الفصل العاشر

لكل اجتماع من خليلين فرقة
وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحدًا بعد واحد
دليل على أن لا يدوم خليل

كُتب الكتاب من أول الزمان، يذكرون مصاعب الموت وخطبه الجسيم، نعم، إن ما نراه من تجرع مرارة الموت ومنظر الميت من الكآبة وبكاء أهله وخلَّانه وسواد الملبس وانهمال الدموع على الخدود وتقريح الجفون والعيون؛ يجعل الموت في أعيننا هولًا عظيمًا وخطبًا جسيمًا تشمئزُّ منه النفوس وتخافه القلوب، ولكن لو نظر الإنسان إلى متاعب الحياة الدنيا وفناء لذاتها وانقضاء أيامها، وطوَّح بنظره إلى أصحاب القبور الذين ينامون نومًا هنيئًا، لا حسد ولا منافسة ولا نميمة ولا شحناء ولا بغضاء ولا فقر ولا مرض ولا عناء ولا سهاد ولا بلواء ولا ذل ولا استعباد ولا طمع ولا شَرَه ولا غدر ولا قتل، بل راحة نوم عميق لا تتخلله أحلام مزعجة ولا تصورات مفزعة بما سيأتي به النهار وبما ولَّى به الأمس، والهدوُّ والسكينة اللذين يرفرف جناحهما على مساكنهم؛ يجد أن الموت راحة كما قال أبو العلاء:

ضجعة الموت رقدة يستريح الـ
ـجسم منها والعيش مثل السهاد

نعم، إن خطب الموت يكون أخف وطأة إذا كان الميت من كان ينتظر موته في كل آن ولحظة، لكنه خطب هائل عند فراق من لا يُنتظر فراقه، ولا سيما شاب في نضارة عمره ومقتبل شبابه وزهرة حياته:

من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر

أنت كنت زهرة حياتي، وأنت كنت محط آمالي، وأنت كنت قصدي ومرادي، لأجلك كان سفري، لأجلك كان تعبي، لأجلك كان فراق وطني، لأجلك رغبت في الحياة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! ولا خير في حياة ذلُّها طويل وشقاؤها كثير، وما هي الحياة؟ إن هي إلا أنفاس تردَّد ودقائق تعد وتحسب، تنتهي كما ينتهي كل شيء، فأي طمع بعد ذلك في الحياة؟!

أنلهو وأيامنا تذهب
ونلعب والموت لا يلعب؟!

لما فارق شريف الحياة اسودَّت الدنيا في عيني وحرت في أمري، ولقد كان منظر أسما وهي مغشيَّة عليها بجانب شريف يذيب القلوب، وكلما أفاقت ونظرت إلى وجهه المصفرِّ وعينيه المقفولتين بأهدابهما السوداء؛ ناحت وبكت بكاءَ الثكلى، ولم أرَ في حياتي مثل ذلك المنظر، ومن عرف الحب ولو قليلًا يمكنه أن يتصور حالة هذه المسكينة التي حين بلغها خبر موت شريف وحكايته من الخادم الذي أطلق سراحه رجال شرف الدين، تركت بيتها ولم تسأل عن لوم أبيها وأمها. ومما زادني حزنًا وقطع حُشاشتي طفلٌ صغير ابن أحد خدم شرف الدين كان يحبه شريف ويلاطفه كثيرًا، كما بلغني، جالس بجانبه يبكي ويقول لمن حوله: لِمَ ينام سيدي هكذا ويتركنا نبكي عليه؟ فمتى يستيقظ يا تُرى من نومه؟

فقالوا له إنه نام ولن يستيقظ أبدًا، فمد يده وأمسك بيد شريف وشرع يقبلها والدموع تسيل من عينيه عليها. وبعد تغسيله وتكفينه:

ساروا به والكل باكٍ خلفه
صعقات موسى يوم دُكَّ الطور

وبعد ذلك اليوم لم يصفُ لي عيش ولم تهنأْ لي الإقامة بمكة وعزمت على الرجوع إلى مصر، ولكن فضلت البقاء إلى موسم الحج؛ لأعود مع الحجاج المصريين، ولم أرجع إلى منزل الحاج علِي الذي حينما بلغه أن شريفًا كان شقيقي أسِف أسفًا لا مزيد عليه وسافر من مكة إلى الهند دون أن يقابلني وأرسل لي كتابًا يعتذر، ولكن هل ينفع العذر؟ وهل ينفع البكاء؟

ولقد اتخذت لي محلًّا أقيم فيه مع الخادم الذي لم يشأ أن يتركني، وقابلت ذلك منه بالشكران وجعلته كأخ لي.

ومضى بعد ذلك شهران، ولم يبقَ على موسم الحج إلا زمن يسير، وبينا أنا جالس ذات ليلة وإذا بالخادم دخل عليَّ وأعطاني ورقة ملفوفة في منديل مزركش بالذهب، وقال: هذه أعطتنيها وصيفة لأسلمها لك، ففتحتها وظهر لي قبل قراءتها أنها رسالة غرام، فقلت: هل نحن في سرور أو في غرام أو في أحزان؟! لكل شيء زمان، فقرأت ما يأتي:

أيها الشاب الجميل

قضى الله الذي خلقك جميلًا أن تمتلك قلوب البرايا، وإنني أحببت أخاك كما كان يحبني، ولكن المقادير فرقت بيننا وتركتك خليفة له وملَّكتني لك، فمنذ رأيتك هويتك، وهؤلاء شبان مكة لم يعجبني أحد منهم كما أعجبتني أنت وأخوك، فإن تعطفت عليَّ بقبول محبتي عددتُ نفسي سعيدة ومت تحت أقدامك، وإن أردت أن أسافر معك إلى بلادك فإني طوع أمرك. فبالله، ارحم فتاة يحييها وصلك ويميتها هجرك.

أسما

فلما قرأت ذلك الجواب قلت: ما أضل هذا العالم! وما أفسد أبناءه!

وتذكرت بكاءها وعيونها تهمل الدموع، ومودتها الصادقة التي كانت تبديها فقلت: صدق والله من يقول:

وإن حلفتْ لا ينقض النأيُ عهدَها
فليس لمخضوب البنان يمين
ثم أخذتُ القلم وكتبت:

أيتها الغادة الجميلة

إن فؤادي لم يبقَ خاليًا ينتظر غرامك، وليس في وسعه أن يجمع بين اثنين، ولست ممن يغدرون بالعهود، وأنا على يقين أن حبيبتي تموت لأجلي لا أن تعشق غيري، وأنا أول من يحبك إكرامًا لشقيقي. فإن كنت تحبينه كما كان يحبك ومات لأجلك وبسببك، فتكرمي على أخيه برُقعة من خطه سواء كان جوابًا أو غرامًا أو غيره، واعلمي أني لا أبوح بالسر مهما عشت، ولا أنسى الدموع على منظر خدك الوردي. وفي الختام، أهديك أزكي التحية، والسلام.

شقيق عاشقك شريف
أمين فريد
ثم وضعت الجواب في منديل من عندي، وأعطيت الرد للخادم وأوصيته بتوصيله إليها وانتظار الرد، فلم ترد عليَّ بل أرسلت جوابًا كان أرسله شريف لها، وكتبت على ظهره هذه الجملة:

إني أحببتك لمحبة أخيك، فلا تظن ذلك عدم وفاء بعهده.

فقلت في نفسي: ذلك لا يهمني، إنما يهمني الجواب الذي رأيت عبارته بديعة السَّبْك، وخطه لطيف الشكل، وهو كما يأتي:

حبيبتي أسما

إن فؤادي طوع أمرك، وقلبي في إرادتك، وهنائي في محبتك؛ فلا تحرميني من رؤية طلعتك. ولقد ذهبت بالأمس لأراك فلم تسمحي لي باللقاء ولم أدرِ لذلك سببًا، أجفاء وما عودتنيه، أم دلالًا والمحبة لا ترتضيه؟ فارحمي حُشاشتي يرحمْك الله، واضربي موعدًا للقاء كيما أطفئ نار أشواقي بنظرة منك ترد الروح للجسد. وأهديك سلام محبك الخاضع.

شريف

وما فرغتُ من تلاوته حتى تناثرت الدموع على خدي، وقلت: لعمري:

ليذهب من يشاء فلست أودي
على من مات بعدك «يا شريف»

والآن، أحفظ هذا الجواب بين أوراقي التي كلما غلب عليَّ الشوق أمر عليها، فمن جوابات حبية ونحن في عهد الصبا والهموم بعيدة، ومن جوابات أصدقاء أصفياء، ومن … ومن … قضى كل ذلك، وأصبحت فريدًا وحيدًا، لا من يسأل عني من الأحياء أو الأصدقاء، وهكذا الأيام دأبها الفتك بالأحرار:

لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم لها حال ولا شان

ولقد حملت عليَّ بكل ما يمكنها من المصائب، ولم تدع في جسمي محلًّا إلا رشقته بسهامها. ولا بد أن أذكر هنا أن الدنيا تغيرت أمام عيني كثيرًا، فلا عاد يخطر لي على بالي هناء ولا سعادة ولا آمال ولا … ولا … كأنني أبو العلاء حيث قال:

غير مُجْدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنُّم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
تعب كل الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد

وأنا الآن أمضي أغلب أوقاتي في كتابة هذا التاريخ ومطالعة الكتب الدينية والأدبية، وآمل أن أعود لمصر بعد موسم الحج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤