الحيَاة الأُخرى

الأديان الكتابية على اتفاق في الإيمان بالحياة بعد الموت، وإن اختلفت بينها بعضَ الاختلافِ في تمثيل تلك الحياة.

وقد آمن الفلاسفة بالحياة الأخرى قبل الأديان الكتابية جميعًا وبعدها.

فمن أشهر المؤمنين بها من الفلاسفة السابقين أفلاطون، ومن أشهرهم في العصر الحديث عمانويل كانت، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت.

فالنفس في مذهب أفلاطون جوهر مجرد بسيط لا يقبل التجزئة ولا الانحلال، وهي قوام الحياة، وما هو حياة لا يمكن أن يعود «لاحياة» كما أن «اللاحياة» لا يمكن أن تحيي المادة الصماء.

ولكن النفس تتلبس بالمادة في معارج الترقي والتطهير، وتخلص من المادة — طورًا بعد طور — لتعود إلى عنصرها الأول من الحرية والصفاء.

وبقاء النفس في مذهب «كانت» مرتبط برأيه في «القانون الأخلاقي» الذي تدين به فطرة الإنسان، ويدل على إرادة إلهية فوق إرادة الآحاد والجماعات؛ فإن الإنسان مفطور على أن يفهم الواجب، وأن يفهم أن الواجب هو العمل الذي يصلح للاقتداء به، وأنه يتخذ قاعدة عامة تطلب من جميع الناس.

وليس من المعقول أن يُغرس في النفس قانون كهذا ثم يشقى من يدين به ويسعد من ينبذه ويخرج عليه، فالحكمة التي غرست هذا القانون في الطباع خليقة أن ترد الأمر إلى نصابه في حياة بعد هذه الحياة؛ لأن الجزاء العدل لا يتم كله في حظوظ هذه الحياة.

ونريد من الإشارة الموجزة إلى رأي هذين الفيلسوفين، أن يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت أنها مسألةُ بحثٍ وتفكيرٍ، وليس قصاراها أنها مسألة اعتقاد وإيمان.

فالعقل لا يخرجها من متناول بحثه، وأصحاب العلم التجريبي أنفسهم لا يملكون من أسانيدهم العلمية ما يسوغ لهم بإغلاق الباب فيها؛ لأنهم لم يحصروا قط طبيعة الحياة، ولم يثبتوا قط أنها وليدة المادة الصماء، فليس لهم أن ينقضوا ويبرءوا في طبيعة شيء ليس بالمحصور في عملهم وليس مقطوعًا لديهم بأصل تكوينه وغاية مصيره.

لكن العقل نفسه يستلزم فارقًا لا بد منه بين تمثيل الحقيقة للبحث والتفكير، وتمثيل هذه الحقيقة بعينها للتدين والاعتقاد.

فالحقيقة الاعتقادية لا بد أن تمتزج بتصور المؤمنين بها؛ لأن الخطاب فيها موجه إلى ملايين من البشر منهم العارف والجاهل، ومنهم الذكي والغبي، ومنهم كبير النفس وصغيرها، ورفيع الحس ووضيعه، ومنهم من يطلب الكمال ومن لا يعرف كمالًا يطمح إليه.

فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال، وعلى هذا ينبغي أن يروض فكره كل من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم.

فالقرآن الكريم يفرض على المؤمنين عقيدة البعث والحساب، ويدعوهم إلى الإيمان بالنعيم والعذاب.

والجنة هي مقر النعيم.

والنار هي مقر العذاب.

وفي القرآن أوصاف محسوسة للجنة كما وصفت في سورة الواقعة: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ * عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا.١
وفي القرآن أوصاف محسوسة للنار كما وصفت في سورة الفرقان: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا.٢
ولكن من المتفق عليه بنص القرآن ونص الحديث النبوي الشريف أن هذه الموصوفات غير ما يرى ويعهد في هذه الحياة: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ،٣ والنبي عليه السلام يقول: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.»

والواقع أن المسلمين يفهمون من هذه الصفات معنى النعيم ومعنى العذاب ولا يخل فهمهم لهذا أو لذلك بالغرض المقصود من وعد الله ووعيده بالمثوبة والعقاب.

فالإمام فخر الدين الرازي مثلًا يقول في تفسير الاتكاء على السرر الموضونة: «معناه أن كل أحد يقابل كل أحد في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور، فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية جميع جهاتهم وجه، كالنور الذي يقابل كل شيء.»

وهذا فهم فيلسوف باحث في الجواهر والأعراض، وفي مطالب الأرواح والأجسام.

ويفهم المتصوفة أن نعيم الحياة الباقية كله هو الوصول إلى الله، ولا يتطلعون إلى جزاء غير هذا الجزاء.

سمعت رابعة العدوية قارئًا يتلو قوله تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ،٤ فقالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير.
وسمع الشبلي قوله تعالى: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ،٥ فصاح صيحة عظيمة وقال: فأين الذين يريدون الله تعالى؟ وكان يقول في قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا:٦ «إن كان ظاهره إنعامًا فباطنه انتقام وابتلاء واختبار؛ لينظر تعالى من هو معه ومن هو من حظ نفسه.»

•••

فوصف الحقائق بالمحسوسات — كما رأينا — تعبير يفهمه الخواص الذين يرتفعون بالفهم وبمطالب النفس الباقية عن طبقة الجهلاء.

ولكن هل التعبير بالمعاني المجردة والحقائق المثالية مفهوم عند هؤلاء الجهلاء؟ إننا نعلم جميعًا أن أحوج الناس إلى الإيمان بالحساب — بل أحوجهم إلى وازع الدنيا كله — هم طبقة الجهلاء الذين تستغرقهم المحسوسات ولا يخلصون منها إلى تجريد المعاني والشعور بحب الحقيقة وتقديس الكمال، وهؤلاء لا يعتقدون إلا بما يحسون ويفقهون، فإما عقيدة تمتزج عندهم بشعورهم وتصورهم، وإما إباق من كل عقيدة وفكاك من كل تكليف، وبهذا تبطل كلمة العقيدة في الجماعات البشرية كلَّ البطلانِ.

ولا معدى إذن من إحدى صورتين لعقائد الجماعات البشرية.

إما أسلوب يحقق الحكمة من العقيدة عند جميع الناس خاصة وعامة، ولا بد فيه من التعبير عن المعاني بالمحسوسات.

وإما أسلوب يترك الخاصة لأنفسهم، وينفي العامة عن حظيرة الاعتقاد، وهو لا يحقق الحكمة من العقيدة بحال.

في ذلك الأسلوب لا خسارة على أحد من الخاصة أو العامة وفي هذا الأسلوب لا فائدة للخاصة ولا للعامة؛ لأن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة؛ ولأن العامة محجوبون عن الوحي والرسالة بكل حجاب.

وقد ضلل بعض المغرضين من دعاة الأديان عقولًا كثيرة في شتى الأقطار حين زعموا أن الخطاب بالمحسوسات في أمر الجنة والنار مقصور على العقيدة الإسلامية، وأن المؤمنين بالدين لا يؤمنون به إلا إذا كانوا من المؤمنين بالقرآن.

فالأنبياء والقديسون في جميع الأديان الكتابية قد تمثلوا المحسوس في رضوان الله ووضعوه على هذه الصفة في كتب العهد القديم والعهد الجديد، وفي كتب التراتيل والدعوات.

ففي العهد القديم يصغي أشعياء يوم الرضوان في الإصحاح الخامس والعشرين من سفره فيقول: «يضع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن: وليمة خمر على دردي سمائن ممخة: دردي مصفى ويفنى في هذا الجبل وجه النقاب. النقاب الذي على كل الشعوب والغطاء المغطى به على كل الأمم، يبلغ الموت إلى الأبد ويمسح السيد الرب الدموع من كل الوجوه.»

وفي العهد الجديد يقول يوحنا الإلهي في الإصحاح الرابع من رؤياه: «بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلًا: اصعد إلى هنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا، وللوقت صرت في الروح وإذا عرش يعرض عليَّ في السماء وعلى العرش جالس، وكان الجالس في المنظر شبه حجر اليشب والعقيق وقوس قزح، حول العرش في المنظر شبه الزمرد، وحول العرش أربعة وعشرون عرشًا، ورأيت على العروش أربعة وعشرين شيخًا جالسين متسربلين بثياب بيض، وعلى رءوسهم أكاليل من ذهب، ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات، وأمام العرش سبعة مصابيح، نار متقدة هي سبعة أرواح الله، وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور، وفي وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوءة عيونًا من قدام ومن وراء، والحيوان الأول شبه الأسد، والحيوان الثاني شبه عجل، والحيوان الثالث له وجه إنسان، والحيوان الرابع شبه نسر طائر …»

ويقول في الإصحاح العشرين: «متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: يأجوج ومأجوج؛ ليجمعهم للحرب، وعددهم مثل رمل البحر … فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم … وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت … وكل من لم يوجد مكتوبًا في سفر الحياة في بحيرة النار.»

ويقول في الإصحاح الحادي والعشرين: «ثم رأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة؛ لأن السماء الأولى، والأرض الأولى مضيتا، والبحر لا يوجد فيما بعد، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتًا عظيمًا من السماء قائلًا: هو ذا مسكن الله مع الناس.»

وكانت آمال النعيم المحسوس تساور قلوب القديسين في صدر المسيحية فضلًا عن عامة العباد بين غمار الدهماء، ومن أشهر هؤلاء الأقطاب المعدودين رجل عاش في سورية في القرن الرابع للميلاد وترك بعده تراتيل مقروءة يتغنى بها طلاب النعيم، وهو القديس إفرايم الذي يقول في إحدى هذه التراتيل: «ورأيت مساكن الصالحين، رأيتهم تقطر منهم العطور ويفوح منهم العبير، تزينهم ضفائر الفاكهة والريحان … وكل من عف عن خمر الدنيا تعطشت إليه خمور الفردوس، وكل من عف عن الشهوات تلقته الحسان في صدر طهور.»

واتفق أحبار المغرب وأحبار المشرق في وصف النعيم بهذه الصفة، فقال القديس أرنيوس Arenius أسقف ليون في القرن الثاني: إن السيد المسيح أنبأ يوحنا الإلهي: أن ستأتي أيام يكون فيها كروم، لكل كرمة منها عشرة آلاف غصن، ولكل غصن عشرة آلاف فرع، ولكل فرع عشرة آلاف عنبة، وتعصر العنبة منها فتدر من الخمر، مائتين وخمسة وسبعين رطلًا.

•••

هذه الصفات وأمثالها كثيرة فيما كتب وسجل، وفيما وقع في الخواطر والأخلاد بغير كتابة وتسجيل، وكل ما يعنينا منها أنها تعم المعتقدين عمومًا لا يتأتى إغفاله في خطاب يتجه إلى جميع المعتقدين، ولا يبلغ في النفوس مبلغَ اليقين إلا إذا تخلل الشعور وتغلغل في الضمير.

•••

وقد رأينا في أول هذا الفصل أن الفلاسفة الذين قالوا ببقاء النفس بعد الموت يقولون بذلك؛ لأنهم وجدوا القول به ضرورة عقلية يستلزمها اختلاف النفوس وحاجة كل منها إلى التطهر والتكمل في حياة بعد هذه الحياة، ووجوب هذا التطهر والتكمل لاستقامة قضاء العدل الإلهي بين الأخيار والأشرار.

فهذا المعنى ملحوظ في تقدير العذاب الذي يُبتلى به المذنبون بعد الموت كما قضت به شريعة القرآن الكريم؛ فإن المفسرين كادوا أن يجمعوا على انتهاء عذاب الآخرة إلى الغفران، وأن الخلود والأبد يفيدان الزمان الطويل ولا يفيدان البقاء بغير انتهاء، ويؤيد هذا المعنى حديثٌ رواه البخاري يفصله بأسلوب الخطاب الذي يشرح المعاني بالمحسوسات، ومنه يقول عليه السلام: «… وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار … فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا … فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له ماء الحياة، فينبتون في حافيته كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل منها كان أبيضَ، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الرحمن …»

وللنبي عليه السلام أحاديثُ أخرى في معنى ما تقدم، فحواها جميعًا أن العذاب تطهير وتكفير، وأن الأنفس جميعًا تتلاقى في حظيرة الرضوان.

فإذا أعطينا أسلوب العقيدة حقه من التعبير، ففي العالم الآخر كما يدين به المسلم رضا للوازع الأخلاقي، ورضا لدواعي التفكير، ورضا لعقيدة الدين.

١  الواقعة: ١٢–٢٦.
٢  الفرقان: ١١–١٣.
٣  السجدة: ١٧.
٤  الواقعة: ٢٠، ٢١.
٥  آل عمران: ١٥٢.
٦  البقرة: ٦٠، الطور: ١٩، الحاقة: ٢٤، المرسلات: ٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤