير وطنه، ولا يبالي بمصلحة لغير مدينته، ثم يربى الطفل تربية قاسية، فإذا كانت به عاهة قُتل ونُبذ، أما إذا وافق جسمه صناعة القتال احتفظ به وعني به ودُرب تداريب خاصة لتقوية جسمه وذهنه.

وكذلك الحال في طبقة الأوصياء، يتلاقح النساء والرجال بدون تعيين امرأة بعينها لرجل بعينه، حتى يضيع النسب ولا يعرف أحد والديه، وهذا مع العناية بالانتقاء؛ فأجمل الرجال وأكثرهم حكمة وعقلًا يشجع على التناسل حتى يكثر أولاده ويرثوا صفاته في الشجاعة والعقل، وكان أفلاطون يرى أن التفوق في خدمة الجمهور يجب أن يمنح صاحبه حق التلاقح مع عدد من النساء أكبر مما يمنح غيره، وليس من الواضح هل قال أفلاطون ذلك على سبيل مكافأة الوصي لحسن بلائه في خدمة الجمهورية؛ أو لأنه يريد الإكثار من نسله لأن تفوقه في الخدمة دليل تفوقه في العقل.

ولم يكن أفلاطون يسمح للطبقات بالاختلاط الجنسي، فلكل طبقة نساؤها ورجالها لا يتعدونها إلى غيرها، فكأنه كان يريد أن يجعل كل طبقة سلالة خاصة لها صفات خاصة، وكان كما قلنا «أسبرطي» المزاج يكره الضعف والمرض، فكان يقول بقتل جميع الأطفال المؤوفين وتحديد عدد أطفال طبقة العمال حتى لا يفيضوا على غلات الأرض.

أما تربية الأوصياء فكانت التربية الإغريقية المعروفة في زمن أفلاطون مع التعديلات التي يحتاج إليها نظامه، ولما لم يكن للأوصياء عائلة، فإن أولادهم يوكلون إلى مربين يعهد إليهم ثقافة أجسامهم بالألعاب الجمبازية وثقافة عقولهم بالموسيقى ما داموا صبيانًا. ثم يلقن الصبي ضروب المعارف على طريقة اللعب، بحيث لا يشعر أنه يكد للتعليم، وإنما يتعلم وهو يلعب مسرورًا، فإذا شب وضع له نظام آخر في التعليم، ثم يمتحن الشبان من وقت لآخر، فلا يدخل طبقة الأوصياء سوى الذين ثبت بالامتحان أنهم أهل لأن يتولوا حكومة المدينة، ويعيش الأوصياء فيما يشبه الثكنة، ولا يجوز لأحد منهم أن يقتني بيتًا أو مخزنًا، ولا يجوز لهم أن يمتلكوا أي شيء إلا تلك الأشياء الضرورية التي يستغني عنها الإنسان، وهم يكافَئون مكافأة معتدلة تكفي حاجتهم؛ بحيث لا يشعرون بضيق الفاقة ولا يجدون أيضًا سبيلًا إلى الترف، وهم يأكلون معًا ولا يجمعون الذهب أو الفضة. والقصد من كل هذا النظام أن يبقى الوصي نزيهًا لا تشغله مشاغله الخاصة عن النظر في شئون المدينة وينحرف رأيه في حكم لمراعاة مصلحة خاصة؛ فليس له قريب يحابيه أو ولد يدخر له المال، وكذلك أيضًا لا يختلط بالناس ولا يعاشر أحدًا من غير طبقته؛ فتستحيل المعاشرة إلى مصاحبة أو مصادقة تحول دون النزاهة.

والأوصياء يكونون في شبابهم من طبقة المقاتلة، يقضون وقتهم في تثقيف أجسامهم وعقولهم، فإذا بلغوا الخامسة والعشرين عهدت إليهم الرياسة في بعض أقسام الجيش وجرئوا على اكتساب التجارب، فإذا بلغوا الثلاثين وجاوزوا الامتحانات الشاقة، صاروا أوصياء؛ وعندئذٍ تقتصر أعمالهم على درس الفلسفة ووضع نظم الحكم.

وليست مهمة الأوصياء سَن القوانين، وإنما هي اختراع نظم الحكم أو وضع الدساتير للمدينة، لضمان حرية الأفراد؛ فالحرية هي الهم الأول الذي يهتم له أفلاطون ويعدها أخطر ما ينبغي العناية به؛ فهو لذلك يوكل حراستها إلى الأوصياء الذين يجب عليهم اختراع الأنظمة التي تضمن عدم العبث بها. فالناس في مدينة أفلاطون يحكمون أنفسهم، وإنما يضع الأوصياء الدساتير لهم، سواء أكان ذلك لطبقة العمال أم لطبقة المقاتلة، فهم أشبه بالمشرفين منهم بالحكام، فإذا وجدوا أن الدستور الموضوع لطبقة العمال مثلًا لا يفي بحاجتهم استبدلوا به غيره.

وهذه الأفكار هي أعقد ما في الجمهورية، فإن أفلاطون يعتقد أن وراء هذا الكون المحسوس أفكارًا قد سبقته، وهي منه بمثابة الأصل والروح، وهذه الأفكار هي الشيء الثابت، بينما المحسوسات التي نحس بها هي الشيء الزائل، فأنا أكتب الآن مثلًا بقلم محسوس، ولكن فكرة القلم قد سبقت مادة القلم والفكرة هي الثابتة، وأما العادة فهي الزائلة، ومن هنا اهتمام أفلاطون بالرياضيات؛ لأنها كلها أفكار. وهو يرى ضرورتها لكل من ينشد حكم الناس، ثم يخرج الطلبة بعد درس الأفكار إلى المجتمع، وعليهم أن يعيشوا كلٌّ منهم بمجهوده الفردي وكما يتيسر له، حتى إذا بلغ الخمسين عين وصيًّا للدولة.

ولكن كل هذا لا يقنع أفلاطون، فهو يقول بكل صراحة: «إن التربية يجب أن تبدأ قبل الولادة»؛ فلذلك يجب أن يكون الأبوان سليمين، ويجب على الرجل أن يتزوج بين الخامسة والعشرين والثلاثين، والولد النغل — أي: ثمرة الزنى — والولد المشوه كلاهما يجب قتلهما عقب ولادتهما.

•••

وقد يرى القارئ أن أفلاطون قد استسلم للخيال في توهمه إلغاء الزواج والامتلاك في طبقتي المقاتلة والأوصياء، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن ينبغي أن نتذكر أن الرهبانية المسيحية — وخاصة نظام اليسوعيين منها — قد سار على نحو من هذا النظام؛ فالراهب لا يملك زوجة ولا شيئًا آخر، ومع ذلك نجح هذا النظام، وإذا كان الإنسان قد استسهل إنكار الذات والتضحية بغرائزه الجنسية وغريزة التملك في سبيل الخدمة الدينية، فلمَ لا يستسهل ذلك في سبيل خدمة الإنسان؟ وإذا كان في الناس جماعات يرصدون حياتهم لخدمة الله، يحبسون أنفسهم في أديار لا يخرجون منها مدى حياتهم، يقضون أيامهم في الصلاة والتعبد، فلمَ لا يكون بينهم من يفعل ذلك في سبيل درس الحكمة وإيجاد النظم للحكومات وضمان الحرية للأفراد؟

فيجب ألا نتوهم أن أفلاطون قد استسلم للخيال كل الاستسلام، فهو يريد أن يكل حكم الناس إلى الفلسفة، وهو يرى — كما رأى بعده نبي الإسلام — أن الولد مجبنة ومبخلة لأبيه؛ فعمد إلى سبب ذلك فوجده في الزواج؛ فألغاه حرصًا على أن يبقى الوصي أو المقاتل نزيهًا لا يعمل إلا لمصلحة مدينته، وقد ذكرنا الرهبان دليلًا على إمكان نزول الطبيعة البشرية عن حق التمتع بالزواج والامتلاك، ونذكر جيش الإنكشارية عند الأتراك دليلًا على أن الرباط العائلي يقلل من شجاعة الناس، فإن هذا الجيش كان يؤلف من صبيان النصارى الذين يؤسرون فينشَئون وهم لا يعرفون لهم عائلة، فكان هذا من أسباب شجاعتهم واستماتتهم في القتال.

١  ولد أفلاطون سنة ٤٢٧ق.م ومات سنة ٣٤٧ق.م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤