الخاتمة

وكل له يوم يتم به العمر

بينا أنا جالس في منزلي أطوِّف على سفينة تاريخ الزمان فكري في تقلبات الأيام، خطر ببالي ذلك الصديق الذي فارق بلاده وهو في ريعان الشباب الغضِّ، واقتحم الأخطار الشديدة، وجاب الأقطار البعيدة، لا سعيًا وراء المال بل وراء ما يجلب الشرف والفخار، وأي فخار أكثر من مخاطرة الإنسان بحياته وراء البحث على شقيق لا يُعرف إن كان على قيد الحياة أو قصفت غصن شبابه المنون؟ وأقول ولا أخشى لومة لائم: إنه يندر وجود مثل ذلك الشاب في ثباته وعدم مبالاته بالأهوال، فاشتقت لمعرفة أخباره؛ لأن الصداقة تُحتِّم عليَّ أن أعرف أحوال من ارتضعتُ معه أفاويق الوفاق وأمضينا زمن التعليم في سرور وصفاء.

فكتبت جوابًا لسعادة … بك بالرمل، وسألته عن أمر فريد، فجاءني الرد قائلًا إنه لم تصل لهم أخبار عنه منذ سفره، فحرت في أمري، وسألت الله أن يرد صديقي سالمًا.

ثم مر على تلك المراسلة شهر، وفي ذات يوم من أيام الصيف الماضي بينما كنت جالسًا مع بعض أصدقائي في منزلنا وإذا بقارع يقرع الباب، فقابلته ولكن لم أعرفه ولم أتذكر أني رأيته في حياتي، ثم سلم عليَّ وقال: هل أنت فلان؟ فأجبته بالإيجاب، وسألته أن يتفضل بالدخول، وبعد التحية وشرب القهوة قال لي: أظنك لا تعرفني. فقلت: صدقت، ولكن أتشرف بمعرفة حضرتكم.

وكان ذلك الرجل مصريًّا لابسًا زيًّا عربيًّا، يبلغ من السن نحو الثلاثين، ولقد خطر بفكري أنه أحد أصحاب أخي أو من معارف عائلتنا، ولكنه قال: إنني لست من هذا البلد، وإنما أنا من مدينة الزقازيق، ولديَّ وصية كُلِّفت بتوصيلها إليك، وهذه الوصية هي سلام فتى مات شهيد المروءة والشرف وخدمة الإنسانية. فأردت أن أقاطعه فقال: تأنَّ وثبِّت جَأْشك.

إن ذلك الفتى — رحمه الله — يهديك سلامه الأخير وهو يعالج سكرات الموت وسط القفار، ولا قريب ولا حبيب ولا صديق ولا شفيق ولا رفيق، ويسألك أن لا تنساه ما عشت، فإن ذكراك له بقاء لاسمه الذي قصفت غصنه المنون في شبابه الغض.

فسألته عن اسم الفتى، فقال: إن اسمه أمين فريد.

فقلت باندهاش عظيم: وارحمتاه، واصديقاه! مات أمين! إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال ذلك الرجل: أما والله لو رأيته وهو طريح بين الأحجار مضرَّجًا بدمائه، لوددت الموت قبل رؤية ذلك المنظر المحزن، وإني ما عشت لا أنسى صورته ورأسه موضوع على حجر والدم يسيل من جنبه وخدوده صفراء وثيابه حمراء.

فسألته: وهل قُتل؟ وكيف كان قتله؟

وهنا ابتدأ أن يقص عليَّ حكايته حتى وداعه الأخير: ذهبت إلى مكة لقضاء فريضة الحج الشريف مع أهل بلدتي، ولما وصلنا إلى مكة أخذت في البحث على محل أقيم فيه بواسطة المطوف، الذي قال لي: إن هناك شابًّا مصريًّا يود أن يُقابل مصريًّا، وذهب بي إليه ليسأله على محل، فلما تقابلنا به وجدت شابًّا جالسًا في دكان يبيع فيها من الحراير والأقمشة ما يلزم الحجاج، وحين رآني وعرف أني مصري سلم عليَّ باحترام وقابلني بإكرام ثم سألني عن بلدي، ولقد وقع حبه في قلبي لأول نظرة، ثم سألته عن أمره فأخبرني أولًا أنه جاء الأقطار الحجازية لسبب أخبرني به فيما بعد. وفي ذلك الوقت ابتدأت صداقتي معه، ثم ترجَّاني أن أقيم معه حتى نعود سوية إلى مصر، وشرع في بيع ما في دكانه إلى الحجاج المصريين، الذين أحبوه للطف أخلاقه وجميل معاشرته وحسن معاملته، وفي تلك المدة عرفت قصته من رسالة كتبها عن نفسه قبل مقابلتي بزمن يسير، وهذه الرسالة معي سأعطيكها الآن كما أوصى بذلك.

ومما كنت أستغرب له صبره العظيم وسكونه التام وعقله الذكي ونباهته على صغر سنه، وأنه كان يظهر على وجهه أنه أكبر مما كان سِنُّه؛ لما كان كابده من الهموم والمصائب التي سوف تراها في هذه الرسالة.

ولا أطيل الكلام، بعد قضاء فريضة الحج، عزمنا على زيارة قبر رسول الله فباع ما عنده وودع من كانوا يودونه بمكة، وأعطى خادمه مبلغًا عظيمًا فتح له به دكانًا يبيع ويشتري فيها، وسرنا في قافلة مسافرة إلى المدينة المنورة، ولا يخفى عليك أن السفر في تلك الأصقاع محفوف بالمخاطر، فإذا اشتدت الهاجرة وضعنا رحالنا ونصبنا في خيامنا وأقمنا بقية يومنا.

وكنت تراه يدور في القافلة يتصدق على الفقراء ويساعد الضعفاء، ونحو ذلك من الخِدَم التي يندر أن يقوم بها شاب في سنه، وكان يتأخر عني عند سير القافلة، أعني بعد الغروب، ساعة زمانية، فأسأله أين كنت، فيجيبني أنه كان يساعد النساء اللواتي لا يقدرن على الركوب، وأنه كان يشتري للفقراء خبزًا يُفرقه عليهم لعشائهم، ونحو ذلك من الأعمال المبرورة. وبعد أن سرنا خمس ليال متوالية نزلنا بوادٍ تحيط به الجبال من كل جانب، وبعد نصب الخيام وتناول قليل من الأكل خرج كعادته حاملًا خبزًا وطعامًا وبقسماطًا ليفرقها على الفقراء، أما أنا فجلست للمحادثة مع حاج مصري من مدينة طنطا، ودار بنا الحديث على أخلاق ذلك الشاب المُرضية وكرم نفسه وشهامته ومساعدته للضعفاء، وقال كل منا في حقه ما يستحقه من الإطراء والإعجاب به، حتى جاء وقت القيلولة وكان الهواء حارًّا والعرق يسيل كالماء من جبهة الإنسان، فنمت ونام ذلك الرجل كما هي العادة، ولما استيقظت عند صلاة العصر سألت عن أمين فلم أجده، فانتظرته قليلًا فلم يأت، فداخلني قلقٌ عليه وأحس قلبي بشيء؛ إذ خفت على حياته من الجَمَّالين الذين يفتكون بالأغنياء طمعًا في سلب أموالهم، لكن فؤادي كان مطمئنًّا من تلك الجهة لأن الجمالين كانوا يحبون أمينًا كثيرًا؛ لأنه كان يواليهم بالعطايا ويتصدق عليهم بالخبز والبقسماط ونحو ذلك، ولما سألت جَمَّاله عليه أخبرني أنه خرج منذ الصباح ولم يعد، فذهبت للبحث عليه فلم أجده أبدًا، فحرت في أمري وكلما سألت واحدًا يخبرني أنه لم يره، إلى أن قال لي واحد إن أمينًا سمع صوت صارخة تستغيث فذهب مسرعًا لإنقاذها لكن لم يعد بعدها، ما سمعت هذه العبارة حتى جمد الدم في عروقي واعتراني ذهول وداخلني خوف على حياته، فذهبت إلى خيمتنا وأيقظت صاحبنا وأخذت جَمَّالينا وذهبنا إلى الجهة التي أشار لنا إليها ناقل الخبر، وبعد أن سرنا مسافة بين الهضاب والأَكَمَات بقلوب واجفة، رأينا وراء الأَكَمَة ما وراءها:

ها جريح لا أنيس بقربه
بعيد عن الخلان في موطن قفر
توسد في تلك المهامه صخرة
ودمع فراق العيش من عينه يجري

فحين وقعت عيناي عليه وهو بتلك الحالة مطعونًا في قلبه بسكين والدم يحيط به من جميع جهاته كأنما هو نائم على حرير أحمر، ووجهه مصفرٌّ من كثرة ما نزف من الدم؛ فصرخت من فؤاد مجروح: وافريداه! وارحمتاه! وامصيبتاه!

ودنوت منه أناديه وأقلبه، ولكن متى يسمع الميت النداء؟

وهنا بكى الرجل وبكينا بكاءً شديدًا، ثم قال: ولما عرفت أنه فارق الحياة وأن وقت مسير القافلة صار أقرب من قاب قوسين، أرسلت الجمالين ليحضروا لنا فأسًا نحفر بها قبرًا، ولما ذهبوا نظرت يَمْنَة فوجدت ورقة ملوثة بالدماء ساقطة بقرب الحجر الذي توسده فتأملتها، وإذا هي صورة فتاة جميلة الطلعة باسمة الوجه، والظاهر أنه أخرجها من جيبه ونظر لها قبل مماته النظرة الأخيرة، وتأمل محاسنها ثم سقطت منه، ولما نظرت إلى ظهر الصورة رأيت فيها كتابة حمراء، ظهر لي أنه كتبها بعود أملاه من دمه، وهيئة الكتابة كما ستراها تدل على ارتجاف أعضائه، وسأعطيك هذه الصورة ترى رأيك فيها. وعند ذلك جاء الجمالان بفأس فأمرتهما بالحفر بينما صليت عليه مع رفيقي وفتشت ملابسه فوجدت منديلًا مطرزًا بالحرير داخل قميصه كأنما جعله أقرب الأشياء إلى قلبه وعليه كتابة إفرنجية لا أعرفها، ولم أجد حزامه الذي كان يحمل فيه النقود، ويظهر أن القتلة المجرمين الذين لا يرحمون صغيرًا ولا يوقِّرون كبيرًا ولا يشفقون على الأرواح الطاهرة الزكية، سلبوا ذلك الحزام بما فيه من كثير النقود، وفي الحال واريناه التراب بلا كفن بل بثيابه الحمراء كما تدفن الشهداء، ودموعنا تسيل مدرارًا وأفئدتنا تتقطع إربًا، ثم بحثنا على حجر كبير وضعناه قرب رأسه وحفرنا عليه بالسكين:

شهيد المروءة والشرف أمين فريد المصري.

وقد أقبل الظلام يجر ذيوله السوداء ولم يبقَ على مسير القافلة إلا زمن يسير، وكلما رغبت في تركه أمشي قليلًا وأرجع للوراء وأقول: السلام عليك يا أمين، السلام عليك يا أمين إلى يوم القيامة.

وهنا بكينا بكاء مرًّا، وذرفنا الدموع الحرَّى.

وبالاختصار أيها الصديق، رجعنا إلى القافلة وما انتشر خبر موته حتى علت الضوضاء، وناحت الفقراء، وبكت الضعفاء، وتأسفت الأغنياء والأقوياء، وتأخر مسير القافلة نحو ساعة زمانية ذهب فيها بعضهم لرؤية مدفنه، وبعد ذلك سرنا نطوي القفار طي السجل، وأنا غائب عن هذا العالم الدنيوي، وصورة ذلك الشاب مرسومة في مخيلتي فلم أنسها ولن أنساها ما عشت، وكلما غلب عليَّ الشوق أنظر ورائي في ضوء القمر الساطع، وأطوِّح بنظري إلى الوراء، وأتصور في مخيلتي قبره ومقتله، فأذرف الدموع وأردد الزفرات، حتى وضعنا رحالنا في الصباح وعزاني من يعرفه في القافلة، وناحت الفقراء والمساكين قائلين: من لنا بعدك يا أبا الفقراء، ومعين الضعفاء؟!

والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد

وهذه هي الصورة.

وناولني ورقة ملوثة بالدم المصفرِّ، فنظرنا إلى الصورة فرأيت أنها مصورة بالإسكندرية، وعرفت أنها ولا شك صورة حبيبته، ثم رأيت في ظهرها ما يأتي مكتوبًا بعود مداده دم مصفرٍّ كلون الزعفران:
آه من سفر بغير إياب!
آه من حسرة على الأحباب!
آه من مضجعي فريدًا وحيدًا
فوق فرش من الحصى والتراب!
تفقدت من يبكي عليَّ فلم أجد
سوى صورة المحبوب بين يميني

الوداع يا روح، الوداع يا دنيا، الوداع يا سكينة، الوداع الوداع.

لقد قتلني من لا يرحم ولا يخاف الله بينما كنت أخلص منه فتاة فتك بها، وموعدي وإياه يوم القيامة، الله يخلص لي منه! الله عالِم، الله خبير. إذا بحثت عليَّ يا حاج إبراهيم ورأيت هذه الورقة، فاهدِ سلامي الأخير إلى صديقي الذي ذكرته لك كثيرًا، وأعطه ترجمة حياتي. ومني عليك السلام إلى يوم … م القياﻣ …

ولقد حفظت هذه الصورة وترجمة حياته، وأرسلت ما بقي من ممتلكاته إلى … بك بالرمل، وأخبرته بالقصة في جواب، ولم أدرِ ماذا جرى عندهم، ولا شك أن حبيبته التي يذكرها في ترجمة حياته سفكت الدموع ورثته رثاء بفؤاد مجروح.

أما أنا فأقول لمن يطَّلع على هذه الرواية من الإخوان الذين عاشرونا مدة المدرسة، أن لا يتعبوا أفكارهم في الوقت على الحقيقة، ومن هو اليتيم، ومن هو الصديق، ومن هو العاشق، ومن هو المعشوق، فإن الأسماء مستعارة، والرواية تحت طلسم لا يعلم غامضه إلا الله وواضعها، وإذا قال الإخوان إنه يقصد بذلك فلانًا، ويقصد بذلك نفسه، ونحو ذلك؛ فإنما يرجمون بالغيب ويشغلون أفكارهم فيما لا فائدة فيه، فالأولى بهم أن يعملوا بنصائحها ويتشبهوا بصاحبها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وأرجو من يطَّلع عليها أن يغض الطرف عن الهفوات والزلات، فجلَّ من لا يسهو وجلَّ من لا ينسى، وأول الغيث قطر ثم ينسكب، وأسأل الله أن يوفقني وإياهم لما فيه النفع للعباد والبلاد آمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤