أضغاث أحلام

«بيكون»١ «و«كامبانيلا»٢ كلاهما مشهور بحلمه، وأولهما إنجليزي وثانيهما إيطالي، ولكنك إذا تفحصت أحلامهما عن المثل الأعلى للهيئة الاجتماعية ألفيت هذه الأحلام أضغاثًا مجموعة من تلك الرؤى الرائعة التي ألهمها أفلاطون ومور من قبلهما، مع زيادات طفيفة تدلنا على روح الزمن الذي وضع فيه هذان المؤلفان كتابيهما.

فكامبانيلا يحلم بما يسميه «مدينة الشمس» وراء خط الاستواء، وهي لا تختلف عن جمهورية أفلاطون إلا من حيث شيوعية النساء وشيوعية الأملاك، وإنما نجد في كامبانيلا بعض عبارات تنبئ بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهو يقول مثلًا: إن عند سكان مدينة الشمس زوارق تسير على الماء، لا بقوة الربح ولا بقوة المجاديف، وإنما ﺑ «اختراع عجيب» ثم إن أحد سكان المدينة يحدثه فيقول: «آه لو أنك تسمع ما يقوله المنجمون عندنا عن الأزمة القادمة؛ فسيكون في القرن الواحد منها من التاريخ أكثر مما في أربعة آلاف سنة ماضية، أجل، ستكون فيها مخترعات الطباعة العجيبة، والمدافع والمغناطيس …» ولما كانت المخترعات كثيرة في «مدينة الشمس» وسائرة في طريق النجاح، فإن أهل المدينة ليسوا في حاجة إلى استعمال الرقيق، ثم هم أغنياء لا يحتاجون إلى شيء وفقراء؛ لأنهم لا يملكون شيئًا وعلى ذلك فهم ليسوا عبيدًا للظروف، وإنما هم أنفسهم يستخدمون هذه الظروف.

ففي هذا الكلام إيماء إلى المستقبل الذي كان يحس به كامبانيلا. فقد بدأ ضمير الإنسان يستيقظ في زمنه ويتساءل: هل ما قررته الآلهة القديمة من الرق جدير بأن يقره الإنسان الجديد؟ وهل لا تقوم المخترعات يومًا ما بعمل الإنسان بحيث تزول عنه لعنة آدم أو توشك؟ ثم يجيب كامبانيلا بالإيجاب ويلغي الرق، ويقصر العمل الذي يحتاج إليه الناس إلى أربع ساعات فقط؛ وذلك لأنهم كلهم يشتغلون، ولأن المخترعات توفر لهم وقتهم.

وأحلامنا على وجه العموم تبع لمزاجنا ومألوفنا، وعلى ذلك نقول: إنه لما كان مور وأندريا متزوجين لكلٍّ منهما عائلة، كانت العائلة أساسًا من أسس الهيئة الاجتماعية التي تخيلها كلٌّ منهما، ثم لما كان أفلاطون وكامبانيلا أعزبين، كانت شيوعية النساء أحد أركان الهيئة الاجتماعية التي رآها كلٌّ منهما في رؤياه، الإنسان يتخيل وفق طبعه ومألوفه، ولكن يجب أن نقول: إن أفلاطون نفسه — مع أنه كان أعزب — لم يكن يؤمن كل الإيمان بشيوعية النساء، وإنما هو قصر هذه الشيوعية على الطبقتين السائدتين، أما طبقة المزارعين والصناع — وهم بالطبع جمهور المدينة أو الأمة — فإنه لم يقبل شيوعية النساء بينهم؛ مما يدل على أنه كان يدرك أن الزواج الذي يؤسس العائلة ضرورة لكثرة الأمة. وهو في حرمانه رجال طبقة الأوصياء وطبقة المقاتلة من الزواج وتأسيس العائلة، إنما ينقاد إلى تلك الفكرة التي تقول: باستحالة خدمة غرضين؛ وهي الفكرة التي أوجدت الرهبان، وهي التي تجعل رجل الفن يمنع أحيانًا كثيرة لمصلحة فنه عن الزواج، فكما أن الراهب المسيحي لا يتزوج إرصادًا لنفسه على خدمة الدين، ووقفًا لمواهبه على العبادة، كذلك كان يرغب أفلاطون في أن يرى الوصي أعزب يقف كل جهوده على مصلحة الأمة لا على زوجته وأولاده، فالقاعدة عند أفلاطون هي الزواج، أما الاستثناء فهو الإباحة المقيدة.

•••

ولننظر الآن في بيكون وأضغاث أحلامه، فقد رأينا أن كامبانيلا لم يأت بطائل، وكذلك الحال في بيكون، بل خيال بيكون مقصوص الجناح إذا قيس إلى خيال كامبانيلا، ثم في جناحه ريش مستعار أكثر ما في جناح كامبانيلا، وكثير من هذا الريش المستعار قد رأيناه على أصله في خيال أندريا وفي رؤيا أفلاطون؛ فلا حاجة إلى التكرار.

وأهم ما في رؤيا بيكون هو «بيت سليمان» وهو مؤسس أشبه شيء بالكليات، الغاية منه: «معرفة علة الحركة في الأشياء وأسرارها، وتوسيع سلطة الإنسان حتى لا يعجز عن عمل أي شيء ممكن، وفي هذا المؤسس معامل أو مختبرات محفورة في جوانب التلال، ومراصد يبلغ ارتفاع أبراجها نصف ميل، وفيها برك من الماء الملح والماء العذب، يبدو من أقوال بيكون أنه يريد منها أن تكون مختبرًا لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية، ثم فيها الآلات تدير الأشياء، ثم هناك أيضًا مصح لتجربة الأدوية، وقاعات كبيرة لعرض التجارب الطبيعية، ومراكز زراعية كبيرة لعمل التجارب في التطعيم، ثم المعامل الصيدلية والصناعية، ومعامل أخرى لعمل الاختبارات في الصوت والضوء والطيوب والطعوم؛ فهذه كلها يقول بيكون: إنها في «بيت سليمان» ويجمعها ركامًا مشوشة بلا تنسيق، أشبه شيء بالمذكرات منها بالرؤيا المرتبة، ومن هذه الكلية أو «بيت سليمان» يخرج اثنا عشر عالمًا إلى البلاد الأجنبية للسياحة وجلب الكتب الغريبة، وكتابة التقارير عن المخترعات والأشياء العجيبة التي يرونها في سياحاتهم، وهذه الكلية هي أهم شيء في مدينة بيكون التي يسميها «أتلنتيس الجديدة» وسائر ما في هذه المدينة لا يختلف عما رأيناه في أفلاطون وأندريا.»

وهذه الكلية كما وصفها بيكون هي الحلم الذي لا يزال يحلم به للآن علماء الكليات، وقد أوشك أن يتحقق بعضه مثلًا في «مؤسسة روكفيلر» في الولايات المتحدة، وهو يدلنا على هموم بيكون وأنها كانت هموم رجل عالم جدير بأن يكون أحد أركان النهضة الأوروبية.

فهو القائل بالعقل بدل النقل، يريد أن يبني الحقائق على التجربة والاختبار، وأن يعبئ قوى الإنسان إلى ترقية العلوم والمعارف، ويحشد لهذه الترقية جميع الكفايات التي في الأمة، ثم هو لا يترك فرعًا من فروع المعارف الإنسانية، صناعة كان أو زراعة أو طبًّا أو غير ذلك، إلا ويهيئ له وسائل التجربة والاختبار الذي عليه تبنى أصول هذا العلم أو الفن، ومع ما في رؤياه من التشوش والخلط، فإنه قد رسم لنا توسيمًا يوشك أن يكون كاملًا عن كلية يقصد منها تقدم العلوم وترقية المعارف.

١  ولد بيكون سنة ١٥٦١ ومات سنة ١٦٢٦.
٢  ولد كامبانيلا سنة ١٥٦٨ ومات سنة ١٦٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤