الفصل الثامن

منظر جديد
ألا إنما الدنيا كمثل رواية
تمثلها الأحوال والقول والفعل
فترفع أستارًا وتبدي عجائبًا
يحار لها من كل ممتحن عقل
ونحن كأشباحٍ نمثل دورنا
كما شاء كُتَّاب الرواية من قبل

مضى عليَّ شهر في مكة، وأنا أستنشق أخبار شقيقي، وأتوسم في كل شاب رائقة ملامح المصريين، مرة أقول هذا ومرة أقول ذاك، فلما أعيتني الحيل وخفت من ضياع الوقت بدون فائدة وتاقت نفسي إلى العمل، قلت لسيدي الحاج علِي: إني أحب أن أفتح محلًّا تجاريًّا، وسألته أن يسمح لي بالإقامة خارج المنزل؛ فقد طالت مدة الضيافة وعزمت على تأجير محل أقيم فيه، فقال: لسنا يا ولدي في مصر وإنما نحن في بلاد العرب بلاد الكرم، ولا إخالك لا تعرف عوائدهم التي توارثوها عن أجدادهم، ولسنا كذلك في أوروبا حيث يترك الولد بيت أبيه حينما يتزوج ويصبح الولد وأبوه لا علاقة بينهما، فتلك عوائدهم وهذه عوائدنا، وهل تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ولقد رأيت في بلادكم ميلًا لعوائد الأجانب، وياللأسف عوائدهم الفاسدة التي لا تلائم بلادنا، وهذا التقليد الأعمى هو من أدواء الشرق المعضلة! فهلَّا قلدتموهم في حب بلادهم وغيرتهم على إخوانهم وحب الاستقلال والسعي وراء المنفعة العمومية والعمل والنشاط! فليكن في علمك يا ولدي أني أحببتك لما فيك من الخصال الحميدة والفضائل التي يُمدح عليها الشبان، ووجودك في منزلي لا يزيد مصاريفي ولا يقلل ثروتي، فربما دل طلبك هذا على بخلك أو كرهك لمعاشرتنا.

– حاشا يا سيدي أن أقابل معروفك الذي أسرتني به بغير الشكران، وإني ما قصدت بطلبي إلا محبة السعي وراء معيشتي وخدمتكم. وأما أمر تقليدنا للأوروبيين فإني مع الأسف أوافقك على ما تقول، فإن هذا التقليد الأعمى منذر بفقد الاستقلال ومضعف لعصبية الأمة، ومهما قلد المقلد فإنه لا يزال مُعتبرًا عند الأوروبي شرقيًّا، وهي كلمة تدل عندهم على الجهل وعدم أحقية الاعتبار، ولكن لو قلدناهم كما تقول في حب بلادهم والمطالبة بالحقوق المهضومة وثبتنا على ذلك، عرفوا أن الشرقي ليس هو ذاك الجاهل المُحتقَر، بل هو إنسان مثلهم له ما لهم وعليه ما عليهم.

– تعجبني أفكارك السامية، أكثر الله من أمثالك!

وحيث إني مسافر إلى الهند لإحضار البضائع فسأجعلك رئيسًا لحسابات محل تجارتي، واعلم أن ثقتي بك عظيمة فحققها بأعمالك، وأنا أسأل الله أن يوفقك للاجتماع بشقيقك الذي تكبدت لأجله كل هذه المشاق.

– بهذه الطريقة تلقي على عاتقي تبعة لست كفئًا لحملها، ولكن أود أن أوجد لي محلًّا صغيرًا أبيع فيه وآخذ البضائع من عندكم كما تشتري التجار، ويكون مكسبي وخسارتي راجعين عليَّ، فماذا ترى في هذا المشروع؟

– لا بأس به حيث أردته.

وبعد مضي خمسة أيام كنت في خلالها أذهب إلى المخزن العمومي لانتقاء البضائع وتثمينها، فتحت دكانًا، وأرسل لي الحاج علِي عاملًا يقوم بخدمة المحل ومساومة المشترين، وكنت أجلس كعادة التجار على مقعد مفروش بالحشايا، وكانت البضائع من أبسطة عجمية وفضيات حجازية وكشامير هندية، وما شاكل ذلك من الزخرفة الشرقية، وجعل لي الحاج علِي محلًّا في منزله أجد فيه ما يلزمني من مطعم ومشرب.

ولا بد أن أذكر هنا أن بيت الحاج علِي ينقسم إلى قسمين: أحدهما للحريم، والآخر للرجال، وكلاهما منفصل عن الآخر كمال الانفصال، ولكلٍّ خدم وحشم مخصوصة، وقد بلغني أن زوجة الحاج مكية الأصل، ولذلك تقيم دائمًا في مكة، وله زوجة أخرى من بومباي، وقد ولدت له المكية بنتًا يُضرب المثل بجمالها في مكة، أما امرأته الهندية فلم أسمع عنها لأن الذي كان يخبرني بذلك خادم أمين نبيه للغاية، يقرأ ويكتب ويطالع في كتب الأدب، وله إلمام ببعض العلوم العربية، ولقد أحبني كثيرًا كما أحببته لأنه كان سميري في وحدتي وأنيسي في غربتي، وكنا نتحادث كثيرًا ونتسامر طويلًا، وهو يعتني بأمري جدًّا. ولقد أحسنت باتخاذي محلًّا للتجارة؛ لأني تمكنت من معرفة عوائد البلد وأحوال أهلها، وكلما جاء أحد لشراء شيء، سألته عن أمر شاب لا يُعرف له أب وغير ذلك من الأسئلة، فمضت مدة تنيِّف على ثلاثة شهور ولم أسمع عن شريف شيئًا فزاد ضجري وكدت أيأس من لقياه.

ففي ذات ليلة جاءني ذلك الخادم النبيه فوجدني جالسًا وبيدي كتاب أقرأ فيه، فقال لي: ألا تعرف ما سيحصل الليلة في منزل الحاج علِي؟

فأجبته أني لا أعرف شيئًا، وسألته عن مقصده وماذا سيحصل فقال: ربما فُقدت حياة شريفة بجوارك، حياة بريئة من الذنوب، ولا من يرحم ولا من ينصف المظلوم.

– حياة تُفقد بجواري لا ذنب لها! ما هذا الكلام؟! وما السبب في قتلها؟!

– تُقتل حفظًا للشرف وصيانة للعرض كما يقولون.

– إذًا فصاحبها مدنِّس للشرف، هاتكٌ للعرض، ومثله لا يُعد بريئًا عندنا، فهل يعد بريئًا عندكم؟

– وهل في الحب ذنب أو عار يا سيدي؟ فلو أحببت في عمرك أو عرفت ما هو الحب لبرَّأْت ذلك المسكين الذي يروح ضحية التمسك بالعوائد القديمة.

– أما الحب فقد عرفته وذقت مرارته، ولعمري إن قلبي ليشفق على كل عاشق أودى به الغرام إلى ركوب ما لا تُحمد عقباه، ولكن ما دخل العوائد في مسألة هذا العاشق الذي يُقتل الليلة؟ وما السبب في قتله؟ أفصح لأن قلبي يكاد يتفطر من ذكر القتل.

– تعلم أن عادة بلادنا تمنع الإنسان أن يزوج ابنته إلا إلى رجل يمكنه أن يسلسل نسبه إلى فلان المشهور، ولم يبقَ عليهم إلا أن يقولوا إلى القمر أو يكون ابن أحد أغنياء البلد وسَرَاتها، ولا يلتفت إلى حب الفتاة لخطيبها ورغبتها في زواجه.

– هذه العادة موجودة عندنا توارثناها عن أجدادنا، وبعضها مستحسن عقلًا وعادة، وباقيها مستهجن حسًّا ومعنى، أما أنا ففي اعتقادي أن المحافظة على الأنساب وعدم زواج الابنة إلا لمن كان طيب العنصر كريم الأصل والأخلاق أمر واجب، ولكن تحتُّم زواجها بأحد الأغنياء غلط فاحش ورأي فاسد؛ لأن الأغنياء ليسوا جميعًا ذوي أصول عريقة في الحسب والنسب، وإن كان الاعتقاد عندنا أن الغني هو الكريم الأصل وأن الفقير هو الدنيء، حتى إن الغني لا يزوج ابنته إلا لابن من يماثله في الثروة بدون أخلاق وآداب ذلك الابن أو سيره الخارجي، وبدون وجود أدني محبة بين العروسين، وهذا من أعظم الأسباب في فساد أخلاق كثيرين من الفتيان والفتيات، وما ظنك بشاب تعوَّد على السهر في محالِّ اللهو ومغازلة بنات الهوى يتزوج بفتاة لم يتوطد بينه وبينها حب طاهر، ولم يعرف قيمة الزواج وواجب العائلة؟ لا شك أنه يمضي مع عروسه بضع أيام يتمتع فيها باللذة البهيمية ثم يتحول الحال ليعود لسابق عادته، ومن شبَّ على شيء شاب عليه. وأما الفتاة فمتى رأت بعلها يتركها ولا يعود إلا وهو يتمايل سكرًا، فهيهات وألف هيهات أن تسلم في عرضها، والشباب والجِدَة مفسدة أي مفسدة! ولكنا أضعنا الوقت في الكلام وتركنا ما يجب علينا عمله نحو هذا العاشق المعرض للقتل، في حكايته؟

– إن محادثتك يا سيدي تُنسي الإنسان نفسه، وتجذب فكره كما يجذب المغناطيس الحديد، وأما حكاية هذا العاشق فإنه شاب نبيه من أعقل شبان مكة وأشجعهم، وقد أحبَّ ابنة الحاج علِيٍّ وأحبته، ويشهد الله أنها تحبه أضعاف ما يحبها فهي الجانية عليه.

– ومن الذي يود قتله؟ هل يحبها أحد سواه؟

– لا، إن الذي يود قتله هو سيدي الحاج علِي؛ لأنه لا يرغب أن تهوى ابنته هذا الشاب أو تتزوج به.

– إذا كان شابًّا نبيهًا عاقلًا ويحبها وتحبه، فلِمَ لا يتزوجها؟

– قلت لك يا سيدي إن الاعتبار عندنا بالنسب وهذا الشاب لا يُعرف له أب ولا جد، وإنما يقال عنه إنه حفيد مولاي شرف الدين الذي اعتنى بتربيته، وبعضهم يقول إنه ابن خادم كان عنده، وبعضهم يقول إنه مملوك اشتراه من أحد تجار الشام، والحقيقة مستورة، إنما يظهر من طباعه أنه كريم العنصر؛ لأنهم يقولون: «إذا خفي أصل الفتى دلَّ عليه فعله.»

أيها القارئ، هذا شعاع أمل بدا من سَمِّ خياط، خفق له قلبي ورقص له فؤادي طربًا وسرورًا، ولا إخالك ألا تفهم عواطفي في مثل تلك الساعة التي سمعت فيها من الخادم عن ذلك الشاب، فليت هذا الشعاع أخرجنا من الظلمات إلى النور!

– أين يكون هذا الفتى؟ لا بد أن أنقذه من مخالب الموت؛ حيث تقول إنه شاب مهذب نبيه.

– لقد أمر سيدي الحاج علي رجلين من أعوانه بالكمون وراء سور الحديقة، حتى إذا جاء هذا الفتى لمقابلة حبيبته كما يفعل أغلب الليالي فتكا به ونقلا جثته إلى الجبل، وقد بلغني من مصدر يُوثق به أنهم أغروْا خادمة أسما — ابنة الحاج علِيٍّ — بالذهاب إلى ذلك الشاب برسالة من أسما تدعوه للمقابلة، وأمر الحبيبة لا يُخالف.

– ولِمَ لم تخبرني بهذا حتى كنا سعينا في خلاصه قبل هذا الوقت وأنذرناه بسوء العقبى، هل تعرفه جيدًا؟

– أعرفه جيدًا لأني أحبه كثيرًا.

– هل تعرف لنا طريقًا لخلاصه؟

– الرأي عندي أن نذهب خارج السور، ومتى رأينا شبحًا قادمًا وتحققنا أنه شريف و …

فقاطعته قائلًا: «وهل اسمه شريف؟» فقال: «نعم».

فما كان أفرحني عند ذلك! فقال الخادم: ومتى تحققنا أنه شريف أخبرناه بسر المسألة، ولكنا نخاف على أنفسنا.

– يقولون عنكم إنكم لا ترهبون الموت، فممن تخاف؟ وهل يجبن الإنسان عن القيام بعمل شريف مثل هذا؟ هيا بنا ودع الجبن.

ثم قمت ولبست عباءة سوداء، وتقلدت سكينًا وريفلفرًا، وكانت الساعة الخامسة بعد الغروب. وبعد ذلك خرجنا في الظلام الحالك وكنا في آخر الشهر، ولما وصلنا باب البيت فتحه الخادم بسهولة، وحين صرنا خارج البيت قلت للخادم: هل أنت مستعد للدفاع عن نفسك؟

فقال: وهل تظنني أخرج بدون سلاح؟ ومع ذلك فإن سلاحي لا يفارقني أبدًا.

– إني أخاف أن يكون ذلك الشاب قضى نحبه بأن تعجل في المجيء إلى المنزل؛ فإن العاشق يعد الثواني متى كان بينه وبين حبيبته ميعاد، وربما ذهب قبل حلول الوقت بزمن طويل.

– لا تخف من ذلك؛ فإن عادته أن يأتي لها في منتصف الليل، حيث ينام من في المنزل، ويكونان هما على مأمن من الرقباء، ومن عادتهما أن يمضيا الوقت في كوخ تسكنه الخادمة التي أغروها على دعوته، ولا شك أنه لم يأتِ للآن، ولكن لا بد من السرعة خوفًا من فوات الفرصة.

وكنا نسير في ذلك الوقت ونحن لا نكاد نرى بعضنا، والبرد قارس لأن مكة في سهل معرض لهواء الشمال، غير أن المسافة لم تكن بعيدة؛ لأن منزل الحريم وراء منزل الرجال، ولكن توجد بيوت تمنع الإنسان من الإتيان إلى منزل الحريم إلا بعد دورة حولها. وبعد أن سرنا قليلًا قال الخادم: هنا سيدي فلنقف لأننا بقرب الباب الموصل إلى الحديقة، ولكن البرد قارس.

– لنصبر قليلًا فإننا قاربنا على منتصف الليل، ولا يبعد أن يأتي ذلك الشاب. ولكن هل تعرفه إذا رأيته؟

– أعرفه تمام المعرفة.

– هل يمكنك أن تشرح لي هيئته، وتذكر لي عمره؟

– عمره ما بين الثامنة عشرة والعشرين، معتدل القامة، جميل الطلعة، أسود الشعر والعينين، أقنى الأنف، له خالٌ على خده الأيمن، يجذب العقول بسحر ألحاظه وبلاغة ألفاظه، وعلى العموم فلم يره أحد بمكة إلا أُعجب بآدابه وأخلاقه، حتى إنهم استدلوا بطباعه على شرف أصله، ومما يقال عن أصله إن مولاي شرف الدين وجده طفلًا ملقًى على قارعة الطريق، فأخذته الشفقة عليه وأخذه إلى منزله وأحسن تربيته، وهو يحبه كثيرًا لما له من الخصال الشريفة، وأنا أقول لك إنه أشبه الناس بك.

فخالج ضميري أن ذلك الشاب لا شك شقيقي؛ لأن عمره كما أخبرتني مربيتي يكون تسع عشرة سنة، وله خالٌ على خده الأيمن كما يُستدل في وصية والدي، وجميع أوصافه تطابق أوصافي. وعند ذلك التصور خفق قلبي لقرب رؤيته، وكلما هب النسيم تنسمت فيه ريح شقيقي والأمل ملء قلبي، ولكن كم تحت طيات الزمان خفايا!

فبينا نرى الآمال والسعد مقبلًا
وتبصر نجم الحظ مبتسم الثغر
أفلاك تفتر السعادة سيرها
ويكشر ناب الدهر عن مقبل الشر

بينما كنت أعد النفس بلقيا شقيقي وأبني قصورًا في الهواء، على رأي العرب، وقلاعًا في الجو، على رأي الإنكليز، وقصورًا في إسبانيا، على رأي الفرنسويين؛ وإذا بشبح ظهر من وراء السور، ولما تمعنَّاه وجدنا رجلين يحملان شيئًا فاختفينا قليلًا وراء حائط صغير حتى قرب منا الرجلان، وسمعنا أحدهما يقول بصوت منخفض: لولا أنك تداركتني لقتلني هذا اللعين، شكر الله غيرتك، ولكنك لم تطعنه كما طعنته في جنبه طعنة كانت القاضية عليه.

فقال الآخر: لعن الله الفقر، أما والله لولا المعيشة وخوفي من الحاج علي لما مسست هذا الفتى الطاهر الأخلاق الغريب البلاد، ولو كان له أقارب يأخذون بثأره ما طلع النهار علينا، سر بنا لندفنه في الجبل بملابسه الملوثة بالدماء، ولا كفن ولا صلاة ولا مأتم، وارحمتاه عليك أيها الشاب الذي قُتل شهيد الظلم والاعتساف!

وما جاء على آخر عبارته إلا وفؤادي يتقطع إربًا والخادم يصيح: «قُتل الشاب»، فلما سمعته صرخت بالرجلين دون روية: أنا قريبه، أنا أخوه، لا طلع النهار عليكما، لبيكما، لبيكما.

واندفعت لا أعي ولا أفقه، وصوبت الريفلفر نحو أحدهما فخرَّ قتيلًا يتخبط في دمائه وهرب الثاني في الظلام تاركًا ما يحمله على الأرض، فدنوت منه وأنا كالقصبة في الريح العاصف وكان الظلام حالكًا والبرد قارسًا فلم أر شيئًا، والتفتُّ للخادم فلم أره بجانبي فخفت من مكيدة ووقفت باهتًا أنتظر الموت والبلاء والسخط والهلاك. وليعلم القارئ أني تربيت في مصر كتربية أغلب شبانها؛ لا نعرف استعمال السلاح ولا المدافعة عن أنفسنا بغير شقشقة اللسان والسباب اللذين نستعملهما للمدافعة عن الشرف وما شابه ذلك، ولم أُوجد خارج منزلي بعد الساعة اثنين من المساء حتى ولا كما يفعل إخواني الشبان المصريون في السهر في المراقص ومحالِّ الفجور بين الأنوار الكهربائية والغازية حتى الصباح، فهذه كانت أول مرة وقفت فيها في الظلام الحالك منتصف الليل، ولا أنيس معي سوى قتيلين أحدهما ملتفٌّ في عباءة والآخر ملقى بجانبه يعالج سكرات الموت.

فاعتراني ذهول وتشنجت أعصابي وإذا بنور مصباح ضعيف يجري على بعد، فخفت أن يكون الرجل الذي فرَّ عاد ومعه بعض أناس ليقتلوني، وتخيلت في فكري أن الخادم أغراني على ذلك ليقودني إلى المحاكمة، ونحو ذلك من التخيلات، وأنا لا أقدر على التحول من مكاني كأني تمثال من الصخر لا حراك بي، وإذا به الخادم جاء بمصباح من المنزل لكي نتمكن من معرفة القتيلين، ولما عرفته جرى الدم في عروقي وتجلدت أمام المصاعب، «آه! إن ذكرى ذلك الموقف تقشعر لها الأبدان، وتجلب لي الكدر والأحزان.»

فقلت للخادم: أين كنت؟ فقال: أحضرت مصباحًا لنرى ماذا جرى. ثم دنونا من القتيلين فوجدنا شابًّا ملفوفًا في عباءة ومطعونًا في جنبه، فوضعت يدي ما بين الضلع السادس والضلع السابع فشعرت بضربات قلبية خفيفة آخذة في الانقطاع، وحينما وقعت عيني على وجهه ورأيت ملامحه في المصباح شُبه عليَّ وجه والدي محتضرًا على فراش موته؛ فاضطرب فؤادي وقلت في نفسي: ليت شعري، هل أنت شقيقي؟ وهل تكون نتيجة أسفاري وفراق حبيبتي وأوطاني أن أراك قتيلًا مضرَّجًا بدمائك وأدفنك في بلاد العرب، أم تعيش وتكون حياتك على يدي؟ ولقد دلني النبض الخفيف على أن لا تزال فيه بقية من الحياة، فأخذت عمامة الخادم وربطت بها الجرح لأمنع نزيف الدم ولففته في العباءة وأملت فيه الحياة، وأما الرجل الثاني فقد تحققت أن الرصاصة كانت القاضية عليه، ولكن بعد ذلك وقفت باهتًا وحرت في أمري: أأنقل الجثة إلى بيت الحاج علِي وهناك البلاء، أم آخذها إلى منزل مولاي شرف الدين فيتهمني بقتله، أو يقع بينه وبين الحاج علِي ما لا تُحمد عقباه؟ كلاهما أمران أحلاهما مُر، وفي ذلك الوقت عدمت كل صوابي وصرت:

كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق

فشاورت الخادم فزاد الطين بلة بأن أكد لي أن الحاج علِي سوف يتكدر مني ويعمل على قتلنا لأننا عرفنا أنه السبب في قتل الشاب، ولا سيما أن مولاي شرف الدين سيقوم ويقعد لهذا النبأ، وبعد مضي ساعتين تفكرت فيهما فيما أعمل، ويعلم الله أن تينك الساعتين كانتا كسنتين شابَ فيهما شعر رأسي ولعمري إن ذلك الموقف يجعل الولدان شيبًا، ولكن خطر على بالي أن الحر من تجلَّد عند مقابلة الخطوب ومحاربة الزمان ولا سيما في مثل ذلك الوقت، فلذلك تجلدت وقلت للخادم: هل لك محل تسكن فيه؟ أو هل تقيم دائمًا في منزل سيدي علِي؟

– لي كوخ خارج المدينة، أذهب إليه بعض الليالي لأرى والدتي العجوز.

– فلنذهب إلى هناك ولنأخذ معنا الجثتين، فنرمي جثة الرجل بالجبل ونحفظ جثة الشاب في الكوخ ونعالجه لعل الله يرد فيه الحياة، حيث لا يمكننا الآن أن نذهب إلى منزل الحاج علِي، وكذلك لا يمكننا أن نأخذ شريفًا على منزل مولاي شرف الدين لئلا تقوم قائمة العدوان بين الأخير والأول ونكون نحن السبب، ولا يخفاك أن سيدي علِيًّا له عليَّ مكارم لا يجحدها إلا اللئيم، وحاشاي أن أقابل حسن معاملته بالضد بأن أوقعه في تهمة القتل الفظيع، فما رأيك؟

– رأي حسن، وسأحمل هذا الرجل فهل تقدر على حمل الشاب؟

– لا شك أقدر، هلم بنا.

ثم حملت الشاب على صدري وكأن الله أعارني قوة عجيبة في تلك الساعة، ولقد وضع رأسه على كتفيَّ كأنما أحس قلبه أنه على صدر شقيقه الوحيد في هذا العالم فاطمأن، وسرنا في نور المصباح الذي ربطه الخادم في ذراعه. وتفكر أيها القارئ في حالتنا وكلانا يحمل قتيلًا أو شبه قتيل والظلام حالك والبرد قارس، وليت شعري إذا مِتُّ أو قُتلت هل أجد من يحملني كما حملت ذلك الشاب أو أروح فريسة الطيور والوحوش؟

الله يعلم فالأيام قد طُويت
طي البساط على الأسرار والحكم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤