الميراث

أثبت القرآن نظام المواريث بتفصيلاته لجميع ذوي القربى، اعتبر الإرث حقًّا مشروعًا للوارث لا يجوز حرمانه منه بحيلة من حيل التهريب.

وإجماع المفسرين منعقد على ذلك، لم يخالفهم فيه إلا فئة من فقهاء «الظاهرية» قالوا بمنع ميراث الأرض خاصة وإباحة الميراث من العروض والأموال؛ لاعتقادهم أن الأرض لله إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ.١
ولكنه تفسير يخالفهم فيه جملة الفقهاء من جميع المذاهب؛ لأن كون الأرض لله لا يمنع أن يرثها الصالحون من عباده يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ،٢  وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ،٣ فهي ومن عليها لله وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،٤ وهذا هو المعنى المقصود بميراث الله لكل ما في الكون، وليس المقصود به منع أجزاء من الأرض أن يملكها آحاد من الناس.

•••

والميراث حق وعدل ومصلحة من وجوه كثيرة؛ أقواها في رأي المدافعين عن نظام التوريث أنه نظام لا ينفصل عن نظام الأسرة، وأن الأسرة دعامة من أكبر دعائم الاجتماع، لا تنعقد ثم تنفرط مرة في كل جيل، بل هي وحدة تناط بالدوام.

ومن الواضح أن الأسرة هي منبت العواطف الإنسانية في المجتمع على اتساعه، وأن الصلة التي بين الآحاد في الأمة لا تغني عن وشائج اللحم والدم بين الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والإخوة، وبني العمومة والخئولة؛ فإن «المجتمع» في نطاقه الواسع «كم مبهم» في نظر كل فرد من أفراده، وإنما الصلة العاطفية بين هؤلاء الأفراد هي صلة النسب والقربى في هذه «الخلية» التي تتركب منها بنية كل قبيل وكل جمهور كبير.

فالمجتمع الذي يجعل العلاقة بين الوالد والولد كالعلاقة بين كل فرد منه وكل فرد آخر أقل ما يقال فيه: إنه مجتمع «غير طبيعي» وغير متماسك الأجزاء، ومهما يقل القائلون عن واجبات الأمة على الفرد فلن تكون هذه الواجبات أقوى ولا ألزم من واجبات النوع على أفراده، وهي مع هذا الوجوب لم تفرضها الطبيعة على الفرد إلا من طريق استهوائه بلذته وعاطفته ومصلحته التي تمتزج بمصالح ذويه، فليس للاجتماع أن يدعي لنفسه من القدرة على تسخير أفراده دعوى تعجز عنها الطبيعة التي يتكون منها اللحم والدم والحس والعاطفة، فإنما هو ادعاء لا محصل له غير الألفاظ الجوفاء.

ومن الاجتماعيين من ينكر الميراث وينكر الأسرة معه؛ لأنهما يغريان بتضخيم الثروة وتحكيم رءوس الأموال في جهود العاملين!

ولكن هؤلاء الاجتماعيين يترجمون المسألة كلها بلغة المال، ويقفون عندها فلا يتجاوزونها إلى لغة الحياة أو الدوافع الحيوية، وهي لو ترجمت بهذه اللغة لكان معناها أن الفرد يأتي بغاية ما يستطيع حين يعمل للأسرة وينظر إلى توريث أبنائه، ولا يكتفي من العمل بأدنى حدود الكفاية أو بأيسر ما يتيسر في حدود الطاقة، ومعنى ذلك أيضًا أنه سيخصص قريحته وجهده وكفاءته إلى الغاية التي يقوى عليها، وأنه لا يحسب قواه العقلية والنفسية حسابَ الشح والضنانة بل حساب السعة والسخاء، فيعمل أضعاف ما يعمل بغير هذه الوسيلة، ويفكر أضعاف ما يفكر، ويحس أضعاف ما يحسه، وهو يقبض على ذخائر قواه في وجه العالم كله فلا ينفق منها إلا بمقدار ما يعنيه في سنوات عمره، وليس هذا بالخسارة على العالم ولا عليه، ولكنه ربح للحياة الإنسانية كلها، وليس بالربح المقصور على الورثة أو المورثين.

وإذا قيل: إن هذا المال يؤخذ من المجتمع ليتحول إلى أفراد منه، فالذين يقولون ذلك يتخيلون أن الأسرة تخرج بميراثها من البيئة الاجتماعية التي تعيش فيها؛ لتنقطع به في عزلة عن تلك البيئة المغصوبة، وينسون أن الميراث يبقى في المجتمع كما كان؛ فإن أحسن أصحابه تدبيره، صرفوه في وجوه نافعة، وإن أساءوا خرج من أيديهم وآل على الرغم منهم إلى حيث ينبغي أن يئول.

أما تضخيم الثروة فقد يعالج بوسائلَ شتى غير وسيلة القضاء على نظام الأسرة ونظام التوريث، وما من شريعة تحول بين المجتمع وبين فرض الضرائب على التركات بالمقدار الذي يراه، فيأخذ المجتمع نصيبه المقدور ولا ينزع من الأفراد حوافز العمل التي يعملون بها كأحسن ما يعملون.

وللميراث جانب من العدل الطبيعي كما أن له هذا الجانب من الحق والمصلحة … لأن الولد يأخذ من أبويه ما حسن وما قبح من الصفات والطبائع، ويأخذ منهما ما فيهما من استعداد للمرض والخلائق المرذولة، وليس في وسع الأمة أن تحميَه من هذه الوراثة الطبيعية التي لا تفارقه من مولده إلى مماته، فليس من العدل أن تدع له هذا الميراث وتنزع منه ميراث المال، وهو مفضل فيه على غيره، ولا يتساوى فيه مع أبناء القاعدين عن الكسب والادخار.

•••

هذا نظام يوافق حركة السعي والنشاط في الجماعات البشرية ولا يعوقها عن التقدم الذي تستحقه بسعيها ونشاطها، بل يرجع إليه الفضل أكبر الفضل فيما بلغته من الحضارة والارتقاء، ولو عمل الناس لأنفسهم منذ القدم آحادًا متفرقين ولم يعملوا كما عملوا أسرًا متكافلات لما بلغوا شيئًا مما بلغوه اليوم من أطوار المعاش وآداب الاجتماع، ولا مما بلغوه من المعارف والصناعات، ولا مما بلغوه من العواطف المشتركة ومقاييس العرف والشعور.

•••

وقد نظر القرآن إلى الميراث في نطاقٍ أوسعَ من هذا النطاق؛ وهو نطاق الميراث الذي تتلقاه الأجيال عن الأجيال، أو الأعقاب عن الأسلاف.

فأنكر من هذا الميراث ما يعوق التقدم ويحجر على العقول ويقيم العادات و«التقاليد» سدًّا بين الإنسان وحرية الفكر والارتياء.

ولم ينكر القرآن شيئًا كما أنكر الاحتجاج بالعادات الموروثة لمقاومة كل جديد مستحدث، في غير تمييز ولا تبصر ولا موازنة بين الجديد المستنكر والقديم المأثور، وكان أشد هذا الإنكار «للمترفين» الذين يتخذون من عراقة البيوت حجة للبقاء على ما ألفوه ودرجوا عليه.

وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ.٥  وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ.٦وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.٧
ولما استحسن اتباع الآباء استحسنه؛ لأنه تمييز بين عقيدة خاطئة وعقيدة أكرم منها وأحرى بالاتباع: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ.٨

وإذا كانت شريعة الميراث تحمي الأسرة، ولا تحجر على حرية الأجيال فهي على هذا أصلح ما تصلح به الجماعات البشرية من نظام.

١  مريم: ٤٠.
٢  الأعراف: ١٢٨.
٣  الأنبياء: ١٠٥.
٤  الحديد: ١٠.
٥  الزخرف: ٢٣، ٢٤.
٦  البقرة: ١٧٠.
٧  الأعراف: ٢٨.
٨  يوسف: ٣٧، ٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤