الْأَسْرُ أَوِ «الرِّقُّ»

نحن نكتب هذه الفصول وقد مضى على انتهاء الحرب العالمية أكثر من سنتين، ولا تزال الدول الغالبة توالي البحث في مسألة الأسرى وتحاول أن تشرع لهم نظامًا جديدًا يوافق العلاقات الإنسانية التي تقررها بين الغالبين والمغلوبين وبين الأمم كافة على التعميم.

ولا تزال أخبار الأسرى ومحاكماتهم تتردد في الصحف وتنقلها الأنباء البرقية أحيانًا كأنها من المألوفات التي لا تحتاج إلى تعليق.

ومن تلك الأخبار أن الأسرى من أبناء الأمم المغلوبة ينقلون بالألوف وعشرات الألوف من بلادهم إلى بلاد الأمم الغالبة أو مستعمراتها وتوابعها؛ حيث يعيشون هناك في المعتقلات عيشةَ الأرقاءِ السجناء، ويسلمون العمل في تعمير الخرائب وإصلاح الأرض الموات وإدارة المصانع التي يعملون فيها بالكفاف أو بما دون الكفاف، ولا يؤذن لهم في أثناء ذلك بحرية الإقامة أو حرية الانتقال.

ومن تلك الأخبار محاكمة بعض الأسرى المسئولين عن سوء معاملة الشعوب التي كانوا يحكمونها، أو القسوة على من كان في حراستهم من الأسرى التابعين للأمم الغالبة، وفي بعض التهم التي يحاكمون من أجلها أنهم أزهقوا بقسوتهم أو بسوء معاملتهم مئاتٍ وآلافًا من الأبرياء، الذين لا ناصر لهم ولا يعزى إليهم ذنب يلامون عليه غير وقوعهم في الأسر وإلقائهم سلاح القتال في الميدان، وقد حكم على بعض أولئك المتهمين بالموت أو بالسجن آمادًا طوالًا؛ لثبوت التهمة عليهم بمختلف أدلة الثبوت.

يقع هذا في أعقاب حرب عالمية يراد على آثارها تصحيح الآداب الإنسانية في معاملة الأسرى والمغلوبين، ويعترف الساسة والمفكرون بضرورة هذا التصحيح من وجهة النظر إلى الواجب والمروءة، ومن وجهة النظر إلى المصلحة العالمية؛ لتحسين العلاقات بين أمم الحضارة وتدبير الوسائل التي تمنع تجديد الحروب، وتتكفل بمحو آثارها من النفوس، واستلال الضغائن التي تثيرها بين الموتورين والمنكوبين.

وهذا غاية ما وصلت إليه المساعي في مسألة الأسرى بعد ألفي سنة من عصر المسيحية الأولى، وبعد التفاهم على ضرورة النظر فيها من جديد على ضياء المصلحة العالمية، وعلى قواعد الآداب الإنسانية التي تجمل بعهد الحضارة ورجاء البشر في التقدم والسلام.

•••

على أن النظرة العقلية أو الروحانية التي نظر بها حكماء الغرب ومصلحوه عند نشأة الفلسفة أو نشأة الدين أو نشأة البحث المجرد في الحكومة المثالية لم تسبق هذه النتيجة الواقعية بشيء كثير، ولو من قبيل النصح والاستحسان والمحاولة التي تجدي كثيرًا أو قليلًا في السعي إلى الكمال.

فالفيلسوف «أفلاطون» قد اعتبر نظام الاسترقاق نظامًا ملازمًا للجمهورية الفاضلة أو الحكومة الإنسانية في مثلها الأعلى، وحرم على الرقيق حقوق «المواطنة» والمساواة، وقضي على الرقيق الذي يتطاول على سيد غريب غير سيده بتسليمه إلى ذلك السيد للاقتصاص منه على هواه، ولا يجوز فكاكه من العقوبة إلا بمشيئته ورضاه، وإذا وجبت الرحمة بالرقيق فإنما تجب الرحمة به من قبيل الترفع عن الإساءة إلى مخلوق حقير لا يحسن بالسيد أن يهتم بالإساءة إليه.

والفيلسوف أرسطو جعل الرق نظامًا من الأنظمة الملازمة لطبائع الخليقة البشرية، فلا يزال في العالم أناس مخلوقون للسيادة وأناس مخلوقون للطاعة والخضوع … وحكمهم في ذلك حكم الآلات «الحية» التي تساق إلى العمل ولا تدري فيم تساق إليه، وغاية ما أوصى به أن يتفضل السادة بتشجيع هذه الآلات على الترقي من منزلة الآلة المسخرة إلى منزلة الآلة المتصرفة، كلما بدت منها بوادر الفهم والتمييز.

ولما ظهرت المسيحية في بلاد اليونان كتب القديس بولس إلى أهل «أفسس» رسالة يأمر فيها العبيد بالإخلاص في إطاعة السادة كما يخلصون في إطاعة السيد المسيح، وكان الحواري بطرس يأمر العبيد بمثل هذا الأمر، وجرت الكنيسة على منهجه، وقبلت نظام الرق، وزكاه الفيلسوف «توما الأكويني» أكبر حكماء الكنيسة؛ لأنه أخذ فيه بمذهب أستاذه أرسطو، وزاد عليه أن القناعة بأبخس المنازل من المعيشة الدنيوية لا تناقض فضائل الإيمان.

•••

ولا بد من المقابلة بين تلك النتائج العملية وتلك التقديرات الفلسفية، وبين أحكام القرآن في مسألة الرق؛ لبيان كسب الإنسان الذي بلغته الحضارة البشرية من تقرير تلك الأحكام، لغير ضرورة توجبها دواعي الاقتصاد أو دواعي السياسة في مأزق من مآزق الحروب الكبرى.

فالقرآن قد أباح استخدام الأسرى؛ لأن الأسر حالة لا بد من دخولها في الحساب ما دامت في الدنيا حروب وما دام فيها غالب ومغلوب، ولكنه حث المسلمين على فك الأسرى كرمًا ومنًّا، أو قبول الفدية من أوليائهم أو منهم، ومعاونتهم على تيسيرها كلما استطيع التيسير: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا،١  وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ.٢
وأوصى بالإحسان إلى الأرقاء كما أوصى بالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى في آية واحدة: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا.٣

وقد تمم الإسلام هذه الأحكام — كما بينا في كتاب داعي السماء — «فجعل الإعتاق حسنة تكفر عن كثير من السيئات، وفرضها على الذين يخالفون بعض أحكام الدين كما فرض الصدقات وإطعام المساكين» … وكانت وصية النبي للمسلمين قبل وفاته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وتكررت منه عليه السلام في أحاديثه حتى قال في بعض تلك الأحاديث: «لقد أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم» … وتجاوز الإشفاق على الأرقاء من سوء المعاملة إلى الإشفاق عليهم من الكلمة الجارحة، فكان عليه السلام يقول: «لا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي وغلامي»، أما ضرب الرقيق بغير تأديب فهو ذنب كفارته العتق، أو كما قال عليه السلام: «من لطم مملوكه فكفارته عتقه»، فإذا قتله فهو يُقتل به في قول أشهر الفقهاء.

•••

إن الباحثين الاجتماعيين من الأوروبيين أنفسهم قد عللوا حركة التحرير — تحرير الأرقاء — بعلل كثيرة من ضرورات «الاقتصاد» … فذكروا أن المطالبين بتحرير الرقيق لم يفعلوا ذلك إلا احتيالًا على الكسب ومنعًا للمنافسة التجارية التي تيسر لأصحاب العبيد ومسخريهم في الصناعات أرباحًا لا تتيسر لمن يستأجرون الأحرار ويبذلون لهم ما يرتضونه من الأجور، ولم تزل معاملة السود في أمريكا الشمالية — بعد تحريرهم من الرق — أسوأ معاملة يُسامُها بنو آدم في هذا الزمان، وذلك بعد أن دان المسلمون أربعة عشر قرنًا بشريعة المساواة بين الأجناس، وعلموا أن فضل العربي القرشي على العبد الحبشي إنما هو فضل التقوى والصلاح دون فضل العصبية واللون.

ولم يأخذ الإسلام أتباعه بهذا الكرم المحض مجاراة لضرورات الاقتصاد، بل أخذهم به على الرغم من تلك الضرورات، وعلى الرغم من شح الأنفس بالأموال وما تملك الأيمان، وتلك هي مزية الإسلام الكبرى في السبق إلى هذا الأدب الرفيع.

١  محمد: ٤.
٢  النور: ٣٣.
٣  النساء: ٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤