تقديم

من قراءة المقالات الثلاث التي نشرتها في مجلة الكاتب، لا بد أن يحس القارئ أن مهمة خلق مسرح مصري وروايات مصرية أصيلة تتناول حياتنا بالأسلوب المسرحي الشعبي مطوَّرًا إلى المستوى الذوقي والجمالي والمفهومات الفنية العالمية — مهمة شاقة. والبحث عن شيء غير موجود وغير معروف أو كائن دائمًا مهمة شاقة وعسيرة، وهو بحث أضناني على مدى سبع سنوات منذ الفترة التي انتهيت فيها من كتابة مسرحية اللحظة الحرجة وطويت في ذهني بعدها صفحة هذا النوع من المسرح والمسرحيات، مصمِّمًا أن لا أعود للكتابة المسرحية إلا إذا عثرت على المسرح والمشكلة المصرية المحلية العالمية الحديثة كما أتصورها.

ولو خُيِّلَ لي أن نتيجة هذا البحث الدائب الطويل والتفكير المتصل والتأزمات التي استغرقت مني عامَين بأكملهما، لو قيل لي إن هذا كله سينتهي فجأة ذات ليلة من ليالي سبتمبر ١٩٦٣ لما صدقت. كنت قد عدت من إجازة متقطعة قضيتها في مصيف بور سعيد، وشرعت بعد العودة مباشرةً في إكمال مسرحية كنت قد بدأتها قبل الذهاب إلى بور سعيد، واحدة أخرى من أربع أو خمس تجارب كاملة لا تزال راقدة في درج مكتبي إلى الآن. أبدأ الواحدة منها وأنا مدرك أنها ليست بالضبط ما أريد، وطريقها ليس هو الطريق، وأنتهي منها لأقبرها بين الأوراق مهما بلغ مستواها ومهما أُعجب بها الأصدقاء، فلقد صممت، وكنت غير مستعد أن أساوم نفسي أو أقبل أنصاف الحلول. وذات ليلة وصل مشهد المسرحية إلى نقطة حوار معينة، حوار روحه قريبة الشبه جِدًّا من روح «الفرافير»، ومرة واحدة وجدت الفرافير تخطر لي: الفرافير المسرح، والفرافير المسرحية، هكذا معًا في لحظة واحدة. وقضيت أيامًا محمومةً ممتعةً أكتب، حتى حين مرضت وأصر الأطباء على دخولي المستشفى لإجراء عملية جراحية، رفضت وأبيت أن أتحرك من حجرة المكتب إلا بعد أن أنتهي تمامًا من الفرافير.

وقدمتها على الفور للمسرح القومي، ولكني كنت لا أزال غير مستريح تمامًا إلى وجود الفصل الثالث، معتقدًا أني لو غيرت محاكمة فرفور السافرة للفلسفة والفلاسفة وأوردتها ضمن الفصل الثاني على ألسنة أصحاب الأدوار كلها و«المتفرجين»، وقمت بحذف بعض الأجزاء وإضافة أخرى لتكاملت وحدة العمل. ولقد شجعني على هذا الاتجاه أنه كان نفس رأي الصديق الأستاذ أحمد رشدي صالح والأستاذ أحمد عباس صالح، في حين عارض الأستاذ محمد عودة وأصر على إبقاء الفصل الثالث. ولكن المسرحية بحجمها الأوَّل كان تمثيلها يستغرق أكثر من أربع ساعات، وكان لا بد من إجراء التغيير، كل ما في الأمر أني دفعت للمسرح القومي بالنسخ كما هي لتوزيعها على أعضاء لجنة القراءة وحجز مكان لها في الموسم واتخاذ بقية الإجراءات اللازمة لعرضها، وفي نفس الوقت عكفت على إعادة كتابة الجزء الثاني بالطريقة المنشورة هنا، وهي نفس الطريقة التي قُدِّمَت بها على المسرح، وقد كان في نيتي لدى نشر المسرحية أن أنشر الطريقتَين معًا، تاركًا للقارئ أن يفصل بينهما خاصة، والأمر ليس بدعة، فبعض الكُتَّاب الأوروبيين يفعلون الشيء نفسه وينشرون المسرحية بأكثر من صورة، ولكن حجم هذا الكتاب لا يكفي، ومن ناحية أخرى أنا أميل إلى تفضيل الشكل المدمج، وهو نفس رأي مخرج العرض الأوَّل الأستاذ كرم مطاوع الذي فضَّل الطريقة الثانية ونفَّذها على المسرح.

وهناك شيء آخر أحب أن أنبه إليه، فلقد كتبت الفرافير، ليس فقط على أساس دمج خشبة المسرح بصالة المتفرجين وإحالة المسرح كله إلى وحدة واحدة تضم الممثلين والجمهور معًا، واعتبره البعض شيئًا غير جديد باعتبار أنه استُعمل في المسرح الصيني والياباني وعند بريخت وبيراندللو، ولكن الفرافير مكتوبة على أساس قاعدة أخرى أشرت لها في «نحو مسرح مصري»، وهي قاعدة التمسرح، بمعنى أن حالة التمسرح الكاملة في رأيي لا بد لوجودها أن يساهم ويشترك كل فرد من الجماعة البشرية الموجودة مشاركةً شخصيةً في اللحظة، فلو كانت حالة التمسرح حالة رقص فلا بد أن يبدأ الاحتفال بأن يرقص الجميع، يرقص كل «فرد» حتى تصل «الجماعة» إلى الحد الأدنى من النشوة، تلك التي يستوي لديه عندها أن يرقص هو أو يتفرج على رقص غيره، وقلت إن هذا هو ما يحدث في الغناء الشرقي الذي كان يبدأ بغناء جماعي من الكل حتى يصل الموجودون إلى لحظة الحد الأدنى من الانسجام والنشوة، تلك التي يحس فيها الإنسان أنه قد أصبح على اتصال تام بغيره وبالجماعة والطبيعة والكون، حينئذٍ وعند هذه اللحظة لا يصبح ضروريًّا أن يغني المرء بنفسه كي يمضي قدمًا في طريق متعته الفنية، ولكن لحظتها يستوي عنده أن يغني (أي يرسل) أو يسمع (أي يستقبل). هنا، تسكت في العادة معظم الأصوات وينفرد بالأداء صوت واحد من المستحسن أن يكون أجملها جميعًا، بحيث ينتشي صاحبه لأنه يغني لهم ويرسل وينتشي الآخرون لأن متعتهم بالاستقبال قد أصبحت تعادل إن لم تتجاوز متعتهم بالإرسال. وقلت إن هذا في رأيي يُعد التفسير الوحيد لظاهرة الكورس في الغناء الشرقي أو المسنداتية أو غيرها.

قصدت إلى أن تحدث نفس حالة التمسرح هذه في الفرافير، بحيث لا بد أن يشعر كل متفرج وممثل وكل حاضر أنه يساهم ويشترك بحرية في إيجاد حالة التمسرح وشمولها، ولهذا فمعظم حوار الأجزاء الأولى من الفرافير — بجانب أدائه لوظيفة النص في المسرحية — يساهم من ناحية أخرى في التمهيد لحالة التمسرح ثم إيجادها ثم تطويرها. وبالنسبة لجمهور مسرح عام المهمة صعبة، فهم مجموعة من الغرباء تلتقي لأول مرة وربما لآخر مرة في مكان كهذا، وقد جاءت لتتفرج على رواية ما. لا بد من إلغاء الرواية الجاهزة التي تعودوا عليها وإشعارهم أن الرواية تُؤلف أمامهم وأنهم ممكنهم أن يتدخلوا في تأليفها ويغيروا ويبدلوا منها، لا بد من إلغاء التمثيل والتفرج والممثل والمتفرج، لا بد للجميع أن يخلعوا ذواتهم الخارجية وتخرج طبيعتهم الإنسانية المكنونة لتتجمع كلها، وتكون الذات الجماعية الواحدة التي ستستمتع بالتمسرح.

على هذا الأساس فهناك في النص عدد من الأدوار المكتوبة لمتفرجين، أي مفروض فيهم أنهم متفرجون جالسون في الصالة، ولكنهم سيتدخلون في أوقات معينة ويشتركون في الرواية، والحل الثاني كان أن يقوم بهذه الأدوار متفرجون حقيقيون قيامًا تلقائيًّا بلا كلام مكتوب أو توزيع أدوار، ولكنه حل للأسف ولألف اعتبار غير ممكن، ولهذا كُتبت هذه الأدوار لممثلين يجلسون في أماكن متفرقة من الصالة ويقومون بأدوار «المتفرجين»، وهؤلاء المتفرجون يتدخلون بكلمات قليلة وتعليقات سريعة أول الأمر، ولكن في لحظة من اللحظات، تلك التي يفشل عندها فرفور في إيجاد حل ويطلب من الحاضرين أن يشتركوا معه وأن يقترحوا عليه الحلول، في تلك اللحظة ينتقل الحدث المسرحي إلى الصالة، وتصبح هي خشبة مسرح كبيرة تُضاء فيها الأنوار بينما تخفت الأضواء على الخشبة الحقيقية كي تستحيل إلى صالة ليس بها غير متفرجين، هما فرفور وسيده، ومن مكانه في هذه الصالة يتولى فرفور مهمة الاشتراك في المؤتمر الكبير الذي ينعقد لاقتراح الحلول ويُعلق عليها أو يفندها أو يسخر منها بمثل ما يفعل أي متفرج طويل اللسان.

هذا ما أردته وبنيت النص عليه، ولكن المخرج مع احتفاظه بنفس كلمات النص فعل شيئًا آخر، جمع هؤلاء «المتفرجين» في كورس، وآثر أن يجعلهم يصعدوا خشبة المسرح باقتراحاتهم وحلولهم التي آثر أيضًا أن يقولوها كمجموعة.

ولقد عارضت في هذا باعتبار أنه يلغي ركنًا مهمًّا من أركان حالة التمسرح التي قصدت إليها، ولكن لأني أعتبر الإخراج المسرحي فنًّا يجب أن تتوفر له وجهة النظر الخاصة، تركت للمخرج حرية أن يطبق وجهة نظره تلك وأن يكون في نفس الوقت مسئولًا عنها، وهو ما حدث. وصحيح أن الكورس كان بارعًا في أدائه وملفتًا للنظر، إلا أن نظرية التمسرح لا تزال باقية جديدة غير مطروقة في انتظار مخرج آخر يدركها ويحسها ويقدمها.

كذلك اقتضت عملية ضغط زمن الرواية اختصار أجزاء من حوار بعض المواقف، اختصارًا تم في بعض الأحيان على حساب المعنى العام للرواية، بحيث أساء البعض فهم المضمون وافترضوا أشياء كثيرة حاسبوني عليها، والنص منها بريء، بحيث إني أطلب ممن حضر العرض المسرحي وخرج بمفهوم ما، أي مفهوم، أن يعيد قراءة هذا النص الكامل، فلربما غير من رأيه أو من مفهومه، خاصةً وقد اتضح لي أثناء العرض ضرورة إجراء بعض التعديلات الطفيفة التي لا يمكن التنبؤ بها قبل رؤية العمل مجسَّدًا ومعروضًا وفي حضرة الجمهور.

•••

بقيت كلمة تُعتبَر في رأيي جزءًا لا ينفصل من هذه المسرحية، كلمة لا بد أن أقولها لأصدق مع نفسي ومع الحقيقة، وأنصف جنودًا مجهولين، لولاهم ودون أدنى مبالغة لما كان هذا العمل، ولما كنت أنا نفسي. فلقد مرضت أثناء كتابة الفرافير، وبسببها، إلى درجة الموت، وليس فقط الإشراف عليه، حتى إنني كنت أترك كل ليلة لأخي كلمة أقول له فيها ما يجب أن يفعله بالمسرحية إذا مت، وأحيطه علمًا بالجزء الناقص منها وأحداثه وأسلوب كتابته، وأحدد له اسم الصديق الذي يتولى التنفيذ ويُكمل الفرافير. وإذا كنت لا أزال أحيا والحمد لله، وإذا كانت الفرافير قد أُنقذت هي الأخرى، فالفضل في هذا لزوجتي رفيقة العمر وزميلة ساعات الرعب، ولأخي أحمد إدريس، الذي ترك حياته كلها وتفرغ لي، وللصديق الكبير الذي طرد شبح الموت من حجرتي ليتربص له في حجرته ويغتاله في طرفة عين، المرحوم الدكتور أنور المفتي، الذي مات قبل أن يراها، إليهم أهدي، بتواضع وخجل من ضآلته، هذا العمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤