الطَّبَقَاتُ

أقر القرآن سنة التفاوت بين الناس في جميع المزايا التي يتفاضلون بها وينتظم عليها العمل في الجماعة البشرية.

فهم متفاوتون في العلم والفضيلة: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.١  يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.٢
وهم متفاوتون في الجهاد الروحي والقدرة على الإصلاح: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ،٣  لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً.٤
وهم متفاوتون في الرزق وأسباب المعيشة: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.٥  وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.٦  وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ.٧
ولكن هذا التفاوت لا يرجع إلى عصبية في الجنس أو الأسرة؛ إذ لا فرق في ذلك بين إنسان وإنسان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.٨
ولا فرق بين أمة وأمة، ولا بين قبيلة وقبيلة، ولا بين أحد وأحد إلا برعاية الحقوق والواجبات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.٩

فالتعدد في الأمم وسيلة التعارف والتعاون، وليس بوسيلة للادعاء، والتنابذ، والتعصب للأجناس والتعالي بالعصبيات.

وقد فسر النبي عليه السلام هذه الآيات البينات بأحاديثَ في معناها فقال: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»

وقال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تعالى.»

وكان عمر رضي الله عنه يتكلم عن الصديق، ويشير إلى بلال الحبشي فيقول: «هو سَيِّدُنَا، وأعتق سَيِّدَنَا.»

•••

فالقرآن الكريم — بهذه الأحكام المفصلة — قد أعطى المساواة حقها، وأعطى التفاوت بين الآحاد والطبقات حقه، فلا يمتنع التفاوت ولا يكون مع هذا سببًا للظلم والإجحاف بالحقوق، بل سببًا لإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان من المستضعفين في الجنس، أو المستضعفين في المنزلة الاجتماعية.

وبإقرار التفاوت أقر القرآن الكريم أصلح النظم التي تستقيم عليها حياة الفرد والجماعة؛ لأن سنة الاختلاف بين الأحياء أعمق من حياة البشر وأعمق من نظم الاجتماع، أو نظم الاقتصاد.

فالحياة تتمثل في ألوف من الأنواع والأجناس والفصائل، وكل نوع أو جنس أو فصيلة يتألف من آحاد يعدون بالألوف والملايين، ولا يتشابهون في الشكل ولا في اللون، ولا في القوة والمزية، ومهما يقل القائلون عن أسباب ذلك في الزمن القديم فالحقيقة الماثلة أمامنا أن التنوع سنةُ الحياة وغايتها، وأنها تنزع إلى تفاوت المزايا، ولا تنزع إلى التشابه والتساوي في مظاهرها الإنسانية، ولا في مظاهرها الحيوانية، ويوشك أن يعم ذلك عالم الجماد قبل عالم الحيوان أو الإنسان.

وحكمة التفاوت ظاهرة، وآفة التشابه والتساوي أظهر؛ لأن الحياة تفتقر إلى المزايا إذا قصرت حركتها على تكرير صورة واحدة في كل فرد من الأفراد، وجعلتهم كلهم نسخة واحدة، لا فضل لبيئة منهم على بيئة، ولا لمجموعة منهم على مجموعة، ولكنها تزخر بالمزايا المتجددة، وتستزيد من الملكات المتعددة، كلما طرأ بينها التفاوت في الصفات والتفاوت في الأنصبة، وكان للتفاوت بين آحادها فضل يحرصون عليه، ويتطلعون إلى بلوغه، والتقدم فيه.

ولا معنى للتفاوت إذا تساوى القادر والعاجز، وتساوى العامل والكسلان، وأصبح الكسلان يكسل ولا يخاف على وجوده، والعامل يعمل ولا يطمح إلى رجحان، واطمأن المجردون من المزايا كاطمئنان الممتازين عليهم بأشرف المزايا وأعلاها؛ فإن القدرة تكاليفها ثقيلة، وأعباؤها جسيمة، ومطالبها كثيرة، والناس خلقاء أن يتهيبوا، وينكصوا عنها إذا لم يكن لهم وازع من الخوف ودافع من الطموح، وإن العاجزين الكسالى ليقعدهم العجز، ويطيب لهم الكسل إن لم يكن فيه ما يحذرونه ويخافون عقباه، وما هم بكسالى إذا كانوا يعملون وهم مستطيعون أن يتركوا العمل بغير خوف من عواقب تركه، أو كان العجز مأمونًا في كل حال، لا يصيبهم في رزقهم ومنزلتهم بما يقلق ويثير: فالتفاوت موجود.

والتفاوت لازم.

ولكنه لا لزوم له ولا فائدة فيه إذا لم يقترن به رجاء وإشفاق، ووثوق من الرزق والجاه، وشك في هذا وذاك.

وهذه هي شريعة الحياة منذ كانت.

وهذه هي شريعة الحياة كيفما تكون، وحيثما تكون.

وكل صورة من الصور تناقض هذه الصورة التي عرفنا حالها منذ كانت، وحيث كانت، فهي صورة لا تستقر في العقل أو الخيال، فضلًا عن استقرارها في الواقع الذي يقبل «التطبيق» ويقبل الدوام.

على أننا لا نعرف صورة تناقضها في العقل أو الخيال غير تلك الصور التي خلقها الوهم في أخلاد جماعة من الهدامين الذين يسمون أنفسهم بالماركسيين أو الشيوعيين.

فهؤلاء الماركسيون يتصورون أن تفاوت الحظوظ والأرزاق حيلة من حيل الأسواق، وشرك من أشراك المرابين وطلاب الأرباح.

ويزعمون أن الناس قد تفاوتوا في الحظوظ الأولى والأرزاق؛ لأنهم قد انقسموا منذ بداية التاريخ إلى مستغلين ومسخرين، وأن المسخرين هم العمال المأجورون، فإذا انتهى التاريخ إلى مرحلة من المراحل يسود فيها العمال المأجورون؛ فقد انتهى الاستغلال، وانتهى التفاوت في الحظوظ الأرزاق، وعمت المساواة بين جميع الآحاد وجميع الطبقات إلى آخر الزمان.

وفحوى ذلك أن المذهب الشيوعي يتقرر مثلًا في قطر من الأقطار سنة ١٩١٧ للميلاد.

ثم يستقر في جميع الأقطار سنة ١٩٥٠ أو قبل سنة ١٩٧٠ أو قبل سنة ألفين أو قبل سنة ثلاثة آلاف.

ثم ماذا؟

ثم يقف سباق الحياة في الجماعات البشرية، ثم ينقطع التبديل والتغيير في تكوين تلك الجماعات، ثم تستقر شعوب البشرية على هذه الحالة من النظام الاجتماعي دهر الداهرين وأبد الآبدين.

إلى متى؟

إلى سنة خمسة آلاف؟ إلى سنة عشرة آلاف؟ إلى سنة مائة ألف بعد الميلاد؟ إلى سنة مليون؟ إلى سنة عشرة ملايين؟

كلا، إلى أن يفنى البشر، وينهار بناء الكون.

ولماذا يقع التبديل في الجماعات البشرية بعد سنة ألفين للميلاد مثلًا أو سنة ثلاثة آلاف؟

لماذا التغيير والتبديل بعد شيوع المذهب الشيوعي في كل قطر من أقطار الكرة الأرضية؟

المسألة كلها «لعبة سماسرة»، وقد انكشفت هذه اللعبة وارتفع الغطاء!

كل ما حدث من أطوار الجماعات، وأطوار الدول، وأطوار العقائد والدعوات فهو «مناورة سوق» ودسيسة فريق من حزب الصعود، وفريق من حزب الهبوط، وقد بطلت الدسيسة بفراسة كارل ماركس اللبيب وأتباعه الأيقاظ، فلا أطوار، ولا مناورات، ولا صعود، ولا هبوط، ولا سبيل للجماعات البشرية إلى تبديل أو تغيير؛ لأن الحكاية كلها حكاية استغلال وتسخير، وقد بطل الاستغلال والتسخير في هذا الطور الأخير، ووقف دولاب الحياة الاجتماعية، فلا مصير لها غير هذا المصير!

وأصحاب هذه النِّحْلَةِ يسمون أنفسهم أحيانًا بالماديين التاريخيين؛ لأنهم يدعون لأنفسهم أنهم يستلهمون أسرار التاريخ، ويسبرون غوره، ويحيطون بآفاقه في ماضيه وحاضره ومصيره، ولكنك ترى مما تقدم أي ضيق وأي صغر يلازمان نظرتهم إلى عوامل التاريخ الإنساني في آباده المترامية إلى غير انتهاء معلوم الحدود، فما أضيق هذه الآفاق! وما أصغر هذا التاريخ! الذي تتقيد خطاه بتنظيم الأجور في مرحلة من مراحل السياسة، فلا تنحرف بعد ذلك يمنة ولا يسرة، ولا يكون لها متجه غير المتجه الذي رسمه لها «الماديون التاريخيون».

وأضيق من هذه النظرة إلى أطوار التاريخ نظرتهم إلى دوافع الحياة التي تنوع مظاهرها، وتعدد جوانبها، فلا شيء غير نضوب الحياة، وضحالة الإحساس بها، يخيل إلى أحد من الناس أن مسألة التفاوت بين الأحياء عامة — وبين البشر خاصة — مسألة عارضة أو تلفيقة من تلفيقات الأسواق، وأحبولة من أحابيل الاستغلال، وأن هذا التفاوت لا يعمل عمله في بيئة المجتمع من جديد إذا عولجت مسألة الأجور على نظام من النظم كائنًا ما كان؛ فإن تفاوت الأرزاق أو الأجور نتيجة لا محيص عنها للتفاوت في أقدار الحياة، ولن يمتنع تفاوت الأرزاق ولو منعته جميع القوانين التي في طاقة الحكومات أو الجماعات.

على أنه لو امتنع يومًا من الأيام بحيلة من الحيل الحكومية لبقي التفاوت الذي لا حيلة فيه لحكومة قط، ولا تعدله في قيم الحياة قيمة تتعلق بالأرزاق أو بالأموال؛ لأنه هو التفاوت الذي يسعد ويشقي، ويرفع ويضع، وتناط به الآمال والجهود، والغبطة والرجاء.

فقد يولد الإنسان بوجه جميل، يفتح له القلوب، ويسخر له اللذات، ويتمناه الألوف، فلا هو قادر على أن ينزل عنه، ولا هم قادرون على أن يأخذوه.

وقد يمتاز الإنسان بالقوة التي تقاوم العدل، وتستغني بالقليل من الطعام والكساء عن الكثير الذي لا ينفع الآخرين.

وقد يمتاز بالذرية التي تعز على غيره، أو يساوي غيره بالذرية ويمتاز عليهم بنجابة الأبناء.

وقد يمتاز بالعبقرية والنبوغ، وقد يمتاز بالفصاحة وذرابة اللسان، وقد يمتاز بالظرف والفكاهة والإيناس، وقد يمتاز بطول الأجل والرضا عن العيش، واعتدال المزاج، وقد يمتاز بالهيبة ووجاهة المحضر وبروز «الشخصية» بين الأنداد والأقران.

فلا بد أن يكون الإنسان مشغولًا جدًّا بالعملة والنقد حتى يتخيل أن النقود وحدها هي التي خلقت الدرجات الاجتماعية بين هذه الفوارق التي لا تقبل الإحصاء، ولا بد أن يكون محسور النظر، حين ينظر إلى المستقبل القريب والبعيد، فيحسب أن هذه المزايا معطلة العمل، في خلق الدرجات والطبقات، وستظل معطلة العمل عشرات السنين، ومئات السنين، وآلاف السنين، إلى أبد الآبدين.

وما كان بالناس من حاجة إلى انتظار آلاف السنين ليروا أن هذه المزايا وأشباهها قد تعمل عملها، في ظل كل نظام، وعلى الرغم من كل نظام.

فقد تأسس النظام الشيوعي في البلاد الروسية منذ ثلاثين سنة، فحاول جهد المستميت أن يقضي على الطبقات والدرجات، فما هي إلا سنوات حتى ظهرت بوادر التفاوت بينها بعد نشأة الصناعة الحكومية، وهي قيد أنملة في أشواط الحياة الاجتماعية إذا قيست بالتاريخ المنتظر في الدهور بعد الدهور.

ظهرت بوادر هذا التفاوت بين أناس يرغبون جميعًا في منعه، ويؤمنون جميعًا ببطلانه، ويدينون بما تدين به حكومتهم من أسباب الفوارق بين الطبقات في حظوظ المعاش.

وقد دانوا بما تدين به حكومتهم؛ لأنهم ولدوا في ظلها، ولم يسمعوا رأيًا غير رأيها، ولا فلسفة للتاريخ غير فلسفتها؛ إذ كان الجيل العامل في البلاد الروسية من أبناء العشرين إلى أبناء الخامسة والأربعين قد ولدوا بعد نشأة النظام الشيوعي، أو تعلموا دروس الطفولة والصبا على يديه، فليس في وسع نظام أن يطمع في معونةٍ أصدقَ من هذه المعونة بين الحكومة والشعب؛ لتحقيق التجربة التي يؤمنون بها ويكرهون إخفاقها، ويعلقون عليها الرجاء الأكبر في الوجود كله؛ لأنها هي عقيدتهم في الوجود.

ولكنهم بدءوا التجربة فلم يتقدموا فيها خطوتهم الأولى، حتى تبين لهم الخطر من التسوية بين المطبوع على العمل، والمطبوع على الكسل، واحتاجوا إلى حفز الهمم وحث الخُطَا بالتمييز بين المجتهد والمهمل، وبين السريع والبطيء، وبين من يركن إلى الكفاف، ومن يطمح إلى التفوق والبروز.

فلم ينفعهم هذا التمييز في الأجور؛ لأن صاحب الأجر الكبير كصاحب الأجر الصغير في القدرة على الشراء، فكلاهما يشتري الحاجيات، ولا يؤذن له بشراء «الكماليات» التي حسبوها من شرور الادخار، أو نظام رأس المال.

فسمحوا بشراء الكماليات مكرهين، وأضافوا التفاوت في حظوظ المعيشة، وفي مراتب الشرف إلى التفاوت في الأجور والمكافآت، وأنشئوا الطبقات باليمين وهم يحاربونها باليسار.

وكان هذا كل ما استفادته الأمة الروسية من هذه التجربة الدامية، التي كلفتها نيفًا وعشرين مليونًا من النفوس البشرية، بين قتلى الثورة وفرائس الاضطهاد، وصرعى المجاعة والوباء، عدا خسارة الأمة في الحرية، واستقلال الفكر والشعور.

وقد فعلت مدابرة الطبيعة فعلها في جميع نوازع الحياة، وفي مقدمتها عبقرية الأمة وملكاتها الإنسانية، وهو أول ما يصاب بمدابرة الطبيعة، وإكراه العقول والقرائح على نحو من الأنحاء.

فإن مدابرة الطبيعة شر على عبقرية الأمة من الطغيان والاستبداد؛ لأن عبقرية الأمة الروسية لم تحرم في عهد القياصرة أفذاذًا من نوابغ الأدب؛ أمثال: دستيفسكي، وتولستوي، وترجنيف، وشيخوف، وآرتزيياشف، وجوركي، ونخبة من الموسيقيين والدعاة، ولكنها عقمت فلم تخرج واحدًا من طبقة هؤلاء في عهد النظام الشيوعي، على وفرة الكتب المطبوعة وكثرة القراءة بين جميع الطبقات، ومن بلغ من أدباء الروس نصيبًا من النبوغ يقارب تلك المنزلة كان مآله إلى الخمول أو الانتحار.

وهكذا يفعل الحجر على سباق الحياة، حيثما جرب، وفي أي من الأوضاع تمثل للناس، فلم يكن الحجر على تكوين الطبقات في ظل النظام الشيوعي أرحم ولا أعدل من الحجر على تكوينها في ظل العقائد البرهمية بين الهنود؛ لأنه منع الصعود، ولم يمنع الهبوط، وضاعف المشقة في طريق العناصر الصالحة للتقدم، ولم يخفف شيئًا من الضواغط القاسرة التي ترين على النفوس فتهوي بها إلى الحضيض.

وكثيرًا ما تسمع من دعاة «المادية» كلامًا عن الظلم الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية؛ لأنهم يزعمون أنهم يحاربون الظلم، ويقررون العدالة، ولكنك لن تتخيل في الدنيا ظلمًا أوبل من ظلم التسوية بين غير المتساوين؛ فإنه يجور على الأصلح، ولا يحمي المجرد من الصلاح، ويقيم العقبات في سبيل تجديد القوى، واستفزاز الهمم، وتنشيط الكسالى، وتقرير الثقة في نفوس العاملين.

بل ليس أظلم للطبقة السفلى نفسها ممن يحسبها «طبقة سفلى» إلى آخر الزمان، ولا يفتح باب الرجاء في الصعود والترقي لطائفة من أبنائها في حاضرهم الراهن، أو مستقبلهم القريب أو البعيد، فهو يأخذهم بشريعة اليأس، ولا يأخذهم بشريعة الأمل، ويحرك فيهم الحسد والخسة، ولا يحرك فيهم الهمة والطموح.

وفي ذلك الجورُ كل الجور على جميع الطبقات، فيه الجور كل الجور على القادرين المستعدين للصعود، وفيه الجور كل الجور على العاجزين الحاسدين الذين لا يصعدون ولا يحبون لغيرهم أن يصعد وهم قاعدون، ولو لم تشايعهم الدعوة المادية على حسدهم لأنفوا منه وأنكروه، ولكنهم يجدون من يمثل لهم تلك الرذيلة في صورة العدل والتجديد، أو صورة «الناموس» الدائم الذي يسيطر على مستقبل الجماعات والآحاد، فيعلنون ما يخجل ويفخرون بما يشين.

وإنما العدل الحق في مسألة الطبقات أن الناس متفاوتون بالفطرة، فينبغي أن يظلوا متفاوتين، وينبغي أن يتفاوتوا بالفضل والجدارة، ولا يتفاوتوا بالمظهر والتقليد، وأن لهم من الحقوق بمقدار ما عليهم من الواجبات، وهم في غير ذلك سواء.

وتلك هي شريعة القرآن الكريم: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.١٠  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.١١  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.١٢

وعلى هذا تصلح الحياة ويستقيم العدل، ويرتفع من يستحق الرفعة، ويمضي التفاوت بين الأحياء إلى معناه، ولا يمضي بغير معنى في تكوين الجماعات.

١  الزمر: ٩.
٢  المجادلة: ١١.
٣  البقرة: ٢٥٣.
٤  النساء: ٩٥.
٥  الزخرف: ٣٢.
٦  النحل: ٧١.
٧  النساء: ٣٢.
٨  الحجرات: ١٠.
٩  الحجرات: ١٣.
١٠  الزخرف: ٣٢.
١١  الحجرات: ١٣.
١٢  الحجرات: ١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤