رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا

بعد نشر المقالة الأولى من سلسلة «نحو مسرح مصري» وُوجهت بعاصفة من المناقشات بعضها يعارض وبعضها يؤيد، عاصفة جعلتني أزداد إيمانًا أن الموضوع فعلًا يشغل الأذهان، وإذا كانت الكثرة الغالبة لم تستطع أن تكوِّن فيه رأيًا قاطعًا، إلا أن هذه المناقشات الحية الحامية أقنعتني أن كلًّا من المهتمين بأمر المسرح يحاول أن يحدِّد له موقفًا في هذا الموضوع الخطير.

ولقد أسفت لبعض المفهومات الخاطئة التي تكونت على أثر هذه الدعوة، وأولها وأخطرها ذلك الذي يدَّعي أننا نريد أن ننغلق على أنفسنا ونقطع ما بيننا وبين أوروبا من علاقة علمية وفنية، أو كما سمَّاها البعض «شيفونية ثقافية». ولست أدري من أين جاء هؤلاء بهذا المفهوم؟! ما العلاقة بين الدعوة إلى اكتشاف المسرح المصري وتقديمه وبين مقاطعة أوروبا ثقافيًّا وفنيًّا؟ وهل إذا قد طالبنا بضرورة أن يكون لنا موسيقانا الخاصة النابعة مِنَّا، هل يُفهَم من هذا أننا نطالب بمقاطعة أوروبا موسيقيًّا وغلق آذاننا عن أن تسمع روائع شوبان وتشايكوفسكي؟ إن هذا المفهوم يحب البعض أن يدعيه ليقف في وجه كل طموح فني في بلادنا باعتبار أننا مهما فعلنا فلن نصل أبدًا بفننا الخاص إلى ما وصلت إليه أوروبا، وسنبقى متخلفين بمئات السنين. ومعنى هذا ببساطة أننا يجب أن نيأس ويجب أن نعتمد كليةً في غذائنا الروحي على معاني أوروبا وكُتَّابها. ولو أطلقنا لهذا المنطق العنان لكان علينا أن نتنازل عن لغتنا الأخرى باعتبارها لغة غير أوروبية متخلفة، وننتقي لنا لغة أوروبية حديثة متطورة، نتعلم كيف نتفاهم بها، ذلك أن الفن كاللغة، وكما أننا لا نعتبر أن هناك لغة عالمية ولغة محلية، وإنما هناك لغات واسعة الانتشار وهناك لغات محدودة الانتشار، فأيضًا نحن لا نعتبر أن هناك فنًّا عالميًّا وفنًّا محليًّا، هناك فنون أوروبية واسعة الانتشار وفنون شرقية أو عربية أو صينية محدودة الانتشار، محدودية لا ترجع أبدًا إلى أسباب فنية، إنما ترجع إلى أسباب سياسية بحتة، وإلى انتشار اللغات والفنون الأوروبية بسبب نمو الحضارة الأوروبية وطغيانها واستعمارها لمعظم أجزاء العالم، ومحاولة صبغها بالصبغة الأنجلوساكسونية أو الجرمانية أو الأمريكية، لا يضير فننا إذن أو لغتنا أنهما محدودا الانتشار، فهما يعانيان نفس الغلبة على أمرهما كما كُنَّا كشعوب نعاني.

إنني أعجب أحيانًا لهؤلاء المثقفين الذين يعقدون الجلسات «الفنية»، ويتحدثون باحترام يقترب من مرتبة التقديس عن السيمفونية وبيتهوفن وموزار، حتى إذا جاءت سيرة فنوننا كانت تنتابهم حالة قيء حادة وقالوا لك باشمئزاز: أين هذه العبقريات كلها من «موالنا» الخائب، أو «على بلد المحبوب وديني»؟! هؤلاء المثقفون ليسوا مثقفين بالمرة، أو على الأقل لا يمكن أن يُحتسبوا من مثقفي شعبنا. ممكن اعتبارهم مثقفين أوروبيين أو متأوربين؛ لأن فن أي شعب كلغة أي شعب لا يمكن أن يُقارَن بفن أي شعب آخر أو لغته أو يميز عليهما. لا يمكن أبدًا أن نقول إن الألمانية لغة أفضل من اللغة اليابانية، أو إن الروسية أفضل وأروع ألف مرة من العربية … وبنفس هذا المنطق لا يمكن أبدًا أن نقول إن السيمفونية أروع آلاف المرات من الموال الأحمر … فإن عظمة كل فن وعظمة أي لغة لا يمكن تحديدها إلا بالنسبة للشعب الذي يتحدث هذه اللغة أو يستوعب هذا الفن.

قضية أساسية

وهذه قضية أساسية لا بد من الوقوف عندها؛ لأنها مهمة للغاية، وفي رأيي تشكل أكبر الخطر على فنوننا وكياننا الروحي، ومِنْ ثَمَّ على مستقبلنا. يجب أن نفهم وندرك ونعي أن الفن ظاهرة إنسانية اجتماعية لا بد لإنتاجها من بيئة معينة تتبع شعبًا معيَّنًا وتنتج من أجل ذلك الشعب: أن ريمسكي كورساكوف لم يكتب موسيقاه لتُذاع من إذاعة كولومبيا في أمريكا، وشوقي لم يكتب شعره ليقرأه الشعب الهندي وينتشي به، وبرخت لم يكتب مسرحياته إلا بالألمانية وكتبها أساسًا للشعب الألماني، وكذلك كان يفعل إيريا ماريا ريمارك برواياته، صحيح أن أنيسكو كاتب روماني الأصل، ولا يكتب للشعب الروماني، ولكن أنيسكو اتخذ فرنسا وطنه الثاني، ويكتب للشعب الفرنسي، وللحركة الثقافية الفرنسية، وكذلك يفعل بيكيت، وأروين شو لا يكتب مسرحياته للشعب الإنجليزي، ولكنه يكتبها أوَّلًا للشعب الأيرلندي، وكذلك آرثر ميللر، وتينيسي ويليامز. إن بعض روايات تينيسي وليامز ليست مكتوبة للشعب الأمريكي كله، ولكنها مكتوبة أساسًا للشعب الأمريكي في ولايات الجنوب، تمامًا كما كان يفعل فولكنر وشتاينبك، ولوركا لم يكتب مسرحياته وشعره وأعماله كلها إلا نابعة من الشعب الأسباني وموجهة إليه.

الفن إذن، أي شكل من أشكال الفن، لا بد أن تكون له أرض ينبت منها ويقف عليها ولا بد أن يكون موجَّهًا أساسًا إلى سكان هذه الأرض بالذات. كل ما في الأمر أن بعض هذه الأعمال مكتوب بلغات واسعة الانتشار أو تُرجم إلى تلك اللغات، فانتشر في أنحاء العالم وأصبح كما يخطئ البعض ويسمونه «أدبًا عالميًّا». في حين أن العالمية في الأدب خرافة، وأي كاتب يحاول أن يكتب أدبًا يقرؤه العالم أجمع وينفعل به إنما هو كاتب أو فنان أفَّاق. ليفانتيني لا يمكن أن يكون صادقًا مع نفسه أو مع الشعب الذي أنشأه وزوده بالقدرة والتعليم والمادة التي يكتب منها، لا يمكن أن يحدث لأن الفن والأدب مادتهما الإنسان، ولم يوجد إلى الآن ذلك الإنسان «العالمي» المعلق في أثير الكرة الأرضية غير المرتبط بوطن أو بشعب أو بزمان ومكان. هذه نقطة، والنقطة الثانية أن ليس هناك فن أسمى من فن (ونقصد بالفن هنا أن يكون العمل فعلًا قد ارتفع إلى مستوى الفن الحقيقي) فن الكُتَّاب الألمان ليس أروع من فن الكُتَّاب الروس، تمامًا كما أن الشعب الألماني ليس أروع من الشعب الروسي، تمامًا كما لا يمكننا أن نقارن تماثيل الفراعنة بتماثيل هنري مور، أو نقارن بين الملوخية كغذاء شعبي يذوب فيه المصريون حُبًّا وبين الكبيبة الشامي التي لا يستسيغها معظم المصريين ويلتهم الشوام أصابعهم وراءها استحسانًا.

لا بد أن نسلم لكل شعب من شعوب الأرض — مهما بلغت درجة حضارته أو درجة تخلفه — تكوينه النفسي والروحي وذوقه وأحاسيسه المستمدة من تراثه ومناخه وتاريخه وتقاليده، لا بد أن نسلم أن الإنسان لم يوجد بمفرده أبدًا أو بمطلقه، وإنما وُجد دائمًا وسيظل موجودًا كجزء من جماعة ذات كيان وإحساس وذوق خاص.

إذا سلمنا بهذا أدركنا على الفور أن اختلاف الفنون والآداب في العالم حقيقة يجب أن يكون مفروغًا من أمرها، فبصرف النظر عن أن في اختلافها إثراءً للتراث العالمي، فإن اتفاقها جميعًا على موضوعات معينة وقواعد محددة وشكل واحد معناه أن شعوب الأرض جميعها لا خلاف بين تكوينها إطلاقًا، ولا بين أذواقها وما تفضله وما تستسخفه. وهذا كما نعلم جميعًا محض هراء.

الخطوة التالية

من هنا نستطيع أن نخطو خطوة أخرى ونقول إن الأنواع الفنية لا بد أن تختلف من شعب إلى آخر اختلاف الأشكال البشرية والملامح حتى من شعب إلى آخر، فلا يمكن أبدًا لشكل المسرح الإغريقي الذي وضع أرسطو قواعده، لا بين أذواقها وما تفضله وما تستخفه، وهذا كما نعلم جميعًا محض أن ينطبق انطباقًا تامًّا على المسرح الصيني؛ لأننا حينئذٍ نقلب الفن من حقيقة نسبية نابعة من الشعب ومرتبطة ارتباطًا عضويًّا بالإنسان ومزاجه وكيانه إلى حقيقة موضوعية كحقائق العلم لا تقبل الجدل.

والعلم وحقائقه مختلف اختلافًا جذريًّا عن الفن؛ لأن العلم موضوعي والفن ذاتي، العلم قوانينه خالدة وثابتة وكوزموبوليتانية، والفن قواعده متغيرة ومختلفة من بلد إلى بلد ومن حضارة إلى حضارة، ومن تركيب نفسي إلى تركيب نفسي، والدليل أمامنا بسيط: إن القواعد التي وضعها أرسطو في كتابه الشعر للمسرح لا تنطبق على المسرح الياباني أو الصيني، فهل معنى هذا أن نُخرج هذَين المسرحَين من دائرة الفنون المسرحية لأنهما لم يتبعا قواعد أرسطو، أو المعقول أكثر أن نقول إن أرسطو وضع قواعد معينة لمسرح إغريقي معين نشأ في شعب معين، يعبد آلهة معينة، وإن للمسرح الصيني قواعده الأخرى التي وضعها أناس غير أرسطو، ولكنهم ليسوا مشهورين شهرته؛ لأن أرسطو وجد الحضارة الأوروبية التي استعمرت العالم وفرضت تراثها ومقاييسها عليه، بينما لم يجد منشئو المسرح الصيني ومقننوه من يفرض أسماءهم وقوانينهم على العالم والتاريخ.

من أجل هذا لا بد أن نفرِّق تفريقًا حادًّا بين العلم العالمي من جهة، وبين الفن من جهة أخرى. فبقدر ما تكون قوانين العلم عامة وشاملة وتنطبق على أي زمان ومكان، فالفن لا تنبع قيمته إلا من محليته ومن البيئة التي أنتجته. بمعنى أوضح، العلم عالمي بطبعه، والفن محلي بطبعه.

ومسرحنا كما ذكرنا نقل مسطرة — كما يقولون — من المسرح الأوروبي، ورغم كل ما حدث فيه من تعديلات وتغييرات إلا أن أصله الأوروبي لا يزال هو السمة الواضحة التي لا يمكن أن تفلتها عين خبيرة، وكان لا بد لنا إن آجلًا أم عاجلًا أن نفطن إلى هذه الحقيقة ونحاول بمجهودنا نحن، وبقدر المعرفة التي زودتنا بها أوروبا، أن نكتشف مسرحنا المصري ونقدمه.

والحقيقة أن هذه المشكلة ليست مشكلة مسرحنا وحده، موسيقانا أيضًا تعاني من نفس الحالة، فن العمارة عندنا لا يزال أجنبيًّا مائة في المائة، بعضه طلياني وبعضه فرنسي، والحديث منه أمريكي، كله ما عدا تلك الجهود الذي يبذلها المهندس حسن فتحي لخلق نوع من المعمار المصري الأصيل معتمدًا على أحدث تكنيك معماري عالمي وعلى جذوره المصرية الأصيلة.

وليست العمارة وحدها. إننا إذا دققنا النظر في كافة مجالات حياتنا، من السينما إلى برامج الإذاعة، إلى الصحف وطريقة صدورها وكتابة أخبارها، إلى التعليم الجامعي، إلى الحياة الاجتماعية التي يحياها الناس — لوجدنا أن الكثير من هذه المجالات يمشي على نسق أوروبي مائة في المائة بلا أي محاولة مِنَّا لاكتشاف تقاليدنا نفسها وتطويرها.

خذ الزي مثلًا: إن شعبنا لا يزال محتفظًا بأزيائه القديمة الخاصة، في حين أن سكان المدن والمثقفين نفضوا يدهم نهائيًّا من الرداء الشعبي، واستبدلوا به البدلة والكرافتة والقميص، وكأنه بهذا اللباس يريد أن يُظهر تحضره، وكأن منتهى التحضر أن تخلع ملابسك أنت التي ابتكرها أجدادك لتلائم أجواءنا ونفسيتنا وتقيد نفسك في بنطلون ضيق وياقة تخنقك وكرافتة لا فائدة منها بالمرة إلا لإظهار أنها واردة من أوروبا ومن أرجانس باريس، وبمثل ما غير ملابسه يريد أيضًا أن يغير مخه وأفكاره وأسلوب حياته، بالاختصار يريد أن يفرَّ من بلادنا وشعبنا إلى بلاد أرقى.

وأبادر وأقول إني لا أطالب بالتخلي عن هذا كله، فلا بد لنا كشعب أن نستخدم أحدث وأرقى وسائل الحضارة: أن نركب العربات والطائرات في تنقلنا، أن نستورد أدق أدوات النسيج، أن ندخل السينما، ونشاهد التليفزيون، كل المشكلة أننا لا نريد أن تدفعنا تلك الوسائل الصناعية الحديثة إلى نسيان كياننا النفسي الخاص بنا، إلى أن تنقلب الآية وبدلًا من أن تخضع هذه الوسائل لإرادتنا الخاصة، نخضع نحن لتلك الوسائل وننساق وراءها، تمامًا كالذي يقرأ كتابًا ممتعًا لألدوس هكسلي، وبدلًا من أن يهضم محتوياته ثم يستعملها في إثراء أفكاره وحياته الواقعة، ينسى هذا الكيان وينساق وراء المؤلف الإنجليزي ويدمن تقليده إلى درجة يصبح معها كالذي رقص على السلم، فلا هو قد أصبح إنجليزيًّا بتقليده لحياة الإنجليز، ولا هو بقي مصريًّا يحيا في شعب مصري.

إننا نريد إذن أن نفتح الباب على مصراعيه أمام الكتب والحضارة والثقافة الأوروبية، ولكن لا لنتبناها كلية حتى لننسى كياننا الخاص تمامًا، ولكن لنستوعبها وندرسها ونخرج منها بأفكار وثقافة يمكن أن نستعملها لكي ننمي نحن ثقافة شعبنا الخاصة وفنونه بمختلف أنواعها.

هذه النقطة التي تبدو من فرط بساطتها عديمة الأهمية، هي في نظري حجر الزاوية في مرحلة انتقالنا هذه، مرحلة بناء أنفسنا، وإهمال هذه النقطة يؤدي إلى أسوأ العواقب. ولنأخذ مثلًا الفن التشكيلي في مصر: لماذا لا ننفعل الانفعال الذي يهز الجسد ويبلبل الروح إذا نظرنا إلى لوحة من لوحات فنانينا التشكيليين، قد نسعد ونصفق ونكتب مطالبين الجمهور «الجاهل» أن يأتي ليتفرج على هذه الأعمال، ولكن المشكلة أننا نفعل هذا بدون انفعال عميق نابع مِنَّا ومما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا. ولهذا نجد فنون الرسم والتصوير والنحت لا تزال تدور داخل نطاق ضيق جِدًّا، لا يفهمها أو يقدرها سوى الفنانين زملائهم وسوى بعض النقاد؛ ذلك لأن اللغة التي تُستعمل في فنوننا التشكيلية، والألوان والموضوعات كلها، لا تنبع من بلادنا، ولا يفهمها أحد في بلادنا، إنما فقط يفهمها أولئك الذين يعرفون كيف يتكلمون ويرسمون تلك اللغة.

ولهذا أيضًا نحن لا زلنا ننتظر الرسام الموهوب الذي يتعلم الرسم ويدرس كافة مدارسه الفنية في العالم كله، ثم ينسى ما درسه تمامًا ويبدأ بوحي من إيمانه ببلادنا وشعبنا، يختار من الواقع موضوعه ومادته الخام ويرسمه بلغة الناس؛ لغتنا نحن التي نفهمها والتي يتحدث هو بها، ويجعل ألوانها نابعة أيضًا من طريقتنا في التلوين وقدرتنا على تذوق بعض الألوان دون البعض الآخر. عشرات المعارض زرتها، وكنت دائمًا أجد صورها المعروضة كئيبة، باردة، قليلة الضوء؛ لأنهم تعودوا على الرسم الأوروبي حيث الجو الكئيب هناك، وحيث لا توجد شمس متوهجة كشمسنا طول العام، حتى الألوان المستخدمة كلها من مشتقات الرصاص أو غيره من المواد التي لا توجد إلا في أوروبا، ولهذا فهي دائمًا متقاربة كئيبة لا تُثير في النفس سوى الحزن والشجن.

في العمارة، في النحت، في الرسم، في الموسيقى، في السينما، في أثاث المنازل، في عاداتنا الاجتماعية، بدأنا فعلًا، بل قطعنا شوطًا طويلًا ونحن لا نزال عالة على ما تقدمه أوروبا، حتى الموبيليا التي يصنعها نجارو دمياط، يصنعونها طبقًا لكتالوجات تنشرها المجلات المختصة في أوروبا وأمريكا. وهذه المواضيع كلها تثير الكثير من الجدل عند بعض المهتمين بمسائلنا العامة. غير أن الجدل يتبلور في النهاية ليحدد بوضوح اتجاهَين؛ الاتجاه الأوَّل: أن ننقل كل ما نستطيع نقله عن أوروبا، وبعد أن نستوعبه تمامًا نبدأ نحن نصنع احتياجاتنا الخاصة، وهي نظرية تشبه تمامًا ذلك الذي يقول للكاتب الشاب الناشئ عليك أوَّلًا أن تقرأ كل الآداب العالمية وتستوعبها، ثم بعد هذا وليس قبله بالمرة تجلس لتكتب، في حين أن الطريقة الوحيدة للكتابة هي أن تقرأ وتكتب في نفس الوقت، وتتعلم وتعلم، وتنتج فنك الخاص وأنت تستعرض فن سابقيك ومعاصريك في كل أنحاء الأرض، تكتب لأنك عن طريق الكتابة، وليس عن أي طريق آخر، تستطيع أن تجد ذاتك وطريقتك وتكتشف مواضيعك، وتقرأ لا لكي تقتبس، أو تحاكي، وإنما لكي تتثقف الثقافة العامة الواجبة التي تمنحك القدرة على رؤية واقعك أكثر واكتشاف ما يصلح فيه ليكون لنا.

أمَّا الاتجاه الثاني: فهو متطرف أيضًا، إذ ينادي بأن استيعابنا للثقافة الأوروبية سيؤثر على تكويننا النفسي ويطبعه بطابع أجنبي، بحيث إننا حين نكتب سنجد أنفسنا مضطرين رغمًا عَنَّا إلى المضي في نفس الطريق الذي مضى فيه الأوروبيون. وهو أيضًا اتجاه خاطئ، ومعناه أن نغلق على أنفسنا الأبواب ونحاول أن نبدأ من البداية حتى ننتج الفن المصري الخالص المنقى من كل شائبة أجنبية.

وكلا الاتجاهين خاطئ، فنسيان أنفسنا يماثل تمامًا الوعي بأنفسنا وعيًا مبالغًا فيه، بحيث يجعلنا نبتعد عن كل ما أنتجه الآخرون باعتبار أنه ليس من إنتاجنا ولا يمت بصلة إلينا. وهذا الرأي الأخير يثير مشكلة كبرى أيضًا لا بد من التعرض لها هنا، فأي شعب في الدنيا لا يمكن أن ينغلق على نفسه تمامًا وينعزل عن المجتمعات الأخرى. إن الشعوب كالأفراد ليست كتلًا حديدية صماء، منفصلة لا يمكن أن يحدث بينها وبين أي كتلة أخرى مماثلة اتصال أو تجاوب، بل إنه حتى الكتل توجد لديها خاصية انجذابها لبعضها البعض. الشعوب كالأفراد في حالة تفاعل مستمر لا يتوقف أبدًا، تؤثر في غيرها وتتأثر، وتلتقط من بين عادات هذا الشعب أو ذاك ما يتمشى مع ذوقها ووجدانها. إنها مجموعات هائلة الضخامة من البشر تحيا فوق أرض واحدة، تتزاور وتتفاعل وتتبادل ألوان المعرفة والثقافة، ومن المستحيل أن تتوقف عجلة التبادل أو التفاعل تلك.

لا يمكن إذن أن نعزل أنفسنا عن التيارات المسرحية في العالم، وعن أدب المسرح وتراثه، وأيضًا لا يمكن أن يستمر هذا التفاعل من جانب واحد بحيث نظل نحن الآخرين المقلدين والعائشين عالة على شعوب سبقتنا في الحضارة.

ولا يبقى حينئذٍ سوى حل وحيد، هو أن نفتح أبوابنا على آخرها أمام الثقافات الأجنبية، وندرسها ونتعلمها، ولكننا لا نؤجل ما نستطيع أن نعمله نحن إلى أن تتم عملية الاستيعاب كلها، وإنما علينا أن ننفتح لنطَّلع على ثقافات غيرنا وفنونه ثم ننغلق وننسى هذه الثقافات تمامًا وتلك الفنون حين نريد أن نكتب لأنفسنا.

بهذه الطريقة وحدها نضمن مسايرتنا للعالم في أقصى وأحدث درجات تحرره، وفي ذات الوقت نضمن عدم إلغاء شخصيتنا الخاصة واليأس التام من فننا وثقافتنا. وأغرب شيء أن هذه الاتجاهات المتطرفة الخاطئة لا توجد في الحقل الثقافي الفني وحده، ولكنها موجودة أيضًا في حقل آخر بعيد عن هذا كله، حقل الصناعة مثلًا: إن خطة التصنيع تسير على نفس مبدأ الاعتماد الكامل على المصانع والمعدات الأوروبية، ومع أننا دائمًا نسمع أن هذا الاعتماد مؤقت جِدًّا، بحيث إننا بدأنا منذ الآن في إجادة بعض مراحل التصنيع الأولى تمهيدًا لتصنيع كل معداتنا بأنفسنا في المستقبل، مع هذا فإن أحدًا لم يسأل نفسه: وحتى بفرض أننا صنعنا الآلات والمعدات هنا، فماذا تكون النتيجة الحتمية؟ النتيجة أننا سنظل أيضًا تلامذة لأوروبا الصناعية، وستظل أوروبا تسبقنا بمراحل عديدة، ولن نتمكن يومًا من الأيام أن نسبقها؛ إذ هي قد بدأت قبلنا بعشرات ومئات السنين، وأخضعت شكل معداتها وآلاتها لاحتياجاته الاجتماعية والاقتصادية والصناعية، ونحن نأخذ عنهم الصناعة كما ابتكروها هم وليس كما نحتاجها نحن، وسنظل نأخذها كما ابتكروها. أن ننتج «تراكتور» مصريًّا شيء جميل، ولكن سنظل بضع سنين إلى أن نستطيع إنتاجه، حيث تكون صناعة التراكتورات في أوروبا قد تطورت بأسرع مما نتصور، وأصبحت تكاليف إنتاج التراكتور هناك أقل بعشرات المرات من إنتاجنا هنا، وصناعته أكثر إتقانًا. نفس ما يحدث في المسرح، فنحن مثلًا إذا بدأنا إنتاج مسرح اللامعقول الآن على نسق ما يحدث في فرنسا، فإنه بعد عشر سنوات يكون هذا اللون من المسرح قد تطور إلى درجة غير معقولة، بينما نحن كالتلامذة لا نزال في مرحلة القراءة الرشيدة.

لهذا كان من رأي الكثيرين، فوق استيراد المصانع الأوروبية وإقامتها، أن نُعنى في نفس الوقت بصناعتنا المحلية التي ننفرد بها ونطورها ونضخم إنتاجها إلى أن تصبح سلعة خاصة بنا تقف على أقدامها في السوق العالمي. لو أننا اتجهنا لتصنيع القطن وحشدنا له كل طاقتنا الصناعية، لو أننا استطعنا أن نحيل إنتاج السجاجيد والأكلمة إلى صناعة ضخمة، لو استطعنا أن نبتكر في صناعة «الحصر» والأسبتة وكل تلك الصناعات التي نتميز بها وننفرد، حينئذٍ كُنَّا نستطيع أن نتحدث عن صناعة مصرية خالصة نابعة مِنَّا ومن ظروفنا ووحيدة من نوعها في العالم وفريدة.

التفاعل بيننا وبين أوروبا إذن تفاعل واجب ومحتم، وليس بيننا وبينها فقط، بل وبين آسيا وأفريقيا وأمريكا وبقية دول العالم، ولكن المشكلة الخطيرة هي أنه يجب أن يكون تفاعلًا، أي يعتمد على الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر؛ لأن الأخذ فقط والتأثر فقط لا يقودان في النهاية إلا لانعدام شخصيتنا.

لا بد أن تكون لنا إذن شخصيتنا المستقلة في الأدب والفن والعلم وفي كل مجال، شخصية تنمو على طريقين أساسيين؛ أوَّلًا: تعميق جذورها في تراثنا وتاريخنا، وثانيًا: فتح جميع النوافذ الحضارية عليها. إننا نعود ونؤكد ونقول إنه يجب أن تكون لنا شخصيتنا المستقلة، فإذا لم تكن موجودة فعلينا أن نوجدها.

تلك هي النقطة الأساسية التي دفعتني للكتابة عن المسرح باعتبار أننا لم نجد بعد شخصيتنا المستقلة في المسرح (بصرف النظر عن غياب تلك الشخصية في الموسيقى أو الرسم أو غيرهما، فحديثنا ينصب فقط على المسرح)، ولقد ذكرنا أن هناك مسرحًا حاضرًا وموجودًا، وكان موجودًا من زمن طويل، ولكن الأمر الذي يحتمل كثيرًا من الشك هو أن يكون ذلك المسرح ممثلًا لشخصيتنا المسرحية. وفي رأيي الشخصي أنه لا يمثلها، وأنها لم تُخلَق بعد، ودون خلقها وزرعها وإنباتها مجهود ضخم متواصل لا بد أن يحصل عبئه كل مهتم بشئون المسرح وكل صديق له.

ورغم هذا فهناك أشياء ستساعدنا كثيرًا في مهمتنا، فقط علينا أن ننسى كل مفهوماتنا الأوروبية التي تعلمناها عن أرسطو وشيكسبير وموليير ونقاد المسرح الكبار، وبعين كاشفة وبأفق مفتوح نبحث عن الأشكال المسرحية في حياتنا، إذ تلك هي البذور أو اللبنات الأولى أو مادتنا الخام التي منها سنصوغ الجنين ونضع الأساس.

البذور المسرحية في حياتنا

سبق أن ناقشنا حالات «التمسرح» التي نزاولها كشعب والتي كانت عرضة لتغييرات وتبديلات تبعًا لتغير نظام الحكم والعقائد في تاريخنا منذ الفراعنة إلى الآن. ولكننا هنا سنناقش الشكل المسرحي الذي تبلور لدى الغالبية العظمى من جماهير شعبنا في الريف والمدن، وهو السامر. والسامر حفل مسرحي يُقام في المناسبات الخاصة، سواء أكانت أفراحًا أم موالد، ولكن الملاحظ أن عدد المحترفين فيه قليل جِدًّا، لا يتعدى فرقة الموسيقى وراقصة الفرقة والمغني، أمَّا الممثلون فهم في العادة أشباه محترفين، إذ هم أصحاب حرف يمضون نهارهم في عملهم اليومي المعتاد، حتى إذا جاءت الليلة وجاءت السهرة انقلب هؤلاء إلى فنانين باستطاعتهم إمتاع الألوف وإضحاكها.

والرواية في السامر أو كما يسمونها «الفصل» ليست رواية واحدة، وإنما هي عدة «فصولات» بعضها يعمد إلى الإضحاك وبعضها الآخر يعمد إلى إزجاء الحكم والمواعظ. وهذا النوع الأخير لا يهمنا كثيرًا لانخفاض قيمته الفنية؛ إذ إن فنية هذا المسرح على حقيقته لا تتجلى إلا في الروايات المضحكة. هذه الروايات ليس لها نصوص مكتوبة، وإنما لها نصوص أو مواضيع متوارثة، وقبل بداية كل فصل يتفق الممثلون في همسات سريعة على الخطة العامة أو يعدلون فيها. هي ليست بالضبط «الكوميدياي لارتي»؛ لأن الأدوار في هذا النوع تُوزع توزيعًا عادلًا بين الممثلين، أمَّا في كوميدياتنا نحن، فالأدوار غير موزعة؛ إذ إن هناك دورًا رئيسيًّا واحدًا هو دور «فرفور» أو في روايات وبلاد أخرى «زرزور» هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله الرواية، وبمواقفه وآرائه وحركاته يضحك الناس، بحيث يتضح لنا في النهاية أن الأدوار الأخرى ليست سوى مناسبات «تفرش» لفرفور جمل حواره أو سخريته وليست أدوارًا تمثيلية بالمعنى المفهوم.

وفرفور أو زرزور مثال صادق للبطل الروائي المصري، الحدق، الذكي، الساخر، الحاوي داخل نفسه كل قدرة علي الزيبق وكل مواهب حمزة البهلوان.

وفرفور هذا أو زرزور ليس ممثلًا بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة ممثل؛ لأنه في حقيقته أيضًا وفي حياته العادية فرفور. إنه ظاهرة اجتماعية موجودة في كل زمان ومكان، تستطيع إذا ما فحصت ألفًا أو ألفين أن تجده، ذلك الإنسان الساخر بسليقته وبطبعه، ذلك الذي لا يتصيد الانفعال ولا يدَّعي ما ليس فيه. إنه مضحك ومهرج وحكيم وفيلسوف في نفس الوقت. وعلى أمثال هذا النوع من الناس كان يعتمد التمثيل، زمان، قبل أن يعي الناس بحقيقة التمثيل وأن اسمه مسرح، وحقيقة الممثلين، زمان حين كان الجمهور يدفع بفرافيره فقط إلى الحلبة ويلتهب سعادة وحماسًا وضحكًا لكل ما يقولون؛ فالفرافير دائمًا لهم وجهة نظر جديدة وأصيلة وغريبة؛ ولهذا كان لا يجرؤ على الوقوف وسط الجموع المحتشدة إلا فرفور حقيقي يتحدث ويضحك ويهرج بالسليقة، ولا يفتعل؛ إذ هو في حياته أيضًا فرفور، والناس تتداول أخباره الخاصة وعلاقاته بزوجته وأولاده وجيرانه وكأنها نوادر جحا. زمان قبل أن يصبح التمثيل «علمًا» يُدرَّس في المعاهد، و«فنًّا» في الكتب، يستطيع كل من شاء أن يطلع عليه وينجح في القبول. زمان قبل أن تصبح المسارح بتذاكر وديكورات وحجز وتأليف.

وهؤلاء الفرافير كانوا لا يستطيعون أن يمثلوا إلا أدوار الفرافير؛ لأن التمثيل عندهم وعند الحقيقة ليس حرفة باستطاعة أي ممثل أن يتقمص أي شخصية تخطر للمخرج على بال؛ لأن التمثيل ليس مجرد «فن» التمثيل كما أن الكتابة ليست مجرد «فن» الكتابة؛ إذ إن الكاتب لا يستطيع أن يكتب في أي موضوع وإلا تحولت كتابته إلى نوع من الصنعة الحرفية، وممثل دور فرفور لا يمثل لأنه يمثل بوجهة نظر وبالذات بوجهة نظره الخاصة. إنه مبشر بوجهة نظره الخاصة هذه أكثر منه ممثلًا، وهي التي تُضحك.

ولكنه أبدًا ليس نبيًّا ولا رسولًا، إنه فقط فرفور، يبهر الناس وهو يضحكهم، ثم يضحك عليهم حين يبهرون، يأتيه الناس متسخي الأرواح متعبين، وهو الذي يتولى بقدرة خارقة غسل أرواحهم وتطهيرها بلسانه وبذراعَيه وبجسده وبكل الطاقة المحشودة داخله، ينطق فيحسون جميعًا أنه يتكلم باسمهم، وأنه ليس صوته وحده ولكن صوتهم جميعًا إذا أرادوا التحدث، إنه وحده «كورس» كالكورس الإغريقي تَمَثَّلَ في فرد ليؤدي وجهة نظر الجماعة الساخرة.

قلت إن فرفور هذا ليس نبيًّا ولا فيلسوفًا خاصًّا، ولكنه مجرد تلميذ من تلامذة الفرفورية الطبيعية التي ليست مذهبًا ولا تمت إلى المذاهب بصلة. وتلامذتها لا يدخلونها بإرادتهم أو باختيارهم. إنها هي التي تختار تلاميذها ليتعلموها إلى آخر العمر. إن الفرافير هم ساعات الشعب المضبوطة التي عليها أن تضبط حياتهم، وليسوا أفرادًا ممتازين بقدر ما هم ظواهر اجتماعية، وُجدوا منذ أن وُجد الإنسان، وسيظلون ما ظل المجتمع. إنها الجماعة البشرية حين تنتج من بين آلاف أفرادها فردًا وظيفته الأولى وعمله أن يرى حياتها ويراقبها ويتذوقها، إذ الآخرون مشغولون تمامًا بمزاولة هذه الحياة، لتستطيع الجماعة بعدئذٍ أن تلتئم وتقضي كل حين ليلة تسمع فيها رأي هذا الذواقة الجريء الذكي الوهاج الصريح صراحةً قد تخدش حياء المستحين فيهم، ولسانه يشملهم جميعًا، ومن أكبر كبير إلى أصغر صغير، ولا تغضب الجماعة أبدًا منه ومن رأيه وإنما تتقبله، ومن فرفور فقط على استعداد لتقبله، وتسلم به، بل وفي معظم الأحيان يعلمها كيف تكون مثله فرافير على حياتها الخاصة وأسرارها التي لا يعرفها سواها، وبهذا يكون فرفور قد حقق هدفه الأعظم بأن ترك في كلٍّ مِنَّا جزءًا فرفوريًّا يُراقِب ويتذوق ويضيق ويسخر، وعلى أساس هذا الجزء الساخر، وليس على أساس ضميرنا الجاد، نمتنع عن أشياء وتتفتح آفاقنا على أوضاع ونقبل على الحياة مرة أخرى ونحن أكثر وعيًا بأخطائنا وأكثر تواضعًا وأكثر حُبًّا للآخرين، فلنسمِّه إذن الضمير الجماعي الساخر، فلنسمه قرن استشعاره، فلنسم الفرفورية دينًا صَلاته الضحك، ولكننا أبدًا لا يمكن أن نحيطها كلها باسم؛ إذ فاعليتها أكبر وأعظم من أي اسم. تلك هي الشخصية الرئيسية التي يُقام حولها السامر من قديم الزمان في بلادنا، ومن ملامحها وملامح السامر نستطيع أن نتعرف على نقط هامة في حياتنا المسرحية. ولكن، هل هذه هي كل الملامح والنقاط؟

ذلك هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه.

الفرفورية إذن علامة واضحة مميزة من علامات التمسرح على هيئة سامر، ولكونها كذلك فهي سمة أصيلة من سمات الشخصية المسرحية المصرية. ولقد بلغت هذه السمة من القوة حد أنها فرضت نفسها فرضًا على كافة الأشكال المسرحية التي وفدت إلى مصر وترعرعت في المدن، مكونة مسارح عماد الدين وروض الفرج، القائمة على الروايات المترجمة والمقتبسة والمعربة، وكانت هي السبب مثلًا في خلق مسرح علي الكسار الكوميدي، إذ إن علي الكسار لم يكن يمثل طول حياته إلا دور فرفور غير تلقائي، فرفور متعمد، لا يظهر في حلقة السامر وإنما في مكان محدد، دخوله بثمن، والناس يدفعون الثمن ويؤمونه ليزاولوا حالة التمسرح.

كانت الروايات التي يقدمها مسرح علي الكسار مزيجًا من الاقتباس غير المتقن والتأليف الركيك ومحاولات ساذجة لإحياء تراث ألف ليلة وليلة ومعالجة بعض قصصه. ولكن النص على أية حال لم يكن مهمًّا أبدًا في روايات الكسار؛ إذ كان هو كفرفور أهم ما في رواياته، وكان الكسار في مسرحه هذا يزاول الفرفرورية نقلًا عن تراثها الطويل الخالد في وجدان الشعب ولياليه وحواريه. وكثيرون ممن شاهدوا روايات الكسار، خاصة في فترة ظهوره الأولى، لا بد ما زالوا يذكرون كيف كان يوقف أحيانًا أحداث مسرحيته ليلقي بنكتة أو ليدخل «قافية» مع أحد المتفرجين، وكيف ينتهز فرصة كلمة تفلت من لسان متفرج طويل اللسان لينسى الكسار الرواية كليةً وينهال بكلماته اللاذعة على المتفرج سيئ الحظ، بل كان أحيانًا يضطر، حين لا يتطوع أحد المتفرجين ببدء مشاكسته إلى الاتفاق مع بعض أصدقائه أو معارفه للقيام بأدوار «المتفرجين» هؤلاء.

الفرق بين الفرفورية والأراجوزية

في الناحية المقابلة لفرفور، أو على وجه أدق، على السكة الفنية التالية المؤدية إلى ملامح الكوميديا المصرية نجد «الأراجوز». وإذا كان فرفور مزيجًا من السخرية والفلسفة والشيطنة، وسوق «العبط على الهبالة» مقرونة بالذكاء والقدرة على إضحاك الآخرين والضحك عليهم في آن واحد، فالأراجوز هو تطوير اﻟ Staire الكائن في فرفور، تطوير يدفع به إلى أن يصبح الناقد الحاد اللاذع ولا شيء سواه.

والأراجوز قطعًا لم تخترعه أو تبتكره العقلية المصرية، ومن المحتمل جِدًّا أن يكون قد انتقل لمصر أثناء فترة التفاعل الكبرى بين أرجاء الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الذهبي.

ولكن الحاسة الفولكلورية المصرية استطاعت أن تجد في هذا الفن ضالة منشودة وتمصره تمصيرًا تكاد تحس معه أنه من هنا نشأ وإلى بقية البلاد انتشر، و«تشعبه» حتى لنحس به نابعًا من مكنون الشعب وأعماقه معبرًا عن أدق خلجاته ومواطن ألمه الدفين، تلك التي لا يعرفها غير الشعب ذاته. وفي الأراجوز أيضًا يقوم نفس الشخص بتأليف المشهد وإدارة حواره وتمثيله وتحريك النماذج، وفن الأراجوز لا يعتمد على الروايات كما يحدث في السامر، إنه فقط يقدم اسكتشات مسرحية تُؤلف كلها بحيث تعطي الأراجوز أكبر قدر من الفرصة لينال فيها التناقض الاجتماعي أو الإنساني بعصاته، فالأراجوز لا يستعمل كفرفور لسانه، إنه في مواطن اللسان يستعمل العصا، وكأنما ليقنعك أن هناك موقفًا ومشاكل في الحياة لا تحلها قوة اللسان أو القوة العضلية، وإنما لا بد لحسمها وردعها من استعمال قوة الجماد، القوة الغاشمة.

وفرق كبير بين عصاة فرفور التي تصدر الصوت ولا تحدث ألمًا وبين عصاة الأراجوز التي كلما غورت في الرءوس وطحنتها تعالت ضحكات الناس وضجات استحسانهم؛ ففرفور مثال للفنان الناعم اللاذع في خبث، المؤلم بغير جروح، الجارح بلا دماء، هو فقط بكلامه، بلسانه، بوسيلته الكبرى لإيصال الحقيقة يريد أن يحرك الضمير الجماعي الساخر لدى الناس، بينما الأراجوز أكثر مباشرة وحدة وسرعة، يريد إحداث الأثر، عيني عينك، وعلى مشهد ومرأى الحاضرين، بل يريد هذه الطريقة المباشرة الواضحة أن تنتقل إلى صوته، فصوت الأراجوز لم يُختر هكذا عبثًا، ليس أبدًا لاختيار نوع مشوه من الأصوات أو للسخرية عن طريق النغمة، ولكن الهدف إيجاد نوع متميز من الصوت، ماركة مسجلة تغنيك عن التساؤل وتبدو لك من مجرد سماعها وكأنها الصدى الساخر لصوت البشر، مثلك حين تريد إغاظة شخص فتقلد صوته بطريقة مضحكة، نوع من الصوت يحمل السخرية منه فيه، مقلقًا للأعصاب رفيعًا حادًّا وكأنما هو مسنون أو مسقي بالزيت كالكرابيج ليلدغ ويجرح. وهو أخنق قليلًا أيضًا، ربما لتدل الخناقة فيه على خناقة الحكمة، وتريد أنه لا يقوم بدوره المؤذي حُبًّا في الأذى أو الجرح أو الإحراج، لكن الحكمة غير خافية، حكمة واضحة وضوح الشمس، وضوح العداء الذي كان يكنه رجل الشارع في مصر لرجل البوليس، أو للحماة أو للزوجة القبيحة، وليس من قبيل الصدفة أن هذه كلها بعض النماذج لضحايا عصاة الأراجوز، النماذج التي يختارها ليصب عليها سخريته ونقمته. ولم يكن صدفة أيضًا أن كان الأراجوز هو الأب الشرعي لفن المونولوج في بلادنا، فقد جاء المونولوج بعد عصور التحضر على الطريقة الأوروبية ليعبر بالضبط عما كان يعبر عنه الأراجوز، إنما بلغة أكثر «أدبًا» وبأسلوب يحل فيه النصح المباشر مكان اللدغ المباشر وتحل فيه الموعظة الحسنة محل العلقة.

وعلى الناحية المقابلة الأخرى للأراجوز، نجد فنًّا آخر هو فن خيال الظل، وهنا نجد أن الفنان المصري الشعبي قد نحا بهذا الفن وجهة أخرى غير الكوميديا والسخرية، فن خيال الظل هو فن «الفانتازيا» الشعبية، رواية أو حدوتة تقوم على افتراض فانتازيا مثل أن يبلع الحوت إنسانًا ويظل حيًّا داخله أو تظهر للصياد عروس البحر ويعشقها، وغالبًا ما تنتهي هذه الفانتازيا بمأساة. هنا يطلق الفنان الشعبي لخياله العنان متناولًا مادة الحدوتة الشعبية محيلًا إياها إلى دراما ذات فصول تساعد طريقة العرض على تجسيدها وعلى إكسابها — إلى حد ما — شكل الواقع. وباستطاعتنا أن نقول من هذه الزاوية إنه إذا كان الأراجوز يعتمد على التناول المباشر للحياة، والفرفورية وروايات السامر تعتمد على التناول الفني للحياة الواقعة، فخيال الظل يعتمد على التناول الأسطوري لتلك الحياة. والأسطورة في أدبنا الشعبي مرتبطة، ولا ندري لِمَ، ارتباطًا وثيقًا بالفاجعة Tragedy، ولأننا فيما سبق قد حاولنا أن نلخص مفهومنا المصري للشخصية الكوميدية في فرفور والأراجوز، فأعتقد أنه قد آن الأوان لنتناول مفهومنا للشخصية التراجيدية والتراجيدية نفسها.

الفاجعة المصرية

لا شيء يؤكد اختلاف ملامحنا المسرحية المصرية اختلافًا جذريًّا عن الملامح الإغريقية ومِنْ ثَمَّ الأوروبية مثل مفهومنا كشعب للمأساة أو الفاجعة. المأساة الإغريقية لون من ألوان المسرح، أراد به الإغريق أن يصوروا بطولة الإنسان وهو يقاوم أو يناضل قدره المحتوم، إنها دائمًا تبدأ بافتراض أن البطل كان ضحية لعنة أو مقدر إلهي كُتب عليه فيه أن يقتل أباه مثلًا ويتزوج أمه، هذه نهاية حتمية لا بد أن ينتهي إليها البطل، والمؤلف بعد هذا حر في معالجة ما يحدث قبل هذه النتيجة وما يحدث بعدها، فالمهم أن النتيجة واقعة مهما حاول بطلها الهرب أو الفكاك أو اجتمع أهل الأرض جميعًا ليحولوا بينه وبين مصيره المحتوم.

البطل هنا إذن ضحية مغلوبة على أمرها، ضحية بريئة لا ذنب لها أو ذنبها الحقيقي أنها إنسان غير قادر على خط مصيره، وليست إلهًا قادرًا على التحكم في وجوده ومنتهاه، البطل التراجيدي الإغريقي إذن ليس هو البطل الحقيقي للتراجيديا، وإنما البطل هو الذي يقول كلمته سواء كانت خطأً أو صوابًا، عبثًا أو سخافةً، لتستحيل إلى حكم نافذ غير قابل لأي تبديل أو تحريف. وكان هَم المؤلفين الإغريق أن يحاولوا قدر طاقتهم أن يجسدوا بطولة الإنسان الخارقة وهو يكافح ويحيا دون أن يدري مصيره المحتوم. كان همهم أن يحظى هذا البطل، هذا الإنسان، بعطف الناس، وحتى عطف الآلهة أو القدر الشرير وإيضاح أن ما يرتكبه الإنسان من شر مسألة لا ذنب له فيها وإنما هو مسوق إليها بفعل قوًى خارجة عنه وعن إرادته.

أمَّا بطلنا التراجيدي هنا في مصر، أو البلاد العربية، أو الشرق عامة، فهو مختلف. إنه ليس ضحية لقدر مجرم أو عابث، البطل هنا بطل حقيقي، ليس للأعمال البطولية التي يقوم بها، ولكن لأنه هو الذي يملك مصيره في يده ويتولى تحديد خط حياته، بمعنى أنه هو الذي يتولى الاختيار ويتحدد مصيره نتيجة محتمة لهذا الاختيار. مأساة الإنسان هنا هي مأساة اختياره، هي مأساة القابض على مصيره المالك زمام أمره. إنه هنا ليس ضحية أحد أو قوة خارجة عنه، وإنما هو ضحية نفسه أو ضحية قدرته على الاختيار وإرادته: هو الطماح مثلًا الذي يبدأ خط مصيره برغبة عارمة في الاستحواذ على ما لدى الغير إلى أن تؤدي به هذه الرغبة إلى التورط في دوائر مأساوية أوسع وأوسع حتى ينتهي إلى ارتكاب الجريمة الكبرى، القتل أو انتهاك الحرمة أو التضحية بأعز الناس لديه على مذبح شهوته. وحينئذٍ يُقام عليه الحد وينال الجزاء العادل وينتهي مقتولًا أو واقعًا في نفس الحفرة التي حفرها لأخيه أو ذاهبًا إلى النار في يوم القيامة.

وجهتا نظر إلى الحياة الإنسانية مختلفتان تمامًا؛ فعند الإغريق الإنسان ضحية ونضاله نضال ضحية قد خططت لها الآلهة ورسمت طريق الحياة والمصير، الإنسان بإرادته وعقله وشخصيته ليس سوى أداة تتحقق بها إرادة سكان الأوليمب أو سكان السماء. وعندنا هنا الإنسان هو الذي يصنع حياته ومصيره، ولهذا فهو مسئول عن إجادة هذا الصنع أو تشويهه، مسئولية يُحاسَب عليها حسابًا عسيرًا وينال في النهاية ما يستحق من ثواب أو عقاب. عندنا هنا الإنسان حر أن يختار حرية لا حد لها، وفي الوقت نفسه هو مسئول عن ذلك الاختيار مسئولية لا حد لها، بنفس القدر من الحرية تكون المسئولية. أمَّا لدى الإغريق فليست للإنسان ذرة حرية، وبالتالي فهو ليس مسئولًا، وأديب ليس مسئولًا أبدًا أنه قتل أباه وتزوج أمه، فهي جريمة فُرضت عليه فرضًا ولم يكن في المأساة كلها سوى دمية تحركها أصابع القدر، ومن قال إن الدمية مسئولة؟!

ومن العجيب أن الشرق بعد هذا اتُّهِمَ بالتواكل والاعتماد على «الله» في كل كبيرة وصغيرة من أموره، أي الاعتماد على القوى الخارجة عنه، وهي إلى حد ما تهمة صحيحة، ولكن ليس سببها أبدًا نوعًا من التبني لوجهة النظر الإغريقية أو الأوروبية. إن الإنسان الشرقي «يستعين» فقط بهذه القوى الخارجة عنه في تحقيق ما يريده هو وما اختاره بإرادته المطلقة الحرة. إنه هنا ليس «قدريًّا» يؤمن أن مصيره قد حُدِّدَ قبل ولادته، ولكنه «مجتهد» فقط، وحر، ولإحساسه بضخامة المسئولية الملقاة على عاتقه، وأية مسئولية أضخم على الإنسان من مسئوليته عن نفسه ومصيره، ثقل الإحساس بتلك المسئولية هو الذي يدفعه للاستعانة عليها بالله وبالناس وبكل ما تستطيع أن تصل إليه يده. إن حياتنا حافلة بكلمات مثل «المكتوب» و«المكتوب على الجبين» و«القدر»، وكل هذه الشعارات التي كان من الطبيعي والمعقول أن تكون هي شعارات الحياة لدى الإغريق والأوروبيين، ولكننا هنا نتحدث عن المفهوم المأساوي أو التراجيدي أي المفهوم الفني، وهناك فارق كبير بين الحياة الواقعة والمفهوم الفني المنعكس منها، فلعل في حياتنا تسليمًا مُطلَقًا بالقضاء والقدر والنهايات المحتومة، ولهذا جاء فنانونا وأبطالنا التراجيديون يحملون مفهومات مختلفة تمامًا، ولعل الحياة لدى الإغريق ومن بعدهم الأوروبيين حافلة بشعارات وإحساس حرية المصير والفاعلية المطلقة للإرادة الإنسانية وقدرتها، ولهذا جاءت أساطيرهم ومآسيهم بمفهوم يقلل كثيرًا من حدة ذلك الإحساس ويتعمد إظهار الإنسان بمظهر العاجز أمام القوى التي حددت له المنتهى والمصير والتي لا يملك أمام إرادتها إلا الخضوع والعجز والتسليم.

لعل هذا، ولكن المآسي الإغريقية على أية حال لا تستطيع هزمنا من الأعماق أو استدرار دموعنا لإحساسنا أن أعماقنا ترفضها وترفض أصلًا أن تصدقها أو تنفعل بها، بل هي لا تبعث عندنا إلا على الضحك؛ فنحن لا نستطيع أن نعقل أو نصدق أن الإنسان مِنَّا غير مسئول عن نفسه وعن مصيره من أكثر من سبعة آلاف عام، ونحن نؤمن ونبشر بهذه الحقائق المبدئية من حقائق الوجود الإنساني، ولا تزال الصور والرسوم على جدران مقابر الأقصر تقص قصة الموت وما يحدث للإنسان بعده، قصة الميزان الذي تُوزن به أعماله والصراط المستقيم الذي عليه أن يسير فوقه، وكل هذا الاختبار وتقدير مدى ما قدمه في حياته من حسنات أو سيئات ليتحدد مصيره بناءً على النتيجة. ولكننا نلمح أيضًا أن كلمات مثل «عبث الأقدار» و«سحت الأقدار» وكل حديث عن القدر، كلها في أغلب ظني مستوردة، مفهومات معربة عن الحضارة الإغريقية بالذات، سواء بالاحتكاك على المستوى الشعبي أو بالكتب التي قام العرب بترجمتها عن الإغريق.

إن النقاش المشهور في تاريخ العرب حول هل الإنسان مُسيَّر أم مُخيَّر، ليس وليد الحضارة العربية أبدًا، ولكنه نقاش كالنقاش حول مسرح اللامعقول في حركتنا الأدبية الآن، و«عبث» الوجود، نقاش منقول ضمن ما نقلناه أو ننقله عن الحضارة الإغريقية أو الأوروبية. إنها قضية أُثيرت ونشأت وأصبح لها مدارس واتجاهات، ليس نتيجة لانبثاقها عن التفكير العربي المحض، ولكن نتيجة لحركة الترجمة الضخمة التي قام بها العرب للتراث الإغريقي واستشراء علوم المنطق والجدل بعد ترجمة أرسطو والسوفسطائيين ونشوء قضية جدلية في شكلها مثل قضية هل الإنسان مُخيَّر أو مُسيَّر، قدرية في مضمونها لأن الإغريق وحدهم هم الذين خلقوا وابتكروا وتبنوا فكرة أن المصير الإنساني ليس من صنع الإنسان ولكنه من صنع آلهة ظالمة أحيانًا، وعادلة في بعض الأحيان.

بمعنى آخر إن المسرح المأساوي عندنا كان لا يمكن أن ينشأ على نفس النمط الذي نشأ عليه المسرح المأساوي الإغريقي، فمفهوم المأساة مختلف تمامًا. المأساة هنا تنشأ خارج الإنسان والإرادة الإنسانية، وتؤدي إلى تغييرات مأساوية فيه وداخله، بينما المأساة عندنا تنشأ من داخل الإنسان نفسه، من سوء اختياره لحياته أو لصفاته أو لمثله، وتنتهي وقد فلت الزمام من يده وأصبح لهذه المأساة التي نشأت من داخل الإنسان نتائج خارج هذا الإنسان تتصل بالناس من حوله أو بمجتمعه.

المأساة هنا ميتافيزيقية محضة، والمأساة هنا اجتماعية محضة، المأساة هناك تناقش العلاقة بين الإنسان وخالقه أو المتحكم في مصيره، والمأساة هنا تناقش العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وجناية الإنسان على الإنسان وليست جناية القدر على الإنسان.

ولهذا فالمأساة هناك تدور خارج نطاق العقل البشري والتفكير والذكاء والإرادة الإنسانية؛ لأنها واقعة مهما كان عقل الضحية أو تفكيره أو ذكاؤه أو إرادته، بينما المأساة هنا تعصف بالعقل والعاطفة معًا وبالإرادة وبالذكاء، ولا بد أن يتغير وقعها ونتائجها من إنسان إلى إنسان. المأساة هناك قدر لا يمكن تجنبه، بينما وجهة نظر شعبنا هنا أن لا شيء، حتى الموت، يمكن أن يُقال عنه إنه قدر لا يمكن تجنبه، فالمأساة يمكن تجنبها، ويمكن تداركها، ويمكن الحيلولة في الوقت المناسب بينها وبين أن تحدث أصلًا. المأساة هناك غريبة عن الحياة البشرية، مفروضة عليها، والمأساة هنا تنبع أساسًا من الحياة البشرية وتسير على نفس خطوطها وبنفس منطقها.

هنا، في مصر، لا يمكن أن تخلق عقليتنا المسرحية بطلًا كأوديب مكتوبًا على جبينه أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ولكنها تخلق بطلًا كعنترة، أو تخلق ابن جارية ليصبح أشجع الشجعان في قبيلته وأشدهم وليسود تلك القبيلة ويحكمها ويقودها ليفتح بها البلاد والأمصار. هنا قدر عنترة في يده، يبدأ ابن جارية وينتهي ملكًا عظيمًا؛ لأنه كان شجاعًا وكان شهمًا، وكان أسود ولكن أخلاقه حر أصيل. أمَّا أوديب فسواء كان شجاعًا أم جبانًا، عظيمًا أم حقيرًا، غبيًّا أم ذكيًّا، فلم يكن ليغير هذا كله من مصيره قيد شعرة، وكان لا بد أن يبدأ ملكًا وابن ملك لينتهي شحاذًا أعمى تقوده ابنته.

صحيح أننا في قصة عنترة نجد أن فلانًا البطل كان مكتوبًا في لوحه القدري أن أحدًا لا يستطيع قتله سوى فلان الآخر، فهو مثل لا ينقض ما قلناه، بالعكس، إني أراه يدعمه؛ لأن راوي القصة هنا وخالقها لم يلجأ لهذه الحيلة إلا لسبب فني محض في القصة يتصل بالحبكة، أي لجأ إلى هذا المفهوم لجوءًا عقليًّا ابتكاريًّا محضًا.

إن هذا اللجوء لا يدل على إيمان المؤلف بالمكتوب، ولكنه يد على «معرفة» المؤلف بأنه من الممكن أن يكون القدر مكتوبًا، معرفةً لا بد جاءت من اختلاط الثقافتَين وتفاعلهما. في حين أننا حين نتحدث عن المفهوم المأساوي فإننا نتحدث عن هذا الذي أخرجته قرائح المؤلفين الشعبيين دون قصد أو انتباه ودون تداخل من عقولهم المحدودة الواعية، نتحدث عما خلقته العاطفة والوجدان، وليس ما ابتكره العقل وقشرة المعرفة الرفيعة فيه.

قصة أيوب المصري، لو كان مؤلف إغريقي قد عالجها لكان قد صور مرض أيوب على أنه مصير قدري محتم وجعل همه أن يجسد صراع أيوب ضد ذلك المصير، وكيف تخلت عنه الزوجة والأهل والأصدقاء، ذلك الصراع اليائس الذي ينتهي حتمًا بانتصار المصير المحتوم. المؤلف المصري لم يفعل هذا، لقد جعل أيوب «يختار» أن يصبر على بلواه، وجعل زوجته «تختار» أن تقف بجانب زوجها المريض، وجعل صراعهما طول الوقت موجَّهًا إلى المحافظة على الموقف الذي اختاره كل منهما، ولأنهما صمدا ولأنهما ضربا بصمودهما مثلًا للبطولة، فقد جاءت النهاية مختلفة تمامًا، وشُفِيَ أيوب.

في قصة بهية ومتولي، اختارت بهية أن تحترف الدعارة، وفي لقائها بأخيها وقد جاء يحاسبها قالت إنه كان مكتوبًا عليها أن تفعل ذلك، بمعنى أن المؤلف الشعبي هنا يستعمل فكرة المصير المقدر كحجة تسوقها بهية للتخلص من مسئوليتها عن اختيار ذلك الطريق، حجة لم تفلح في إقناع متولي ولا تفلح في إقناع أحد من المصريين؛ لأننا لا نؤمن في رواياتنا بفكرة ذلك المكتوب، وكان لا بد لبهية أن تنال جزاءها على يد متولي.

أجل، هناك مسرح مصري

من تلك الحقائق المتناثرة التي وردت عبر الخاطر، ومن غيرها من الأدلة والشواهد، من الواقع والحياة، من القوانين الأزلية الأساسية للوجود التي تنص على أنه متى وُجد شعب ما فلا بد أن يخلق هذا الشعب فنونًا، كافة ألوان وأشكال الفنون، فنونًا متميزة عن فنون الشعوب الأخرى ومختلفة اختلاف الحياة عند هذا الشعب وعند ذلك، نستطيع أن نقول إن هناك مسرحًا مصريًّا كائنًا في حياتنا وموجودًا، ولكننا لا نراه؛ لأننا نريد أن نراه مشابهًا ومماثلًا للمسرح الإغريقي والأوروبي الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعربناه ونسجنا على منواله من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم.

كل ما ينقص هذا المسرح المصري كي يوجد ويأخذ مكانه في حياتنا هو أن نعيد النظر في أنفسنا وفي حياتنا تلك لنفرق بين الأصيل فيها والمكتسب، هو أن نتعلم كيف نحترم ذاتنا وما تفرزه تلك الذات من فنون. إننا شعب كامل متكامل، له أغانيه وموسيقاه ورقصاته ومسرحه، وحمدًا لله أننا في عصر بدأنا فيه نبحث عن ذاتنا ونفخر بها ونقدمها. بدأنا نسمع أصواتًا تطالب بإيجاد الفن التشكيلي المصري والألوان المصرية وموضوعات التصوير المصرية، بدأنا نحس بالحاجة الملحة إلى رقصنا الشعبي فنكتشفه ونعده ونقدمه على المسارح، بدأت محاولات في الموسيقى لإدخال الميلوديات الشعبية في إطارات السيمفونية والكونسرتو. ولنا عند هذه النقطة بالذات وقفة؛ إذ إن هذه المحاولات في رأيي ليست الاتجاه السليم بالمرة، فإن محاولة إخضاع الموضوع المصري للشكل الأوروبي محاولات لا يملك الإنسان أمامها إلا السخرية والضحك، فإنها أبدًا ليست تطويرًا لموسيقانا ولا ارتقاءً بها، وهي لا تتعدى — كمحاولة لتطوير لغتنا مثلًا — كتابتها بالحروف اللاتينية. إن الفن ليس فيه أشكال ومضمون، إن المضمون شكل والشكل مضمون، وهذا المضمون لا يمكن أن يصلح له إلا هذا الشكل بعينه، وذلك الشكل خُلق خصيصًا من أجل ذلك المضمون. والكونسرتو والسيمفونية ليست مجرد إطارات وبراويز يمكن للإنسان أن يضع فيها أية صورة لتصبح عالمية، إن الكونسرتو والسيمفونية مثلها مثل الأوبريت والأوبرا كوميك، أشكال أوجدتها مواضيع فنية، أوجدتها الموسيقى الأوروبية في مراحل نموها المختلفة، وهي لا تصلح إلا لتلك الموسيقى بعينها، وعلينا نحن إذا أردنا أن نطور موسيقانا أن نبحث لها عن أشكال تعبر عن هذه الموسيقى المتطورة نفسها، أشكال خاصة بنا منتزعة من صميم خيالنا ومفهوماتنا الفنية يفرضها مضمون العمل نفسه.

إنها نفس المشكلة في المسرح، فلا يكفي لإيجاد مسرحنا المصري أن نعثر على الموضوع المسرحي المصري، وإنما يجب أن نخلق لهذا الموضوع الشكل المسرحي النابع منه والملائم له والذي يستطيع إبرازه وتقديمه إلى أبعد وأوسع مدًى.

وهذا العمل الذي لم تستغرق كتابته سوى جملة واحدة أو بضعة أسطر قد يستغرق لإنجازه أعمارًا بأكملها، فهو عمل ليس سهلًا أبدًا، إنه في حاجة إلى جهد وعرق وقدرات ضخمة على الخلق والابتكار، في حاجة إلى تكاتف جهود وإضافات و«مهاويس» مسرح، في حاجة إلى تنظيمات مسرحية على هيئة جمعيات صغيرة متآلفة تبحث وتنقب وتجرب. أو قد ينقذنا من هذا المجهود كله ظهور عبقرية مسرحية فذة تختصر الزمن والعمل وتقدم هكذا ببساطة العباقرة الموضوع المسرحي المصري الإنساني العالمي في الشكل المسرحي المصري الذي يصبح عَلَمًا على إنتاجنا المسرحي ويقف جنبًا إلى جنب مع غيره من الأشكال المسرحية الأوروبية والصينية واليابانية.

وإيجاد هذا المسرح واكتشافه وتطويره ليس مهمة على كل أصدقاء المسرح ومؤلفيه والمهتمين به أن يؤدوها كنوع من الواجب أو مدفوعين بالنعرة القومية أو الوطنية، إنه ليس واجبًا ولا «عياقة»، إنه ضرورة كضرورة أن نعيش ونتحدث ونغني ونسمع الموسيقى. ضرورة لا يمكن أن يؤديها مجرد الشعور بالواجب أو مجرد الحماس، فهي ضرورة فنية لا بد للتصدي لها من قدرة على خلق الفن وحاسة مرهفة لتمييز الأصيل فيه من المستورد. لا بد من موهبة مسرحية حقيقية، كل المطلوب من نقاد المسرح وأصدقائه أن يخلقوا الجو الملائم للإقدام على هذا العمل، أن يتبنوا الدعوة إلى إيجاد المسرح المصري، أن تعم حركتنا الفنية والأدبية موجة حماس لكل ما هو مصري وأصيل في النصوص المسرحية وفي الديكور المسرحي وفي طريقة الإخراج المصري وطريقة التمثيل، أن تتولد الرغبة المتصلة لتمصير كل هذا أو لإيجاد المقابل المصري له. لا بد أن لنا طرقنا الخاصة في التقمص والتشخيص والتمثيل، ولا بد أن لنا خيالنا الخاص في تصور بيئة النصر المسرحي ونقلها إلى حيز الوجود. لا بد أن لنا ذوقنا الخاص في التنكر، فنحن مثلًا نكره الأقنعة ولا نستحب التمثيل بها، فماذا بالضبط نحبه ونفضله، تلك هي واحدة من عشرات المشاكل التي سوف تثيرها في أذهان المهتمين موجة المطالبة بالمسرح المصري.

وفي النهاية

وإذ أقول هذا لا أعني مطلقًا أن تتوقف حياتنا المسرحية حتى نحقق لها المسرح المصري، إنه عمل يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع حركة سيرنا المسرحية، بل يجب أن نبحث فيما قدمه المسرح المصري من مسرحيات مؤلفة لنعثر على كثير من ملامح مسرحنا الأصيل. حقيقة أن مؤلفي هذا النوع من المسرح قد تأثروا ونقلوا لنا الأشكال والموضوعات المسرحية الأوروبية، ولكنهم رغمًا عنهم وبحكم طبيعتهم وتكوينهم الحي قد أفرزوا في إنتاجهم هذا مصريتهم، متفرقة أحيانًا، مستترة أحيانًا أخرى. إن في روايات توفيق الحكيم بالذات ملامح كثيرة من ملامح مصريتنا الفنية، في طريقة إدارته للحوار، في القافية اللغوية المستترة، في ادعاء بعض الشخصيات الغباء أو التغابي، في كثير جِدًّا من المواقف والعلامات المسرحية ستجد أن هذا الكاتب المسرحي الكبير كان كاتبًا مسرحيًّا مصريًّا، سواء بوعي أو بغير وعي، ونفس الشيء في نعمان عاشور وسعد وهبة ورشاد رشدي. ولكن المشكلة أنها ملامح متفرقة، ساهم الشكل الأوروبي الكلاسيكي الذي نؤلف عليه في تشتيتها وإضاعتها، بحيث يبدو العمل مصريًّا حقيقةً وأبطاله بأسماء مصرية والصراع صراعًا مصريًّا، ولكنَّا نحس أنه بالضبط ليس هو المسرح المصري كما نريد ونشتهي. فمسرحنا هذا مثلًا غارق في الواقع إلى آذانه، من الواقع تنبع مشاكله، وبالواقع تعالج، في حين أن مؤلفنا المسرحي الشعبي لا يهتم بالواقع هذا الاهتمام كله، إنه يستعمل منه بعض اللبنات والكلمات، ولكن التركيبة المسرحية مختلفة تمامًا عن تركيبة الحياة في الواقع والشخصيات شخصيات مسرحية، بينما الشخصيات في عيلة الدغري مثلًا أو السبنسة أو لعبة الحب شخصيات واقعية، والفرق بين الشخصية المسرحية والشخصية الواقعية هو تمامًا كالفرق بين هاملت وبين بطل سارق الدراجات أو بين ناعسة أيوب المصري وبين زوجة مسعد في مسرحية اللحظة الحرجة. إن الشخصية المسرحية عالم مختلف تمامًا عن عالم الشخصية الواقعية، إنها كون بذاته، ليس منتزعًا من كوننا الواقع، ولكنه يوازيه، بل وأحيانًا يتفوق عليه. إن المسرح ليس هو المرآة التي ننظر فيها فنرى أنفسنا. إن هذه هي إحدى مهام المسرح، ولكن مهمته الأكبر والأعم أن نرى أنفسنا من مستوى أعلى، من كون آخر، بعين بطل مسرحي حقيقي.

إنه ليس نقدًا أوجهه لمسرحنا المعاصر ولا محاولة لتحسينه، فهو كما هو في أحسن صوره وأشكاله، ولكني أقول إن المسرح المصري والموضوع المسرحي المصري والشخصية والطريقة المسرحية المصرية شيء آخر غير هذا، شيء ليس أحسن أو أبشع، ولكنه ببساطة مختلف، هذا كل ما في الأمر.

وأنا لا يعنيني بهذا الذي أكتبه أن أخاطب كل المهتمين بالمسرح في مصر من مؤلفين ومخرجين ونقاد وممثلين وجمهور، فمثل هذا الافتراض عبث، ليس من ورائه طائل، فأنا أعرف أن معظمهم سيثور بشدة وستتعالى أصوات كثيرة تحتج وتقول: كيف نطالب بمسرح مصري ونحن الآن نزاول ونتردد ونؤلف المسرح المصري؟! أعرف هذا تمام المعرفة، ولكني أخاطب بما كتبته أناسًا آخرين، أناسًا يحكمهم الإخلاص لشعبنا وفنوننا بحيث لا يقف أمام هذا الإخلاص حائل من مصلحة أو ارتباط … أخاطب القابلين للإيمان بالفن المصري وبإمكانية وجود واكتشاف وتطوير هذا الفن المصري ليستمتع به شعبنا أوَّلًا ويكتفي، ثم ليأخذ مكانه بعد هذا بين فنون بقية شعوب العالم. أنادي بضرورة تحرر فنوننا وعلومنا وآدابنا من التبعية لأوروبا، بأن نعب ما نشاء من التراث الأوروبي، ولكن حين نبدأ العمل أو نخلق علينا أن نعمل لأنفسنا ولشخصيتنا نحن، علينا أن نحقق ذاتنا نحن، علينا أن نكون تلامذة في دراستنا ومصريين في خلق علومنا وفنوننا وآدابنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤