الفصل الرابع

القدريّة والجبرية أو الاختيار والاضطرار١

«الاختيار معدوم من الوجود جملة، وإنما تصرفنا قوانين مرتبة نعرفها ومصادفات واتفاقات ربما كانت تسير على قوانين لا نعرفها.»

١

لم يشتغل العقل الإنساني بشيء مثل اشتغاله بمسألة القدر والجبر. فمن أول ما بدت تباشير الفكر وقُدِّر لنا أن نقف على أخبار المتقدمين أهل التاريخ الأول سمعنا بهذه المسألة. فهي قديمة وربما كانت أعرق في الوجود من كل فكرة أخرى. ولما جاءت في الأديان جعلتها موضع نظر ولكنها لم تتوصل إلى حلها بل تركتها بحذافيرها تنتقل من جيل إلى جيل حتى وصلت إلينا، ولم تزل الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة. بل لا نغالي إن قلنا: إنها من الأسس الأولى التي تبنى عليها اليوم أقسام كبيرة من الفلسفة والعلم. فمسائل التشريع والقواعد الاقتصادية والأفكار الاجتماعية كلها تمس هذه الفكرة وتعتد بها. وكلنا في أعمالنا اليومية ومعاملاتنا مع الآخرين لا ننسى مبلغ ما يترتب على عملنا من المسئولية الشخصية، ولا مقدار المسئولية التي تقع على عاتق غيرنا بانين ذلك على أن الإنسان حرٌّ مختار. وكلنا نحس أن الأفراد لا يتساوون في هذه المسئولية، بل تصغر عند قوم وتكبر عند آخرين على نسب مختلفة للعمل الواحد.

ولم يصل كثير من الباحثين إلى نقطة عملية عامة في هذه المسألة. بل تراهم يميلون إلى الاعتراف بقسط من الاختيار لكل فرد من الأفراد لم يخرج عن عقله، كبُر ذلك القسط أم صغر. وتراهم يقولون: إنه لولا ذلك لما ساغ لنا أن نستاء من عمل غيرنا ولا أن نفرح له. لكنا نستاء ونفرح. ولا شك أن معنى هذا أننا نقدِّر أن هذا الشخص كان يستطيع أن يعمل غير ما عمل فيستحق منا إحساسًا مخالفًا للإحساس الذي أبديناه حين رأيناه عمل ما عمل. ولا بد لنا أيضًا من الاعتراف بقسط من الجبر أو الاضطرار يختلف قدره باختلاف الأفراد. وهذا هو السبب في أن الإحساس الذي نقابل به عملًا معينًا من زيد ليس هو بعينه الإحساس الذي نقابل به العمل نفسه من كل شخص غيره.

هذه هي الأفكار العملية العامة في الموضوع. ولسنا ندري هل تتغير قريبًا؟ ولكن ما لا شك فيه أنها تشكلت بأشكال كثيرة، وليست مع الأحوال المختلفة لبوسًا جمة. فبالنسبة لقيم الاختيار والاضطرار، وبالنسبة لمصدرها راجت أفكار وأوهام كثيرة على مدى الأزمان المختلفة. فجبرية اليوم يرجعها المعاصرون من كتاب أوروبا إلى تأثيرات الوراثة والوسط في حين كان يرجعها أهل الزمن القديم إلى القدرة الإلهية. والاختيار المطلق والاختيار النسبي شغلا من الأبحاث آلاف الصحائف. وكذلك مقدار الاختيار. ولسنا نريد بما نكتب تحليل هذه الأبحاث، ولا التنقيب عما كان واستظهاره، بل إثبات رأي نعتقده وإظهار أثر هذا الرأي في بعض جهات العلم والفلسفة، ولا سيما ما اختص بفكرة المسئولية وتقدير الخير والشر.

وقبل الشروع في ذلك نرى أن نوضح هذا الرأي في ذاته وموضعه بالنسبة للآراء الأخرى. ولا يلمنا أحد بالتعجب في ذلك، فإن أول ما نطلب أن يكون القارئ عارفًا بمرامينا حتى إذا قرأ ما نكتب كان قادرًا على اتباع أسباب الحجة التي ندلي بها وطرقها ومسالكها، فيصل بها معنا إلى الغاية التي نراها من غير أن يكلف نفسه الرجوع إليها؛ ليرى مواضع الضعف منها.

أما رأينا فهو أن الاختيار معدوم من الوجود جملة، وإنما تصرفنا قوانين مرتبة نعرفها ومصادفات واتفاقات ربما كانت تسير على قوانين لا نعرفها. ولسنا نقصد بالاختيار هذه الحرية الجزئية الضئيلة التي نستطيع معها أن نسير إلى اليمين لا إلى اليسار، ونأكل صنفًا دون آخر، ولكنما نقصد به مجموع القوة المصرفة للحياة والمتسلطة على هامة الحرية الجزئية، نقصد به روح الحياة ذاتها. فهذه الروح أو تلك القوة أو ما شئت فسمها معدومة الاختيار من جميع الجهات، سواء كان ذلك من جهة تكوينها المباشر بالذات، أو من جهة الظروف الخارجية التي تعيش وقتيًّا في وسطها. وهي مدفوعة في طريقها بعوامل لا دخل لها مطلقًا فيها، أو إن كان ثمة لها دخل فهو ضئيل إلى درجة معدومة الأثر. وهذه الحرية الجزئية الضئيلة التي نعتقد أننا نملكها بيدنا، وأنَّا نتصرف على مقتضاها في حياتنا اليومية معدومة أيضًا وما نراه منها إنما هو خيال ووهم.

كلما تيسر لي أن أفصل بذلة جديدة يدخل رأسي تصميم أن أغير الألوان المعتادة التي ألبسها، وأدخل محل الخياط على هذا التصميم. وبعد أن أقلب خمسين قطعة من القماش أقف عند اختيار لون لا يخرج مطلقًا عن ألواني المعتادة. وقد خرجت مرة عن هذا الجمود لعلي أرى في الجديد طلاوة. فلما لبست بذلتي الجديدة شعرت بعدم ارتياح لما عملت كأنه خالف اختياري. فهل أنا مختار في المرات الأولى، وهل أنا مختار في هذه المرة الأخيرة؟ وأعتقد أن كثيرين مثلي لاحظوا من ذلك ما لاحظته.

نجد هذا أيضًا عند اعتيادنا اختيار الطعام. نجد هذا الاختيار محدودًا لا يتعدى أصنافًا معينة، فإذا تعداها الإنسان حسب نفسه خرج على نفسه أي حسب نفسه غير كامل الاختيار. ويكون ذلك إحساسه في غير هذه الجزئيات كل مرة يخرج فيها عن معتاد اختياره، اللهم إلا إذا نسي نفسه مع أصحاب أو جماعة أيًّا ما يكونون. وهو لا شك في هذه الحالة مسلوب الاختيار في أغلب الأحيان.

ونظن القارئ في غنى عن أن نضرب له الأمثال لذلك. ومن هذا نرى أن هذه الجزئيات البسيطة من متعارف ما في الحياة، ومما نظن لأنفسنا كامل الحرية فيه إنما حدد اختيارنا لها ظروف خارجة عنا كونت عندنا عادة أعدمت هذا الاختيار، وبالتالي قتلت هذه الحرية.

وإذا ارتقينا فوق هذه الدرجة، وجعلنا أعمالًا أكبر من الأعمال اليومية موضع نظرنا تجلَّى لنا انعدام الاختيار عند الإنسان بشكل أوضح. وليست الأمثلة هي التي تعوزنا هنا. فنادر هو الرجل الذي لم تجئه حادثة خارجة عن انتظاره، بل عن اعتقاده فاضطرته أن يتبع مسلكًا من مسالك الحياة لم يكن يحلم به. ونادر من لم تؤثر في حياته أو أعماله صداقة رجل معين أو حب امرأة معينة. ونادر من لم تغير خطته مقابلة في قطار أو سفرة إلى بعض المكان. ونادر منا من لم يكن لمرضه أو لزواجه أو لنسله تعديل عام لطريق سيره. وربما كانت كلمة نادر غير كافية، فأقول: ليس في الوجود إنسان لم يذعن لحكم كل هذه الظروف أو بعضها على أنها حين تقابل الواحد منا تحدث عنده أثرًا غير الأثر الذي تحدثه عند الآخر، وربما كان على عكسه والواحد منا لا يستطيع أن يغيّر فيها أو يبدل، وإنما يخضع لها مجبرًا غير مختار.

ومركز الواحد منا في الحياة — كونه ابن زيد لا ابن عمرو، وكونه ولد في بلد وفي قطر معين وفي عصر معين — أيّ اختيار له في هذا؟ من غير شك لا اختيار له، وإنما هو يحتل هذا المركز مجبرًا سواء أراده أم لم يرده. ومن لنا بالرجل الذي يقدر على اختيار مركزه.

ربما قيل: إنه مهما أمكن التسليم بصحة ما تقدم فإن في نفي الاختيار إطلاقًا مغالاة. وأن من الواجب الاعتراف باختيار نسبي للفرد يميز به بين الخير والشر والحسن والقبيح، ويمكن معه احتمال مسئولية العمل الذي يعمله. وإن هذا الاختيار النسبي الذي هو أساس المسئولية ونتيجة من نتائج الإرادة حرية نسبية، وهو متعلق بالفرد ملتصق به بل هو جزء منه.

ولا شك في أن هذا الكلام غير خلو من المعنى. فإن لنا إرادة نسبية نميز بها أعمالنا اليومية، وتجعلنا مسئولين أمام أبناء عصرنا عما يصدر منا من الأعمال، وهذه الإرادة هي التي تعطينا الحق في مؤاخذة غيرنا، وفي مؤاخذة أنفسنا. لكن هذه الإرادة النسبية هي كما قدمنا محكومة بظروف خارجة عنها مؤثرة فيها باعثة إياها حتمًا لتسير في طريق معين. أي: إن إرادتنا ليست حرة في أن تريد. فالأحكام التي تصدر عنها والتصميمات التي تتبعها إنما هي مدفوعة إليها بعوامل خارجة عنها، ربما كانت قوانين الطبيعة، وربما كانت المصادفة التي لا نعرف قوانينها، وربما كانت أيضًا روح الوجود الخفية والقوة المصرفة له التي لا تدرك ماهيتها. وربما كانت مجموع هذه الأشياء.

ففي الأمثلة البسيطة التي قدمنا عن اختيار اللون في الملبس والمطعم، رأينا أن هذا الاختيار مقيد بقيود كثيرة منها الوسط الزماني والوسط المكاني، ونوع التربية ومبلغ الصحة أو المرض والقوة أو الضعف، التي عند الفرد وعوامل كثيرة أخرى ليس من السهل حصرها، وقد رأينا أيضًا حين ترقينا فوق هذه الأمثال أن هذه القيود لا اختيار لنا في وجودها. وكون الرجل ابن شخص معين ولد في بلد معين، وفي زمن معين وفي أمة معينة أمور كلها بعيدة جدًّا عن أن تكون من اختياره. ومع ذلك فلها تأثير بين واضح في آخر درجات الاختيار؛ لأنها هي أسباب الإرادة.

وهذه الأسباب نفسها غير مختارة؛ لأنها غير متعلقة بإرادة عاقلة تعرف ماهيتها. فوجود زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة على صورة معينة أمرٌ لا دخل لإرادة معينة فيه، بل هو نتيجة لعوامل بعيدة عن إرادة الناس أفرادًا كانوا أو جماعات. وكل جيل من الأجيال يحتمل غير مريد نتيجة أعمال آلاف الأجيال التي سبقته، ويحتمل غير مريد شر أعمال الأجيال المعاصرة له. وإذا كان ذلك شأن الجيل فإن الفرد الذي هو ذرة منه يحتمل تأثير ملايين من إرادات معاصريه وملايين الملايين من إرادات الأجيال الماضية. فهل يبقى مع ذلك صاحب إرادة خاصة، ويستطيع أن يقول حين يعمل عملًا معينًا: إني قمت به؛ لأنني أردته؟

ليتصور القارئ معي نفسه: هو الآن يقرأ هذه السطور. فهل هو مريد في ذلك؟ وإذا كان مريدًا فما هي قيمة اختياره في هذه الإرادة. أولًا من أجل أن أكتب ما أكتب مررت بآلاف بل بملايين من المؤثرات التي شكلت إرادتي على ما أردت هي لا على ما أردت أنا. ثم كتبته بعد ذلك. وكتبته في أوقات ربما كان يكفي أن تتغير هي لتغير ما أكتب. ثم نشرته في هذه المجلة بعد تفكير في ظروف لا دخل لي فيها هي التي استوقفت عزمي عندها. فَلِمَ لَمْ أنشرها في غيرها؟ لأسباب خارجة عن إرادتي إذا نحن اعتبرنا مطلق الإرادة. وقرأها القارئ في هذه المجلة؛ لأنه من قرائها؛ لا لأنه يريد أن يقرأ كلامي.

ثم ما هو الإحساس الذي يجده القارئ حين القراءة؟ أهو الانبساط أم الامتعاض أم عدم الاهتمام؟ لا شك أن ذلك كله يختلف كثيرًا ما بين قارئ وقارئ. فمن الممكن أن يثني القارئ عطفه قائلًا: وما نتيجة هذه الأبحاث في الحياة؟! ومن الممكن أيضًا أن يقول: لقد أحسن الكاتب فإن في بحث هذه النظريات ما يؤثر في تقدير المسئولية الاجتماعية والمسئولية الفردية. ومن الممكن كذلك أن يمر بما أكتب ثم يلقي المجلة من يده متثائبًا. هذا كله إذا لم ير في طرق باب مثل هذا الموضوع ما لا يسمح به الدين. وكل هذه الأحكام التي يصدرها يحسب أنه مريد كل الإرادة في إصدارها مع أنها إنما تتعلق بنوع تعليمه وبالمدرسة التي نشأ فيها، وبالقراءات التي قرأها وبطرق التفكير التي مر بها، وبالحوادث التي واجهها. ولو أن شيئًا من ذلك كله تغير لتغير هذا الحكم وبكلمة أخرى لتغيرت الإرادة.

وظاهر من ذلك أن الإرادة لا تعمل بذاتها مجردة، ولكن تحت مؤثرات كثيرة هي التي تكونها على نحو خاص، وتجعلها بذلك تصدر أحكامها على هذا النحو محكومة بقوى تلك المؤثرات. ولا يمكن أن يقال مع ذلك: إنها حرة في أن تريد، بل ظاهر أنها مجبرة على السير في الطريق الذي رسمته لها هذه المؤثرات. وبكلمة أخرى مجبرة في اختيارها.

ومن الممكن أن نلخص العوامل التي تؤثر في الإرادة، وتحكمها في الاختيار على الطريقة الآتية:
  • (١)

    حكم الوسط الزماني والمكاني: فهذا الوسط الذي تكون على مدى الأجيال المتعاقبة من تفاعل ملايين الإرادات الإنسانية مع عوامل الطبيعة الأخرى له في إرادة كل فرد منا أعظم تأثير. فإن منها تتكون الأفعال الاجتماعية، والأنظمة السياسية والقوانين الإجبارية، والاعتبارات الأخلاقية. وهذه كلها وما سواها من الأفعال الاجتماعية تشترك في صفة مميزة هي إكراهها كل فرد على اتباعها، وجعلها إرادته تتكيف على النحو الذي تقتضيه.

  • (٢)

    حكم الوراثة: وله في كل منا أثر مباشر في تكوينه الجسمي والعقلي. ومعلوم أن هذا التكوين له شأن كبير في حركاتنا وسكناتنا، وفي جميع تصرفاتنا، وفي نظرنا إلى الحوادث والأشياء وسائر ما في الحياة. وبكلمة أخرى في أحكام إرادتنا على كل ما جل ودق من الأعمال.

  • (٣)

    حكم العادة: فلكل فرد على حسب ما كونته الأوساط التي نشأ فيها، وعلى حسب تأثير وراثته عليه وما انتابه من حوادث المرض والزواج، والوظيفة التي يؤديها في الحياة نُظُمٌ يسير عليها، وتؤثر فيه أشد التأثير. هذه النظم هي عاداته الفردية التي كونها لنفسه، والتي أصبحت — كما يقولون — طبيعته الثانية. وهو كلما فكر في أمر من الأمور حكمته تلك العادات في التفكير وفي اتجاه إرادته. خذ مثلًا لذلك شخصًا اعتاد التدخين أو اعتاد تناول أدوية معينة في أوقات معينة، فترى أن هذه العادات لها في تصرفاته أثر كبير. كم ترى معتاد التدخين منحرف المزاج ضيق الصدر مسرعًا في الحكم إذا هو لم يجد سيجارته حاضرة تحت يده عند طلبه إياها، وكم تراه ساعة التدخين ميالًا في تفكيره إلى طريق الأحلام والأماني. ثم كم ترى السقيم المعتاد تناول المورفين بعيدًا عن الابتهاج بالحياة وما فيها إذا منع عنه.

  • (٤)

    حكم المصادفة: ليس من ينكر أن مصادفات في الحياة غير منظورة خلقت له مركزًا خاصًّا جعله ينظم حياته على شكل دون آخر، من غير أن يكون له دخل في تلك المصادفات مطلقًا.

فهذه العوامل التي تؤثر في حياتنا وإرادتنا، وتتأثر هي بأعمالنا وتنتقل إلى الجيل الذي بعدنا محملة بماضي الإنسانية الطويل مؤثرة في ذلك الجيل الجديد، تترك الفرد منا وشأنه في وسط هذا العالم الهائل شأن أي ذرة أخرى من ذراته تسير في نظامه محكومة بقوانينه الخالدة غير مستطيعة لنفسها نفعًا ولا ضرًّا.

قد يرد على هذه الحجج كلها اعتراض يجب عدم إهماله. وذلك أننا في كل اعتباراتنا المتقدمة كنا دائمًا ننظر إلى الإرادة المطلقة، كأنها مثال الإرادة التي تُطلب للإنسان. وأنَّا كنا نمثل الشخص الكامل الاختيار كأنه الشخص الذي يسير على غير قانون ونظام. وفضلًا عن هذا فكأنا أغفلنا فكرة الإرادة النسبية إغفالًا تامًّا. فإذا صح ما قدمنا من أن الإرادة الفردية محكومة بقوانين تحدد اختيارها إلى حد كبير، فإن في هذه القوانين من السعة والتسامح ما يجعل لهذه الإرادة مجالًا في العمل واسعًا.

وفضلًا عن ذلك فقد كان بحثنا كله دائرًا حول الفرد معتبرًا إياه ذرة من الوجود متأثرة بما حولها. وما دام ذلك فلا يمكن إلا التسليم بأن كل إرادة يجب أن تخضع لمقتضى قوانين الحياة. ولكن الواجب أيضًا أن ننظر إلى الفرد كوحدة قائمة بذاتها مؤثرة في الحوادث مصرفة لها على نحو معين ومشكلة إياها بشكل خاص. أي: إنه يلزم لمعرفة مقدار حرية الإرادة أن ننظر إلى هذه الإرادة حين تفاعلها مع الحوادث كمؤثرة فيها قبل أن تكون متأثرة بها، ونقدر مبلغ ما لها من التصرف في هذا التأثير. وذلك يتحتم أكثر إذا علمنا أن العوامل المؤثرة في الإرادة هي عوامل عامة على الغالب مشتركة بين كل الأفراد. فإن ما سميناه نحن حكم المصادفة يسير هو نفسه إلى حد كبير على نظام يصيب الأفراد منه بالنسبة لأثره في إرادتهم — لا في حظهم — قدر غير قليل. فإذا نحن أخذنا هذه العوامل المؤثرة على اعتبار أنها متساوية في فعلها في الإرادة، ونظرنا إلى الإرادة بعد ذلك مجردة عنها كان لنا أن نحكم أن لها في الحياة اختيارًا يصرف حياة الفرد، وكثيرًا ما يمسك بيده تصريف حياة الكون كله في مدة غير قصيرة من الزمن.

وقد يضرب المعترض مثلًا إرادات مصرفة يجدها قاومت نظام الكون، وغالبت قوى الطبيعة وتمكنت من إخضاعها، ووصلت من ذلك إلى المدنية الحالية وما فيها من المخترعات والعجائب، ولو أنها اتبعت نظام الطبيعة وسارت على قانون أقل مجهود لبقي العالم متلمسًا في ظلامه القديم. لكن تلك الإرادات القديرة عملت ونجحت في إخضاع أقسى ما نعانيه في الحياة. فدعاة الأديان أثروا في العالم بتعاليمهم تأثيرًا كبيرًا، وكذلك نابليون بونابرت بحروبه وأعماله وقانونه المدني. وجوستنيان في التشريع الروماني. فهل هذه النفوس التي أقامت المدنية، وأحيت تاريخ الإنسانية ونشرت العلم والنور والهدى والحضارة ذرات تسير في نظام الكون محكومة بقوانينه الخالدة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، وهل هذه الإرادات القوية التي غلبت حياة الوجود لم تكن إلا عجينة شكلتها ظروف الوسط وأحكام العادة، ومؤثرات الوراثة من غير أن يكون لها في نفسها أثر.

هذا وجه الاعتراض الذي يوجه في مثل هذه الأحايين. ولسنا نقف دون هذا الاعتراض أو نحسبه يغير شيئًا من صحة ما قدمناه. فإن تحليلًا بسيطًا لهاته النفوس الممتازة، وما أحاط بها يجعلنا نؤمن تمام الإيمان بأنه لم يكن لأصحابها من الإرادة في عملهم إلا بمقدار ما أجبرتهم على السير فيه ظروف الحياة، كما أن الوقوف عند الإرادة الفردية لذاتها وتجريدها من العوامل المشتركة التي تؤثر فيها تظهر لنا هذه الإرادة قوة عمياء لا تتحرك بنفسها، ولا تتصرف باختيارها، ولكنها تنتظر عوامل خارجية تدفعها للسير في الطرق التي نرسمها لها.

ومن أجل أن نصل إلى ذلك بحجج بينة واضحة يجب أن نفهم أولًا ما هي الإرادة وكيف نريد؟ كان الكتاب الأقدمون يحسبون الإرادة قوة من قوى الروح، والروح عندهم شعاع لطيف خارج عن مادة الجسم سرى فيها سريان الريح في الورد، والزيت في الزيتون، والنار في الفحم، مؤثر فيها غير متأثر بها. وكأن ريح الورد وزيت الزيتون ونار الفحم كانت في نظرهم قوى خارجة عن المواد التي تسري فيها، وعلى ذلك كانت الإرادة عندهم قائمة بذاتها تكافح ثورات الجسم أحيانًا، وتناهض ما قد تتجه نحوه شهواته ورغائبه، وكما أن ذلك في مقدور هذه القوة، فقد بنوا عليه تكليف الإنسان اتباع الخير وتوجيه إرادته نحوه، واجتناب الشر وتوجيه إرادته ضده، واعتقدوا أنه مهما كانت الميول الإنسانية شريرة بطبعها، فإن قوة الإرادة تكفي لتقويم عوج الطبيعة بمكافحة هذه الميول ومناضلة الطبيعة. وهذا هو عندهم أساس المسئولية.

لكنهم كانوا يرون في الواقع أشياء كثيرة تقف دون تعميم فكرتهم هذه وإطلاقها، فكثيرون يوجهون همتهم إلى جهة معينة ويريدون عملًا معينًا، ثم تراهم وقد أسقط في يدهم في كل ما أرادوا. كثيرون يريدون عيش التبتل ويعملون جهدهم له ولكن مصادفة منحوسة في اعتقادهم تقابلهم بامرأة تستغويهم وتضلهم سبيلهم. كثيرون يريدون عمل الخير للناس على نحو خاص، ويبذلون قصد الوصول إلى تحقيق غرضهم كل ما لديهم من الوسائل، ثم ينقلب سعيهم وبالًا عليهم وعلى من يريدون به الخير لظروف خارجة عن إرادتهم وترتيبهم. وكثيرون لا همة لهم ولكن خطأ غير منظور يرفعهم إلى درجات العلى، ويُخرج من بين أيديهم المعجزات. كان الكتاب الأقدمون يرون ذلك كله، ويشعرون بأنه يتفق مع فكرة الإرادة المطلقة الخارجة عن مادة الجسم المصرفة لحركاته وسكناته حسب تدبير خاص، فلا يستطيعون بغير الاتجاه إلى ضعف الإنسان وجهله تفسير عجزهم عن إطلاق فكرتهم على كل ما في الحياة، ووسيلة ذلك هي التسامح مع قوى خارجة عن الوجود وعن عالمنا؛ لتتداخل تداخلًا غير منظور لنا وبالتالي غير معروف منا. وعن طريق هذه المداخلة من جانب تلك القوى تحدث هذه العجائب التي لا تسير على سنة، ولا يحكمها قانون. فصورا مداخلة الشيطان لإغوائنا في جهة الشر، وجعلوا أفعال الخير التي تصدر عنا أثرًا من آثار الإلهام الإلهي ووحي خالق الروح والإرادة، فلما أحسوا أن مثل هذه المداخلة إذا أطلقت تصل إلى ملاشاة الإرادة، وملاشاة الإرادة تفسد عليهم فكرة المسئولية في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن مبناها عندهم هو حرية الاختيار، جعلوا الرجل مريدًا وغير مريد معًا، وحكموا أنه مختار ومضطر في وقت واحد.

وبعد تقلب كثير في الأفكار والفلسفات، اطمأنت الأفكار إلى فكرة الاختيار النسبي لتضعها أساسًا للمسئولية.

والاختيار النسبي هو افتراض الفرد مجبرًا في مجموع حياته مختارًا في جزئياتها. ولما كانت معاملاته مع الناس متعلقة بهذه الجزئيات كانت مسئوليته أمام أمثاله تامة؛ لأنه يتمتع بهذه المسئولية بحرية تامة.

٢

ظاهر مما تقدم أن الأبحاث التي جرت في هذا الباب هي أبحاث تصويرية أكثر منها علمية، فإنها لا ترمي إلى تعرف حقيقة الإرادة، ثم بناء فكرة المسئولية عليها بل إلى الاعتراف بفكرة المسئولية، والإحساس بها واقعة ملموسة، وتلمس أسبابها في أنواع من الصور والخيالات أقامها الذهن الإنساني ليعتبرها مصدرًا لتعليلاته المنطقية. ولا شك أن هذا الطريق هو طريق الحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها؛ لأنك لا تستطيع أن تميز في هذه الأبحاث تمييزًا دقيقًا واضحًا هل فكرة المسئولية هي التي انتزعت من وجود الإرادة الحرة، أو أن فكرة الإرادة الحرة هي التي خلقت لتقوم دعمة المسئولية الموجودة والمحس بها. ولولا تقدم العقل الإنساني لبقينا في تيهاء غامضة يغشانا نور لا ندري أين مصدره.

والحقيقة عندنا أن الإرادة ليست قوة خارجة عن الجسم متعلقة بالروح؛ لأن الروح ليست شعاعًا مستقلًّا عن الجسم على نحو ما كانوا يقولون، وإنما الحياة أثر تفاعل المواد المركب منها الجسم الإنساني بعضها مع بعض وتفاعلها مع المواد الأخرى في العالم، وهذا التفاعل هو مصدر كل القوى بما فيها الروح والإرادة.

وليس معنى ذلك أن الحركات والسكنات التي تصدر عنا ليس لها نظام خاص، أو أنَّا نحن لا نسير على ناموس في تصرفاتنا غير ناموس المصادفة البحت، بل إن كل حركة من حركاتنا أيًّا كان نوعها تصدر عن مركز خاص، لكنها قبل أن تصل إلى هذا المركز، ثم تصدر عنه تمر بأجهزتنا المختلفة وتتوزع بعد ذلك على حسب أنواعها على المراكز المعدة لتلقيها وإصدارها. وتصرف هذه المراكز في التلقي والإصدار تصرّف آلي بحت؛ فالحركة العنيفة يصدر في المركز المقابل لها أثر عنيف يظهر في الخارج في هذه الصورة، والحركة الضعيفة قد تصل من الضعف بحيث لا يظهر لها في الخارج أثر على الإطلاق، وأثر الجسم ومراكزه المختلفة لا يختلف في شكله عن أثر التفاعلات الكيماوية في المعامل، ولا عما نراه في المواد غير الحية التي تقابلنا عرضًا في الحياة. أنت تضغط قطعة من الخشب أو تجر خيطًا في لعبة، فإذا يد اللعبة أو عيناها أو أسنانها تتحرك. وتضغط زرًّا أمامك فإذا جرس يدق بعيدًا متأثرًا بهزات الكهرباء، وتضع المادة القلوية على ورق اللتموس، فتحوله من الحمرة إلى الزرقة. ثم تضع حامضًا عليه بعد ذلك قتنقلب زرقته حمرة من جديد. في هذه الأحوال الثلاث يوجد تيار مختلف يحدث حركة ضعيفة. فالتيار الذي يحرك اللعبة هو تيار مادي صرف هو الخيوط أو الأسلاك التي تصل بعض أجزائها بالبعض الآخر. والتيار الذي يحرك الجرس تيار لا يمكنك أن تراه ولا أن تسمعه، ولكنك تحس به إذا لمست الأسلاك التي يسير فيها، ويصبح جزءًا منها ما دام مصدره موجودًا. والتيار الذي يحدث الانقلاب الكيماوي باختلاف المادة المضافة إلى اللتموس من قلوية إلى حمضية تيار غير محسوس بالكلية. ولكن يظهر لنا أثره كما سمعنا الجرس، وكما رأينا تحرك اللعبة، ولكنا لا نعرف سببه على النحو الذي عرفنا به سبب الأثرين الآخرين.

ثم أنت ترى عدسة الفتوغرافية تلقي الصور التي أمامها في لوح الزجاج (المصنفر)، إذا وضع على بعد معين منها مستعينًا في إحداث هذه الصور بخيوط النور التي تصل ما بين الكائنات ولا تستطيع تعريفها. وتميز دقات التلغراف اللا سلكي في العدد المقابلة منقولة إليها بأثير الهواء وتموجات تياره. ونسمع من الفونوغراف أصواتًا مضبوطة تظهر إلى الوجود من سير الإبرة فوق موجات أسطوانية. وكذلك تنقل هذه التيارات المحسوسة المعروفة أو غير المعروفة لنا آثارًا معينة، هي نتيجة مرور صور معينة عن طريقها بآلات أو أجسام معينة.

مثل الإنسان في حركاته وحياته مثل هذه الآلات وتلك الأوتار، ولكن نظامه مركب دقيق يصل أحيانًا إلى حد التعقيد، فيقف الفهم والتصور دون إدراك حقيقة بعض ما فيه بل دون الوصول إلى خيال يكاد يقنع المنطق الإنساني بمشابهته لهذه الحقيقة. في تلك اللحظات يرجع الرجل منا إلى ذلك الملجأ الحصين الذي طالما احتمى فيه آباؤنا الأقدمون، قبل أن ينير العلم بشعاعه الضئيل بعض أركان عالمنا الناقص الغريب. يلجأ إلى الغيب والقوة والقدرة الغائب عنا علمها، والتي لا تدنو منا لنتعرف شيئًا من ماهيتها.

ولكن جهلك الشيء لا يدل على صدوره عن مصدر خارج عنه، وعن أشباهه ونظائره. بل كل ما يدل عليه أنك تجهله في حين أن غيرك ربما يعرفه أو في حين أن جيلًا آخر ربما يصل لاكتشافه والوقوف على حقيقة أمره. ولئن بقي هذا الشيء غامضًا أبد الدهر، فإن القوانين العامة التي تحكم العالم تكفي لتفسيره، ولو على طريقة الأخذ بأمثاله. وقد دل العلم على أن أشياء كثيرة كانت لا تزال بعيدة عن تصور الإنسان، ولكنه كان يدركها بإلهام خاص حين كان يردها إلى أشباهها ونظائرها إدراكًا لم يكن بعيدًا عن الحقيقة كثيرًا.

اعتقد الفلاح الساذج أول ما رأى قطار السكة الحديد أو الترام أو «الأوتوموبيل»، يسير من تلقاء نفسه من غير أن يجره ثور أو حصان أن قوة غريبة تسيره، أو أن شيطانًا يسكن في داخله، فلما أفهم على التوالي السنين وبمشاهدته وابورات المياه التي تجاور مزرعته أن النار والماء هما المصدر لكل تلك الحركة بدأ يتصور أن هناك قوى معروفة لدى بني الإنسان ممن (شافوا الدنيا)، ولا علاقة لها بالشياطين ولا بالملائكة، وأن هذه القوى هي التي تسير تلك الأحجام الهائلة التي يراها. وعلى ذلك فلما سمع بالطيارات لم يحتج أن يلتجئ إلى قوى خارجة عن العالم؛ لأنه رد حركة الطيارة إلى مشابهاتها التي معه على الأرض.

فالحركة التي تصدر عن الإنسان، وتظهر لنا هي أثر الموجودات الخارجية منعكسة على الأجهزة المختلفة المعدة لتلقيها. واتصال هذا الأثر بطريق أجهزة، وتيارات مادية متصلة بمركز الحركة الإنساني، إما مباشرة وإما بطرق وتيارات أخرى تجعل هذا المركز يحدث هذه الحركة على نحو ما أحدث ضغطك الخشبة في اللعبة من تحرك يديها، وعلى نحو ما حصل حين ضغطت زر الكهرباء فدق الجرس، وعلى نحو الآثار المختلفة التي تقدم ذكرها وآلاف آلاف غيرها مما يرى الإنسان في المحيط الخارجي. ولما كانت أجهزة الإنسان وتياراته أول نشأته متشابهة كل التشابه، كانت الحركات التي تصدر عن الأطفال متشابهة أتم الشبه؛ فالطفل أول ما يولد يبكي أو بالأحرى يحدث صوتًا يشبه البكاء. وهذا الصوت ناشئ من تأثر رئتيه بالهواء الخارجي. كذلك هو يدافع عن نفسه في أول أيامه بالطريقة الآلية الصرفة التي حبته إياها الطبيعة، فهو يستنجد عن طريق البكاء أو هو يدفع بيديه. وتبقى هذه الحالات العكسية الصرفة étâts reflexes عنده زمنًا غير قليل، بل منها ما يبقى يصاحبه طول حياته.
ولكن انقضاء زمن الطفولية الأولى يقضي معه على هذا الشبه، وينتقل الأولاد حينذاك من الحالة الانعكاسية التي يكونون فيها مثل مرآة تعكس ما يقابلها من الصور والموجودات والحوادث إلى ما يسمونه بحالة الرغبة étât de desir، وهي الحال التي يكون الطفل فيها أسير شهواته ورغباته، بمعنى أنه إذا رأى شيئًا استهواه ورغب في الحصول عليه تحكمت فيه فكرته هذه حتى يهون معها كل شيء، وحتى يهون معها تلف نفسه.

وهذه الحال لا تختلف عن الحال العكسية الصرفة، إلا من حيث الكم والاتجاه. أما من حيث الكيف فهي وتلك الحال الأولى سواء، وسبب هذا الاختلاف في الكم والاتجاه لا يرجع إلى إرادة خاصة، ولكنه محكوم بقوانين قاسية تتمشى على الإنسان وعلى الجماد، وعلى سائر ما في هذا الكون مما يقع تحت عيوننا، وأظهر هذه القوانين بقاء الأصلح وتلاشي ما لا فائدة منه، وقانون آخر متفرع عن القانون الأول، وهو أن استعمال الشيء يزيده قوة وصلاحية، وإهماله يضعفه ويفنيه. فإذا كانت بعض الأجهزة والتيارات في طفل أضعف منها في طفل آخر بطريق الوراثة أو لسبب من الأسباب، أو كانت هذه الأجهزة على تساويها قوة فيهما مُرِّنت في أحدهما، وأهملت في الآخر، نتج عن ذلك على مرور الأيام اختلاف أجهزتها في التلقي والإصدار، وكان لما يتلقاه الجهاز القوي من شدة الأثر في نفس الطفل ما يحرك في نفسه أشد الرغبة في حين يمر ما يتلقاه الجهاز الضعيف غير محس به فكأنه لم يكن.

ولنضرب لذلك مثلًا واضحًا: طفل عمي بعد ثلاث سنوات من ولادته. هذا الطفل لا يمكن أن تنتج عنده الرغبة لهفة على منظور من المنظورات؛ ذلك لأن الحاسة التي تتلقى هذه المنظورات وتبعث بها عن طريق التيارات الأخرى إلى المصادر التي تحرك النفس، وتستدعي الرغبة تلاشت. وما يقال هنا يقال عن تلاشي أي جهاز معد لتلقي وإصدار أي حركة أو أي محسوس. هذا طبعًا إلا إذا أمكن الاستعاضة عن الجهاز المفقود بجهاز آخر لو إلى حد محدود. وفي هذه الحالة يكون التأثير الذي تحدثه الأشياء الخارجية في الأجهزة — أو على نحو ما يقال عادة: في النفس — متناسبًا مع قوة هذه الأجهزة وضعفها. وهذا يدل أتم الدلالة على أن حالة تحكم الرغبة لا تفترق عن الحالة العكسية الصرفة إلا في الكم وفي الاتجاه، مع اتفاقها معها في الكيف، وسيرى القارئ أن حالة الإرادة L’étât volontaire هي أيضًا طور خاص من أطوار الحالة العكسية يظن أنه أرقى من تلك الأطوار، ولكنه لا يغير شيئًا من نوع تلك الحالة.

فإرادة الواحد منا لا تتحرك من نفسها، بل إجابة لمؤثرات خاصة تستثير منها الحركة. وهذه المؤثرات هي الأشياء الخارجية التي تمر بأجهزتنا وتحركنا. وحركتنا التي نعتقدها اختيارية صرفة ليست إلا نتيجة تأثر الأجهزة والتيارات التي تحركت بانعكاس الحوادث والأشياء الخارجة عليها. وغاية الأمر أن هذا الانعكاس إما أن يقابل أجهزة معدة لتلقيه، فتتأثر به مسرعة وبذلك ينتقل أثره سريعًا ويحدث الحركة، وهذا ما يحصل حينما تكون الحوادث والأشياء مما اعتادت أجهزتنا وتياراتنا تلقِّيه وإصداره. ومعلوم مما سبق أن التكرار يورث العضو أو الجهاز الذي يحدث فيه قوة ومتانة وسرعة. وهذه الانعكاسات المتواترة هي ما نسميه بالعادات. وإما أن يقابل تلك الانعكاسات أجهزة قليلة الاستعداد لهذا التلقِّي والإصدار. فحين ذاك تخترق الصورة حجب تياراتنا مترددة، وعلى مهل كما يخترق شعاع النور الضئيل غرفة من خلال زجاج غير شفاف. نرى هذا الشعاع كأنه تائه وسط الغرفة لا يستقر في مركز من الحائط المقابل، إلا بعد أن يزداد مصدره قوة وثباتًا. هنالك يستقر أخيرًا ويثبت. كذلك الصورة المنعكسة على أجهزتنا التي لم تتعود تلقيها وإصدارها تجد من هذه الأجهزة ارتباكًا في نقلها إلى التيارات المعدة لنقلها إلى مركز الحركة، الذي يسمونه مستقر الإرادة. وفي أثناء هذا التردد تنهال علينا عاداتنا القديمة، وتذكاراتنا الماضية وتعاليمنا الخاصة وحالنا الوراثية، وما نحن فيه من صحة ومرض، وظروف الوقت التي تحيط بنا والمصادفات التي تصرف إلى حد كبير حياتنا، فتثبت إرادتنا في ناحية من النواحي. وبكلمة أخرى تعدل تياراتنا الناقلة للحركة إلى الطريق الملائم لهذه الظروف والأحوال التي لا عداد لها، والتي لم يكن لنا دخل إرادي في تكوينها. فهل مع وضوح المسألة إلى هذا الحد يمكن القول: بأن الحال الإرادية هي شيء آخر غير الحال العكسية وجّهت جهة خاصة غيّرت في كمها واتجاهها، ولم تغير مطلقًا في نوعها وكيفها؟

على أن لدينا دليلًا آخر أبلغ ما يكون في الإقناع بأن حالنا الإرادية، ليست إلا أثر تفاعل المواد المركب منها جسمنا مع نفسها ومع المواد الأخرى. وهذا الدليل يستنتج من حالتي السكر والمرض. ها هو ذا صديقك مصمم كل التصميم على القيام بعمل خاص، ولقد رجوته كثيرًا أن يعدل عن رأيه أو يغير إرادته، فرفض رفضًا باتًّا مع تقديم أقوى معاذيره. وإنكما لتسيران في الطريق، وإذا بالمطر ينزل فاضطررتما أن تميلا إلى (قهوة) من المقاهي. وطاب لكما المجلس واستمر المطر يهطل وخيم الليل، وأضاءت مصابيح الكهرباء ولذ لكما تناول شيء من الكونياك أو الوسكي. ووجدتما صنف المشروب الذي قدم لكما جيدًا فاستزدتما منه. أفترى صديقك باقيًا على تصميمه الأول؟ أم ترى فعل المشروب سرى في نفسه، وعدل آراءه وجعله شخصًا آخر غير الذي كنت تراه منذ ساعتين مضتا. فقد تراه إذًا عرضت له فكرة أخرى يبدي فيها رأيًا ربما كان نقيض الرأي الذي أبداه قبل نزول المطر. كذلك ترى هذا الحال عند إصابته بمرض. فإنه يصاب بضعف في الإرادة وفتور في تحول التيارات الفكرية إلى حركات عملية، وهمود عام يصير روحه ضعيفة مبلغ ضعف جسمه.

وقعت على بعض أمثال مما كتبه بعض كتاب الإنجليز والفرنسيين في هذا الباب أريد إيرادها هنا دليلًا على ما قدمت.

أدمن الكاتب الإنجليزي دكونسي الأفيون حتي بلغ من ذلك ما لم يبلغه غيره، فوصلت به الحال الإرادية إلى حال من الضعف كادت تتلاشى معه. فكان يود من كل قلبه إنفاذ عمل يراه ممكنًا، ويحس أن إنفاذه واجب عليه، ولكن حركته الفكرية كانت تتخطى قوته العملية إلى حد يعجز فيه عن إنفاذ ما يريد، بل عن الشروع في ذلك. فكأنما كان تحت سلطان كابوس يرى معه ما يريد القيام به دون استطاعته كما يشهد رجل أقعده الضعف المهلك عن مغادرة فراشه المساءة موجهة إلى موضع من مواضع حبه وعطفه، فيلعن المرض الذي أقعده ومنعه الحركة، ويود أن يخلص نفسه من الحياة لو استطاع أن يقوم أو يمشي، ولكنه عاجز عجز الطفل ولا يقدر أن يقف على قدميه. (كتاب اعترافات آكل الأفيون صفحات ١٨٦–١٨٨.)

وذكر الطبيب الإنجليزي «بنت» حالة رجل كان لا يستطيع إنفاذ ما يريد إنفاذه. فكثيرًا ما كان يود خلع ملابسه، ثم يبقى ساعتين عاجزًا عن القيام بهذا العمل مع أن قواه العقلية خلا الإرادة كانت كاملة، ولقد طلب يومًا كوب ماء، فقدم إليه فلم يستطع تناوله برغم رغبته فيه فترك الخادم واقفة أمامه نصف ساعة قبل أن يستطيع التغلب على هذه الحال. وكان يقول: إنما يخيل إليه أن شخصًا آخر ممسك بإرادته.

ولقد ناضل الفيلسوف الفرنسي مين دي بيران؛ ليتغلب في نفسه على ما فيه من ضعف الإرادة ووجه لذلك كل همه، وكان كل ما يرمي إليه من فلسفة هو تغليب الإرادة على النزعات الجسمانية. لكنه اضطر أخيرًا أن يعترف «أن الحرية ليست إلا الإحساس بحال معينة من أحوال النفس نود لنفسنا أن تكون عليه، ولكن هذه الحال متعلقة في الواقع باستعداد الجسد الذي لا نقدر من أمره على مسها، وأن كل الميول والعواطف التي يظنها الناس مصدر السعادة ليست إلا أثرًا من آثار نظامنا الجسمي كالسعادة نفسها» (أفكار مين دي بيران ص١١٧ وص ١١٩).

فذلك كله يحمل على الاعتقاد بأن أعصابنا وتياراتنا المادية، هي التي تصدر عنها أفعالنا التي تبعث بها إرادتنا، وأن أي مادة أخرى يمكن أن تؤثر في هذه الأعصاب والتيارات تغير من اتجاه الإرادة والعمل؛ لذلك فما تقدم لا يدع مجالًا للريب في أن الحالة الإرادية ليست إلا طورًا خاصًّا من أطوار الحال العكسية، وأنها متعلقة تمام التعلق بتأثر أجهزة الجسم، وتياراته بالآثار الخارجية. وهذه الآثار هي المحيطات الزمانية والمكانية. ومعنى هذا أن الإرادة الحرة لا وجود لها. فكيف والحالة هذه تمكن مثل مشترعي الأديان ومثل نابليون وأضرابه أن يغيروا في وجه العالم بإرادتهم ما غيروا، وأن يقيموا دعامة المدنية الحاضرة على الشكل الحالي إذا لم تكن إرادتهم إلا صدى الحوادث الخارجية عنهم.

هذا هو القسم الثاني من الاعتراض الذي رأينا أن نردّ عليه. ومبنى هذا الاعتراض عند أصحابه أنهم يفترضون الفرد الإنساني وحدة قائمة بذاتها مؤثرة في العالم قبل أن تكون متأثرة به. كلاّ بل هي روح العالم كله على ما قالوا:

وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

وعلى هذا الافتراض الوهمي الصرف بنوا نظرتهم في حرية الإرادة مستندين إلى هذه الإرادات العليا، ولكنهم أكبروا شأن الإنسان إكبارًا لا محل له، ليس الإنسان إلا ذرة من ذرات هذا العالم العظيم الذي لا ندري فيه حدود الزمان ولا المكان، ولا نفقه لهما معنى وهو ذرة ضئيلة لا يعبأ الكون بوجودها ولا يهتم بفنائها. فلو أن له قيمة خاصة في وجود العالم لما حقرت الطبيعة من شأنه إلى حد أن لم تكترث له، ولم تهتم به أكثر من اهتمامها بأي جرذ وبأي حجر وبأي قطرة ماء في المحيطات الواسعة، ثم هي بمدنياته أقل اهتمامًا إن كان للتناهي في الأقلية محل، أفترى أن المدنيات المتعاقبة حادت بكوكب عن فلكه، أو قدمت كسوف الشمس أو أخرت خسوف القمر، أو قلبت المد جزرًا والجزر مدًّا، أم ترى أن ما تغيره المدنيات ليس هو إلا حركة متناهية في الأقلية وصغر الشأن، إذا قيست بالبعوضة التي وقفت على قرن الثور. فإذا كان ذلك لم يبق محل لاعتبار الإنسان مركز دائرة الفلك، وإنما يجب وضعه في الموضع اللائق به. ذرة تتحول من جماد إلى نبات إلى حيوان هو الإنسان ثم إلى جماد إلى نبات آخر وهلم جرًّا.

إذن ما هي الإرادات العليا؟ سمعنا كثيرًا أن باخرة من البواخر استطاعت أن تقطع تيار التلغراف اللا سلكي الذي تبعث به باخرة لأخرى. وعرفنا أن السر في ذلك أن تيار تلغراف هذه الباخرة أقوى من تلغراف الباخرتين المتراسلتين. فإذا أرادت هي أن تخاطب إحداهما لم يحل دون ذلك حائل؛ لأن تموجات الأثير تساعد تيار معداتها؛ لأنها أقوى والطبيعة تساعد القوي وتجور على الضعيف.

والقوي هو المخلوق الأكثر ملاءمة للزمان والمكان اللذين يوجد فيهما، والضعيف هو الأقل ملاءمة لها. تلك الإرادات العليا التي يقولون عنها: هي مجموع تيارات قوية أكثر من غيرها استعدادًا للتلقي والإصدار. فإذا وقعت عليها الصور الخارجية، وانقلبت عن طريق تياراتها إلى حركة كانت هذه الحركة بحيث تأخذ بالأنظار، وتستدرج التيارات الضعيفة نحوها لتتلقى عنها على نحو ما أخضع تيار الباخرة القوية الباخرتين الضعيفتين. وهذه القوة هي سر البطولة أي: النبوغ والعبقرية، ولكن القوة في التلقي والإصدار ليست دليلًا على الحرية، بل على حسن الاستعداد للوسط المحيط بالأجهزة العبقرية. فإذا نحن نسبنا الحرية إلى هذه الأجهزة كنا كمن ينسب إلى شخص قويّ الحافظة قصيدة يرويها لمجرد سماعها مع أنه لم يكن إلا آلة بسيطة في ترديدها. وكذلك فهؤلاء الأبطال يرددون بقوة صدى الوسط الزماني والمكاني الذي يعيشون فيه متأثرين بعوامل ذلك الوسط نفسه، فيصبح ذلك الصدى قوة جديدة تؤثر مع المؤثرات المحيطة بها.

وهذا التفسير الموجز يسمح لنا أن نقول: إن العظماء والأبطال هم أكبر الناس استعدادًا للبقاء والتغلب على أمثالهم من الذرات الأخرى التي تنافسهم؛ لأنهم الأقوى والأصلح للبقاء. وهو يسمح لنا أيضًا أن نقول: إن إرادتهم القوية لا تفرق في كيفها عن الإرادات الأخرى، وإنما الاختلاف في الكم وفي القوة والضعف، وقد رأينا أن الإرادة في الإنسان ليست إلا طورًا من أطوار الحال العكسية في اتجاه خاص. إذًا فالحرية مفقودة من العظماء مبلغ ما هي مفقودة من عامة الناس.

يتبين مما سبق أن ما يسمى بالإرادة ليس هو إلا المظهر الذي تنقله الحركات الخارجية عن طريق أجهزتنا وتياراتنا المادية، أو المتعلقة بما فينا من مادة حسب تكوين تلك الأجهزة والتيارات، وما توالى عليها من التقلبات والتغيرات من وراثة ومرض، وعادات خاصة ووسط اجتماعي وغير ذلك من الآثار المادية، وأن ليس هناك شيء خارج عنا مصرف لنا غير المادة التي تكوننا، وما في هذه المادة من قوة ملازمة لها متعلقة بها لا يمكن أن تنفصل عنها مهما بولغ في تحليلها.

ولقد جعلنا وجهتنا فيما اتخذنا من الأمثلة استظهار أبسط ما يصل إليه الحس، مما وصلت إلى تحليله يد الإنسان. ولو أنا أردنا تلمس المثل من عالم الحيوان أو عالم النبات لما أعوزنا. بل لو أنا طرقنا باب ما أوصلت إليه مبادئ لمبروزو في كتاب الفلسفة الجنائية لرأى القارئ كم تؤثر المظاهر الجسمية في الأخلاق. وكيف توجه الإرادة وجهة خاصة. ولكنا لم نر محلًّا للدخول في مسائل ربما أدى تعقيدها، ودقتها بالشك إلى أن يتسرب إلى نظريتنا، فاكتفينا بأبسط الأشياء، وكانت نعم المساعد لنا على توضيح غرضنا.

وإلى هنا نرى أننا أثبتنا مبدأ الجبر المطلق وأقمناه على أساس متين، ولكن هل معنى ما تقدم انعدام المسئولية وهدم الاعتبارات الأخلاقية، وإن لم يكن ذلك فعلى أي أساس تقوم المسئولية، وكيف لنا أن نفرق بين الخير والشر، وأن نمدح فاعل الأول ونذم مرتكب الثاني؟ ذلك ما سنبينه في كلمتنا الثانية عن المسئولية.

٣

المسئولية: طبيعة فكرتها وكيفية تكوينها في النفس

كلمة المسئولية من الكلمات المعقدة الدقيقة؛ ذلك لأن مدلولها ليس شيئًا محسوسًا نحيط بجميع نواحيه، ونستطيع الوقوف بالدقة على ظواهره وخوافيه، ولا هو معنى بسيطًا قائمًا بالذهن كما يقوم به معنى كلمة الصدق مثلًا. ولكنه أثر ونتيجة لإحساساتنا وعقائدنا وأعمالنا فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين سوانا بل فيما بين غيرنا ممن نعول ونفسه وفيما بينه وبين سواه.

فالواحد منا يحس بمعنى المسئولية إن ارتكب خطيئة أمام ربه وكان متدينًا، ويحس بهذا المعنى إذا أساء ظنه بغيره من الناس بغير حق، ويحس به أن رأى بائسًا يستطيع تقديم المعونة إليه، ثم يحجم عن إعانته. ويحس به ولكن على شكل آخر إن هو أوصل الأذى إلى غيره. ويحس به على شكل ثالث إذا أتى ابنه وأخوه أو صديقه أمرًا نكرًا. يحس بالمسئولية أمام ضميره في الأحوال الأولى، وأمام الناس أيضًا في الأحوال الثانية يحس أعمالهم على نحو ما يظن أنهم يحملونه تبعة أعماله.

ومع تشعب معنى هذه الكلمة وامتداده، فإنك ترى إحساس الناس به إحساس إيمان وتسليم بحيث لا يكاد يتسرب إلى أنفسهم شك في وجود هذه المسئولية، ولا في كمها وكيفها. وليس ذلك بغريب فيهم فإنهم كانوا ولا يزالون يسرعون إلى الحكم على أشد الأشياء دقة وأكثرها تطلبًا للبحث والنظر بسهولة مدهشة، في حين تراهم يترددون إذا دعوتهم للحكم في مسالة بسيطة يمكنهم البحث في كل أجزائها، والوصول إلى معرفة ما جل وما دق منها. فمسائل الدين كلها: وجود الله، وخلود النفس والعقاب والثواب، والنظريات الاجتماعية والاقتصادية العليا كفكرة الأسرة، وحق العقاب، وفكرة الملكية ونحو ذلك — هذه المسائل المعقدة الدقيقة لا تحتمل لديهم مناقشة ولا جدلًا، بل هم يرون من السخف النظر أو البحث فيها، ويطلقون على هذا السخف أنواعًا من الأسماء، فيسمونه التجديف مرة والهرطقة أخرى والسفسطة ثالثة، أما ما انحط إلى أسفل من هذه المسائل بدركات، فهو يستدعي تفكيرهم وبحثهم لإمكان الحكم فيه، ككون زيد رجلًا طيبًا أو رجلًا خبيثًا. وكون عمل من الأعمال يستحق المدح أو الذم، وجمال حيوان أو قبحه، وغير ذلك من المسائل البسيطة.

وظاهر أن هذا تناقض غريب؛ لأن التردد في الحكم يزداد كلما ازدادت المسألة المطلوب الحكم فيها دقة وتعقيدًا. فيجب من أجل الوصول إلى حكم مقنع تذليل جميع المصاعب، وحل كل العقد واستظهار كل الدقائق حتى تصبح المسألة مجموع مسائل بسيطة تحل كلها على طريقة واضحة مقبولة. فكيف يسوغ إذن حل مسألة دينية أو اجتماعية أو اقتصادية بكلمة في حين أننا ندقق ونبحث، إذا أردنا الحكم في أصغر الأمور وأضعف الأعمال. أفليس هذا هو التناقض بعينه؟

لو كان صحيحًا ما يقال من أن الإنسان حيوان مفكر، وطالبنا جميع الناس بالتفكير لكان هذا تناقضًا من غير نزاع؛ لأن مطالبتنا جميع الناس بالتفكير في كل مسألة تعرض عليهم مطالبة بالمستحيل. ولو وقف كل فرد منهم حياته على التفكير. لوقف دولاب الأعمال في العالم، ووقف بذلك ما يدعو للتفكير. وإنما يعيش المجموع الأعظم في كل الأمم وغذاؤه الفكري الإيمان. يعيش على وهم أنه فكر، ووصل من تفكيره إلى نتائج معينة اتخذها قواعد في الحياة، في حين أنه وجد هذه القواعد محضرة له بواسطة أفراد أعدتهم الطبيعة بما وهبتهم من الملكات الخاصة للقيام بوظيفة الفكر في العالم. هؤلاء الأفراد يضعون قواعد الحياة لا اعتباطًا، ولا نتيجة شهوة من شهواتهم الفكرية، بل يضعونها محكومين بماضي الإنسانية الطويل، والقواعد التي يضعونها هم أو يضعها المتشبهون بهم، ولا يكون لها بالماضي لحمة نسب إنما هي قواعد ضيقة محكوم عليها مقدمًا بالبوار والفناء؛ لأن حياتها إنما تكون بدخولها في كتاب إيمان العالم. وفصول هذا الكتاب متناسقة فما كان دخيلًا عليها لا يبقي بينها؛ لأنها تلفظه وتنفيه.

ولا شيء أشد تنافيًا مع الإيمان من التحليل والتنسيب (إيجاد النسب بين الأجزاء المختلفة من الشيء الذي تحلله)؛ ذلك لأن أول ما يستدعيه التحليل والتنسيب هو إمكان الشك في مجموع ما نحلله، أو في نسبة شيء منه لشيء آخر. والشك وإلإيمان نقيضان لا يجتمعان؛ لذلك كان من أول خصائص الإيمان التسليم بالشيء جملة أو نفيه جملة.

وهذه النظريات الكبرى الدينية والاجتماعية والاقتصادية تستدعي من أجل تناول الفهم إياها تناولًا دقيقًا تحليلًا طويلًا، وملاحظة كثيرة يستلزمان الشك المرة بعد المرة حتى يمكن الوصول فيها إلى نتيجة تقنع العقل. وهذا التحليل وهذه الملاحظة هما من شان المفكر لا العامل. والنتائج الأخيرة التي يصل إليها المفكر هي وحدات إيمان كل فرد من أفراد المجموع يأخذها مقياسًا للأعمال التي يستلزمها وجوده في الحياة.

هذه الوحدات الإيمانية يزداد عددها أو يقل بانحطاط الوسط أو رقيه، وبكثرة المفكرين وقلتهم. فكلما ارتقى الوسط قلَّت الوحدات الإيمانية. وكلما زاد المفكرون أمكن المجموع أن يرقى إلى مكانة من العقل تسمح له أن يشك في عدد أوفر من النظريات، وهذا هو السبب في «تطور» فكرة البطولة والألقاب التي كانت تعطى للعظماء والأبطال في متعاقب الدهور. فبينا كنت ترى لقب الألوهية يطلق على مفكرين، وعظماء أمثال (أودن) الاسكندنافي، وأمثال الآلهة وأنصاف الآلهة الكثيرين الحافل بهم تاريخ أثينا، ترى هذا اللقب يضعف ويتلاشى من عالمنا الأرضي، ويبقى وقفًا على الإله الأعظم الذي لا تراه العيون، ولا تحيط بمكنون كنهه العقول. ويحل محل الآلهة، وأنصاف الآلهة الذين كانوا يشرفون الإنسانية في التاريخ الأول الأنبياء والرسل — عليهم السلام.

وهكذا ترى هذه الوحدات الجميلة التي كانت موضع القداسة والإجلال في الأزمان الأولى أزمان قصر العقل الإنساني، يرضى بعضها بالخلود في مستودع الماضي معززًا مكرمًا في حين لا تستطيع الأخريات الوصول إلى هذا المركز من الإعزاز، ويكون كل نصيبها أن تذكر في تاريخ الإنسانية كموجود عقلي أخذ دوره على الزمان، ثم هرم وتلاشى.

وهذه «التطورات» تسير في حصولها على سنة معينة، تلك السنة هي الضرورة الاجتماعية. فما دامت فكرة معينة لازمة لبقاء الجمعية وتوازنها، فهذه الفكرة تدخل حتمًا في مجموع الوحدات التي يتكون منها القانون العام لبقاء الجمعية؛ لهذا كان الناس أكثر إيمانًا بما وراء الطبيعة وبالقوى المصرفة للكون حين كانوا يعتقدون لهذه القوى أثرًا فعالًا في نزول المطر، وفي حركات الرعد والبرق، وفي الصواعق وفي غير ذلك مما يؤثر في حياة الاجتماع بالخير والشر. فلما بدت تباشير العلم وابتدأوا يوقنون أن الصواعق والمطر والخسوف كلها ظواهر تسير على قوانين ونواميس معينة قل إيمانهم الأول بما وراء الطبيعة، وأصبحوا يحسون بأن الصلات التي كانت تربطهم بتلك القوى تتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى جاء مذهب الوضعيين (Les Positivistes) في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وأساسه درس السنن والقوانين التي تحكم الطبيعة، وتصرف حياة الاجتماع من غير تعرض بخير أو شر أو احترام، أو تحقير للقوى الأصلية التي يقول بعضهم: بوجودها في حين ينكرها آخرون إنكارًا تامًّا.

ولهذا أيضًا تطورت الفكرة المسيحية في قداسة الزوجية. فبعد أن كان الزواج عقدًا بين زوجين لا انفصام له ما بقيا، على اعتبار أن هذه الوسيلة هي الوحيدة التي تضمن توازن الاجتماع، تطورت هذه الفكرة بتطور الزمان، وبحكم الضرورة الاجتماعية، واضطرت الكنيسة أن تدخل إلى شريعتها فكرة الانفصال بين الزوجين. ثم أدخلت القوانين المدنية نظرية الطلاق. وكذلك قضي على الفكرة الأولى بعد إذ كانت آية من آي الاجتماع في العصور الماضية، ولقد صاحب هذا التطور في الإيمان بفكرة العائلة تطور آخر يختص باعتبار المرأة وتقديرها. ذلك أنه لما كانت رابطة الزوجية الأولى عقدة لا انفصام لها تقضي بوجود المرء وزوجه معًا طول الحياة، عمل في هذه الرابطة قانون الطبيعة العام، قانون التنافس وسيادة الأصلح والأقوى، النفس الاجتماعية فكرة تحقير المرأة. والنفس الاجتماعية تشمل نفوس الرجال والنساء معًا؛ لذلك كانت المرأة المسيحية في الأزمان الأولى محتقرة في عين الرجل وفي عين نفسها. فلما بدأ إحساسها بوجودها يتكون بدأت أيضًا فكرة القداسة لرابطة الزوجية تتبخر وتتطاير، فلم يبق في الأذهان والعقول إلا ذكراها.

مثل هذه التطورات حصلت في كل الوحدات الإيمانية، وهي — كما قدمنا — النظريات التي يحس بها الضمير العام كضروريات اجتماعية لا غنى عنها لحفظ كيان الجمعية وحسن توازنها. والتطور تقدم أو تأخر وليس سكونًا؛ لأن السكون والحياة لا يجتمعان. إذن فمحل كل وحدة إيمانية تتطور تحل وحدة أخرى لتصل؛ لتكون جزءًا من مجموع النظريات التي يؤمن بها المجموع؛ ولكن على مقدار رقي هذا المجموع وانحطاطه يترتب بقاء هذه النظريات جامدة أجيالًا من الدهر، أو يتسرب الشك إليها بين حين وحين.

وهذه الوحدات الإيمانية تدخل إلى نفس الفرد من يوم وجوده وسط الجماعة، وتتكون معه وتبلغ أشدها متى بلغ هو أشده وتصبح بذلك — قسمًا منه يسميه الناس ضميره. فضمير الفرد هو انعكاس الوحدات الإيمانية اللازمة لحياة الجماعة على نفس الفرد، وهذا الانعكاس يحصل حتمًا؛ لأن حياة الفرد واغتباطه معلقان على اغتباط الجماعة في حياتها. فهو مكره على احتمال كل ما تتصوره الجمعية من ضرورات الوجود بالنسبة إليها.

هذا الانعكاس لقواعد حياة الجماعة في نفس الفرد يكون عنده إحساسًا خاصًّا بأن مخالفته لهذه القواعد تجر عليه جزاءً محتومًا. وهذا الإحساس ناتج من إيمانه بضرورة هذه القواعد لحفظ كيان الجمعية، وأنه هو قسم من هذه الجمعية يتأثر بما تتأثر هي به في جهة الخير أو الشر؛ فلما كانت الجمعية تؤمن بالقوى التي فوق الطبيعة، وتعتقدها مصرفة للمطر والبرق والرعد والصواعق انعكس إيمانها هذا في نفوس الأفراد، وأصبحوا يحسون أمام هذه القوى بعبودية خاصة تستتبع استرضاء كل فرد لها، وإلا حل به الجزاء. كذلك لما كانت فكرة الأسرة والزوجية إحدى وحدات إيمان الجماعات، كان هناك في نفس كل فرد شعور خاص بأن مخالفة هذه الفكرة يجر حتمًا أوصابًا ومصائب لا نهاية لها، وهكذا كانت كل وحدة إيمانية اجتماعية تبعث إلى نفس كل فرد نوعًا من العبودية أمامها والتقديس لها، والاعتقاد بأن مخالفتها تؤدي إلى بوار كبير. وهذا هو الأساس التي بنيت عليه فكرة المسئولية في نفس الأفراد.

هذا التحليل لفكرة المسئولية يوضح السبب الذي يجعل هذه الفكرة معقدة ودقيقة. فإنها ترتكز على أدق مظاهر الإنسانية نعني بها الضمير الفردي القائم كما بينا على أساس وحدات الإيمان، التي تكونها ضرورات الحياة الاجتماعية. فمن أجل تفهم فكرة المسئولية يجب تفهم معنى الضرورات الاجتماعية، وطريق انعكاسها في نفس الفرد، وكيفية تكوينها لضميره الذي هو مصدر إحساسه بالمسئولية. ولما كانت فكرة الضرورات الاجتماعية التي هي أساس كل هذه النتائج تحتاج في تفهمها إلى التدقيق، وتحليل الوحدات الإيمانية، وكان هذا التحليل يستدعي افتراضات وشكوكًا تتنافى مع طبيعة الإيمان، لجأ الأكثرون إلى نعيم الاغتباط والاستسلام، وضل آخرون في تيهاء الشكوك المنطقية، وجعلوا يتلمسون لفكرة المسئولية أسسًا غريبة ترجع إلى طرق تعليمهم. فبينا يقول جماعة: إن أساس المسئولية حرية الإرادة، واختيار الفرد لأعماله في الحياة يقول آخرون: إنها مظهر من مظاهر الضمير على اعتبار أن الضمير وحدة قائمة بذاتها تخلق مع الفرد يوم يُخلق. ويقول البعض: إنها فكرة العدالة. ويقول غيرهم: إنها منعدمة وإنما أوجدتها الضرورة الاجتماعية. ويقول غير هؤلاء وأولئك أقولًا يشعر الإنسان أنها لم تصدر عنهم، يريدون بها الوصول لتحليل فكرة بالذات مخلصين لها بحثهم، ولكنها قيلت كمقدمة لغرض ثابت في نفوسهم يريدون الوصول إليه. وذلك شأن الكتاب الدينيين، وشأن بعض علماء القانون الجنائي الأقدمين، وشأن فلاسفة المنطق المجرد. ولكن التعمق في البحث والتحليل، واتخاذ الوقائع والحوادث الاجتماعية ومظاهر الوجود الفردي مواضع للملاحقة والاستنتاج، تبين لنا ما تحويه هذه الأفكار من نقص أو خطأ، وتدلنا دلالة واضحة أن المسئولية أثر ونتيجة للقوانين الطبيعية، التي تحكم حياة الجماعات وتصرف حياة الأفراد، فلا وجود لها في الحياة بذاتها، وإنما هي فكرة مجردة معلق قيامها على تفاعل هذه القوانين واحدًا بعد الآخر طبق النظام الذي سبق بيانه.

والذي يوضح ما سبق ويؤيده ما نلاحظه في العالم الحيواني، فإن الحيوانات الانفرادية كالذئاب الضارية والأسود لا يدخل في طبيعة تركيبها شيء من معنى المسئولية أمام الموجودات الأخرى. وأدنى ما عندها الفتك بكل ما يقترب منها، ولو كان من بني جنسها. أما الحيوانات الأليفة والحيوانات التي تعيش أسرابًا فإن فكرتها الاجتماعية تدخل إلى نفسها شيئًا أشبه ما يكون بالمسئولية. وذلك ظاهر كل الظهور في بعض الدويبات الصغرى، إذ يشعر كل واحد من أفرادها كأن له حقوقًا على الآخرين وعليه واجبات نحوهم، فهناك في خلايا النحل يلاحظ الناظر شبه مملكة يقوم كل فرد من الأفراد فيها بعمل خاص، يقتضيه نظام حياة الجماعة. فكما أن وظيفة ملكة النحل التناسل، ووظيفة ذكر النحل تلقيحها فوظيفة النحل العامل استجلاب الشمع والعسل لبناء الخلية ولغذائها. وفي كل خلية ملكة واحدة يقوم بتلقيحها ذكر النحل، فإذا تم واجبه من ذلك قتلته، فإذا صادف وجود ملكة أخرى هناك اقتتلتا حتى تقضي واحدة منها على الأخرى. ويبقى النحل العامل أمام هذه المعركة الناشبة بين الملكتين متفرجًا لا دخل له فيها بشيء مطلقًا؛ ذلك لأنه يشعر بفطرة الحياة فيه أن من الواجب لوجود الجمعية التي هو منها قيام ملكة واحدة في المملكة التي هي الخلية. وهو يشعر أيضًا أن الملكة الغالبة هي الأصلح لحياة جمعيته، فيجب إذن ترك الملكتين تقتتلان كما تشاءان حتى تموت إحداهما. وكل واحدة من النحل العامل تقدم على الاشتراك في المعركة تلقى من غيرها ما لا تحب. وظاهر أن هذا نوع من الإحساس بالمسئولية قريب الشبه بإحساس جماعة البربر من بني آدم.

ومما يلاحظ على النحل يلاحظ على النمل. فإن طبقاته المختلفة تحس بما عليها من الواجبات، وبما لها من الحقوق إحساسًا مرتبطًا كل الارتباط بحياة الجمعية التي هي منها، فالنمل العامل يجد الصيف في اكتناز القوت لنفسه، وللأنثى التي تعمر القرية. وبعضه يقوم بوظيفة تربية ديدان النمل والمحافظة عليها مخافة الخطر. وهو يضحي من أجل ذلك كثيرًا من راحته، بل قد يضحي حياته حتى لقد شوهد بعض النمل حاملًا ست ديدان ومسرعًا يطلب قوته، وذلك برغم انقصام ظهوره، ولم يشعر بالألم الذي جر عليه حتفه إلا بعد أن قام بالواجب الذي تطالبه به حياة الجمعية التي هو منها.

وإذا نحن ارتقينا في السلم الحيواني إلى درجة أعلى من النحل والنمل، تبين لنا ما نقره بشكل جلي واضح. فبعض الحيوانات التي تعيش مع الإنسان كالفيلة مثلًا يتكون عندها إحساس الألفة لشخص دون آخر، ويخيل للإنسان حين يراها مع صاحبها كأنها تشعر بأنها جزء من مجموع المنزل الذي تقيم فيه عليها واجبات ولها حقوق. ولقد بلغ من شعور الناس بذلك حتى قرروا عليها جزاءات توقع حين ارتكابها هفوة من الهفوات، كما يوقع الجزاء على مذنب من بني آدم. ومعنى ذلك قطعًا أن هذه الحيوانات تعتبر مكلفة باتباع النواميس التي تكون في النفس العامة اعتقاد ضرورتها للاجتماع. على أن هذا المعنى الذي بيناه يتضح أيضًا من اعتبارات الناس لدرجات المسئولية، فإن اختلاف الأشخاص في درجات المسئولية يرجع إلى مقدار صلاحيتهم أو عدم صلاحيتهم لحياة الجمعية. فالمجرم الذي يقصى عن الناس طول حياته، هو ذلك الشخص الذي ارتكب ما يجعله غير أهل للمعيشة بين الناس من قتل أو قطع طريق أو سطو أو نحو ذلك، وأما الأشخاص قليلو الخطر على الجمعية، فتوقع عليهم جزاءات توازي مبلغ خطرهم كثرة وقلة، وتقدير هذا الخطر راجع دائمًا إلى ما يضعه الرأي العام من القواعد لحسن نظام الجمعية. وهذه القواعد هي الوحدات الإيمانية التي وصفناها. ولو أنك افترضت شخصًا يعيش عيشة الوحدة منقطعًا في جزيرة يجد فيها ما يعوله، لما استطعت أن تفترض له شيئًا مما نسميه نحن الضمير، ولا أمكنك أن تتصوره شاعرًا بأية مسئولية، فإن كل ما تكلفه إياه فطرته إنما هو الاحتفاظ بحياته، فإذا لم يكن على هذه الحياة خطر، ولم يكن في المحيطات به ما يطالبه مطالبة خاصة بعمل خاص، فإنه يقضي أيامه في سكينة البله ونعيم الغفلة راتعًا وسط السعة التي حبته إياها الطبيعة. ولا تحسبه حينذاك مفكرًا في شيء، أو حاسبًا حساب أمر من الأمور. ولكن في اليوم الذي يجد له مشاركًا يناقشه الحساب، ويقول له: ذلك لك وهذا لي وكما اعتديت عليَّ يجب أن أدفع العدوان بالعدوان؛ في ذلك اليوم يبدأ يفكر في طريقة تضمن له طمأنينته الأولى من غير احتياج للنزاع الدائم مع جاره وشريكه. وهذه الطريقة هي قواعد حفظ الأمن والنظام. وهي هي أساس حياة الجمعية، والأصل الذي تبنى عليه في النفس فكرة المسئولية. فالمسئولية أثر ونتيجة لحياة الفرد في الاجتماع، وليس لها وجود مستقل في نفسه.

قد يظن البعض من قولنا: إن فكرة المسئولية يستمد أساسها من الضمير الفردي، الذي تكونه الوحدات الإيمانية الاجتماعية بانعكاسها فيه، ومن مثل الشخص الذي يعيش عيشة الوحدة، فلا يكون له ضمير ولا يشعر بالمسئولية — إن فكرة المسئولية فكرة صناعية خلقها الاجتماع، وليست طبيعية في الفرد من حين خلقه. ولكن هذا الاعتراض لا يكون وجيهًا إلا عند الذين يحسبون الفرد وجد وجودًا مستقلًّا، وأنه اتفق مع أمثاله على ما سماه روسو العقد الاجتماعي، فخلقوا الجمعية. وهذه الفكرة الأخيرة فكرة تصورية بحتة تخالف نواميس الطبيعة أشد المخالفة؛ لأن الإنسان مدني بطبعه. وليست الوحدة والانفراد من غرائزه مطلقًا. والشخص الذي يستوحش ويخرج عن الجماعات ويعيش متبتلًا منقطعًا لشخص مختل التوازن العقلي قطعًا، وهو حيوان نادر الوجود؛ لذلك فلا يمكن أن يبنى عليه حكم مطلقًا. أما الإنسان الطبيعي فهو مخلوق اجتماعي فيه كل الصفات والقوى اللازمة؛ لتؤهله للحياة مع بني جنسه، وتظهر هذه الصفات والقوى رويدًا رويدًا على قدر اشتباكه مع الحياة الاجتماعية، وأخذه منها بنصيب. وعلى ذلك تكون جرثومة المسئولية وبذرتها موجودة مستكنة في النفس الإنسانية من يوم خلقها، ومنتظرة احتكاكها بالعوالم الخارجية وبنظام الجمعية؛ لتظهر ويشعر الفرد بها. لكن هذا الاحتكاك بالذات هو الذي يوجه فكرة المسئولية وجهتها، ويرسم لها الطريق الذي تسير فيه لتحكم صاحبها بعد ذلك على نمط معين. وهذا هو السبب في اختلاف فكرة المسئولية كمًّا وكيفًا في الشعوب المختلفة والأزمان المختلفة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتطبيقات هذه الفكرة عمليًّا. بل إنك لتجد في مثل البلاد المستحدثة مدنيتها التي تضرب فيها الفوضى، وتجعلك ترى في المدينة الواحدة، بل في القرية الواحدة أنواعًا شتى من المدنيات المختلفة ميدانًا فسيحًا للملاحظة في هذا الباب. فإن فكرة المسئولية تختلف في الأفراد أنفسهم من جهة كمها وكيفها بشكل غريب. فأنت إذا وقفت على باب مسجد من المساجد في إحدى مدائن مصر، وكلفت نفسك مؤونة محادثة شيخ من أهل الورع الداخلين بيت الله يؤدون له الفريضة، وكان هذا الشيخ من أكبر علماء عصره رأيته ينكر أشياء ويقر أخرى، وينحي باللائمة على قوم ويرطب لسانه بالثناء على قوم غيرهم، وهو في كل ذلك يحكي لك عن عقيدة وإيمان، فإذا تركته وتركت المسجد وانحدرت إلى حان نظيف، وقابلت بعض المتعلمين من إخوان المدنية الأوروبية وحادثته في الموضوعات التي حادثت فيها صاحبك الشيخ رأيت بينهما بونًا بعيدًا. رأيت الثاني يذم مادح الأول ويمدح ما ندد به. وليس ذلك إلا صورة الجمعية انطبعت في نفس كل منهما بشكل خاص، فكونت فيه وحدات إيمانية خاصة جعلته الشخص الذي رأيت، وكونت في نفسه فكرة المسئولية على النحو الذي رأيت، فكأن هذه البذرة الأولى الموجودة في النفس الإنسانية بفطرتها المدنية إنما يكيف ظهورها ونموها وشكلها العقائد الاجتماعية، التي توضع في النفس التي تحوي البذرة في وسطها.

بل إن الشكل الذي تأخذه فكرة المسئولية في نفس الفرد يتحور تحورًا عظيمًا بانتقال الفرد نفسه من وسط إلى وسط آخر. وكم رأينا من شيوخ كانوا مثال التقوى انطبعت في نفوسهم وحدات الدين الإيمانية انطباعًا، فلما انتقلوا إلى أوروبا وإلى وسط آخر تختلف عقائده عن عقائد تداعت في نفوسهم مبادئ ووحدات قديمة، وصرت ترى فكرة المسئولية التي هي مجتمع عقائد كل فرد وعاداته تغيرت تغيرًا سمح لهم بمناصرة ما كان في نظرهم من قبل جرمًا وإثمًا.

من هذا يظهر واضحًا أن الوسط الاجتماعي هو العنصر الأقوى والمكون الأول لفكرة المسئولية في النفس الإنسانية. وأن طبائع الإنسان وغرائزه الاجتماعية تتشكل بالشكل الذي يريده لها الاجتماع مكرهًا صاحبها على اتخاذ هذا الشكل المعين. وأن الجرثومة الأولى الموجودة في نفس الفرد لا تعمل بذاتها، بل تعمل متأثرة بذلك الوسط، ولولاه لاضمحلت وفنيت، فبقي الإنسان أشبه الأشياء بالحيوانات التي تكتفي من كل ما في الحياة بالاحتفاظ بالحياة، ودفع ما من شأنه أن يلاشيها.

٤

إذا كان الاجتماع هو المكون الأول لفكرة المسئولية، وكانت جرثومتها لا يقوم بناؤها إلا كما توجهه وحدات الاجتماع الإيمانية، فهل هذه الجرثومة هي هي بعينها في كل النفوس. فإذا أنت وضعت شخصين في وسط اجتماعي واحد، وعرضت عليهما صورًا واحدة أيكون كمّ فكرة المسئولية وكيفها واتجاهها واحدًا؟ وبكلمة أخرى هل فكرة المسئولية أمر اجتماعي بحت، يتأثر به الفرد من غير أن يكون لتكوينه هو الخاص أثر فيه. لقد سبق لنا فيما كتبنا عن الاختيار والاضطرار، أن أظهرنا أن هناك عوامل مثيرة تعمل في تكوين حياة الفرد الخاصة، كالوراثة وطوارئ الحوادث ونوع التربية، وبينا حينذاك أن الفرد وإن لم يكن له وجود خاص، وإنما هو ذرة تصرفها حياة العالم وهي تسير مكرهة في الطريق الذي يرسم لها، فإن في هذه العوامل الخاصة ما يكفي للتفرقة بين الأفراد في الوجهات التي توجههم إليها الحياة. هذه العوامل نفسها وأخصها الوراثة والطوارئ، وأحداث المصادفات ونوع التربية هي التي تجعل لصورة الحياة الاجتماعية في نفس الفرد لونًا خاصًّا، وتجعله يتصور المسئولية على نحو خاص. صحيح أن مجموع الوحدات الإيمانية هو الذي يرسم الطريق الذي تتبعه هذه العوامل. ولكن هذه قد تبلغ من نفوس بعض الأفراد أحيانًا، فتطمس عليه الطريق وتأخذ صاحبها إلى وجهة أخرى تجعله إما مجرمًا أثيمًا أو شاعرًا كبيرًا أو نبيًّا كريمًا. وفي الأحايين الأخرى والغالبة لا تصل إلى هذا، ولكنها تجعل دائمًا شيئًا من التضارب يقوم بين الوحدات الإيمانية أو البعض منها وبين الفرد. وهذا التضارب هو ما يدفع به إلى ما يسميه الناس الخطيئة. والشخص الذي تنطبق نفسه تمام الانطباق على الوسط الذي يعيش فيه هو الشخص الذي اتبعت وراثته مجرى تطور الإنسانية، فلم تزد أطماعه على ما يريد الاجتماع أو يحبوه إياه، ولم يشعر بثقل حمل الواجبات التي يضعها الاجتماع على عاتقه.

وهذا النوع الأخير من الأفراد نادر جدًّا، إن لم نقل: إنه معدوم كلية وكأن ذلك الخيال القديم الباقي خيال آدم وهو خارج على الوسط الذي عاش فيه مرتكب تلك الخطيئة التي أخرجته وأبناءه من الجنة هو هو صورة كل واحد من بني آدم. وإنما يجب أن نلاحظ أيضًا أن العوامل التي تؤثر في نفس الفرد لا تصل إلى ملاشاة صورة الجمعية من نفسه إلا في أحيان نادرة. فالمجرمون بالخلق والمجانين العظماء قلائل في العالم جدًّا. وأما ما عدا هؤلاء من الأفراد الذين يكونون سواد الإنسانية، فهم مرآة لصورة الجمعية التي يعيشون فيها. وعلى مقدار دقتهم أو عدم دقتهم في تلقي هذه الصورة تكون فكرة المسئولية في نفوسهم. وهؤلاء الأشخاص الذين لم يصلوا بالتربية؛ ليفكروا لأنفسهم ولم تخرجهم عوامل خاصة كالوراثة والمصادفات عن طريق الحياة المعتاد تنطبع في نفسهم صورة الجمعية التي يعيشون فيها انطباعًا يكاد يكون تامًّا؛ ولذلك تقوم المسئولية في نفوسهم وحدة مكونة متماسكة مرتبطة أتم الارتباط بالصورة المذكورة. من هذا ما لوحظ من أن بعض القبائل المتوحشة يبلغ الندم على الخطيئة من نفوس بعض أفرادها، حتى لتراه نائحًا منتحبًا مهما قلت قيمة الخطيئة التي ارتكبها. كأن هذا الفرد يشعر بأنه جزء متضامن مع الكل الذي هو الجمعية، ومن أمثلة ذلك أن بعض قبائل أستراليا تحرم على الشبان منها أكل نوع خاص من أنواع الصيد النادرة، التي يحتفظ بها لتقدم للرجال والكهول تكريمًا وإعزازًا. وبلغ من شأن ذلك التحريم أن من يتعداه يجازى بالقتل، ولقد شوهد من بين الشبان الذين انتهكوا حرمة ذلك القانون، ولو تحت أثر الجوع من يقدمون أنفسهم معترفين بذنبهم مظهرين أشد الندم عليه. وهذا الاعتبار للفرد كوحدة اجتماعية لا وجود لها بذاتها هو الذي سمح لقبائل العرب ولقبائل أستراليا أن يحسبوا جريمة واحد من قبيلة أخرى، تقع على قبيلتهم مستوجبة مسئولية كل فرد من أفراد تلك القبيلة الأخرى، حتى لتهدأ ثائرة الإنتقام في نفس من وقعت عليه الجريمة متى قتل أي فرد من أفراد قبيلة واتره, وقد استمرت هذه الفكرة فكرة تضامن الفرد في المسئولية مع الجماعة التي هو منها تتسلسل على العصور إلى ما بعد المسيحية. وإنا لنقرأ في هرودوتس أبي التاريخ قصص الملك كريسس (قارون) الذي ذهب يشكو إلى الإله أبولون ما لاقى من هزيمة وذل في موقعة سرديس، بعدما أفاض على هذا الإله من تحف وقرابين، فيجيبه رسول أبولون بما يأتي: محال أن تنجو حتى الآلهة مما قدر لها، ويجب أن يذكر كريسس أنه إنما لاقى جزاء خطيئة جده الخامس الذي كان فارسًا في حرس كاندول أحد أبناء الهراقلة، ثم ترك نفسه تتسلط عليها امرأة تدفعه آخر الأمر لقتل سيده الملك، واغتصاب تاج لم يكن له. ولقد جاهد أبولون رجاء إرجاء مصيبة سرديس حنى تقع على رأس أخلاف كريسس، ولا تصيب إياهم فلم يقبل رجاؤه، ولا استطاع إخلاف القدر. وكل ما وصل إليه أن تأخرت سرديس ثلاث سنين. وإنما نال ذلك على كره لأحكام المقادير. وهنالك يعترف كريسس أن الذنب ذنبه الموروث لا ذنب الإله.

ومن ذلك كله يرى أن الفرد العادي يعتبر نفسه ذرة مماثلة لكل ذرات الجمعية الأخرى، ويشعر في أعماق نفسه أنه متضامن تضامنًا تامًّا مع هاتيك الذرات؛ حتى ليسأل هو عن التكفير عما يقع منها. وليس شيء أبلغ من ذلك في الدلالة على أن الجمعية تطبع الأفراد بطابعها، وتعدم شخصيتهم لتقيم في قرارة قلوبهم شخصيتها، وتجعلهم بذلك يسيرون على السنن التي تسنها هي لهم من غير أن يكون لهم في تلك السنن أي اختيار.

ولكن ألوف القرون التي مرت بالإنسانية لم تترك فردًا من أفرادها من غير أن تخلق له ظروفًا خاصة، تكون في نفسه شيئًا من الفردية الواقفة ظاهرًا في وجه الجمعية البارزة ضد طابعها. فتعاقب الوراثات المختلفة وتنافس المدنيات المتناقضة، وتناقض المذاهب والملك وقيام الحروب الشعواء من أجل مناصرة هذه المذاهب وتلك المدنيات. كل ذلك وما سواه جعل الصورة الاجتماعية يداخلها في بعض المواضع شيء من الإبهام يسنح لقوى خاصة في نفس الفرد أن تقوم وتقوى وتصل من ذلك إلى مناهضة الجمعية، وقوانينها السائدة مناهضة يختلف مقدارها باختلاف الملكات والقوى، وباختلاف الظروف التي قامت فيها تلك الملكات وتكونت وقويت. ففي نفوس هؤلاء الأفراد تقوم فكرة المسئولية على أساس يتفق مع طابع الجمعية إلى الحد الذي تبدأ بعده تلك القوى، والظروف الفردية تناوئ الوحدات الإيمانية السائدة. أما بعد هذا الحد فتكون فكرة المسئولية مضطربة لا يحدها إلا الجزاء القانوني المقابل لما يبعثها من الأعمال والحركات الفردية.

وكلما ازدادت الظروف الخاصة، وسمحت للفرد أن يقوم بكله في وجه الجمعية تداعت في النفس فكرة المسئولية، وحلت محلها اعتبارات خاصة نرجئ بحثها إلى أن نصل للمقارنة بين فكرتي المسئولية والجدارة.

هذه القواعد التي قدمت تنطبق على الأشخاص الذين يتبعون فطرتهم، ويسيرون مع عواطفهم، سواء كانت هذه الفطرة وتلك العواطف اجتماعية أو ضد الاجتماع، وأما الأشخاص الذين يصلون من تربيتهم إلى حد التفكير الفردي الخاص، فأولئك يحللون مسئولياتهم في كل صغيرة وكبيرة مما في الحياة. وذلك لا يمنع إحساس بعضهم من أن يكون ميتًا أمام الذنب الذي يرتكبه.

بل إن أولئك الذين يصلون من تفكيرهم الفردي إلى حد تحليل المسئوليات، التي تكونت في نفوسهم من نعومة أظفارهم يكونون في الغالب أقل إحساسًا بعظم الخطيئة، كما يكونون أقل دهشة أو إعجابًا أو تقديسًا أمام الجميل العظيم. وسبب ذلك هو ما قدمنا من أن التحليل والتنسيب يستدعيان الاحتمالات والافتراضات التي هي أساس الشكوك. والشكوك إذا بدأت عملها في تحليل المسئولية اضطرت حتمًا أن تتناول الوحدات الإيمانية التي هي أساس المسئولية. وهذه الوحدات الإيمانية هي الغذاء الروحي الذي يدخل القلب والنفس، ويعطيها من القوة ما يعطيه الغذاء المادي للجسم. فإذا دخلها الشك ابتدأت النفس تنزعج ويعقب ذلك حتمًا ازدراء وتقزز منها. ومتى داخل النفس التقزز صغر أمامها كل شيء، واحتقرت الوجود وما فيه. فتضاءل الإعجاب وتضاءل الأسف، وخمد القلب وقلت نزعاته الكريمة. ولولا أن فكرة استبقاء الحياة قوية جدًّا تغلب على كل مفر منها لوصل الفكر إلى نتائج أتعس من الإذعان لاحتمال الحياة. ولكن هذه الفكرة القوية الفعالة تعيد كرتها عليه، وتغالب فيه دواعي استنكار الحياة بأنواع شتى من الحيل أبسطها أن يسأل المرء نفسه: وما نتيجة استنكار الحياة. هنالك يعاوده الأمل ويرى وجوب الأخذ في الحياة العملية بواجبات قريبة منة المتعارف تكون نظامه وطمأنينته. ولكنه يبقى حاسًّا بشيء من الوحدة يدفعه؛ ليجاهد في سبيل إدخال وحداته الإيمانية الخاصة في كتاب الاجتماع؛ ليجد في الناس إخوانًا وأصدقاء. وهذا الجهاد هو نوع خاص من أنواع المسئولية نبينه فيما سيأتي ونوضح سببه ونتيجته.

ولكن هذه الصور التي جئنا بها في طريق تحليلنا لفكرة المسئولية، كالشذوذ الفردي والمجانين العظماء وخمود حاسية المفكر بالمسئولية أليست في ظاهرها تقف في وجه الفكرة الأولى فكرة انطباع صورة الجمعية في نفس الفرد، وتكوينها بذلك ضميره وإدخال مبادئها عليه، وتركها إياه يقدر المسئولية بمقدار هذه المبادئ. فكيف يكون ذلك مع ما عليه الجمعية من قوة تكاد تلاشي الفرد كل التلاشي؟ إن أول القوانين الطبيعية التي تعمل في كل المخلوقات الحية قانون بقاء الأصلح وفناء الشاذ. وهذا القانون لا يحتمل أي استثناء. فهو يستخدم كل الوسائل ليكون نافذًا على كل المخلوقات. فهل اضمحل في الجمعية الإسلامية. وهل معنى القوانين والأنظمة محاربة الطبيعة ونواميسها. وإن صح ذلك فكيف يكون النظام الاجتماعي طبيعيًّا وهو بنفسه يحارب الطبيعة.

هذه مسائل واعتراضات يحار الذهن أمامها، إذا هو لم يستعن على حلها بمعلومات خارجة عن المنطق المجرد. وأهم هذه المعلومات معرفة قانون التطور وكيفية عمله وتفاعله مع قانون بقاء الأصلح. فإن الجمعية الإنسانية لم تكن من ألف ألف سنة ما كانته من ألف قرن، ولا ما هي عليه اليوم، بل هي تتطور وتدخل فيها عناصر وتنحل عناصر أخرى، وتنتقل بذلك من جيل إلى جيل محملة بماضيها مستعدة لانقلابات جديدة حاملة في جوفها بذور ثورات وأنظمة، واختراعات لا حد لها ولا نهاية. ولكن حصول هذه الانقلابات ليس معناه فناء ما سبقها، وقيام نظام جديد لا علاقة له بالماضي. فإن الطفرة مستحيلة استحالة تامة، ولكن الانقلابات معناها انهيار بناء متداع نخر السوس في أصله، وظهور أبنية جديدة كانت أسسها موجودة يشعر الناس بها، ولكنها لم تكن قد ارتفعت بعد وأعلنت عن نفسها. وحتى الأبنية القديمة التي تنهار لا تفنى فناءً مطلقًا، ومهما يكن من شدة حنق الإنسانية حين قامت فدكتها، فإن ذلك لم يمنع هذه الإنسانية نفسها حين تراجعها سكينتها من أن تبني لذكرى ذلك الماضي أضرحة جميلة من الرخام النقي، وأن تقيم حولها الأزهار وتخلدها بأشعار رائعة؛ ذلك لأن في الماضي مهما نخر أصوله السوس ذكرى آبائنا وأجدادنا وأعزة علينا، فيه ذكرى عظماء الإنسانية الخالدين. فيه ذكرى فرعون وموسى والمسيح ومحمد وشكسبير ونابليون، والماضي هو فوق ذلك فترة من عمر الإنسانية ذات أثر خالد في حاضرها ومستقبلها. ومن ذلك يظهر أن التطور ليس استحالة تامة، ولكنه فروع جديدة تنمو على الجذع الأصيل مكان فروع أخرى، ذبلت وسقطت وتركت في ذلك الجذع القديم الخالد الذي يعز كل جيل من أجياله آثارًا مندملة لا يمكن أن تزول.

وحدوث هذا التطور راجع إلى ما يلقيه جماعة الذين ينظرون إلى الحوادث الاجتماعية نظرًا سطحيًّا للتضارب بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. فهذه الحركة العظيمة التي يسعى إليها كل واحد من بني آدم للوصول إلى مركز عال، أو ثروة ضخمة أو متاع بالحياة كبير مضحيًا في سبيل ذلك ببعض الاعتبارات الخلقية، واصلًا أحيانًا في هذه التضحية إلى ارتكاب ما تحرمه سنن الاجتماع الأدبية، بل قواعده القانونية — هي السلم الذي تتدرج عليه الجمعية من حالتها البربرية الأولى إلى مدنيات مختلفة، وصلت إلى ما نراه اليوم من عظمة السلام وعظمة الحرب. وهي السلم الذي ينتظر أن تصل عليه إلى أرقى مما نرى بكثير. لهذا فمهما تجاهد الجمعية بقوانينها ووحداتها الإيمانية، وإكراهها المادي والمعنوي تريد أن تخضع الأفراد لسلطانها، فسيبقى دائمًا في قرارة النفس الفردية شيء كأنه يثور على هاته القوانين والقواعد والوحدات، وعلى الرغم من هذا الإكراه؛ لأن هذا الشيء الكمين في النفس والإحساس الداخلي الذي يدفع الفرد مهما خضع لأوامر الجمعية التي هو منها؛ ليثور عليها أو ليفعل ما قد يضرها والموجود في كل الأفراد بكميات مختلفة هو أساس تلك الظاهرة الاجتماعية، التي يقوم عليها التطور الإنساني. هو نزعة الجنس إلى الكمال والتطلع الكمين في نفس الإنسانية. مأخوذة كوحدة قائمة بذاتها وسط وحدات الكون وعوالمه الأخرى، يريد بها أن تصل لتحتل مكان القلب والعقل والروح في نفس الوجود كله. على أن هذا الإحساس الدقيق العظيم تخمد جذوته في معظم النفوس، وتتحول في طريق لا يمكن أن يصل إلى الغاية المرجوة في نفوس أخرى في حين هو يوفق كل التوفيق، ويصل إلى أحسن النتائج في نفوس ثالثة، والخمود والتقهقر والنبوغ إنما تكون بمقدار استعداد تيارات الجسم للتلقي والإصدار، وللتفاعل مع الحوادث سلبًا وإيجابًا.

٥

إن التطور الاجتماعي العظيم على سلم النزعات الفردية الذي وضعناه في الجزء السابق يرى مجسمًا في تاريخ الإنسانية، فالآلهة وأنصاف الآلهة القدماء والأنبياء من بعدهم والملوك والشعراء، والفلاسفة هم الذين كانوا المحور الذي دارت عليه المدنيات المتعاقبة. ولم يأخذ واحد من هؤلاء اسمًا في التاريخ كعامل من عوامل الرقي، أو التدهور الإنساني إلا بمقدار نزعاته الخاصة الخارجة على النظام الاجتماعي السائد في وجوده، بل إن تراجمهم لتدل على أنهم جميعًا كانوا منظور إليهم بعين الاستغراب من الرأي السائد؛ لتفوقهم في القيام في وجه الوحدات الإيمانية الموطدة الأركان في النفوس. ولكن الذي لوحظ إلى جانب ذلك أن نزعات الأفراد الذين كانوا عوامل في رقي الإنسانية كانت نزعات تتفق مع قوانين حياة الاجتماع الطبيعية من حيث هي، وبكلمة أخرى إن هؤلاء الأفراد كانوا صيحة الجنس البشري نحو الكمال. وإن هذه النزعات على ما فيها من مصادمة الرأي السائد لم تكن إلا خطوات ضيقة جدًّا، وكانت جمعيتهم مهيئة لها، وإنما يقف في وجهها الماضي الذي قدس وحداته الإيمانية حتى صارت في نظر المجموع عقيدة لا يمكن أن تتحول. أما الأفراد الذين عملوا على تدرك الإنسانية، فكانت نزعاتهم ضد الاجتماع بل ضد الحياة — كانوا نذر الموت وأعلام الدمار. كانوا أفرادًا ساعدتهم ظروف خاصة على الرجوع بالإنسانية إلى الوراء. ولكن الاجتماع أظهر القوة في كل الظروف التي حلت به فيها مثل هذه الكوارث، فلم يكن ينساق في تدركه؛ لهذا نرى استبداد ملوك الرومانيين لم يوقف سير المدنية إلا قليلًا. بل لقد كانت شرور ذلك العصر سببًا في إفاقات اقتضاها انفجار القوى المضغوطة برغم ما توصي به طبيعة الحياة.

والتاريخ لدينا حافل يشهد بما تقدم. ولنأخذ مارتين لوثر مثلًا. ومارتين لوثر من الرجال الذين هزوا الإنسانية، وقسموا المسيحية إلى قسميها الكاثوليكية والبروتستانية. قام هذا البطل وسط العقائد والوحدات الإيمانية السائدة في القرن الخامس عشر لميلاد المسيح. وكانت سيادة هذه العقائد من القوة بحيث لم يكن لمن يقاومها إلا ملاقاة حتفه. فكم من أرواح أزهقت لا لشيء إلا أنها سمحت لأبسط الانتقاد أن يوجه صادرًا منها إلى بعض شعب غير رئيسية مما تفرع عن هذه العقائد. ومثال هس وجيروم باقٍ ينطق بما كان يلقاه المعارضون من أنواع التعذيب الذي كان ينتهي بموتهم حرقًا. ولكن عصر لوثر لم يكن عصر هس وجيروم. فقد كانت النفوس في عصره مهيئة لقبول تعاليم جديدة، شعرت بها لازمة لحياة الجماعة؛ لهذا ما كاد ينشر تعاليمه حتى رحب به الأنصار والأشياع. فلما استدعى إلى مجمع ورمس ليناقش الحساب بعد ثلاث سنين من قيامه بنشر دعوته علت حوله الصيحات من كل جانب: «كن عند رأيك فأنا معك»، وكذلك كان، فجعل يدافع ساعتين عن آرائه في خطبة ألقاها كانت ما سميناه نحن صيحة الجنس نحو الكمال. ولقيت خطبة من أهل ذلك العصر استعدادًا، فأقرها الناس وكانت فاتحة عصر جديد. ولكنها في الواقع لم تكن إلا خطوة ضيقة أعد الماضي لها الناس، فلما خطوها في عصر لوثر جاءت على أثرها خطوات، تأسست عليها مدنية أوروبا في العصر الحاضر.

ومارتن لوثر ليس إلا المثل المكرر من أمثلة المصلحين الذين قاموا في الإنسانية من يوم نشأتها إلى العصر الحاضر. ولكن الأكثرين من هؤلاء الأبطال المصلحين إن لم نقل: كلهم أقرب إلى الشعراء منهم إلى المفكرين؛ لأن من شأن المفكر أن تخمد القوة العملية فيه بمقدار ذكاء قوته الفكرية. فالفكرة التي تتكون في نفسه بدل أن تدفعه للعمل لإظهارها تنحل إلى فكرة أخرى، وإلى فكرة ثالثة وهلمَّ جرًّا. وعلى ذلك تنقضي حياة المفكر في ملاحظات واستنتاجات، وتشكيك في الملاحظات والاستنتاجات، وردود على هذا التشكيك ومؤازرة للفكرة بأفكار أخرى. ولكن الأبطال المصلحين يقفون عند أفكار معينة تسمو على افكار الشعب الذي يقيمون بينه سموًّا محدودًا في اتجاهه، وفي مقداره لاضطرار المصلح أن يلائم الوسط الذي يظهر فيه ملاءمة تسمح لسواد هذا الوسط أن يتبعه على طريق القياس ببعض ما عنده من الوحدات الإيمانية، التي أفلتت من القيود القديمة وسمحت لها مقتضيات الاجتماع أو أكرهتها ظروفه على التقدم بعض الشيء. ولكن المفكر لا يقف عند فكرة معينة، بل هو يتطلب دائمًا نتائج هذه الفكرة وآثارها، وارتباط النتائج والآثار بحياة الوجود العام وغير ذلك مما لا ينتهي، ومما هو مثار الشكوك الدائمة. كذلك تنقضي حياة المفكر في وسط خيالي لا يفهمه الناس ويتذوقه هو. ومحال أن يكون غير ذلك ما دام الفكر الإنساني محدودًا والعالم غير محدود.

وضع المفكر العظيم أوجست كومت فلسفته الوضعية قضى في ترتيبها زهرة حياته. ولما اكتهل صادفته مدام دفو، فوصل من الإعجاب بها إلى حد تقديسها. وهنالك داخلت نفسه نزعة شعرية فانتقل من فلسفته إلى سياسته التقريرية آخذًا النتائج التي وصل إليها من طريق الملاحظة والاستقراء ملبسًا إياها نفسه، ثم نافثًا لها في صيغة شعرية أشبه الأشياء بالصيغة التي تأخذها كتب العقائد. هنالك حكم عليه أنصاره أنفسهم بأنه قضى كمفكر؛ لأن النتائج العظيمة التي وصل إليها في فلسفته ليست خاتمة ما يمكن أن يصل إليه الملاحظ والمستقرئ؛ ولذلك وقفوا في مناصرته عند الذي وصل إليه من فلسفته، واستمروا في الطريق الذي كان هو سائرًا فيه. استمروا يفكرون.٢

وهذا النوع من الحياة وأقصد إذكاء الفكرة، وجعلها تدفع إلى فكرة أخرى لا إلى عمل من أعمال الحياة يفقد هذه الأعمال قيمتها في النفس. وذلك هو السبب في ضعف إحساس المفكر بالمسئولية. فهو يترك الحياة المادية تسير كما يحلو لها أن تسير منقطعًا إلى حياته العليا، فتصبح الأعمال عنده موضع ملاحظة، ونظر كأنها شيء آخر مستقل عنه، فلا تستدعي منه أسفًا ولا غبطة. ولكن الذي يستوقفه ويستدعي إعجابه أو انقباضه هو الفكرة الجميلة أو الفكرة المجرمة.

يتضح مما تقدم أن أصحاب الشذوذ الفكري والمجانين العظماء والمفكرين هم شواذ في الجمعية، ولكنهم أثر من آثارها هم الملتقى الذي تصل عنده وحداتها الإيمانية المتضاربة في أغلب الأحيان، تضاربًا إن اتفق مع الحياة فهو لا يتفق مع التقدم. والتقدم والارتقاء هما آثار التطور الذي هو أحد القوانين الرئيسية لنظام الجمعية وخلودها. وعلى اعتبار هؤلاء الأشخاص شواذ لازمين قطعًا لوجود الجمعية الإنسانية، من حيث هي الجمعية الإنسانية في صورتها غير المحدودة بالمكان والزمان والقائمة بين الأزل والأبد — على هذا الاعتبار، سمح لهم الرأي السائد في كل العصور أن ينتهكوا حرمته، ويحولوا تياره؛ لأن الرأي السائد يحتوي جرثومة التطور والتقدم. هذا هو ما جعل فكرة المسئولية تنطبع في نفوس هؤلاء الأفراد على نحو مبهم، أقرب لأن يكون طابع المستقبل منه لأن يكون طابع الجمعية الحاضرة.

وهؤلاء الأفراد هم الذين أوتوا أجهزة وتيارات غير عادية، وسمحت لهم ظروف خاصة كالمصادفة والوراثة أن يوجهوها لخير الإنسانية، فوفقت أحسن التوفيق وكانت نزعاتهم الفردية حجر الأساس الذي شيدت فوقه المدنيات المتعاقبة.

ولكنا إذا حولنا النظر إلى الجهة المقابلة، حيث ترفع النزعات الفردية أعلام الموت، وترسل نذر الخراب، وأخذنا نيرون الظالم مثلًا رأينا الفرد المجرد من معنى الاجتماع والعائش بنفسه لنفسه، ورأينا المخرب الذي يندفع ليدك قواعد الوجود إرضاءً لشهوته، رأينا هذا المستبد الأحمق محرقًا رومية ممسكًا بيديه قيثارته يوقع عليها قصيدة خرقاء، جادت بها قريحته المجرمة، ولكن رومية عادت إلى الحياة ومات هو وطمس على قصيدته في حفرته.

ولذلك يعلو الاجتماع، ويبقى ويموت الفرد الخارج عن قوانينه تحت أقدامه.

نيرون هو المثل المجرم في الإنسانية، والمجرم شخص مجرد من العواطف والإحساسات البشرية لا يحس بالألم ولا بالسعادة، ويرى الوجود الذي أمامه عدوًّا له لدودًا. هو حيوان من غير النوع الإنساني؛ لأنه غير مدني ولكنه ألبس صورة الناس ظاهرًا؛ لهذا لم يكن لقواعد الحياة ووحدات إيمان الوجود أن تنطبع في نفسه الصلدة بل يبقى فؤاده جامدًا ونفسه حيوانية لا تعرف من معنى الاجتماع شيئًا، ولا تفهم من قوانين الطبيعة إلا القانون العام الذي يحكم الموجودات الحية إلى أدنأ أنواعها: قانون استبقاء الحياة. ولما كان الكد والكدح أثرين من آثار التنافس الذي لا يكون إلا بالاجتماع، وكان المجرم غير مدني رأيته يميل للكسل، ويفضل الإغارة على أمثاله من بني آدم يختطف أموالهم من يدهم كما يغير الأسد أو النمر على ما يجاوره، ويأخذ الفريسة التي تلوح له.

وجمود نفس المجرم عن تلقي آي الاجتماع ينتج عنده حتمًا جمود أمام الجزاء المقابل الذي تفترضه هاته الآي عقوبة لمن خرج عليها؛ لهذا لوحظ أن المجرمين المتأصلة جرثومة الإجرام في نفوسهم لا يعرفون معنى للتوبة، ولا يفقهون معنى التكفير عن الخطيئة. كما أنهم لا يشعرون في العقوبة بألم يردعهم عن العودة لما يستوجبها، بل هم يرتكبون الجريمة بالهوادة والطمأنينة التي يجدها غيرهم في أي عمل عادي مشروع؛ لأن الجريمة عمل عادي مشروع عندهم.

لكن هذا النوع من المجرمين قليل وغير منتشر. والغالبية العظمى ممن يخرجون على النظام أشخاص، تدفعهم ظروف خاصة توجه نزعاتهم الفردية وجهات غير موفقة، فيرتكبون ما يخالف التعاليم التي انطبعت في نفوسهم والتي هي وحدات الوجود الإيمانية. ومن هؤلاء تتركب طائفة المسئولين الكبرى. فمنهم المجرمون بالمصادفة، والمجرمون بالعادة، والمجرمون بدافع الشهوة، والمجرمون المتهوسون والمجرمون السياسيون وغير هؤلاء وأولئك ممن سيرجع بنا الكلام إليهم عند بحث المسئولية القانونية.

ووجود هذا النوع من المسئولين في الجمعية هو المقابل الطبيعي لوجود العظماء والمفكرين والمصلحين. فما دام الاجتماع الإنساني في تطوره نحو الكمال يستخدم النزعات الفردية لإتمام ذلك التطور، فستوفق بعض هذه النزعات للسير في الطريق السوي، وستضل أخرى وتنحدر في مهاوي الجريمة. ولكن أصحاب النزعات الضالة يلقون دائمًا جزاء ضلالهم، فتدوسهم الجمعية بأقدامها وتمر من فوقهم غير مهتمة بهم، ولا مكترثة لهم بل مستخدمة إياهم في أحايين لمساعداتهم في التقدم إلى الغرض الذي تسير إليه. ولم يستطع هؤلاء الضالون في عصر من العصور الماضية كلا، ولن يستطيعوا في المستقبل أن يقفوا في وجه الجمعية؛ لأن الجمعية وجود طبيعي أزلي خالد. والأفراد ذرات سريعة التحول والانقلاب. والجمعية كل والفرد ذرة متناهية في الصغر إلى جانب ذلك الكل ومسخرة لخدمته.

إذن فشأن الفرد في الجمعية شأن مسمار في ماكينة عظيمة. فذلك المسمار يبقى سالمًا ما دام قائمًا بأداء الوظيفة، التي وضع لها غير خارج على المجاورات التي حوله. لكنه يلقى جزاء محتومًا إن هو وقف عن أداء وظيفته أو خرج عن المكان المعد له. فإنه يلقى قسمًا آخر من الماكينة أمتن منه، وأقوى يصادفه في سيره فيكسر رأسه أو يرده بالرغم عنه إلى مكانه. بل إن شأن الفرد لأضعف من ذلك وأحقر؛ لأنا مهما تصورنا من عظمة هاته الماكينة، ومن ضآلة المسمار إلى جانبها، فلن نبلغ في ذلك ما يقابل الجمعية والفرد.

وقد أحس الناس من أبعد الأزمان بهذا الإحساس، وفهموا تمام الفهم معنى الجزاء الذي تنزله بهم الجمعية حين خروجهم عليها. وبلغ من قوة إحساسهم به أن خلطوا بين فكرة الجزاء وفكرة المسئولية، وأحلوا الأولى محل الثانية، وترتب على هذا الخلط الفكري خلط آخر جر إليه التشابه اللغوي. فلما كانوا يرون الجزاء، وهو المقابل الطبيعي لعمل من الأعمال، يعرض صاحبه لسخط الجمعية، وكان الجزاء لغة هو المقابل للعمل بالأوامر، سواء أكان هذا اجتماعيًّا أم غير اجتماعي، وسواء أكان مضرًّا بالجمعية ويستدعي مسئولية فاعلة أم هو لا علاقة له بالجمعية مطلقًا، وإنما هو عمل يستحق المدح من فرد معين من الناس على خدمة، وصلته من آخر — جعلوا هذه الأعمال غير الاجتماعية لما يقابلها في نظرهم من الجزاء داعية مسئولية، ولو في جانب ما يسمونه الخير. مع أن المسئولية إنما تتكون عند الفرد على أثر انطباع وحدات الإيمان المتعلقة بحياة الاجتماع في نفسه، ومخالفة هذه الوحدات من بعض الأشخاص.

ولكن إذا كان الخلط قد جر إليه الشبه اللغوي في استعمال كلمة الجزاء، فإن الذي مكن له في عالم الفكر، ومد في حياته حتى نراه باقيًا إلى اليوم هو الإبهام الذي كان حاصلًا في فهم الوحدات والقوانين اللازمة لحياة الاجتماع، حتى رتبت بعض العصور أضعف أعمال الفرد في جهتى النافع والضار والخير والشر ترتيبًا لا يسمح لنزعة فردية من النزعات التي هي أساس التطور الاجتماعي أن تقوى، وتعمل عملها في الوجود. رتبتها وحكمتها فكان الميدان المسموح للفرد أن يتنفس فيه ضيقًا إلى حد كاد يخنقه. فكان طعامه وشرابه وحركاته ونوع كلامه، بل اتجاه فكره كلها معتبرة من الوحدات الإيمانية اللازمة لحياة الجمعية. ولكن التطور الذي حصل على متعاقب العصور حلل بعض الشيء من هذه الدائرة، وسمح للأفراد بدائرة أوسع يتحركون فيها حسب ما توحي إليهم به نزعاتهم وظروفهم الخاصة، وإن حكمتهم دائمًا ظروف الوسط والزمان.

وهذه الحرية التي سمح بها الاجتماع لأفراده على اعتبار أنها لازمة للتطور وغير ضارة بحياته، هي التي سمحت لفكرة المسئولية أن ترجع بعض الشيء إلى معناها الطبيعي الأول. وتعني إحساس الفرد بمخالفة سنة الاجتماع مخالفة، يغلب أن تجر عليه الجزاء المقابل لها. لكن فكرة الجزاء هي المقابل لفكرة المسئولية، وليست هي هي بعينها كما قرر بعض الكتاب والفلاسفة. فقد يأمن الرجل كل الأمن وقوع الجزاء، ولكن ذلك لا يمنع تحرك ضميره حسبما تكون من قبل، ما لم يكن مجرمًا بالفطرة ميت الإحساس بطبيعته. وإن كثيرين من الأشخاص الذين يقدمون للقضاء، فيبرءون لعدم قيام أدلة كافية لإدانتهم يبقون برغم فرحهم بالنجاة من العقاب تحت تأثير وخز الضمير زمنًا غير قليل. بل قد يبلغ الحال من بعضهم أن يجزي بنفسه نفسه. ولولا نعمة النسيان تسمح للأكثرين منهم بشيء من الهدوء لما برحهم ألمهم. كما أن فكرة التفكير والتوبة تريح نفوسًا كثيرة قد تنوء لولاهما بفكرة المسئولية.

بل كم رأينا من كبراء الرجال من ارتكب على علم إثمًا أضر بجمعيته، ولكن ظروفًا خاصة جعلته يرتكبه وهو مطمئن ساعة ارتكابه لكن الماضي لم يلبث أن تكدس كله، وغلب الحاضر وقامت فكرة المسئولية قاسية أليمة تعذب ضمير هذا الرجل أشد العذاب.

وأما إدخال عمل الخير تحت فكرة المسئولية، فذلك خطأ جرَّ إليه الخلط اللغوي، وجرَّ إليه تاريخ فكرة المسئولية ووطَّد أركانه ميل العقل الإنساني إلى فكرة المقارنة والمقابلة بين الأضداد. والحقيقة أن فكرة الخير والإحسان والفضيلة هي أفكار نسبية أبدعت في مختلف العصور للتعبير عن النزعات الفردية التي تسعى بالجنس في طريق تقدُّمه نحو الكمال، ولا يمكن أن تستثير الأعمال التي أطلقت عليها هذه الأسماء فكرة المسئولية في النفس، ولكن التعاليم القديمة كانت تجعلها تستثير فكرة الجزاء عند الله إن لم يكن عند الناس، فكان ذلك سببًا للخطأ الذي أشرنا إليه.

١  مجلة المقتطف الجزء الأول من المجلد الخمسين في أول يناير سنة ١٩١٧ والأعداد التالية.
٢  انظر ما تقدم في ذلك — الفصل الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤