الفصل الثالث

إيه عصر الهناء لو أُبْتَ أو لم
يَعْرُ أيامك العزازَ انقضاء
بعد مضي شهرين من السنة، في صبيحة يوم من شهر ديسمبر سنة ١٨٩٤، ناولني أحد التلامذة تلغرافًا ففتحته بقلب ثابت ظنًّا مني أنه ربما كان من سكينة تخبرني بأنها ستمضي فصل الشتاء مع والدها بالقاهرة وتود أن تراني على المحطة، ولكن ما وقع نظري على الكلمات الآتية حتى اضطربت مفاصلي وجمد الدم في عروقي:
إسكندرية الرمل الساعة ٥٫٨ صباحًا.
ولدنا أمين فريد بالمدرسة التوفيقية.
احضر حالًا بأول وابور.
والدك

فتحيرت في أمري، ولم أعرف لذلك سببًا سوى أن يكون والدي مريضًا، أو أن سكينة حصل لها أمر لا سمح الله، ولكن ذهبت في الحال إلى الناظر واستأذنته في السفر، وكانت الساعة ٩ فتمكنت من لحوق إكسبريس ٩٫٥ الذي يصل إسكندرية الساعة واحدة، ولما وصلت إلى محطة سيدي جابر وجدت خادمي في الانتظار وعيناه مغرورقتان بالدموع، فلما رأيته على تلك الحالة ارتعشت مفاصلي وخفق قلبي وشعرت بقرب مصاب أو أمر خطير، فسألت عن صحة والدي فأجابني: «إنه بخير»، «وكيف حال سكينة ووالدها؟» فقال: «بخير»، «ولكن ما السبب في استدعائي هنا فجأة؟»

– أمر مهم لا أعرفه.

– ولماذا تبكي؟! أخبرني.

فهَمَلَت دموعه، ولعلمي أن هذا الخادم أمين وأنه يحب والدي محبة عظيمة، تيقنت أن والدي حصل له شيء، فكررت السؤال فأجاب: إن والدك مريض.

– مريض! هل في خطر؟

– نعم، في خطر.

فشعرت بارتخاء في مفاصلي وزيادة خفقان في قلبي، فسألت الخادم: «هل يمكن والدي أن يتكلم؟» فأجاب: «إنه يتكلم قليلًا.»

ثم جاء القطار فركبنا وأنا في حالة لا أقدر على شرحها، وليس لي إلا أن أتركها للقارئ اللبيب، ليتصور حالة شاب لا يعرف له أقارب ولا أمًّا ولا أخًا سوى ذلك الوالد الذي أصبح على شفا جُرُف هارٍ.

ولما وصلنا إلى محطة باخوص أسرعت بالمشي إلى البيت، فقابلني والد سكينة وسلَّم عليَّ، ولكني بدأته قائلًا: كيف حال والدي؟

– والدك بخير، سكِّن روعك، ما لي أراك متغيرًا؟!

– ولكن الخادم يقول غير ما تقول.

– الخادم جاهل لا يعرف شيئًا، وقد طمأننا الحكيم على صحة والدك، وأنه يشفى بعد قليل من الزمن، غير أنه يحتاج للراحة قليلًا، وهو نائم الآن فلا تدخل عليه لئلا يستيقظ؛ فالنوم قد يكون للمريض دواء. اجلس يا ولدي.

ثم أخذ بيدي وأجلسني بجانبه وأنا أقول له: «أحقًّا ما تقول؟» فأجابني: وهل عندك شك في صحة كلامي؟ ألا تعرف أني أحب أباك كما أحب نفسي وابنتي؟ واعلم يا ولدي أن الدنيا كلها أكدار لا تدوم لأحد من الناس، وعهدي بك صبورًا تقابل الهموم بقلب جسور.

– ليس هذا سيدي موضع نصائح، أحب أن أرى والدي فإن قلبي يحدثني بأشياء كثيرة.

– إذا سكَّنت روعك وهدَّأت نفسك صرحت لك بمقابلته، ولا إخالك تنسى أن المريض يزداد مرضًا إذا رأى ولده الوحيد في حالة جزع وهلع، فإذا وعدتني بالثبات أدخلتك عليه.

– أعدك بالثبات والتجلد.

– إذن قم بنا.

ولما وصلتُ إلى غرفة نوم والدي رأيته منطرحًا على السرير، بجواره مرضعتي وخادمنا وسكينة، التي حين رأتني سلَّمت عليَّ والدمع له في خدها الوردي ندوب، وعيناها كأنهما قطعتا مرجان لكثرة ما ذَرَفَته من الدموع، ومثلها مربيتي وخادمنا الذي كان ينفطر حزنًا، وكان المنظر هادئًا، ووالدي بينهم ساكن البال، مصفرَّ الوجه، ولما رآني حوَّل نظره جهتي، وأشار إليَّ بالقرب منه فدنوت منه وأنا لا أتفوه ببنت شفة، بل وقفت مبهوتًا بجواره، فمد يده ومسك بها يدي ووضعها على صدره ثم ذرف دمعة على خدوده الصفراء وجعل ينظر إليَّ ويبكي، منظر يفتت الأكباد، ويجرح الفؤاد، ويفيض الدموع! والدي بهذه الحالة وجميع من حولي يبكون، حتى والد سكينة كان يذرف الدمع مدرارًا ويجتهد في مواراته عن نظري! كل ذلك وأنا باهت بلا دموع ولا كلام، ثم نطقت: «أبي»، وعندها انحدرت الدموع، وخنقتني العبرات، وسقطت مغشيًّا عليَّ لا أعي ولا أدري، ولم أتذكر شيئًا إلا أني شعرت ببرودة على جبيني، مما يدل على أنهم أنعشوني بالماء، ثم صرختُ: «أبي، ألا ترد عليَّ؟! أبي، هل انتهت الحياة؟! أبي، لمن تتركني؟! أبي …»

ولما سمع كلماتي المتقطعة التفت نحوي ونظر إليَّ نظرة ما عشت لا أنساها، وقال: ها أنا لديك، لا تقطع الأمل، وإذا مت فالله خليفتي عليك، ثم أغمض عينيه وسكت، فتقدم والد سكينة ومسك يدي وقال: «ألم تعدني بالصبر يا ولدي؟ إن الله يحيي العظام وهي رميم»، فلم أجبه، بل التفتُّ إلى جهة أخرى، فلمحت سكينة فوجدتها تبكي بشدة فلم أعد أتمالك نفسي من البكاء كالأطفال. وبعد ساعة يشيب لهولها الولدان من أنين ونحيب، فتح والدي عينيه وأشار إلى مربيتي أن تساعده على الجلوس، فتقدمتْ وتقدم والد سكينة وساعداه حتى اتكأ على وسادة، ثم أشار إليَّ وقال: «أنا في حالة حسنة.»

ولكنها كانت صحوة الموت الأخيرة، ثم قال: «تقدم يا ولدي، اسمع ما أقوله لك»، كل ذلك كان بصوت منخفض.

– اعلم يا ولدي العزيز أن هذه الدنيا ليست بدار بقاء، وأنا وإن لم أرحل عنها الآن فسأرحل عنها قريبًا، والحزن ليس من شأن الرجال، وأنا أموت مرتاح البال؛ لأني ربيتك وهذبت أخلاقك وإن كنت لم أترك لك ثروة تستعين بها على متاعب الدنيا، غير أني واثق بهمتك، وأحب أن تتخذ لك طريقًا تسلكه في هذا العالم فتعيش به شريفًا مكرمًا، وأوصيك يا ولدي بالهمة والنشاط ومساعدة إخوانك والفقراء والمساكين بقدر إمكانك، وتمسك بقواعد الدين الشريف والأخلاق المرضية، وأنا أموت مستريح البال لأنك ستكون خير خلف لأبيك، وما مات من كنتَ نجلًا له، وقد كتبت وصيتي في رقعة مع مربيتك، والله يوفقك ويهديك لما فيه الخير والفلاح.

وبعد أن أتم هذه العبارة قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، شهادة تنجيني يوم القيامة.

وهنا خفت صوته، وأغمضت عيناه، ومالت رقبته، فتقدم والد سكينة ومربيتي وحوَّلا وجهه نحو القبلة، وأنا أبكي بكاءً مرًّا، وأقول: «هل تموت يا والدي؟ ولمن تتركني؟» فنظر إليَّ كأنه يريد الكلام فلم يقدر، غير أنه رفع يده قليلًا نحو السماء كأنما «الله موجود»، ثم شهق شهقة فارق الحياة. وهنا لا يمكنني أن أشرح للقارئ حالتي حينذاك، فإن مثل ذلك الوصف فوق طاقة البلغاء، فكيف بمثلي؟ غير أني أقول إنهم لما رأوني وقد وهنت قواي أخذوني إلى غرفة أخرى، وجاء معي والد سكينة يلاطفني، ويذكر لي الأمثال، ويصبرني على المصائب؛ كل ذلك وأنا لا أتكلم بكلمة واحدة، بل كنت أبكي بالرغم عن ملاطفته لي كما يبكي الطفل في حجر أمه، بينما أحضر الكفن ولوازم الدفن، وذاع الخبر في الحال، وجاء الناس أفواجًا أفواجًا، وقام بالمأتم عم سكينة وأخوالها، بينما كان والدها ملازمًا لي تلك المدة، وأتذكر أنه قال لي: والدك كان وحيدًا في العالم، وأنت خلفه الوحيد، فكن مثله عاقلًا صبورًا تُبقِ لك ولوالديك ذكرًا حسنًا، وما أجمل الصبر بالإنسان! وهل أنت من النساء اللواتي لا يعرفن إلا البكاء؟ واعلم يا ولدي أني خليفة أبيك عليك، وقد أوصاني بك، وسأحافظ على وصيته ما بقيت فيَّ قطرة دم، وأنك وابنتي الوحيدة كأشقاء لا فرق بينكما، فدع هذا الجزع وهوِّن عليك، وقم لمقابلة الناس كما كان يقابلهم أبوك حين مات أبوه، فإن هؤلاء الناس هم الذين كان يحبهم أبوك ويبرهم، فحفظوا له الجميل واليد البيضاء، وأنا أتوسم في صفاتك أنك تمثل أباك في أطواره وأخلاقه الذكية، فإنه كان — رحمه الله — من أحاسن الناس.

ثم ضرب لي مثلًا بأم عبد الله الذي شنقه الحجاج، فإنها حين رأت ولدها معلَّقًا من رقبته بين جمهور من الناس، لفظت جملة تدل على عظيم صبرها ووثوقها من المولى — عزَّ وجلَّ — جملة تبقى ما بقيت اللغة العربية، جملة تولِّد الصبر في قلب الجزوع الهلوع، وهي:

أما آن لهذا الخطيب أن ينزل عن منبر الخطابة؟

فإذا كانت هذه امرأة وذاك حُشاشة كبدها فما بالك لا تقوم وتدع هذا الجزع وتقف في مأتم والدك؟!

فأردت أن أشكره على اعتنائه بي فخنقتني العبرات، ولما رآني بهذه الحالة عرف أن فؤادي تلطَّف، فأخذ بيدي وسار بي يحادثني ويضرب الأمثال حتى وصلنا إلى المحل المعد لمقابلة الناس، وقد علمت أنهم وارَوْه التراب. بينما كان والد سكينة معي رآني الحاضرون، قاموا لمقابلتي وتعزيتي، وأجلسوني بين والد سكينة وعمها، ولما جاء الليل وذهبت الناس أخذني والد سكينة إلى منزله، وجِيء بالأكل فلم أقدر على تناول شيء منه، ولكنه — حفظه الله — أخذ ينصحني بأن آكل وإلا فقدت الحياة من الحزن والجوع، فأكلت قليلًا، ثم جاءت سكينة ووالدتها وأقاربها ومربيتي، وجلسوا جميعًا يتحادثون ويتذاكرون صفات والدي، وقد بلغني أنه مكث مريضًا نحو شهر، ولكنه لم يُرد أن يزعجني، حتى قربت منيته فطلبني إليه ليراني. ولما مضت أيام المأتم الثلاثة وانقضى كل شيء ورأيت البيت ليس فيه سوى أثاثه، هَمَلَت دموعي وتذكرت ماضي أيامي، وقلت:

نعم هذه يا دهر أم المصائب
فلا توعدني بعدها بالنوائب
فلا تحسبني باسطًا يد دافع
ولا فاتحًا بعدها فم عاتب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤