عصر الصناعة وأحلامه

يتسم القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بظهور المخترعات الصناعية ووفرتها، ولو قيست هذه المخترعات في هذه المدة القصيرة إلى مخترعات الإنسان الآلية منذ خمسين ألف سنة لأربت عليها؛ إن لم يكن في الفائدة ففي تعدد أصنافها وتنوع أعمالها، فهذه الكثرة وحدها كانت من الدواعي القوية إلى أن يفكر الإنسان في مستقبل الآلات، وأن يرجو منها أن تقوم مقام العامل نفسه وتوفر عليه راحته. ثم كان من ظهور الآلات وإقبال الناس على الصناعة أن انتقلت الثروات الضخمة من البيوت القديمة إلى أفراد محدثين؛ فحدث من هذا الانتقال تزعزع في المجتمع لعدم انطباق الجديد على القديم، وانتهى الحال إلى الثورة الفرنسية، وليست الثورات في الحقيقة إلا محاولة عنيفة لإصلاح القديم الذي يتنافر مع الجديد، فإن لم ينجح الإصلاح فإن الثائر يعمد إلى الهدم، وكل هذه الأحوال تربة صالحة لأن يغرس فيها رجل المثل الأعلى ما يتوهمه من هيئة اجتماعية وما يحلم به من إصلاح. وقد سبق أن قلنا: إن الإنسان إزاء الوسط الذي يعيش فيه ويشعر بفساده أو ثقل أنظمته، أحد ثلاثة: فهو إما أن يفر منه ويتحول عنه إلى وسط آخر يوافقه، وإما أن يدافعه ويحتمي منه، وإما أن يهاجمه متعمدًا إبداله.

ونحن إذا نظرنا إلى رجال القرن الثامن عشر ألفيناهم من الصنف الأول؛ يبغون الهروب، فقد تعاظمهم الفساد فآثروا تركه على معالجته. ففيهم جميعهم روح «روبنسون كروزو» يرضى بحال البداوة الساذجة في جزيرة قَصية ويعيش منفردًا له كفافه من العيش، يؤثر هذه الحالة على حضارة المدن وما فيها من ترف وتكلف وعجيج، ﻓ «جان جاك روسو» مثلًا يؤلف الكتب عن فساد الحضارة وما في نشر العلوم والآداب من الأذى للناس، ويصيح بالناس أن عودوا إلى الطبيعة، ثم هناك «شاتوبريان» لا يرى الجمال والجلال إلا في ذلك المتوحش النبيل الذي يعيش على الفطرة في بادية أمريكا، ثم يفحص نفسه فإذا به هو نفسه ذلك «المتوحش النبيل» الذي يهوى الهروب من الحضارة، ثم هناك «برناردين سان بيير» قد اشمأزت نفسه من الحضارة وتكاليفها فلم يجد مسرحًا يمثل عليه خياله من السعادة إلا في أقاصي جنوب أفريقيا حيث الطبيعة لم تزل بكرًا، وحيث سعادة الحب ووساوس الغرام تدب في الجسم مفاجئة؛ فلا يدريها الشاب وتخطئها الفتاة لأنهما من بداوة العيش بحيث يغمرهما الجهل والسذاجة، وكلاهما أساس السعادة في رأي هذا الفار من مكافحة الحضارة والنزوع إلى الطبيعة وسذاجتها، وإلى البداوة وحريتها، هو ردة في نفس كل إنسان، ونحن أكثر ما نكون شعورًا بقوة هذه الردة عندما تكثر تكاليف الحضارة، ولو كان كل رجال المُثل العليا من طينة هؤلاء الرهبان الذين يفرون من مواجهة الحقائق — بتوهُّم فردوس لا يمكن تحقيقه — لما تعنينا في سرد أحلامهم، فإنما نحن نعنى هنا بأولئك المكافحين المهاجمين الذين يرسمون لنا بناء حضارة جديدة كاملة أو شبه كاملة غير تلك التي يعيشون فيها.

وإذا عدت «طوبيات» الفلاسفة أو أحلامهم التي تخيلوا فيها من النظم ما هو أرقى مما لديهم، لكان ثلثا هذه «الطوبيات» ينسبان إلى القرن التاسع عشر، والثلث الباقي إلى سائر القرون، وإنما ذلك لكثرة مخترعات هذا القرن وانتشار الصناعة فيه، واختلاف التوازن في هيئته الاجتماعية اختلالًا فادحًا واضحًا، وظهور طبقة من الناس تستبد بالعمال وتستأثر بالربح العظيم ولا ترضخ لهم إلا باليسير الذي يقوم بكفافهم أو بأقل منه.

فقد كانت الصناعة قبل ظهور الآلات في أيدي صناع يشتغلون بأيديهم، فالحَذَّاء يشتري آلاته بأقل الأثمان، وينتحي ناحية المدينة يفتح فيها دكانًا، فيصنع الأحذية ويبيعها بنفسه، يفعل ذلك كله وهو راضٍ عن نفسه وعن حكومته وعن الحضارة التي هيأت له هذا النظام، ولكن ظهرت بعد ذلك الآلات؛ فسارت تصنع آلاف الأحذية في وقت قصير وغمرت السوق ببضائعها حتى لا تكاد تتسع لما يصنعه ذلك الحَذَّاء البسيط، فهي تدفعه إلى أن يكون عاملًا في ذلك المصنع الكبير الذي يصنع أشياءه بالآلاف، وقل مثل ذلك في سائر الصناعات، فإن الصناع الذين يصنعون بضائعهم بأيديهم قد استحالوا عمالًا، لا رأس مال لهم، يطردهم المصنع عند تكدس بضائعه، وينزل أجورهم إلى أحط قيمة تضمنها مزاحمة العمال بعضهم لبعض؛ وينتج عن ذلك كله أنه يبقى العمال في فقر مدقع، وأن يثرى أصحاب المصانع إثراءً فاحشًا، وأن يدعو هذا التفاوت بين الحظين إلى تذمر العمال وإلى ظهور الحركات الاشتراكية.

وليس غريبًا أن تظهر لفظة Socialism أي: الاشتراكية حوالي سنة ١٨٢٥، وليس النظام الاشتراكي سوى «طوبى» يتمنى العمال تحقيقها في مقتبل الأيام، فهي الآن أمنيتهم وحلمهم، ولكن يبدو من تصفح الأحوال السياسية في الأمم الغربية أنهم صائرون إلى تحقيق هذه الطوبى أو ما يشبهها، ومعظم الطوبويين أو رجال المثل العليا في القرن التاسع عشر هم — أو أكثرهم — لهذا السبب من الاشتراكيين، فهؤلاء الاشتراكيون يرون تقدم الآلات والمقادير العظيمة التي تنتجها من البضائع فيتساءلون: لم لا تملك الأمة هذه الآلات وتصنع بها ما يكفي الناس من اللباس؟ ولم لا تستعمل هذه الآلات في الزراعة؛ فيتوافر للفلاح وقته ليقضي منه ما يشاء في تربية نفسه والترفيه عنها؟ ولمَ يربح الممولون كل هذه الأموال التي يغلها عليهم الحديد والنار؟ أوليس من العدل أن تكون المخترعات شائعة يستغلها كل أفراد الأمة في شخص الحكومة.
وأول رؤيا نصفها من رؤى القرن التاسع عشر هي رؤيا «شارل فورييه»١ وهو من زعماء الاشتراكية في فرنسا، وقد رأى فورييه فيما يرى اليقظان أن جماعة يبلغ عددها نحو ١٦٠٠ نفس تعيش معًا، ويقوم أعضاؤها بجميع حاجاتهم، والأمة التي منها هذه الجماعة مقسمة جماعات على هذا النمط، كلٌّ منها تتكفل بحاجاتها دون الالتجاء إلى جماعة أخرى، والإنسان في رأي فورييه شخصية مثلثة: فهو صناعي يبغي المؤالفة بينه وبين الوسط الذي يعيش فيه بالصناعة، وهو اجتماعي يبغي المؤالفة بينه وبين الجماعة التي ينتسب إليها، وهو ذهني يحتاج إلى كشف النواميس التي تعمل لنظام هذا الكون، وهو لهذه الشخصية المثلثة يضع جماعته المكونة من ١٦٠٠ نفس في بقعة مختلفة المناظر والنواحي، فيها الجبل والنهر والغابة والسهل والمدينة.

وصناعة الأهالي الأصلية هي الزراعة، ولكن الأهالي مع ذلك يمارسون جميع الفنون والصناعات الأخرى؛ إذ إن كل جماعة مستقلة عن الأخرى.

وفي وسط البقعة التي تقيم فيها الجماعة بناء: «وهو قصر كامل بحاجات المجتمعين، له ثلاثة أجنحة؛ أحدها صناعي وآخر اجتماعي وآخر ذهني، ففي الأول المصانع وقاعاتها، وفي الأخير المكتبة والمجموعات العلمية والمتاحف وقاعات الفن ونحو ذلك، أما الجناح الاجتماعي ففي الوسط وهو يحتوي قاعات الطعام والاستقبال والسمر وفي أقصى القصر معبد المؤالفة الحسية، وهو خاص بالرقص والموسيقى والشعر والرسم ونحو ذلك، وفي أقصى القصر من الناحية الأخرى معبد الاتحاد الذي يحتفل فيه بالشعائر اللائقة باتحاد الإنسان بالكون، وهنا برج ومرصد به تلغراف للاتصال بسائر الجماعات.»

وهذا البناء هو بالطبع المدنية كلها، يعيش أهلها معًا، لهم مطبخ واحد، ومنذ الصغر يتعلم الأطفال كيفية الطبخ، وهم يأكلون معًا، وإن كان من الممكن أن يتناول كل إنسان طعامه بمفرده على عزلة، ولكل واحد من الجماعة مقدار معلوم من الطعام والغذاء والمسكن والملهى يتساوى فيه مع سائر أفراد الجماعة بغض النظر عن العمل الذي يزاوله، ثم فوق ذلك له أن يحصل على امتيازات أخرى يخوله إياها ما له من الأسهم في شركة هذه الجماعة، فهنا تمييز بين العامل المجد والعامل المخل، وهنا أيضًا ترخيص بالامتلاك الفردي إلى درجة ما، فالجماعة مساهمون يعيشون عيشة مشتركة يتساوون فيها كلهم، ثم يمتاز منهم الحاصل على أسهم أكثر من غيره، ولكن هذا الامتياز قليل الأثر؛ لأن الربح في النهاية — بعد الإنفاق على هذه العيشة — يكون صغيرًا لا يؤبه به، فهذا — كما يرى القارئ، شبه توفيق بين مبدأي الاشتراكية والانفرادية.

والصناعات تمارس على نظام واسع اقتصادًا في النفقة، كل عامل يختص بجزء من العمل حتى ينجز الكثير منه في القليل من الوقت، والجماعة تتجر مجتمعة كأنها هيئة واحدة، فتبيع للجماعات الأخرى ما هي في غنًى عنه، وتوزع الأرباح على أعضائها بنسبة ما لهم من الأسهم فيها على نحو ما تفعل الجمعيات التعاونية الآن.

والمرأة في هذا النظام حرة، تشتغيل كما يشتغل الرجال، ويرى فورييه أن الزواج لا يوافق هذه الحرية، ففي البناء مكان لتربية الأطفال الرضع، وللجماعة جيش لا يعبأ للحرب وإنما يسير لمكافحة الطبيعة: لشق الأنهار وزرع الغابات وبناء الجسور وتجفيف الأرض النازة ونحو ذلك، ويرى فورييه في ذلك منصرفًا لنشاط الشباب يقوم مقام الحرب.

ويختلف «روبرت أوين»٢ عن بعض من ذكرناهم من حيث إنه لم يستسلم للخيال كل الاستسلام، وإنه قصد إلى إيجاد هيئة اجتماعية تتسير إقامتها، فقد عاش هو نفسه بين عمال، وأدار المصانع وعرف تلك العلاقة بين الآلة والإنسان وإمكان جعلها وسيلة للإصلاح أو للإفساد. ولم يكتفِ بالكتابة والشرح بل عمد إلى العمل؛ فأسس جملة مصانع أجراها وفق آرائه بالاشتراك مع «بنتام» المشرع الشهير، وانتهت تجاربه العلمية هذه بالإخفاق.

ولكن أوين، وكذلك المفكر الفرنسي «سان سيمون» كلاهما دعا أو — بالأحرى — نحا نحو الأفكار الاشتراكية التي نعرفها الآن، وكان حاصل دعوة سان سيمون أن تمزج التجارة، أو المعاملة بين السيد والعامل، بالأخلاق؛ فلا يعمد الإنسان إلى أن يربح كل ما يمكن ربحه، بل يقنع بربح معتدل، ولا يصنع إلا ما فيه المصلحة العامة، وهو بين هذا وذلك يرى نفسه مضطرًّا إلى أن يرى مساوئ الامتلاك الفردي للعقارات المغلة، فينحو على الرغم منه إلى التفكير الاشتراكي، وأما روبرت أوين، وهو واضع لفظة «الاشتراكية» المستعملة الآن، فتدلنا أعماله على الأسس التي قام عليها التفكير الاشتراكي في القرن التاسع عشر.

كان أوين رجلًا غنيًّا له مصنع في «منشستر» به نحو خمسمائة عامل يغزلون القطن، وما زال دائبًا في عمله حتى اتسعت أعماله وراج غزله وزادت ثروته، ولكن الإثراء لم يكن همه الأكبر؛ لأنه كان يهتم بأحوال العمال والترفيه عنهم؛ فإنه عمد عندما أثرى إلى تأسيس مصنع كبير في نيولانارك بإنجلترا كان به ٣٠٠٠ عامل، وكان بناء المصنع مستوفيًا كافة شروط الصحة والجمال، ومع أن استخدام الصبيان كان جائزًا في ذلك الوقت، وكانت أجورهم قليلة، فإنه رفض استخدامهم، وكان يخفض ساعات العمل إلى أقل مقدار ممكن ويزيد الأجور إلى أعلى مقدار، وكان يمنح أجورًا وقت العطلة الإجبارية التي تنشأ من الكساد، وكان في أوقات فراغه يؤلف في إصلاح المجتمع، ومن أسماء هذه المؤلفات يمكن للقارئ أن يقف على شيء من أفكاره؛ فمنها مقالات عن «تكوُّن الأخلاق الإنسانية» و«رأي جديد في المجتمع» … إلخ إلخ، وكانت كتاباته هذه سببًا للفت الأنظار إلى الأحوال السيئة التي يعيش فيها العمال؛ حيث بعث البرلمان البريطاني إلى سن تشريع خاص بحماية الأطفال من العمل في المصانع.

وذاعت شهرة أوين، فكان «بنتام» المشرع الإنجليزي الشهير من أصدقائه، وله أسهم في مصانعه، وزاره الغرندوق نقولا الذي صار بعد ذلك قيصرًا على روسيا، وكان والد الملكة فيكتوريا صديقًا له ويكثر من زياراته، وبلغت شهرته الولايات المتحدة، فدعاه بعضهم إلى إنشاء مصنع يشبه مصنع نيولانارك، فسافر إليها وأسس جملة مصانع، ولكن تراكم الأعمال عليه لم يتح له النجاح فيها.

وعاد أوين إلى إنجلترا فأرصد نفسه للتفكير الاشتراكي، وحارب الامتلاك الفردي، ونسب إليه جميع الشرور الفاشية في زمنه، ورأى المسئولون أن الجمهور أخذ يحبه، والصحف تبسط صدورها لتكتب عنه وله، فعمدوا إلى مركز حساس وهو الدين، كما يفعل الرجعيون عندنا مع المجددين، فما زالوا به يتهمونه بالكفر والإلحاد حتى صد الناس عنه.

أراد أوين أن يحصر الربح في العامل الذي ينتج السلعة، فلا يتجاوزه إلى التاجر أو الوسيط أو صاحب المصنع، ورأى أن أمثل الطرق لذلك، ولتحقيق الاشتراكية أن يعمد العمال إلى تأسيس المصانع، لكلٍّ منهم مقدار من الأسهم، وأن يفتحوا الحوانيت لبيع مصنوعاتهم بأنفسهم. ويشترون المادة الخام للمصنع ثم يبيعونها مصنوعة للجمهور: «فيتفادون تلك الأرباح التي يحصل عليها صاحب المصنع أو الوسيط من عرق جبينهم»، وقد عملت هذه الفكرة على رفع شأن العامل، وكانت بداية الجمعيات التعاونية في العالم، ومن أغرب ما فكر فيه أوين إيجاد بنكنوت ترقم عليه القيمة بساعات العمل وليس بالنقود المتداولة؛ فقد رأى أن قيمة النقود تختلف، فتزيد أو تنقص تبعًا لغلاء القروش؛ فالجنيه الذي نشتري به الآن مائة رغيف قد لا نشتري به في الغد سوى ٩٥ رغيفًا، وقد نشتري به ١٠٥ أرغفة فاخترع بنكنوتًا يبين زمن العمل بالساعات، والساعة لا تتغير في أي وقت وقد كتب على هذا البنكنوت الذي نشره باسمه، هذه العبارة: سلم حامله بضائع بدلًا من قيمة عشرين ساعة بأمر روبرت أوين.

•••

ولننتقل الآن إلى خيالي مشهور هو «جيمس بكنجهام» عاش أكثر أيامه في الشرق، وكان يحرر عدة صحف إنجليزية في الهند، وكان مع ذلك جوابة آفاق رحالة لا يستقر، فزار عدة أقطار وهو ينظر ويتبصر ثم وضع كتابًا عن «الشرور الأهلية والعلاجية العملية وترسيم لبلدة أنموذجية»، وظهر هذا الكتاب سنة الثورات التي شملت أوروبا كلها تقريبًا، وهي سنة ١٨٤٨، وفي هذا ما يدلنا على البواعث التي تبعث هذه الأخيلة في عقول المفكرين.

وما هي هذه البلدة الأنموذجية؟ هي بلدة تدعى «فكتوريا» يؤسسها أفراد مشتركون على طريقة الشركة المساهمة المحدودة المسئولية، وتحتوي هذه البلدة على جميع التحسينات الجديدة: «من حيث الصنع والترسيم وصرف المجاري والتهوية والبناء والماء والضوء وسائر الممتعات»، ومساحتها ميل مربع، وعدد سكانها لا يزيد على عشرة آلاف نفس، وعلى طرف المدينة تؤسس المصانع، ومصنوعاتها ملك للشركة لا للأفراد الذين يصنعونها، وحول المدينة ضيعة تبلغ عشرة آلاف فدان هي ملك للشركة أيضًا، كما أن البيوت وسائر العقارات لا يملكها الأفراد وإنما تملكها الشركة، وهذه الشركة تستغل كل هذه الأشياء وتوزع الأرباح على الأفراد بنسبة ما لهم من أسهم فيها، ولا يجوز الاشتراك فيها لأحد ما لم يكتتب على الأقل بعشرين سهمًا، ويثبت حسن نيته للمدينة، ويكتب على نفسه عهدًا يشرط على نفسه فيه الامتناع عن تناول الخمور أو العقاقير أو التبغ.

ويكون بالمدينة مغاسل ومطابخ ومطاعم عمومية، ومكان عمومي أيضًا لتربية الأطفال الرضع، ويكون التعالج بالمجان كما يجري في الجيش، ولن يكون بالمدينة قضاة ومحاكم، وإنما تكون شرائع مسنونة يتعهد الأهالي بالسير عليها، فإذا حدث اختلاف اختار المتخالفان حكمًا ليفصل في خلافهم، والأهالي يتعهدون — في جملة ما يتعهدون به — عدم الشكوى إلى المحاكم والرضى بما يحكم به الحكم المختار، وهذه التعهدات ضرورية؛ لأن مدينة فكتوريا يراد إقامتها وسط أي دولة، فلا بد لذلك من هذه التعهدات حتى تعيش مستقلة عما حولها في إدارتها وقضائها.

والمشروع إنجليزي أينما نظرت إليه؛ فهو عملي يمكن إقامته في أي مكان، فلا يجبر الناس عليه، ولا هو في حاجة إلى أن تجربة أمة بأسرها؛ إذ يكفي لنجاح المشروع أن يقوم به عشرة آلاف نفس. ويقول بكنجهام:٣ إنه إذا تأسست مثل هذه الشركة ونجحت، سارت سائر البلاد على طريقتها، وهو في لبه — كما يرى القارئ — شركة تعاون كبيرة تبيع الغلات بنفسها ثم تقسم الأرباح على مساهميها.
١  ولد فورييه سنة ١٧٧٢ وهلك سنة ١٨٣٧.
٢  ولد أوين سنة ١٧٧١ ومات سنة ١٨٥٨.
٣  ولد بكنجهام سنة ١٧٨٦ ومات سنة ١٨٥٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤