خاتمة

منذ الحرب العالمية الأولى كثرت في أوروبة وأمريكا مجموعات الفصول التي يبسط فيها كاتبوها آراءهم في العقائد والأديان، ويلخص كل منهم فيها عقيدته التي استخلصها لنفسه، وأحس أنها تناسب تفكيره وعلمه وشعوره بالعالم الذي يعيش فيه وبما يقتضيه أمر الاعتقاد في عصر العلوم «الوضعية» وتجارب الإنسانية الحديثة.

وتشتمل هذه المجموعات غالبًا على آراء رجال ونساء، ينظرون إلى الحياة من جوانب شتى، فمنهم العالم والفيلسوف، ومنهم الفنان والمخترع، ومنهم السياسي وصاحب الأعمال، ومنهم من ينظر إلى العالم نظرة وسطى تتلاقى فيها جميع الطوائف، وجميع مذاهب الحس والتفكير.

وبعض هؤلاء قد اتخذ له «إلهًا» اصطفاه على حسب المثل العليا التي يتمثل بها الإله.

وبعضهم يدين بعقيدة بشرية أرضية لا محل فيها لما وراء الطبيعة، ولا تخرج عن كونها نخبة من قواعد الأخلاق وبرامج الإصلاح.

وبعضهم يفسر الدين الذي يؤمن به قومه تفسيرًا يوائمه ويخالف ما اعتقده قومه من المراسم والعبادات.

وكلهم — في جملة آرائهم ومذاهبهم — يدلون على شيء واحد: وهو أن الإيمان — كما قلنا في خاتمة كتابنا عن الله — ظاهرة طبيعية في هذه الحياة؛ «لأن الإنسان غير المؤمن إنسان غير طبيعي فيما نحسه من حيرته واضطرابه ويأسه وانعزاله عن الكون الذي يعيش فيه، فهو الشذوذ وليس هو القاعدة في الحياة الإنسانية وفي الظواهر الطبيعية، ومن أعجب العجب أن يقال: إن الإنسان خلق في هذا الكون ليستقر على إيمان من الوهم المحض أو يسلب القرار.»

وقد راجعنا كثيرًا من هذه العقائد المبتدعة أو العقائد الفردية فما وجدنا بينها عقيدة واحدة يدعي لها صاحبها أكثر من دعواه أنها تناسبه وتريحه، أو أنها خير ما يناسبه ويريحه، إن لم يكن بد من الاعتقاد، ولكنهم لا يدعون لها أنها عقيدة صالحة للجماعات البشرية، في أطوار متعددة، وأجيال متعاقبة، ولا يدعون أن هذه الجماعات البشرية تستغني عن كل اعتقاد موروث؛ لأنهم — وهم آحاد — بحثوا لأنفسهم عن اعتقاد، أو شعروا بخيبة الرجاء؛ لفوات حظهم من الاعتقاد.

وكل مقابلة بين العقائد الفردية التي من هذا القبيل وبين عقائد الجماعات البشرية تنتهي بنا إلى التفرقة بينها بهذه الفوارق التي لا مناص منها؛ وهي: أن عقيدة الفرد ترجع إليه في تفسيره وتوضيحه وأسلوبه في فهم الأمور بالحقيقة أو المجاز.

أما عقيدة الجماعة فلا مناص فيها من ملاحظة شرائط لا تدعو الضرورة إليها كلها في تلك العقائد الفردية.

ومنها أن دين الجماعة لا يخلو من المجاز؛ لأنه يوحي إليها بالمغيبات المحجوبة، ويقرب إليها المعاني الأبدية التي تمتزج بالضمير، ولا تستجيش الحس إلا إذا اشتملت على مخيلاتهم واقترنت بما يعهدونه من المألوفات والمشاهدات.

ومنها أن دين الجماعة يعم الخاصة والعامة والمجتهدين والمقلدين، ولا يؤدي غرضه الأسمى إذا قطع فريقًا من هؤلاء عن فريق.

ومنها أن دين الجماعة لأجيال كثيرة وليس لجيل واحد، وفي هذه الأجيال الكثيرة يتسع المجال لكثير من المستحدثات في العلم، وكثير من الغِيَرِ والأطوار في مبادئ الأخلاق ومشارب الأذواق.

وللجماعات البشرية فرص كثيرة لاستحداث العلوم ومتابعة الكشوف والمخترعات تستطيع أن تأخذ منها ما تشاء إن لم تأخذها من نصوص الدين، ولكنها لا تستطيع أن تأخذ الدين من غير مصادر الاعتقاد، وحسبها منه أنه يحضها على التعلم، ولا يصدها عن سبيل المعرفة، حين تتاح لها مع الزمن بوسائل البحث والاستطلاع.

ونحن في هذا الكتاب قد تعرضنا للكلام عن الفلسفة القرآنية من حيث هي عقيدة للجماعات الإسلامية؛ لنعرض هذه العقيدة عرضًا حديثًا يلبي مطالب أبناء العصر الحديث.

ولم يكن غرضنا في الكتاب — كما ألمعنا في مستهله — أن نستشهد للقرآن من مذاهب الفلسفة؛ فإن كثيرًا من الفلاسفة الأقدمين والمحدثين يوافقون الفلسفة القرآنية، فلا يهمنا من ذلك إلا أن يعلم المفرقون بين مجال الدين، ومجال العلم والحكمة، أن الأوامر والنواهي التي في القرآن قد عرضت للحكماء في مجال المباحث الاجتماعية، كما عرضت لهم في مجال العقائد الدينية، فلم يكن فيها إعنات للفكر في سبيل إرضاء الضمير؛ لأنها من شأن الفكر ومن شأن الضمير.

مثال ذلك أنهم زعموا أن تحريم الربا أضعافًا مضاعفة مسألة اجتماعية أو اقتصادية قد عرض لها القرآن، فأتى فيها بحكم قد يرضاه المتدينون، ولكنها لا ترضي علماء الاجتماع أو خبراء الاقتصاد!

لكن الفلاسفة الأقدمين والمحدثين قد عرضوا لهذه المسألة فوافقوا فيها عقيدة المسلم الذي يدين بأوامره ونواهيه، فأرسطو قد حرم الربا؛ لأنه يجعل المال نفسه تجارة وهو وسيلة التبادل في التجارة، وأعداء الاستغلال من فلاسفة الاقتصاد المحدثين يردون مصائب الاجتماع كلها إلى تسخير الناس باستغلال رءوس الأموال، ولم تتناول هذه المسألة قريحة أدبية عالية تقيسها بمقياس الشعور الإنساني والكرامة النفسية إلا وَصَمَتِ الربا بوصمةِ الخسةِ والمعابة، كما قال شكسبير: «إنه صدأ المعدن الخسيس.»

فحكم القرآن في الربا حكم لا يجافي الفكر ولا يعطي الضمير حقًّا أكبر من حقه المقدور في تقرير المحللات والمحرمات، وهذا كل ما يعنينا من الموافقة بين مسألة فكرية، وحكم من الأحكام التي اشتملت عليها الفلسفة القرآنية.

ولم نشأ أن نستدل على قداسة القرآن بما ظهر من نظريات العلم الحديث؛ إذ القرآن كما أسلفنا «لا حاجة به إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ولا يتضمن حكمًا من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم حينما استطاع.»

ومن الخطأ أن نتلقى كل نظرية علمية كأنها حقيقة دائمة نحملها على معاني القرآن؛ لأن النظريات العلمية لا تثبت على قرار بين جيل وجيل.

ومن أمثلة ذلك ما قيل عن النظرية السديمية، وما قيل في التوفيق بينها وبين آيات من القرآن الكريم؛ منها: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.١

وقد رجح بعض علماء الطبيعة — والفلك خاصة — أن المنظومات الفلكية نشأت كلها من السديم الملتهب، وأن هذا السديم تختلف فيه الحرارة فيتشقق، أو ينفصل بعض عن بعضه من أثر التمدد فيه، فتدور الأجرام الصغيرة منه حول الأجرام الكبيرة، وتنشأ المنظومات الشمسية وما شابهها من هذا التشقق وهذا الدوران.

ولكن النظرية السديمية لا تعدو أن تكون فرضًا من الفروض، يقبل النقص والزيادة، بل يقبل النقض والتفنيد، ولم ينتهِ — بعد — بين علماء الطبيعة إلى قرار متفق عليه.

فلنا أن نسأل: هل كان الفضاء كله خُلوًا من الحرارة، وكانت الحرارة الكونية كلها مركزة في السدم وما إليها؟

ولنا أن نسأل: من أين جاءت الحرارة للسديم دون غيرها من موجودات هذا الفضاء؟ ألا يجوز أن يظهر في المستقبل مذهب يرجع بالحرارة إلى الفضاء في حالة من حالاته؟! أليس خلو الفضاء من الحرارة — إذا صح هذا الخلو — عجبًا يحتاج إلى تفسير؟ أليس انحصار الحرارة في السدم دون غيرها أحوج من ذلك إلى التفسير؟ ألا يقول بعض العلماء اليوم: إن الفضاء هو الأثير، وإن الإشعاع هو أصل المادة؟ وإن الإشعاع كله حالة من حالات الأثير؟

فالقول المأمون في تفسير الآية القرآنية أن السماوات والأرضين كانتا رتقًا فانفتقتا في زمن من الأزمان … أما أن يكون المرجع في ذلك إلى النظرية السديمية فهو المجازفة بالرأي في غير علم، وفي غير حيطة، وبغير دليل.

•••

ومتى استوفى العقل والضمير حظهما من سعة القرآن على هذا النهج القويم، فلا حاجة به إلى موافقة النظريات المستحدثة، كلما ظهر منها فرض جديد.

وعلى هذا النهج نقرر أن الفلسفة القرآنية خيرُ ما تتكفل به الأديان القائمة من عقيدة تعمر الضمير وتطلق للعقل عنانه في سبيل الخير والمعرفة وسعادة الأرواح والأبدان، ونحسب أننا وفينا القصد حين نقنع من يقرأ هذه الصفحات بالحقيقة التي أردناها؛ وهي: أن جماعة المسلمين لا يستغنون عن عقيدة، وأنهم لا يصطفون لأنفسهم عقيدة ميسرة سمحة خيرًا لهم مما اعتقدوه.

عباس محمود العقاد
١  الأنبياء: ٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤